
أضواء على الطريق
في عام 2005 م. كنت أجلس في عيادتي إلى ساعة متأخرة من الليل ، واعتدت قبل الانصراف أن أفتح النافذة وأقضي بعض الوقت في تأمل ما يجري في الشارع المزدحم وتبادل الحوار مع بائع متجول اتخذ من هذا المكان محلا مؤقتا له ، كانت اللافتات الانتخابية وقتها تغطي الأعمدة والبنايات وكانت الانتخابات البرلمانية وقتها هي حديث الساعة حيث اشتكى لي الرجل من عضو البرلمان الحالي الذي وعده بفرصة عمل وأخلف وعده ..
وكان عضو البرلمان هذا قد ترشح مستقلا في عام 2000 م. عن دائرة المحلة الكبرى وحقق انتصارا ساحقا على مرشح الحزب الوطني لكنه بعد عام واحد من عضويته بالمجلس انضم إلى الحزب الوطني فكانت النتيجة هي خسارته في الانتخابات التالية عندما دخل باسم الحزب هذه المرة رغم أنه معروف في المدينة بأعمال البر والإحسان ومعاونة كل محتاج ، وقال البائع المتجول إنه لا يريد صدقة وإنما يريد وظيفة ثابتة وتأمينات ومعاشات ..
وأخبرني الرجل أنه لم ينتخب مرشح العمال الذي وضعت لافتته على عيادتي مبررا ذلك بأن مرشح الحكومة لم يتمكن من معونته وبالتالي فإن مرشح المعارضة سوف يكون أكثر عجزا ، حاولت أن أشرح له أهمية التغيير ودور النائب البرلماني لكنه لم يقتنع حيث يرى أن السياسة ليست شعارات نظرية وإنما متعلقة بحياة المواطن ومصالحه ويجب أن تتحول في البيئة المحلية إلى فرص عمل وزيادة في الإنتاج وإمداد بالمرافق والخدمات ..
والحقيقة أنه بعد مرور عقدين من الزمان على هذا الحوار أجد أن الرجل كان على حق بل إن الأوضاع المعيشية للمواطن باتت أكثر صعوبة لذا فإن قضية التنمية المستدامة في المجتمع المحلي يجب أن يكون لها الأولوية ، ولا يجب أن يكون هناك استخفاف بالمطالب الأولية للمواطن وهي زيادة الدخل وتقليل الأسعار بل إن كل عمل تنموي يجب أن يؤدي في النهاية إلى مردود مباشر وحقيقي تنعكس آثاره على حياة المواطن والأسرة المصرية ..
والتنمية في الأصل قائمة على النشاط الاقتصادي للأفراد والشركات لكن الحكومة ممثلة في الإدارة المحلية معنية بتهيئة البنية التحتية اللازمة لهذا النشاط فهي عملية تشاركية بين المواطن والدولة ، وفي وقت الأزمات يجب أن يقوم القطاع الأهلي من جمعيات ومؤسسات بدور داعم في المجالات التي يمكن أن يسهم فيها بفاعلية مثل الخدمات العامة التي تضم الصحة والتعليم والرعاية الاجتماعية والنقابية ومجالات الثقافة والشباب والرياضة ..
وفي عدد كبير من دول العالم يقوم القطاع الأهلي بدور فعال في خدمة المجتمع بل ويقوم بالتأثير في الحياة السياسية ويشكل جماعات ضغط ويدفع باتجاه تبني مواقف معروفة مثل مؤسسات حماية البيئة وجماعات حقوق الإنسان ، وفي ظل الظروف التي تمر ببلادنا فإن دور القطاع الأهلي ربما يتجاوز الإطار التقليدي للعمل الاجتماعي ويتولى زمام المبادرة باتجاه تغيير الظروف الاقتصادية والسياسية للأفضل لكن إذا امتلك رؤية واضحة للإصلاح ..
وفي صبيحة يوم الإثنين 31 يناير عام 2011 م. خطر على ذهني فكرة نابعة من قلب أحداث الثورة وهتاف المتظاهرين في الميادين .. كانت هذه الفكرة محاولة للإجابة على سؤال هام وهو ماهية التيار السياسي المعبر عن مستقبل هذا الحراك التاريخي .. ولا شك أن الربيع العربي كان أهم حدث سياسي عاصرته منذ وعيت على الدنيا بسبب ما أحدثه من تغيرات سياسية واجتماعية وفكرية لدى جيل كامل كما أنه أثر بشكل مباشر على مسار حياتي الخاصة ومشاركتي في العمل العام ..
وفي هذا التوقيت المبكر كنت أدرك أن جميع التيارات السياسية القديمة لن تكون معبرة عن هذا الحراك مهما بلغت شعبيتها ودرجة مشاركتها في الأحداث لأنها ببساطة تنتمي للماضي وليس المستقبل .. ولتقريب الفهم فإن ما قصدته كان يشبه ما حدث بعد ثورة 19 عندما تأسس حزب الوفد في لحظة تاريخية ليكون إفرازا فعليا للأحداث ومثله في ذلك حزب المؤتمر الهندي والحزب الجمهوري الديموقراطي الأمريكي وحزب المؤتمر الوطني الأفريقي في جنوب أفريقيا ..
وقد نشأت أحزاب كثيرة في ربوع البلاد العربية بعد الأحداث لكن معظمها كان معبرا عن التيارات التقليدية السائدة في المنطقة والتي كانت موجودة بالفعل قبل الربيع العربي ومنها بالطبع ما هو إسلامي وقومي ويساري وليبرالي .. ومن الطبيعي أن هذه الأحزاب جميعا كانت تتبنى بعض مطالب المتظاهرين تبعا لتوجهاتها الأساسية لكن لا أحد كان متفاعلا مع اللحظة التاريخية التي كانت تتطلب ظهور فكرة جديدة تعبر عن تطلعات الشعوب وأملها في التغيير ..
ولم يكن غرضي وقتها البحث عن صورة نمطية من العمل السياسي وإنما كان الأمل المرجو أن يتبنى القطاع الأهلي فكرة جديدة لتكون نواة لتيار ثقافي واجتماعي يكمل نضال الربيع العربي على المدى الطويل وأن يملك رؤية متكاملة لمستقبل البلاد وأن يضع برنامجا إصلاحيا واقعيا قابلا للتنفيذ وأن يتمكن من التعامل مع المتغيرات المحلية والإقليمية والعالمية وأن ينجح في صناعة كوادر ورموز سياسية قادرة على إدارة دفة الحكم بكفاءة وفاعلية في مستوياته العديدة ..
وظل هذا الأمر هو شغلي الشاغل خلال عقد من الزمان على المستويين النظري والعملي .. فقد حظيت بخبرة لا بأس بها من خلال العمل مع عدد من الأحزاب وكذلك في مؤسسة الكنانة للعمل الأهلي ومن خلال مبادرة دعم التنمية في الدلتا كما صدر لي كتاب (الطريق إلى أرض الكنانة) والذي تناول ملامح التيار السياسي المثالي للمستقبل في مصر وكذلك كتاب (الطليعة المصرية مبادرة دعم التنمية المجتمعية) والذي يتناول رؤية تصلح نواة لبرنامج تنموي عملي ..
وفي هذا البحث أحاول أن أستكمل بلورة هذه الفكرة إذ يتناول مدى ما يمكن أن يحققه القطاع الأهلي في مضمار الإصلاح لكن مع الإحاطة بأبعاد متعددة تختص بطبيعة الحياة الاجتماعية والسياسية والثقافية في مصر خلال العقود الأخيرة ، ويتناول الفصل الأول مشروع تأسيس الجمعية التعاونية للخدمات العامة مع محاولة وضع رؤية في قضايا الصحة والتعليم والبحث العلمي وغيرها من مجالات التنمية البشرية في إطار الربط بين التعليم الجامعي والفني واحتياجات سوق العمل الفعلية ..
وهذا ينقلنا بالتبعية إلى الفصل الثاني الذي يتناول كيفية إدارة التنمية في الواقع المحلي ومعرفة التحديات التي تواجه ذلك حيث يجب فهم طبيعة المجتمعات خاصة في الأقاليم والأرياف وذلك من خلال عرض تجربة شخصية أثناء العمل في مبادرة دعم التنمية في دلتا مصر ، ويتناول الفصل الثالث دور القطاع الأهلي والتعاونيات في الإصلاح المتدرج وإدارة التنمية المستدامة واشتباك ذلك مع الواقع السياسي والاقتصادي والتفاعل مع الأحداث.
وفي الفصل الرابع عرض مبسط لجوهر الفكر الإصلاحي القائم على المطالبة بالحقوق والحريات والرغبة في الإصلاح وتحسين أوضاع المواطن في البلاد العربية وتشابك ذلك مع العلاقات الدولية والإقليمية وأهمية التكامل الاقتصادي العربي ، وفي الفصل الخامس دراسة مختصرة للإصلاح الهيكلي المقترح للإدارة المحلية ومحاولة وضع برنامج للتنمية المستدامة بمعناها الشامل وتحديد دور الحكومات والمؤسسات داخل إطار ناجح وفعال.
ولعل هذه أول مرة أتكلم عن المستقبل وما يمكن أن يحدث فيه .. وأنا بعد لا أدري هل سيجد قبولا من القارىء أم لا .. وهل تنتقل هذه الأفكار من حيز الأحلام والتنظير إلى أرض الواقع العملي أم لا .. ربما لا تكون الظروف الحالية مواتية لهذا وربما يتجاوزنا الزمن إلى أفكار أكثر حداثة .. وربما لا يمهلنا القدر أن نعيش حتى نحقق أحلامنا .. لهذا نكتب هذه الكلمات لعلها تكون نبراسا للآخرين تنير لهم الطريق وسط ظلام الحيرة واليأس ..
وفي هذا البحث استعملت مصطلح (القطاع الأهلي) بدلا من مصطلح (المجتمع المدني) لأن معناه أقرب للواقع خاصة في الأقاليم والأرياف حيث نشاط الجمعيات منبثق أساسا عن اتجاهات محافظة أو تيارات إسلامية أو طرق صوفية أو قبائل وعائلات ، وهذا الفهم لطبيعة المجتمع المحلي يفرض نفسه على الأفكار الأساسية التي وردت في فصول الكتاب والتي بدأت بالدعوة لتفعيل دور التعاونيات في خدمة التنمية المجتمعية ودعم الإدارة المحلية في مهامها ..
وفي ظل الظروف الاقتصادية الضاغطة سوف يكون القطاع الأهلي قادرا على أداء عدد من مهام الإدارة المحلية أي أنه بدون مبالغة سوف يتحمل بعض واجبات الحكومة التي قصرت فيها وهو ما يعني بالضرورة اشتباكه مع الواقع السياسي وما فيه من تفاعلات ، وعندما يحدث هذا فسوف يتبعه بالضرورة قيام القطاع الأهلي بقيادة الإصلاح والتغيير في هذا الواقع إذا امتلك رؤية شاملة بعيدة المدى وبرنامجا عمليا للتنمية الحقيقية ودراسة وافية للمشكلات المحلية والإقليمية ..
والنتيجة الحتمية لهذا الدور تتمثل في الإصلاح الهيكلي للإدارة المحلية ومن خلفها سائر المؤسسات في إطار قانوني يحدد طبيعة العلاقة بينها وبين بعضها وبينها وبين المواطنين وذلك بهدف تحقيق درجة من المشاركة المجتمعية في إدارة التنمية المستدامة ، وهذه المشاركة ليست بالضرورة في إطار نظام ديموقراطي مثالي لأن تحققه مرهون بأبعاد كثيرة منها ما يتعلق بأنظمة الحكم ومنا ما يرتبط بثقافة المجتمع المحلي ومكوناته الاجتماعية والسياسية ..
ويجب أن يترافق الإصلاح الهيكلي مع تغيرات في مفاهيم الهوية الوطنية وارتباطها بفكرة الانتماء للوطن العربي وكذلك دور الدين في الحياة العامة سواء في السياسة أو في النشاط الاجتماعي وذلك بهدف الوصول إلى السلم الاجتماعي الذي يشكل القاعدة الأساسية للتنمية الشاملة ، ويشمل ذلك عددا كبيرا من التساؤلات التي تبحث عن حلول خاصة ما يدور في الساحة حول تجديد الخطاب الديني أو الموقف من الربيع العربي الذي يعد أكبر حدث سياسي معاصر أثر في المنطقة كلها ..
وقد كان من السهل أن أدبج برنامجا إصلاحيا بلغة رسمية رصينة كما تفعل كل الأحزاب والقوى السياسية لكني آثرت أن تكون هذه الكلمات متحررة من أسر القيود وأن تكون معبرة عما يدور في خلدي من أفكار وأن تنقل تجربتي الشخصية للقارىء .. وسبب ذلك أنني لا أدعو إلى عمل تقليدي وإنما أهدف إلى صناعة مشروع متكامل يشكل خطوة على طريق نهضة مصر والوطن العربي ..
ولذلك جاءت بعض فصول الكتاب أشبه ما تكون بالمذكرات الشخصية لأنني مؤمن بأهمية الخبرة الحياتية جنبا إلى جنب مع الرصيد الثقافي .. وكلي أمل أن تلقى هذه الكلمات القبول والترحيب وأن يكون وقعها خفيفا وتأثيرها عميقا وهو أسمى ما يتمناه أي كاتب يرى من واجبه أن يضيء شمعة في طريق الظلام الطويل ..