
تساؤلات
لماذا يتغنى شعراء الربابة في مصر بأبطال من العصر الجاهلي مثل عنترة بن شداد والزير سالم وسيف بن ذي يزن ؟ ولماذا تحتل السيرة الهلالية مكانة مركزية في التراث الشعبي المصري ؟
لماذا جاء أبطال السير الشعبية من أبناء البادية مثل الأميرة ذات الهمة وحمزة البهلوان وسعد اليتيم ؟ ولماذا يطلق على أهم الأولياء لقب السيد البدوي وشيخ العرب ؟
لماذا يختلف نطق حروف القاف والجيم من منطقة لأخرى في مصر ولماذا يشبه هذا النطق اللهجات البدوية في أرياف الدلتا والصعيد ؟ ولماذا انفردت لهجة القاهرة بمفردات خاصة بها ؟
لماذ تتميز لهجة المنيا بالمط في الكلمات والإمالة في المد بينما تنفرد الشرقية عن بقية المناطق بلهجة خاصة بها في المفردات والتراكيب وطريقة النطق ؟
لماذا انتشرت اللغة العربية في المنطقة الصحراوية التي تضم العراق والشام وشمال أفريقيا وتوقفت عند حافة الصحراء ولم تنتشر مع انتشار الإسلام في بلاد فارس والأناضول وأفريقيا المدارية ؟
لماذا اختفت حروف العين والحاء من اللغة القبطية رغم وجودها في الأسماء القديمة مثل رع وماعت وحتحور وخفرع وتوت عنخ آمون وحتشبسوت وأمنحتب وتحتمس وحور محب وأحمس وإياح حتب وإيمحوتب ؟
لماذا احتوت اللهجة البشمورية على الحروف اليونانية فقط ولم تضف إليها الحروف الديموطيقية السبعة مثل بقية اللهجات القبطية ؟
ما هو سر تسمية القرى في الدلتا باسم محلة وكفر وفي الصعيد باسم نجع ونزلة ؟ ولماذا أطلق على أول مدينة عربية في الدلتا اسم محلة الكبراء ؟
لماذا سميت بلاد بأسماء مثل بني عبيد وبني سويف وبني مزار وبني عدي وعرب الصوالحة وجهينة والصوامعة وأبو كبير وحوش عيسى وأولاد صقر ومنيل شيحة ؟
متى ظهر لأول مرة باللغة العربية مصطلح (تاريخ المصريين) وماذا كان يعني وقتها ؟ وكيف تطور معناه بمرور الزمن ؟ وكيف تعربت مصر ؟

بين يديك
هذا البحث هو محاولة للإجابة عن تلك التساؤلات المتعلقة بالبحث عن مصادر التراث الشعبي وجذور اللهجات العامية المصرية وكيف تعربت مصر وتغيرت ثقافتها بعد دخول العرب إليها ، وذلك وفق تفكير منطقي لمعرفة الظروف الجغرافية والتاريخية التي ساهمت في كل هذه التفاعلات.
والحقيقة أن هذه الموضوعات تنعش ذاكرتي حيث تعود بي إلى الماضي عندما كنت أجلس مع كبار السن والعجائز والمعمرين في أرياف الدلتا وأسمع منهم تلك القصص التي يرويها الحكماء منهم عن تاريخهم وعن نشأة القرى والبلاد في تلك النواحي ، وكنت أتابع ذلك في شغف مثلما نتابع القصص الخيالية والأساطير ولم ألتفت وقتها إلى فكرة الوجدان الجمعي الذي يحتفظ بالتاريخ من خلال الموروث الشفهي.
كانوا يقولون إن هذه المنطقة المحيطة بالمحلة الكبرى كانت مسكونة باليهود وأنهم عندما قدموا كان الخراب يعم المنطقة وأن أجدادهم قاموا بإعمارها واستقروا للزراعة بعد أن كانوا (غنامين) أي رعاة غنم رحل في البوادي ، لكنهم لا يعرفون على وجه الدقة من أين جاؤوا ولا في أي زمن بالتحديد حيث نزلت كل عشيرة في موضع وحلت به وسمي موضع سكنهم الجديد (محلة) وتميزت كل واحدة بشيء تعرف به مثل قبر ولي أو جسر أو ترعة أو حوض زراعي أو أكبر عائلة فيها.
ولازالت أسماء العائلات تحمل إشارات غير واضحة مثل اليماني والشرقاوي والهواري والمزاتي وهي ألقاب متداولة من زمن بعيد وهم يقدسون في حديثهم فكرة البداوة ويفتخرون بذلك وينادون بعضهم البعض بلقب (شيخ العرب) علامة على الرفعة والمنزلة العالية.
واللافت للنظر هو في تخطيط القرى الجديدة التي يعيشون فيها حيث المسجد في المركز وحوله الشوارع الأساسية ومقر الإدارة ثم تتوزع البيوت على جوانبه الأربعة وهو تكرار مصغر لكل المدن العربية التي عرفت باسم الأمصار مع خلوها من الكنائس والتي كانت ولا زالت موجودة بكثافة في البلدات القديمة مثل طنطا وسمنود وزفتى وبرما وإبيار وسنباط وأكوا وسنبو والتي تحوي تكتلا سكانيا للطوائف المسيحية المختلفة.
والقرى الجديدة غير مذكورة بالطبع في السجلات الرومانية لكنها مدونة في كتابات المؤرخين في العصور الإسلامية مثل قوانين الدواوين للأسعد بن مماتي والتحفة السنية لابن الجيعان والتربيع العثماني والروك الصلاحي والروك الناصري وهو ما يحدد تاريخ تأسيسها ، وهي منشرة في ربوع مصر حيث تحمل أسماء مميزة هي محلة وكفر في الدلتا ونجع ونزلة في الصعيد وجميعها يحمل معنى السكن والتوطن.
وكان يتبادر إلى ذهني أنه طالما هم دوما يتحدثون بلسان الغزاة القادمين من مكان ما فربما يعني ذلك قدومهم مع الفتح الإسلامي لكن الظروف التي جاءت في مروياتهم الشعبية تتفق أكثر مع نهاية عصر الولاة وبداية العصر الفاطمي حيث شهدت المنطقة هجرات تاريخية معروفة للقبائل العربية والمغربية ، ويكمن السبب في جهلهم بموطنهم الأول أن عددا من العشائر انتقل مبكرا إلى منطقة البراري (حامول العرب) في شمال الدلتا وقضى فيها فترة زمنية من التجوال منذ بدء نظام الارتباع وظل يعيش حياة البداوة والرعي ثم نزح منها إلى قلب الدلتا ليستوطن ويعمل بالزراعة.
وربما يفسر ذلك اختلاف روايتهم للسيرة الهلالية عن الصعيد حيث البطل الأساسي هنا هو الزناتي خليفة بطل القبائل البربرية الأول بينما يتحول أبو زيد الهلالي إلى عبد أسود يأتي في مرتبة لاحقة فيقولون عن الشجاع المتهور : ” فاكر نفسه الزناتي خليفة ” أو قولهم في وصف شخص : ” ولا كأنه الزناتي خليفة ” وكذلك في الأشعار الشعبية المتداولة : ” صلاة الزين على با سعدى الزناتي خليفة “.
وتتحول مرويات السيرة الهلالية إلى حكايات للعشق والغرام أبطالها من البادية مثل قصة عزيزة ويونس التي تحظى بمكانة في حكايات النساء ، وتتعدى التأثيرات المغربية إلى مجال التصوف حيث عرف الولي الأشهر في المنطقة باسم السيد البدوي وشيخ العرب لكنهم ينادونه فيما بينهم بلقب سيدنا السيد وعندما يتحدث أحدهم عن المغرب يقول عنها بلد سيدنا السيد.
ودائما ما كنت أتساءل لماذا يتغنى شعراء الربابة بأبطال من العصر الجاهلي ولا يتغنون ببطولات شخصيات من الفرسان والقادة في العصور الإسلامية وفيهم كثيرون يمكن أن تنسج حولهم الأساطير والقصص ، وتفسير ذلك هو أن الموروث القبلي أقوى من أي شيء آخر في الوجدان الجمعي فلم تكن بداية التاريخ عند القبائل في حروب الفتوحات وإنما يبدأ كل شيء من حرب البسوس.
وكان أكثر ما يثير دهشتي هو اختلاف اللهجات في المنطقة .. فارق كبير بين لهجتنا في المدينة ولهجة القرى رغم أن المسافة بينهما خمسة كيلومترات فقط ، عندنا نستخدم مفردات عديدة ذات جذور تركية مثل جزمة وشنطة ودولاب وأوضه وتوكة وبشكير لكن هناك يقتصرون على المفردات العربية وحدها ، مثلا لا يستعملون كلمة أوضه ويطلقون على الغرفة اسم المندرة (المنظرة) والمقعد ويستعملون كلمة مداس وبلغة وصرمة لكل ما يلبس في القدم ثم بعد ذلك استعملت كلمة جزمة وأوضة وكنبة وأجزخانة عندهم بحكم التنقل والاختلاط.
نقول في لهجتنا دلوقتي بمعنى هذا الوقت أو الآن لكنهم يقولون دلوقيتي بالمد والإطالة ويحذفون أواخر الكلمات عند النداء لكن لا يعطشون الجيم ولا يقلبون القاف إلى جيم ولا يتحدثون بصيغة الجمع ويكسرون أوائل الأفعال مثلنا ، لكن على بعد عشرين كيلومترا فقط تتغير اللهجات بشكل مثير حتى تصير أقرب إلى لهجات البدو وتتنوع بصورة محيرة وتبلغ أقصى مداها في الشرقية والبحيرة وهما من أكثر المحافظات المصرية سكانا وهناك تعطيش كامل للجيم وقلب القاف إلى جيم مجهورة مثل الجزيرة العربية تماما.
ولم يكن عندهم في أي وقت ثنائية العرب والمصريين التي ابتدعت بعد ذلك ففي وجدانهم الجمعي كانت الكلمتان تعنيان شيئا واحدا .. المصريون في نظرهم هم السكان العرب لوادي النيل وهكذا وصفوا أنفسهم ، وتراثهم الشعبي وموروثهم الثقافي جزء من ثقافة جامعة تمتد مكانيا على جانبي الدلتا ثم الصعيد ثم شرقا إلى الشام والعراق والجزيرة العربية وغربا وجنوبا إلى السودان والمغرب العربي.
وهذه الثقافة بما فيها من شعر وقصص وتصوف وفنون شعبية هي متصلة تاريخيا مع العصور الوسطى ولا تتعداها إلى أبعد من ذلك حيث يبدأ تاريخهم المروي في السير الشعبية مع حادثة مقتل كليب بن وائل على يد جساس بن مرة ويأتي بعد ذلك كل شيء منبثقا منها بل إن السير الشعبية كلها هي روايات تحكي تاريخ القبائل العربية بعيدا عن السردية التقليدية للتاريخ الإسلامي.
ومع ظهور فكرة القوميات في العصر الحديث بدأت الإشارة إلى وجود خصائص تميز مصر عن غيرها بهدف الاستقلال عن العثمانيين ومقاومة الاستعمار الأوروبي وهو الأمر الطبيعي لكن في إطار الثقافة العربية الجامعة التي لا تتعارض مع الهوية المصرية ، هناك خصائص مميزة لمصر والمصريين لكن هناك مشتركات أكبر مع بقية الدول العربية وعلى رأسها اللغة المشتركة والترث الشعبي المشترك والحياة الاجتماعية والدينية المشتركة.
وهو مشابه مثلا لفرنسا أو ألمانيا حيث لكل واحدة خصائص مميزة لكن تحت مظلة الثقافة الأوروبية الجامعة ومثل ذلك نيجيريا وأثيوبيا التي تنضويان تحت ثقافة أفريقية جامعة وكذلك فنزويلا وبيرو في أمريكا اللاتينية وتايلاند وكمبوديا في الشرق الأقصى ومثل أوزبكستان وتركمانستان وطاجيكستان في آسيا الإسلامية حيث تجمعهم الثقافة التركية الفارسية.
ونتيجة للمتغيرات السياسية التي أعقبت الربيع العربي ظهرت تيارات الشعوبيين الجدد والتي تروج لسردية هزلية متهافتة تدعو للشوفينية والتعصب المبني على الأوهام ، وفي القلب من هذا الفكر ادعاء استعادة الهوية المصرية الأصلية قبل الاحتلال العربي البدوي وأن مصر في زعمهم ليست عربية وأن المصريين من وجهة نظرهم أحفاد الفراعنة حصريا وأن المصريين وفقا لرؤيتهم من أنقى الشعوب جينيا ولم يختلطوا بغيرهم وأن العامية المصرية عندهم لغة مستقلة عن العربية وهي في نظرهم امتداد للغة القبطية والمصرية القديمة.
ووفقا لكل هذا الطرح تكون النتيجة أنه لا شأن لنا بالقضايا العربية حيث يرون أن فلسطين وإسرائيل مثلا متساويان بالنسبة لنا !! ويروجون أن الانتماء للعروبة هو حادث طارى من اختراع جمال عبد الناصر وأن علاقتنا بالآخرين يجب أن تكون وفق المصلحة وليس غيرها أو من خلال الاهتمام الإنساني العام حيث يكون الاهتمام بمآسي الفلسطينيين من وجهة نظرهم مساويا مثلا للاهتمام بمآسي الأوكرانيين وهو ما لا يحدث في الحياة الواقعية عند الغرب قبل الشرق !!
وجندت لذلك مئات الصفحات على وسائل التواصل الاجتماعي للترويج لهذه الأفكار وتنوعت ما بين الكتابة في التاريخ لإعادة صياغة سردية جديدة تكرس لذلك وتنكر وجود العرب في مصر وكذلك توظيف علوم الجينات بإظهار أنصاف الحقائق وإسباغ صفة العلماء على الهواة والجهلاء بالتزامن مع البحث غير المجدي عن أي شيء يربط المصريين المعاصرين بالفراعنة في المأكل أو الملبس أو العادات أو الشكل.
والفخر بالحضارات القديمة أمر محمود وطيب لكن هذه الحضارات قد غربت شمسها منذ زمن بعيد وحدث بيننا وبينها انقطاع ديني ولغوي وثقافي واجتماعي وسكاني قبل دخول العرب بأكثر من ألفي عام عندما حكمها الليبيون والنوبيون والفرس والبطالمة والرومان ثم دخلتها الثقافة المسيحية بمكوناتها اليهودية اليونانية وقضت بالقوة على ما تبقى من معالم الثقافة القديمة بحجة انتمائها للوثنية فهدمت المعابد وقتلت الفلاسفة ومحت وجود وتأثير كل ما يمت لما قبلها.
ولما كانت اللغة هي أهم محددات القومية وحجر عثرة يمكن أن ينسف كل تلك الأوهام بدأ الترويج لفكرة أن اللغة العامية هي لغة مستقلة تسمى اللغة المصرية وأنها امتداد في رأيهم للقبطية ويسوقون في ذلك حجج وبراهين منها تقديم أداة النفي على الفعل واختفاء المثنى وعدم تعطيش الجيم وتحويل القاف إلى همزة واختفاء الحروف اللثوية ، لكن القبطية توجد فيها حروف لثوية وتعطيش للجيم أحيانا وقلبها إلى غين غالبا واختفى منها حرفا العين والحاء الموجودين في أسماء الفراعنة بوضوح.
والتغييرات التي تميزت بها العامية حدثت في الوطن العربي كله وليس بمصر وحدها .. في جنوب اليمن لا يعطشون الجيم وفي الشام تتحول القاف إلى همزة واختفى المثنى والحروف اللثوية في عدد من اللهجات ويقدم بعضهم أداة النفي ، والأهم من ذلك كله أنه لا توجد عامية واحدة في مصر لأن لهجة القاهرة المستعملة في المدن وفي الدراما والإعلام هي واحدة من عدة لهجات وهي الحقيقة الغائبة التي نحاول في هذا الكتاب إلقاء الضوء عليها.
ويتناول الفصل الأول من الكتاب دراسة مختصرة للتراث الشعبي ومكوناته من الأدب الشفهي والفنون الشعبية والموروث الصوفي وتأثير كل ذلك في الوجدان الجمعي ، والفصل الثاني يتناول البحث عن جذور اللهجات العامية المصرية وارتباطها بحركة القبائل العربية في مصر وتنوعها تبعا لذلك.
أما الفصل الثالث فهو يتناول البيئة الجغرافية التي نشأ فيها التراث وتطورت فيها اللهجات وذلك في الأمصار العربية التي تأسست بعد دخول العرب إلى مصر ، والفصل الرابع يتناول مصطلح تاريخ المصريين وكيف نشأ وتطور مع الزمن مع الإشارة لمصادر التاريخ في العصور الوسطى.
وكما بدأنا في أول الكتاب بالتساؤلات فإن نهايته تحمل الإجابات وفق رؤيتنا وفهمنا راجين أن تحظى كلماتنا بالقبول وأن تنال الإعجاب وأن تكون خطوة على طريق الفهم الصحيح والإدراك السليم ، والله ولي التوفيق.