الأحياء الجنوبية والقرافة

حلوان

في عام 70 هـ انتشر الوباء في مدينة الفسطاط فقرر والي مصر عبد العزيز بن مروان الأموي إنشاء عاصمة بديلة بصورة مؤقتة ووقع اختياره على مساحة خالية من الأرض في حافة الصحراء الشرقية بعد وادي حوف وأطلق عليها اسم حلوان وانتقل إليها حتى وافته المنية فيها بعد خمس عشرة سنة ، وكانت تقع على نهر النيل باتجاه الجنوب في موضع كان عمرو بن العاص قد أنشأ مقياسا للنيل فيه وهي على بعد عشرة كيلومترات من أطلال سد متهدم في وادي جراوي بجوار عدد من الأديرة (عزبة الوالدة حاليا) ..

وتقع المدينة التي بناها عبد العزيز اليوم في منطقة حلوان البلد وقد وصفها علي باشا مبارك في الخطط التوفيقية قائلا : (وفي تاريخ الفرنساوية إنها علي شط النيل بينها وبين الفسطاط نحو ثمانية فراسخ وأنها كانت تسمي في العصر القديم البان وكانت إحدي المدائن المشهورة بمصر ثم أخني عليها الدهر أي جار عليها الزمن حتي اضمحلت إلي أن قيض الله لها عبدالعزيز بن مروان حين تولي حكم وادي النيل فأعجبه هواؤها فجددها وأصلحها وسبّب نزوله بها أنه حرص علي التردد عليها وتأسيس مقام له فيها) ..

أما المقريزي فيقول (إن الطاعون وقع بالفسطاط فخرج منها عبدالعزيز ونزل بحلوان داخل الصحراء في موضع يقال له أبو قرقورة وهو رأس العين التي حضرها عبد العزيز وساقها إلي نخيله التي غرسها بحلوان) ، وقال ابن الكندي (أن الطاعون وقع بمصر سنة سبعين فخرج منها عبدالعزيز ونزل بحلوان فأعجبته فسكنها وجعل بها الحرس والأعوان والشرطة وبني بها الدور والمساجد وعمرها أحسن عمارة وغرس نخيلها وكرومها ولم تزل العمارات تزداد بها مدة إقامته فيها وهي أكثر من خمس عشرة سنة) ..

وظلت حلوان طوال تاريخها مدينة هادئة بعيدة عن صخب الفسطاط والقاهرة فكان يرتادها الأعيان والأمراء ويسكنون قصورها وبساتينها حيث كانت الأجواء فيها صحية وعيون الماء نقية وتساعد على الاستشفاء ، وفي العصر العثماني تعرضت لحريق كبير ثم توسعت وزاد عمرانها في عهد الخديوي إسماعيل الذي بنى فيها قصرا لوالدته خوشيار هانم واهتم بالعيون الكبريتية وأنشأ منتجعا علاجيا ثم مد إليها خط السكك الحديدية وفي مطلع القرن العشرين تأسس فيها معهد البحوث الفلكية ومرصد حلوان ..

معادي الخبيري

تنقسم المعادي إلى قسمين أحدهما قديم والثاني حديث ، فأما القسم القديم فهو قرية المعادي الأصلية التي كانت تسمى منية السودان ثم العدوية حيث يقول الإدريسي في كتاب نزهة المشتاق : ” ومن خرج من مصر يريد الصعيد سار من الفسطاط إلى منية السودان وهي منية جليلة تتصل بها عمارات بضروب من الغلات ” ، وذكر أبو صالح الأرمني أن دير العدوية واقع بأرض منية السودان وعرف بهذا الاسم لأنه أنشىء على أرض سيدة مغربية تسمى العدوية وعرف بعدها باسم كنيسة العذراء.

ووردت العدوية في قوانين ابن مماتي وفي تحفة الإرشاد من أعمال الأطفيحية ، وورد في معجم البلدان : العدوية قرية ذات بساتين قرب مصر على شاطىء النيل الشرقي تلقاء الصعيد ، ووردت في الانتصار العدوية ضمن ضواحي القاهرة بين بركة الحبش وطرا ، وفي العهد العثماني ألغيت ناحية العدوية من عدد النواحي ذات الوحدات المالية وأضيف زمامها إلى أراضي ناحية البساتين.

ومن ذلك العهد عرفت العدوية على لسان الناس باسم معادي الخبيري حيث كان بها مرسى المراكب المخصصة لتعدية الناس والجند المتوجهين من وإلى مصر والقاهرة وبلاد الصعيد لأن النيل هناك أضيق مجرى وأسهل اجتيازا منه تجاه مصر والقاهرة لوجود الجزر أمامها مما ينشأ عنه تعطيل النقل وتعدد مرات التعدية ، وكان يتولى رياسة تلك المعادي رجل يسمى الحاج علي الخبيري فنسبت إليه واشتهرت باسمه.

ومن سنة 1860 م. عرفت العدوية في الدفاتر الرسمية باسم عزبة برنجي آلاي لأنه كان يجاورها مبنى ثكنات الآلاي الأول من آلايات الجيش المصري في ذلك العهد ، وفي سنة 1892 م. أصدرت نظارة الداخلية قرارا يجعل عزبة برنجي آلاي المذكورة ناحية إدارية قائمة بذاتها من الوجهة الإدارية لحفظ الأمن في طريق حلوان مع بقائها تابعة لناحية البساتين من الوجهتين العقارية والمالية.

وأما القسم الحديث من المعادي فهو الواقع في أراضي شركة الدلتا والانفستمنت ليمتد ، وأغلب مبانيه يقع شرقي سكة حديد حلوان وأقلها يقع في الجهة الغربية منها ومن مبانيه الجامع الجديد ، وقد بدأت الشركة في إنشاء هذا القسم من سنة 1908 م. ببناء بعض المنازل على قطع مما تملك من الأراضي الواسعة في تلك الجهة ، وأعقب ذلك بيع الكثير من قطع الأراضي للراغبين في سكنى المعادي من الأعيان وكبار الموظفين.

ومن تلك السنة أخذت المعادي في الاتساع والعمران وزادت شهرتها بين الضواحي لحسن موقعها وجودة هوائها وبعدها عن ضوضاء المدينة فكثر الإقبال على السكنى فيها ، وفي عام 1930 م. أصبح اسمها الرسمي في جميع المصالح الحكومية هو المعادي التي ضمت وقتها محطة السكة الحديدية ومكاتب البريد والتلغراف والتليفون ونقطة البوليس ومكتب شركة الدلتا القائمة على إعمار المنطقة.

المرجع : القاموس الجغرافي للبلاد المصرية ، محمد بك رمزي

طره والمعصرة

جاء في القاموس الجغرافي أن طره من القرى القديمة واسمها تاراو ، وردت في معجم البلدان أنها قرية في شرق النيل قريبة من الفسطاط من ناحية الصعيد واشتهرت بالمحاجر التي تنتج الحجر الجيري الأبيض ، وتعرف باسم طره البلد لتمييزها عن توابعها حيث انفصلت عنها طره الحجارة عام 1903 م. وطره الأسمنت عام 1932 م.

أما المعصرة فكانت في الأصل عدة محطات للمسافرين بجوار دير شهران (دير العريان) حيث ذكرها أبو صالح الأرمني أنها قرية كبيرة واقعة جنوبي طرا وأنها عامرة آهلة ، وذكرها أبو الحسن الهروي المتوفي 611 هـ وذلك في رحلته باسم طاطاش ، وذكرها ابن جبيرالمتوفي 614 هـ في رحلته باسم السكون ، وفي العصر المملوكي سميت المنطقة كلها معصرة دير شهران والمعيصرة ، وفي عام 1934 م. فصلت منها ناحية المعصرة المحطة.

جاء في الخطط التوفيقية : ” طرا : هى قرية مشهورة فى مديرية الجيزة على الشاطئ الشرقى للنيل قبلى معادى الخبيرى، وذكر الجغرافيون : أنها كانت بسطة عسكرية فى زمن الرومانيين ، وكانت تسمى (سينى مندروروم) ، وهو اسم رومى مركب من كلمتين ، إحداهما : سينى التى معناها : خيام ، الثانية : مندروروم التى معناها : أخصاص ، وفى بعض الكتب سميت طروبا ، ينسب إليها الطروبيون الذين أحضرهم (منيلاس) ، فسكنوا هذه البقعة كما قاله استرابون ، والجبل المجاور لها إلى هذا الوقت يسمى بجبل الطروبيين ، ثم غيّر الاسم إلى طرواده ثم إلى طرا ، وأبنيتها الآن بالدبش والحجر ، منازلها ما بين دور ودورين ، وبها من الجهة الجنوبية على شاطئ البحر جامع مقام الشعائر.

وبجوار هذا الجامع من قبلى ، دير مارى جرجس به قسيس واحد وراهبان ، وذكر المقريزى أن هذا الدير يعرف بدير أبى جرج وهو على شاطئ النيل ، وذكر أيضا أن فى حدودها ديرا يقال له : دير شعران ، وهو مبنى بالحجر واللبن ، وبه نخل وعدة رهبان، ويقال : إنما هو دير شهران بالهاء ، وأن شهران كان من حكماء النصارى ، وقيل : بل كان ملكا.

وفى الجبرتى فى حوادث سنة ثلاث ومائتين وألف أن إسمعيل بيك الأرنؤدى ، لما أراد المحاربة مع (الغز) الذين كانوا فى الوجه القبلى ، اجتهد فى البناء عند طرا ، وبنى هناك قلعة بحافة البحر ، وجعل بها مساكن ومخازن وحواصل ، وأنشأ حيطانا وأبراجا وكرانك ، وأبنية ممتدة من القلعة إلى الجبل ، وأخرج إليها الجبخانة والذخيرة وغير ذلك.

معصرة أطفيح : قرية من قسم أطفيح ، بمديرية الجيزة على الشاطئ الشرقى للنيل بين حلوان وطرا. أكثر أبنيتها بالدبش. وبها جامع ومصبغة وثلاث طواحين ونخيل كثير. وأطيانها مأمونة الرى ويزرع بها الخضر والبطيخ والذرة الصيفية. وفوقها فى الجبل ورشة لقطع البلاط، ومعظم تكسب أهلها من ذلك يبيعونه بالمحروسة. وفى شرقيها دير يسمى دير العرب له موسم يوم عيد الصليب يحضره الأقباط من الوجه القبلى والمحروسة وغيرها “.

دير الطين (دار السلام)

منطقة دار السلام الحالية بجنوب القاهرة كانت تعرف في العصور الإسلامية باسم دير الطين وذلك لمجاورتها لأحد الأديرة القديمة ، ورد في كشف الأسقفيات أن هذا الدير كان لرهبان الحبش الذين تنسب لهم بركة الحبش ، وكانت الأرض الزراعية التابعة لهذه القرية مقيدة في دفاتر المكلفات والأموال باسم بركة الحبش التي كانت من النواحي المالية القديمة من عهد الفتح العربي ، وفي تاريخ سنة 1228 هـ قسم زمام بركة الحبش على ناحيتي دير الطين والبساتين.

وموقع بركة الحبش كان يمثله أراضي زراعية كانت تقع في زمام قرية دير الطين (حي دار السلام حالياً) وزمام قرية البساتين (حي البساتين حالياً) ، وكانت تقدر بألفين ومائتي فدان منها مائتين وثلاثة عشر فداناً كانت تتبع قرية دير الطين ، والباقي في زمام البساتين ، وكانت هذه المنطقة تحد من الجنوب بأراضي ناحية البساتين ومن الشرق قرية البساتين ومن الشمال جبانة مصر التي كانت تسمى بالقرافة الكبرى ، وجبل الرصد وتعرف حالياً باسطبل عنتر وأرض قرية أثر النبي في الحد الفاصل بينها وبين دير الطين (دار السلام) ومن الغرب كان يحدها جسر النيل الواصل بين دير الطين (دار السلام) وبين المعادى ويمثله اليوم الطريق الزراعي.

جاء في الخطط التوفيقية : ” دير الطين وهو قرية من مديرية الجيزة ، على الشاطئ الشرقى للنيل قبلى فسطاط مصر بقليل كانت أولا معبدا للنصارى كما فى المقريزى ، وكان يقال له دير يوحنا ثم عرف بدير الطين ، ثم صار قرية وأغلب بنائها الآن بالدبش والآجر وقليل من الحجر الآلة ، وفيها كثير من الغرف ونخيلها قليل وأطيانها كذلك ، ويزرع فيها الخضر والمقاثئ مثل الخيار والقرع والبطيخ ، وبها جامع قديم ، وفى جهتها الشرقية ضريح الشيخ العجمى ومقام الأربعين على شط البحر مشهور.

وفى المقريزى : أن جامع دير الطين عمره الصاحب تاج الدين بن الصاحب فخر الدين بن الصاحب بهاء الدين المشهور بابن حنا ، سنة اثنتين وسبعين وستمائة ، وكان ضيقا لا يسع الناس ، فعمره وعمر فوقه طبقة يصلى فيها ويعتكف ويخلو بنفسه فيها ، وكان ماء النيل فى زمنه يصل إلى جداره.

وابن حنا هو أبو عبد الله الوزير الصاحب فخر الدين ، ناب عن والده فى الوزارة ، وولى ديوان الأحباس ووزارة الصحبة فى أيام الظاهر بيبرس ، وسمع الحديث بالقاهرة ودمشق ، وحدّث وله شعر جيد ، ودرس بمدرسة أبيه الصاحب ، وكان محبا لأهل الخير ، وعمر رباطا بالقرافة الكبرى ، مات سنة ثمان وستين وستمائة رحمه الله تعالى. ا. هـ.

وفى شمالها الشرقى قارة من الجبل ، فوقها مخزن بارود تعلق الحكومة ، يعرف بجبخانة اصطبل عنتر ، عليه محافظون من العساكر الجهادية ، وفيها طواحين يديرها الهواء غير مستعملة الآن ، وبها قصر بجنينة كانت للمرحوم محمود بيك يكن ، وهى الآن تحت يد الأمير عبد الله باشا- أحد أعضاء مجلس الخصوص ، ومعظم تكسب أهلها من قطع الأحجار.

وذكر الجبرتى أن دير الطين قد أحرقت وخرجت فى سنة ست وثمانين ومائة وألف ، بأمر محمد بيك أبى الذهب بعد وقعته مع على بيك الكبير ، وكان على بيك قد أقام بها قبل فراره إلى الشام “.

بركة الحبش (البساتين)

حي البساتين الحالي بالقاهرة كان قرية في العصور الإسلامية تعرف باسم بساتين الوزير ، نسبة إلى الوزير أبي الفرج محمد بن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين بن علي بن محمد المغربي وزير الخليفة المستنصر وكان له بساتين بها فنسبت إليه ومات سنة 478 هـ ، وكان الزمام الحالي لهذه الناحية مقيدا في دفاتر المكلفات باسم بركة الحبش التي كانت غيطا من غير حيط ، وفي تاريخ سنة 1228 هـ قيد زمامها باسم البساتين.

وذكر المقريزي أن بركة الحبش تقع ظاهر مدينة الفسطاط من قبليها فيما بين الجبل والنيل ، كما ذكر عن ابن يونس في تاريخه أن قبلى بركة الحبش جنان تعرف بقتادة بن قيس بن حبش الصدفي وأن الحد البحري ينتهى إلى البئر الطولونية وإلى البئر المعروفة بموسى بن أبن خليد ، وهذه البئر هي المعروفة بالنعش ، كما ذكر نقلاً عن ابن المتوج أن البركة وقف الاشراف الطالبيين وهذه البركة حدودها أربعة :

الحد القبلي ينتهى بعضه إلى أرض العدوية يفصل بينهما جسر هناك وباقية إلى غيطان الوزير والحد البحري ينتهى بعضه إلى أبنيه الآدر التي هناك المطلة عليها وإلى الطريق وإلى الجسر الفاصل بينها وبين بركة الشعيبية ، والحد الشرقي على حد بساتين الوزير المذكورة ، والحد الغربي ينتهى بعضه إلى بحر النيل وإلى أراضي دير الطين وإلى بعض حقوق جزيرة ابن الصابوني وجسر بستان المعشوق الذي هو من حقوق الجزيرة المذكورة.

وبركة الحبش كانت تقع جنوبي مدينة الفسطاط فيما بين جبل المقطم والنيل ، وكان الجبل يحيط بالبركة من الجهتين الشرقية والشمالية ، فأما الجهة الشرقية فعلى شكل هضبة أقيم على بعضها قرية البساتين القديمة ، وأما الجهة الشمالية فتمثل هضبة اسطبل عنتر حاليا وكان الجزء الغربي منها يمثل هيئة جبل كان يسمى قديماً الرصد.

والحد القبلي أى الجنوبي للبركة كانت حدائق وبساتين ، والحد البحري (الشمالي الشرقي) ينتهى إلى البئر الطولونية ، وإلى بئر النعش ، والبئر الطولونية لا تزال موجودة حتى الآن بحي البساتين جنوب القاهرة وتسمى الآن بير أم سلطان ، وهي تمثل مأخذ مياه للقناطر التي أنشأها أحمد بن طولون والتي لا يزال الجزء الجنوبي منها بقاياً بالبساتين الآن ، أما البئر المعروفة بالنعش فقد ذكر علي باشا مبارك أنها كانت موجودة أيامه في حوض عفصه من أراضي البساتين ، وهذا الحد البحري يمثل من الجهات الأصلية الجهة الشمالية الشرقية.

والحد القبلي أى الجنوبي للبركة ينتهى بعضه إلى أرض العدوية أى أرض المعادي حالياً ، والبعض الآخر ينتهى إلى أراضي وغيطان تابعة للبساتين ، والحد البحري أي الشمالي ينتهى بعضه إلى بيوت كانت هناك والبعض الآخر إلى بركة الشعيبية التي كانت تقع شمال بركة الحبش ، والحد الشرقي كانت به بساتين الوزير ، والحد الغربي ينتهى بعضه إلى نهر النيل والبعض الآخر إلى أراضي دير الطين ، أي دار السلام حالياً وإلى بعض حقوق جزيرة الصابوني وجسر بستان المعشوق ويمثله الآن الطريق الزراعي بين أثر النبي والمعادي.

وقد قدر ياقوت الحموي طول بركة الحبش بنحو ميل ، بينما ذكر ابن دقماق أن البعض قدر مساحتها بألف فدان ، ويرجع الاختلاف في مساحتها لتذبذب مستوى الماء فيها من وقت لآخر تبعاً لحالة الفيضان.

المرجع : كتاب د. محمد الششتاوي ، متنزهات القاهرة في العصرين المملوكي والعثماني

المشاهد والقباب في الفسطاط والقاهرة

تستمد مدينة القاهرة روحها الإسلامية الفريدة من موقعها وتاريخها وما شهدته من أحداث كبرى وكذلك من البشر الذي عاشوا فيها حياتهم ودفنوا في أرضها لتظل قبورهم شاهدة على تعاقب العمران في تلك المنطقة المحصورة بين نهر النيل في الغرب وجبل المقطم في الشرق حيث جاءت المقابر الإسلامية مرتبة زمنيا وكلها في الحزام الشرقي للمدينة التاريخية بينها وبين الجبل الذي ساد الاعتقاد المبكر بأن أرضه مباركة ..

عند سفح جبل المقطم يرقد قادة الفتح الإسلامي في المنطقة التي عرفت باسم تربة بني العوام وهم عمرو بن العاص السهمي وأبو بصرة الغفاري وخارجة بن حذافة العدوي ومعاوية بن حديج الكندي وعلى رأسهم عقبة بن عامر الجهني صاحب رسول الله (ص) والذي ينسب له المسجد المعروف باسم (جامع سيدي عقبة) ، وفي الغرب من جامع عمرو ينفرد والي مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري وحده في مسجده المعروف ..

وبالقرب منهم مرقد الإمام الليث بن سعد والإمام الشافعي وأسرة ابن عبد الحكم وحولهم مقابر كل من عمر بن الفارض والإمام ورش وذي النون المصري والعز بن عبد السلام وابن دقيق العيد والطحاوي وابن عطاء الله السكندري وابن حجر العسقلاني وبدر الدين العيني وشمس الدين الحنفي وابن سيد الناس ثم مشهد آل طباطبا الحسنيين على ضفاف بحيرة عين الصيرة ، وإلى الشمال قليلا مقابر الخلفاء العباسيين بجوار مسجد السيدة نفيسة العلم ..

وفي الميدان المعروف باسمها نجد مسجد السيدة عائشة بنت جعفر الصادق ثم السيدة فاطمة النبوية بنت الحسين ثم يجاورهم الطريق المعروف باسم (درب الأشراف) حيث كل من السيدة سكينة بنت زين العابدين والسيدة رقية بنت علي والسيدة عاتكة بنت زيد العدوية وانتهاء بالسيدة أم كلثوم بنت القاسم ، وفي المسجد المعروف باسمها ترقد السيدة زينب بنت يحيى المتوج وإلى الجنوب مسجد جدها سيدي حسن الأنور ..

وتحت حديقة الأزهر تستقر رفات الخلفاء الفاطميين بعد نقلها من تربة الزعفران إلى كيمان البرقية في العصر المملوكي ، وفي شارع بين القصرين يستقر الملك الصالح نجم الدين أيوب في المدرسة المنسوبة إليه في القصر الشرقي وبالقرب منه يرقد المنصور قلاوون والناصر محمد بن قلاوون في الناحية الغربية بينما انفرد الأشرف خليل ووالدته بضريح في الشارع المعروف باسمه وتنفرد شجر الدر بقبتها المعروفة بالقرب منه ..

وتحت باب زويلة ضريح المؤيد شيخ وولده في مدخل جامع المتولي ، وفي مقابر المماليك كل من برقوق وابنه فرج وإينال وخوشقدم وقايتباي في مدارس وخانقاوات أوقفوها جوار أضرحتهم ، وفي الرميلة مسجد السلطان حسن الذي يحوي أحد أبنائه وبالقرب منه مسجد تغري بردي وعدد من أمراء المماليك مثل صرغتمش وقوصون وقانيباي وقرقماس ويونس الداوادار ..

وفي الأزهر يرقد كل من جوهر القنقبائي وعلاء الدين طيبرس وأقبغا عبد الواحد ونفيسة البكرية وعبد الرحمن كتخدا ، وفي مناطق متفرقة مقابر كل من ابن خلدون وشاهين الخلوتي وأحمد الدردير والشعراني وأبو العلا وأبو السعود الجارحي والمقريزي والسيوطي وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري والكواكبي والسيد عمر مكرم والشيخ علي الصعيدي العدوي والقسطلاني والجبرتي والإمام محمد عبده والسيد محمد رشيد رضا ..

الآلاف من الشيوخ والفقهاء والمتصوفة والأمراء بل وعوام الناس من كافة العصور الإسلامية حرصوا على أن يكون مثواهم الأخير في تلك البقعة بجوار الأئمة الكبار والقادة العظام تبركا بهم واستشعارا لروح المكان الطيب ، وعندما تنظر العيون من فوق الجبل إلى هذه الشواهد والقباب وهي باقية أبد الدهر فإن مرآها يبعث على السكينة والخشوع والرهبة والتواضع ويمد الناظر إليها متأملا معتبرا بجلال الحضرة القدسية ..

كيمان البرقية (حديقة الأزهر)

منذ ربع قرن بدأت مؤسسة أغاخان للعمارة الإسلامية في إنشاء حديقة الأزهر بتكلفة بلغت مائة مليون جنيه وقتها وذلك على مساحة ثمانين فدان في موضع شرق القاهرة الفاطمية كان يعرف باسم (كيمان البرقية) وهو مقلب قمامة المدينة لمدة ألف عام ، وتم ذلك تحت إشراف خريج هارفارد السيد كريم الدين الحسيني (أغاخان الرابع) حفيد أغاخان الثالث المدفون في مقبرته الشهيرة بمدينة أسوان والمبنية على الطراز الفاطمي ..

وكانت الدعوة الإسماعيلية الفاطمية قد انقسمت بعد وفاة الخليفة المستنصر الفاطمي إلى نزارية ومستعلية ، أما النزارية فهم أتباع الإمام الهادي بن نزار المصطفى لدين الله بن المستنصر والذي فر إلى فارس ونزل في حماية الحسن الصباح مؤسس طائفة الحشاشين ثم انتقوا إلى وسط إيران بعد الغزو المغولي ثم تولوا إمارة كرمان (ومنحهم ملوك إيران لقب أغاخان) ومنها انتقلوا إلى بلاد الأفغان والبلوش والسند وأذربيجان ..

ويعد أغاخان الرابع بمثابة الإمام التاسع والأربعين للأئمة النزارية وفق اعتقاد الطائفة وهو محل تقديس كونه الحفيد المباشر للأئمة الفاطميين ، وكانت مقابر أجداده أول الأمر في تربة الزعفران بالقصر الفاطمي الشرقي ثم قام الأمير جهاركس الخليلي المملوكي في عهد السلطان برقوق بنبش قبور الفاطميين ليبني مكانها خان الخليلي وألقى بالعظام والرفات في موضع القمامة ولهذا السبب تم إنشاء الحديقة تخليدا لذكراهم ..

أما الفرع الثاني من الإسماعيلية فقد عرفوا باسم المستعلية نسبة للخليفة المستعلي بالله حيث يعتقدون بأن آخر إمام قد دخل طور الستر وهو أبو القاسم الطيب بن الخليفة الآمر بأحكام الله بن المستعلي ولذا يتولى رئاسة الدعوة نيابة عنه (الداعي المطلق) ، وانتقلت الدعوة إلى اليمن تحت وصاية الملكة أروى الصليحية وبعد سقوط الدولة الفاطمية انتقلت أيضا إلى الهند وازدهرت هناك وعرفت باسم (البهرة) وتعني التجار ..

وقد قام البهرة بتجديد عدد من المساجد في مصر وهي جامع الحاكم بأمر الله والجامع الأقمر ومسجد الجيوشي ومسجد اللؤلؤة وتجديد مقصورة ضريح السيدة زينب والسيدة رقية وعدد من المساجد في العراق والشام بالإضافة إلى تمويل مركز الأبحاث الوراثية في كراتشي ، وعند تجديد جامع الحاكم تم إغفال المآذن المملوكية لأنها ليست من البناء الفاطمي كما أن مسجد اللؤلؤة تحديدا قاصر عليهم ولا يسمح لغيرهم بدخوله ..

ويتولى رئاسة الطائفة في العالم حاليا السيد مفضل سيف الدين والمعروف بلقب (سلطان البهرة) وهو بمثابة الداعي المطلق الثالث والخمسين للدعوة الإسماعيلية المستعلية والتي انقسمت إلى سليمانية وعلوية وداوودية ، ويعد جامع الحاكم شديد الأهمية للبهرة من ناحية العبادة ولذا فقد أسسوا فندقا بجواره للزوار من أبناء الطائفة والبالغ عددهم في مصر قرابة عشرة آلاف مقيم وأطلقوا عليه اسم (دار الفيض الحاكمي) ..

ذكر حدّ القاهرة

قال ابن عبد الظاهر في كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة الذي استقرّ عليه الحال أنّ حدّ القاهرة من مصر من السبع سقايات ، وكان قبل ذلك من المجنونة إلى مشهد السيدة رقية عرضا، اهـ.

والآن تطلق القاهرة على ما حازه السور الحجر الذي طوله من باب زويلة الكبير إلى باب الفتوح وباب النصر ، وعرضه من باب سعادة وباب الخوخة إلى باب البرقية والباب المحروق ، ثم لما توسع الناس في العمارة بظاهر القاهرة وبنوا خارج باب زويلة حتى اتصلت العمائر بمدينة فسطاط مصر ، وبنوا خارج باب الفتوح وباب النصر إلى أن انتهت العمائر إلى الريدانية.

وبنوا خارج باب القنطرة إلى حيث الموضع الذي يقال له بولاق حيث شاطىء النيل ، وامتدّوا بالعمارة من بولاق على الشاطئ إلى أن اتصلت بمنشأة المهرانيّ ، وبنوا خارج باب البرقية والباب المحروق إلى سفح الجبل بطول السور ، فصار حينئذ العامر بالسكنى على قسمين : أحدهما يقال له : القاهرة ، والآخر يقال له: مصر.

فأما مصر : فإنّ حدّها على ما وقع عليه الاصطلاح في زمننا هذا الذي نحن فيه من حدّ أوّل قناطر السباع إلى طرف بركة الحبش القبليّ مما يلي بساتين الوزير ، وهذا هو طول حدّ مصر ، وحدّها في العرض من شاطىء النيل الذي يعرف قديما بالساحل الجديد حيث فم الخليج الكبير وقنطرة السدّ إلى أوّل القرافة الكبرى.

وأما حدّ القاهرة فإنّ طولها من قناطر السباع إلى الريدانية ، وعرضه من شاطىء النيل ببولاق إلى الجبل الأحمر ، ويطلق على ذلك كله مصر والقاهرة ، وفي الحقيقة قاهرة المعز التي أنشأها القائد جوهر عند قدومه من حضرة مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ إلى مصر في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة إنما هي ما دار عليه السور فقط غير أن السور المذكور الذي أداره القائد جوهر تغير، وعمل منذ بنيت إلى زمننا هذا ثلاث مرّات.

ثم حدثت العمائر فيما وراء السور من القاهرة ، فصار يقال لداخل السور : القاهرة ، ولما خرج عن السور ظاهر القاهرة ، وظاهر القاهرة أربع جهات : الجهة القبلية وفيها الآن معظم العمارة ، وحدّ هذه الجهة طولا من عتبة باب زويلة إلى الجامع الطولونيّ ، وما بعد الجامع الطولونيّ فإنه من حدّ مصر.

وحدّها عرضا من الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل غربيّ المريس إلى قلعة الجبل ، وفي الاصطلاح الآن أن القلعة من حكم مصر ، والجهة البحرية وكانت قبل السبعمائة من سني الهجرة وبعدها إلى قبيل الوباء الكبير فيها أكثر العمائر والمساكن ، ثم تلاشت من بعد ذلك ، وطول هذه الجهة من باب الفتوح وباب النصر إلى الريدانية وعرضها من منية الأمراء المعروفة في زمننا الذي نحن فيه بمنية الشيرج  إلى الجبل الأحمر ، ويدخل في هذا الحدّ مسجد تبر والريدانية.

والجهة الشرقية فإنها حيث ترب أهل القاهرة ، ولم تحدث بها العمر من التربة إلا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، وحدّ هذه الجهة طولا من باب القلعة المعروف بباب السلسلة إلى ما يحاذي مسجد تبر في سفح الجبل ، وحدّها عرضا فيما بين سور القاهرة والجبل والجهة الغربية ، فأكثر العمائر بها لم يحدث أيضا إلّا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، وإنما كانت بساتين وبحرا ، وحدّ هذه الجهة طولا من منية الشيرج إلى منشأة المهرانيّ بحافة بحر النيل ، وحدّها عرضا من باب القنطرة وباب الخوخة وباب سعادة إلى ساحل النيل ، وهذه الأربع جهات من خارج السور يطلق عليها : ظاهر القاهرة.

وتحوي مصر والقاهرة من الجوامع والمساجد والربط والمدارس والزوايا والدور العظيمة والمساكن الجليلة والمناظر البهجة والقصور الشامخة والبساتين النضرة والحمامات الفاخرة والقياسر المعمورة بأصناف الأنواع ، والأسواق المملوءة مما تشتهي الأنفس والخانات المشحونة بالواردين والفنادق الكاظة بالسكان والترب التي تحكي القصور ما لا يمكن حصره ، ولا يعرف ما هو قدره إلا أن قدر ذلك بالتقريب الذي يصدّقه الاختبار طولا بريدا وما يزيد عليه.

وهو من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش ، وعرضا يكون نصف بريد فما فوقه وهو من ساحل النيل إلى الجبل ، ويدخل في هذا الطول والعرض بركة الحبش وما دار بها ، وسطح الجرف المسمى : بالرصد ، ومدينة الفسطاط التي يقال لها : مدينة مصر ، والقرافة الكبرى والصغرى ، وجزيرة الحصن المعروف اليوم : بالروضة ، ومنشأة المهرانيّ ، وقطائع ابن طولون التي تعرف الآن بحدرة ابن قميحة ، وخط جامع ابن طولون والرميلة تحت القلعة ، والقبيبات وقلعة الجبل والميدان الأسود الذي هو اليوم مقابر أهل القاهرة خارج باب البرقية إلى قبة النصر.

والقاهرة المعزية ، وهو ما دار عليه السور الحجر ، والحسينية والريدانية ، والخندق وكوم الريش ، وجزيرة الفيل ، وبولاق ، والجزيرة الوسطى المعروفة بجزيرة أروى ، وزريبة قوصون ، وحكر ابن الأثير ، ومنشأة الكاتب ، والأحكار التي فيما بين القاهرة ، وساحل النيل ، وأراضي اللوق ، والخليج الكبير الذي تسميه العامّة بالخليج الحاكميّ ، والحبانية والصليبة والتبانة ، ومشهد السيدة نفيسة ، وباب القرافة ، وأرض الطبالة، والخليج الناصريّ ، والمقس والدكة ، وغير ذلك مما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وقد أدركنا هذه المواضع وهي عامرة ، والمشيخة تقول : هي خراب بالنسبة لما كانت عليه قبل حدوث طاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة الذي يسميه أهل مصر : الفناء الكبير ، وقد تلاشت هذه الأماكن ، وعمها الخراب منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة ، ولله عاقبة الأمور.