تأملات ذاتية

1 / قصيدة بعنوان (فراق ولقاء)

هذه القصيدة كتبها الوالد رحمه الله عندما نزل ضيفا علي في السعودية في مايو عام ٢٠١٦بعد فراق لمدة عام ونصف ، وقد كان هذا اللقاء آخر عهدي برؤيته ..

(1)

عام ونصف لم أره والله يرعى من يره

يجزيه بعد بلائه من بعد عسر ميسرة

ويخصه بعناية فيها لحي تبصرة‎‏.

ليمحص الله الذين وجوههم مستبشرة

جعلوا سبيل الله غايتهم فنالوا المغفرة

اتخذوا الرسول إمامهم والهدى آيا مبصرة

أكرم بهم وبنهجهم حازوا نعيم الآخرة

(2)

عام ونصف لم أره والله يرعى من يره

كم ليلة قضيتها سهدا اناجي منظره

أستنطق الزمن السعيد وأستطيب التذكرة

حيث التنافس في الفضائل والصفات الخيرة

حيث التسابق في رياض العلم تقطف ازهره

فواحة بعبيرها متفتحات عاطرة

يحيي القلوب نسيمها يزكي النفوس الطاهرة

(3)

عام ونصف لم أره والله يرعى من يره

هي ذكريات غاليات يانعات ناضرة

مرت كبرق خاطف ترعاه عين ساهرة

طيف ألم بخاطري أبدى الي مشاعره

كيف الوصول إلى الضياء إلى الوجوه النيرة

ومتى نعود الى الحمى لنرى الحدائق مثمرة

ونرى العدالة ظلها ونرى الكنانة كوثره

2 / ذكرى ورثاء

بعد أيام قليلة تحل الذكرى السنوية الأولى لوفاة الوالد الكريم رحمه الله .. وطوال العام الماضي لم أكتب أي كلمة رثاء أو تأبين له لأنني في الحقيقة كنت غير مصدق أنه رحل عن عالمنا .. وقد كانت ذكرياتنا معا لا تزال ماثلة أمام مخيلتي خاصة تلك الأيام التي كنا نجلس فيها في (البلكونة) ساعة المساء وننطلق في أحاديث طويلة في السياسة والتاريخ والشعر والفقه والفلسفة .. والطب أحيانا ، وقد كانت أجمل هذه الذكريات وأعزها على نفسي هي تلك الزيارة التي قام بها في شهر مايو 2016 إلى السعودية حيث التقينا بعد غياب طويل وقضى الوقت معي في مراجعة كل مؤلفاتي وكتب بخط يده تعليقاته القيمة في الهامش ثم أعطاني قصيدة من تأليفه تصف هذا اللقاء بعد الافتراق وجاء في مطلعها : (عام ونصف لم أره .. والله يرعى من يره .. كم ليلة قد بتها .. سهدا أناجي منظره) ..

ومن حق كل إنسان أن يحزن لفقد والديه لكن حزني عليه ليس كأي ابن يرثي والده وإنما هو نابع من معرفة قدره ومكانته العلمية والدعوية قبل أن تكون صادرة عن عاطفة البنوة وشجن الفراق وقد كانت جنازته الحاشدة خير تعبير عن محبة الناس وتأثرها بدوره الذي عرف به في الوعظ والإرشاد والتدريس من فوق منبر المسجد أو من خلال الإذاعة والتليفزيون سنين طويلة أو من خلال مؤلفاته المكتوبة ، لذلك لن أتحدث عن هذا الجانب الذي يعرفه الجميع وإنما سوف أتكلم عن جوانب خفية في رجل كان يتمتع بالعديد من المواهب والملكات وأهمها المثابرة في البحث العلمي الجاد حيث قضى سنوات يتنقل بين المخطوطات المتعلقة بالدولة الفاطمية في تونس والجزائر وروما وباريس ومراكش وفاس والدار البيضاء رغم أنه وقتها لم يكن قد عمل في الجامعة بعد وإنما كان لا يزال يعمل بالتدريس في المدارس الثانوية ولذا جاءت رسالة الدكتوراة عالية المستوى تحوي الكثير من الخرائط القديمة وصور المخطوطات النادرة وسلاسل الأنساب الموثقة وقد جمعها كلها من مصادرها الأصلية فكانت إسهاما علميا كبيرا وكشفا لكثير من الغوامض التي أحاطت بالدولة الفاطمية في المغرب ومصر لذلك كان الجميع يتعجب من تلك الشدة الأكاديمية التي ظهرت أثناء إشرافه على مناقشة الدكتوراة الخاصة بالشيخ محمد حسان حيث كانت الدقة العلمية طابعه الدائم طوال حياته الدراسية والعلمية ..

وقد كان رحمه الله من القلائل الذين يجيدون الكتابة والتحدث باللغة العبرية وكثيرا ما تمت الاستعانة به لترجمة النصوص الدينية القديمة وفي أحد المؤتمرات الدولية كان يقف على المنصة ويتحدث في موضوع متعلق بمخطوطات تم اكتشافها في الأردن بالقرب من البحر الميت وقاطعه أحد المستشرقين الأوروبيين طالبا منه الاستدلال على صحة ما يقول فإذا بالوالد يغير لغته فورا من العربية إلى العبرية وتحدث بها ربع ساعة متواصلة دون الرجوع إلى أي ورقة ناطقا باللغة الأصلية للمخطوطات حتى أنهى كلامه وسط عاصفة من التصفيق ، إلى جانب ذلك كان شاعرا وأديبا حيث كتب عددا من دواويين الشعر والمسرحيات وذلك في الفترة التي قضاها في القاهرة (عشر سنوات) حظي خلالها بعلاقة قوية مع كل الدوائر المهتمة باللغة العربية والأدب العربي وكذلك احتفظ بصلات قوية مع عدد من الكتاب والفنانين مثل عبد الرحمن الشرقاوي وكرم مطاوع خاصة عندما عهد إليه بالمراجعة التاريخية لعدد من الاعمال الأدبية منها مسرحية (الحسين ثائرا وشهيدا) كما كانت تربطه علاقة الجيرة مع الملحن الشيخ سيد مكاوي وظلت هذه العلاقة قائمة فترة طويلة حيث كان الشيخ سيد كلما جاء إلى العمرة بعد ذلك يحرص على الالتقاء بالوالد وفي آخر لقاء لهما في المدينة المنورة طلب الشيخ سيد من الوالد إحدى قصائده في المدائح النبوية ليقوم بتلحينها وغنائها لكن القدر لم يمهله ..

أما المهارة الكبرى للوالد رحمه الله فقد كانت تلك المقدرة الفائقة على نسج العلاقات الاجتماعية مع الجميع رغم اختلاف المشارب والثقافات خاصة في السعودية حيث المئات من زملائه وتلاميذه ومحبيه وذلك على مدار سنوات طويلة تمتع فيها باحترام الدوائر العلمية والحكومية في المملكة ومن المواقف الطريفة في ذلك عندما كان الوالد يوما في المسجد النبوي وسمح له بتجاوز الحراسة المحيطة بسماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ فألقى عليه السلام فإذا بالرجل يصيح فرحا : ” الشيخ العدوي .. أهلا وسهلا ” وقد تذكر صوته المميز رغم انقضاء وقت طويل على عملهما المشترك وترك المفتي كل مرافقيه ليقضي الوقت في الترحيب الحار به ، ومن اهتمامات الوالد التي لا يعلمها كثير من الناس كان (المجال السياسي) حيث كان دائم القراءة والاطلاع فيه ربما أكثر من أي مجال آخر بما في ذلك التاريخ الإسلامي واللغة العربية لكن هذا الاهتمام كان مقتصرا على الناحية النظرية ولم يتعداه إلى المشاركة العملية حيث عرض عليه في الستينات أن ينضم إلى الاتحاد الاشتراكي مع وعد بتقلده موقعا قياديا كبيرا لكنه رفض في إصرار كان سببا لمشكلات كبيرة مع النظام وفي فترة لاحقه رفض عرضا بتعيينه وكيلا لوزارة الأوقاف حتى لا يتسبب هذا المنصب في تعطيله عن العمل الجامعي والبحثي وفي الفترة التي أعقبت ثورة يناير قمت بالوساطة بينه وبين عدد من الأحزاب الإسلامية لترشيحه على رأس قائمة انتخابية في مجلس الشعب وذلك للاستفادة من شعبيته الكبيرة في مدينة المحلة لكنه أصر على الاعتذار وقال لي : ” هذا السيرك سوف ينفض قريبا جدا ” وكانت تحليلاته السياسية جميعا صائبة وفي محلها حيث تذكرت معه هذه الكلمات أثناء لقائنا الأخير وضحكنا طويلا واسترجعنا كل الذكريات الجميلة .. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته وجزاه عن العلم خير الجزاء.

3 / المكتبة

لا أدري إن كان هناك مرض يسمى (فرط الحنين للأشياء) .. فأنا بالفعل قد أرتبط وجدانيا بأشياء كثيرة مثل غرفتي التي عشت فيها زمنا طويلا أو السيارة التي شهدت معي أحداثا عديدة أو المكتب الذي كتبت عليه كلمات لا تنسى أو العيادة التي عملت فيها زمنا حوى الكثير من ذكرياتي .. ولذلك فإن من أقسى المواقف في حياتي عندما أضطر للانتقال من مسكن إلى آخر أو من عمل إلى غيره لأني أشعر أن جزءا من وجداني قد ارتبط بهذا المكان ..

وأعظم مكان ينتابني فيه هذا الشعور هو مكتبة الوالد رحمه الله حيث شهدت بصحبته تكونها وامتلاءها بالكتب عاما بعد عام .. ولا تكاد تمر مناسبة إلا وكان يوصيني بها وبما احتوته من كنوز معرفية لا يقدر قدرها إلا أهل الفكر والثقافة لأنها لم تكن قاصرة على الكتب الإسلامية كما يخيل للناظر من أول وهلة وإنما احتوت كل فروع الأدب واللغة والتاريخ والفلسفة والصحافة والعلوم والجغرافيا بالإضافة إلى عدد كبير من الروايات والكتب الأجنبية المترجمة ..

وكثيرا ما كنت أقضي فيها من الوقت متأملا عناوين الكتب وكل واحد منها كان نتاج جهد وعقل إنسان رحل عنا منذ زمن طويل أو موجود بيننا لكن لم أقابله أو أعرفه لكنه ترك لنا جسرا نعبر منه إلى فكره وعلمه .. وكلما قرأت كتابا منها أضفت إلى عقلي ووجداني خلاصة تجربة كاملة تفتح أمامي آفاق المعرفة وتزيد من رصيدي في فهم الحياة .. لذا فإن الحنين إلى هذه المكتبة يفوق لدي كل عاطفة لأنها تشكل جزءا عزيزا غاليا من ذكرياتي ..

4 / تأملات ذاتية .. مهنة الطب

لا زالت بعض الدول العربية تطلق على الطبيب اسم (الحكيم) وقد ظننت ذلك أول الأمر أن ذلك من باب السخرية حتى تأكدت أنه حقيقي .. ولا شك أن الأمر مرتبط بالصورة الذهنية لهذه المهنة في وعي الناس .. وهناك بالطبع قدر لا بأس به من الخبرة الحياتية العميقة التي يكتسبها الطبيب من خلال ممارسته لمهنته لأن مهنة الطبيب تكاد تكون الوحيدة التي يتم التعامل فيها من كافة أنواع البشر حيث يتعامل الطبيب مع الإنسان في جميع مراحل حياته .. المولود والطفل والرجل والمرأة والمراهق والشاب والكهل والعجوز .. كافة المستويات الاجتماعية والاقتصادية .. وذلك بخلاف معظم المهن التي يتم التعامل فيها مع فئة محددة من المجتمع ..

ولا شك أن الدراسة الطبية نفسها تصنع نوعا من برمجة مخ الطبيب للتعامل مع كافة الاحتمالات الممكنة للتشخيص والعلاج وفق المنهج العلمي التجريبي لكنها في نفس الوقت تحوي أبعادا إنسانية لا يمكن إغفالها خاصة في التعامل اليومي مع الحياة والموت ومقاومة المرض وهو أمر يميل تلقائيا نحو الإيمان القائم على التجربة الإنسانية مع إضفاء قدر ملموس في القلب من رقة المشاعر وتقدير البشر .. ولهذا ربما يكون الطبيب هو واحد من قلة تستطيع فهم المجتمع ومشكلاته فهما دقيقا وواقعيا لأن تصوراته عن الأمر نابعة من هذا الاقتراب اللصيق بالإنسان والتعامل المباشر معه في حالاته العديدة التي تتراوح بين الضعف والقوة ..

ورغم كل هذه الأجواء الرائعة إلا أن عدد كبيرا من الأطباء يفكر جديا في ترك العمل في المهنة إذا وجد الفرصة المناسبة في أي مجال آخر وذلك بسبب حجم الضغط العصبي والنفسي الواقع عليهم فضلا عن المجهود البدني (بعض التخصصات الجراحية تحتاج الوقوف ساعات طويلة مع الاحتفاظ بكامل التركيز) .. ولا ريب أن طبيعة المهنة بها قدر كبير من الروتينية في نظام الحياة والدراسة والعمل حيث لا يوجد عند الطبيب وقت فراغ بالمعنى المتعارف عليه عند بقية المهن كما أنه مطالب بمواصلة الدراسة طوال حياته وأن يتابع كل المستجدات في مجاله وهو ما يحتاج قوة إرادة هائلة ليظل دائما في موضع (الحكيم) ..

5 / (مقال عائلي جدا) ..

ذكريات الأيام الجميلة .. إحسان هانم أبو هيف ..

كل أفراد عائلتنا من الأصدقاء على الفيسبوك سوف يتذكرون هذه الأيام الجميلة وهذه الشخصية العظيمة التي خلدت في ذاكرتنا جميعا والتي عرفت لكبار العائلة باسم (مدام إحسان) بينما كنا نحن الصغار نناديها (طنط إحسان) .. وهي من عائلة أبو هيف السكندرية الأرستوقراطية العريقة وشقيقة السباح العالمي المعروف عبد اللطيف أبو هيف ..

في كل عام كانت تأتي من القاهرة وتنزل في ضيافتنا لمدة أسبوعين في المحلة الكبرى لمتابعة أرضها التي تقع في زمام قريتنا .. وفي الصيف كانت تستضيفنا في الإسكندرية لمدة أسبوعين وتعطينا مفتاح شقة المصيف الخاصة بها والتي كانت تطل على البحر مباشرة في شاطىء (أبو هيف) في سيدي بشر .. وكانت أيام المصيف تلك من أسعد أيام حياتنا ومن أجمل ذكرياتنا ..

أما زيارتها لنا في المحلة فكانت حدثا تاريخيا عند كل سيدات العائلة (والدتي وعماتي) اللاتي يجلسن حولها للاستماع إلى حكاياتها التي لا تنتهي عن الماضي والحاضر خاصة عندما تعود من زيارة أحد أبنائها في كندا .. أما بالنسبة لنا نحن الصغار فكانت أيام زيارتها لنا صعبة جدا لأنها كانت تحب الانضباط الشديد والمحافظة على قواعد الذوق و(الإيتيكيت) ..

وكانت والدتي رحمها الله تخوفنا من قدومها وتعتبر زيارتها فرصة لتربيتنا وتأديبنا .. في حضورها لا يمكن أن يلقي أحدنا ورقة على الأرض ولا منديل ورق في الحمام ولا يأكل وهو يمشي أو تغطي (الشوكولاته) وجهه أو (يفتفت) البسكوت على الأرض وإلا تعرض لنظرة من عينها (زغرة) مرعبة وكلمة (ولد .. عيب) وهي كافية تماما لإصابتنا بالرعب ..

وفي إحدى المرات عرضنا أنا وإخوتي الصغار أن نمثل أمامها مسرحية وتعمدنا لإغاظتها أن يكون مشهد أحمد عرابي وهو يقول للخديوي : ” لقد خلقنا الله أحرارا ” وهي تشاهدنا وتضحك من قلبها لسذاجتنا .. كانت بالطبع تحن للزمن القديم وقد سمعتها ذات مرة وهي تقول : ” في شبابي كان عندي أربع خادمات وأنا بصحتي والآن وأنا في حاجة للخدمة ليس معي أحد ” ..

كانت تعتز كثيرا بعائلتها التي ترجع إلى الجد الأكبر (الجمالي يوسف أبو هيف) الذي قدم من المغرب وسكن الإسكندرية في العصر العثماني .. وكان والدها من أعيان الإسكندرية وصديقا للفنان الشيخ سيد درويش وكانت أمها من عائلة (النقيب) العريقة وزوجها محمد توفيق بك نبيه أما أولادها فهم من ذوي المناصب الرفيعة ومن رجال المجتمع ..

كل شيء في شخصيتها كان يوحي بالعظمة والرقي .. وكانت الصور الشخصية المعلقة في شقة الإسكندرية تعبر عن ذلك بكل بوضوح .. وكثيرا ما كنت أقف أمامها متأملا ملامح العز والهيبة التي بقيت آثارها رغم مرور الزمن .. وأعظم ما فيها هو الوفاء للأصدقاء والحفاظ على ود المعارف .. رحمها الله رحمة واسعة وتقبلها في عباده الصالحين ..

6 / الكاتب الإنسان

التقيت الدكتور أحمد خالد توفيق لأول مرة عام 1997 عندما كنت طالبا في خامسة طب بينما كان يعمل في قسم الامراض المتوطنة حيث ذهبت إلى غرفة الأطباء فلم أجده وتركت له ورقة مكتوب فيها ” جئت ولم أجدك .. التوقيع رفعت اسماعيل ” وهو اسم أحد أبطال رواياته ، فلما التقينا في اليوم التالي أبدى دهشته من أن شخصا في عمري يقرأ رواياته حيث كان يظن وقتها أن قراءه من الفئات الأصغر سنا لكني أكدت له أن كتاباته سيكون لها حضور قوي جدا في جيل الشباب ، ومنذ هذا اليوم تعددت لقاءاتنا في تلك الغرفة بالقسم حيث نجلس على المكتب الخشبي المتهالك وأشرب معه الشاي ونتحدث في مختلف الأمور الثقافية وكذلك أنقل له تعليقاتي على رواياته أولا بأول شفويا وأحيانا تحريريا وكان يتقبل نقدي برحابة صدر.

وقد عرفت منه أن شخصية رفعت اسماعيل هي خليط من عدة شخصيات من دكاترة طب طنطا وقد ذكرهم لي بالاسم خاصة وأن هذا البطل جاء بمواصفات مختلفة عما تعودنا عليه في الروايات الشبابية حيث كان رفعت اسماعيل يحمل صفات عجيبة (طبيب عجوز أصلع نحيل مريض عصبي مدخن) أما علاء بطل سلسلة سافاري فهو يحمل ملامح كثيرة من شخصية الدكتور أحمد نفسه ، وقد كانت حواراتنا دافعا لي أن أقرأ وقتها كتب حسنين هيكل حيث كان الدكتور أحمد معجبا بأسلوبه في الكتابة كما حكى لي كثيرا عن العقبات التي صادفته حتى يتمكن من نشر رواياته في المؤسسة العربية الحديثة ، وفي إحدى الزيارات طلب مني مراجع في التاريخ القديم حيث كان يكتب رواية (ألعاب فارسية) وقد أسرعت على الفور إلى مكتبة والدي وقمت بتصوير عدد من الكتب ووافيته بها وعندما صدرت له رواية (قصاصات) ذهبت إليه مهنئا حيث كانت من وجهة نظري من أعظم ما كتب.

وعندما صدرت له رواية (كهوف دراجوسان) ضحك كثيرا عندما قلت له إنني لم أفهم منها أي شيء ولم أكمل قراءتها لأنها عبارة عن ألغاز عجيبة تختلف كثيرا عن الروايات ذات المغزى الفلسفي مثل (أرض العظايا) أو خفيفة الظل مثل (الآن نرجوكم الصمت) ، أما آخر مرة التقينا فيها فكان عام 2013 حيث كنت أرغب في مواصلة الحديث في الأدب والروايات ومقالاته المنشورة في الجرائد بصفتي واحد من المعجبين بكتاباته بينما كان يصر هو على الحديث في الطب ومشكلات المرضى ويعتبرني زميلا له في المهنة وذلك من حسن خلقه حيث كان شديد التواضع لا يمكن وصفه إلا بأنه (كاتب إنسان) .. رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة والعطاء.

7 / حمد خالد توفيق .. لماذا ؟؟

غداة وفاة الدكتور أحمد خالد توفيق حدثت دهشة عارمة في الوسط الثقافي والإعلامي من حجم المتابعين له من جيل الشباب ومن لقب (العراب) الذي أطلق عليه ومن التأثر بعباراته القصيرة التي تحولت إلى أيقونات .. أما أنا فلم أندهش لأني كنت أعرف السبب منذ زمن طويل .. ففي أثناء دراستي في الكلية كنت أتحدث مع صديقي الدكتور محمد التومي حول سلسلة أدبية جديدة في غاية الروعة بعنوان (ما وراء الطبيعة) ففاجأني بقوله إن مؤلفها يعمل في كليتنا في قسم الأمراض المتوطنة وأنه التقى به أكثر من مرة وأنه يمكنني الذهاب إليه ..

في البداية ترددت لأنه قبلها بعام واحد كنت على موعد مع أحد الشعراء المشهورين في إطار أحد أنشطة قصور الثقافة ورأيت فيه قدرا من التعالي لم تقبله نفسي .. لكن في النهاية قررت زيارته حيث وجدته شخصا مختلفا تماما .. شخص في غاية البساطة والتواضع والأريحية والود تبادل معي الحديث بحرية وطيبة ونحن نشرب الشاي في مكتبه كأننا أصدقاء منذ زمن طويل وشعرت بسعادة بالغة لأنه أيضا سهل في تعامله ومجامل لأبعد الحدود .. وقد قلت وقتها لعله لازال في بداية الطريق ولم تجذبه أضواء الشهرة والمال بعد لكني كنت على خطأ كبير ..

ومرت الأيام وانقطعت عن زيارته بسبب سنوات الجيش ثم العمل خارج طنطا لكنني التقيته بعدها مصادفة في أكثر من مرة .. ورغم أنه لم يعد يتذكر اسمي إلا أنه كان يحرص دائما على الترحيب بي وعندما عرف أنني أعمل في كفر الزيات أوصاني أن أبلغ سلامه إلى أصدقاء دفعته من الأطباء هناك .. ولاحظت أنه دائما يحاول إيجاد أي نقاط التقاء بينه وبين محدثه .. وفي آخر مرة التقيته في الشارع سار معي وأصر على أن يفتح لي باب التاكسي وأنا في غاية الحرج من ذلك لأنه وقتها كان قد حاز شهرة كبيرة وصار يكتب في كل الصحف والمجلات الكبرى ..

وفي السنوات الأخيرة قبل رحيله لم تتح لي الفرصة لمقابلته مرة أخرى لكني كنت أعرف أخباره من خلال عدد كبير من مريديه وتلاميذه من جيل الشباب فإذا هو على العهد به من دماثة الخلق ولين الطبع فلم يضبط يوما وهو يحاول أن يصنع لنفسه أي نوع من (البرستيج) حول شخصه .. والأهم من ذلك كله أنه تمتع بصفة عسيرة المنال قلما توجد في المثقفين فضلا عن عوام الناس وهي أنه قادر على التواصل مع المختلفين معه فكريا وسياسيا بسهولة ويسر ودون أي حساسيات وهذه والله هي التي رفعت قدره عند جيل كامل رأى فيه ما لم يره في غيره ..

8 / العالم الموازي

دخلت عيادة دكتور محمد مشالي مرة واحدة عام 1995 للحصول على شهادة مرضية لتأجيل أحد الامتحانات وكان سعر الكشف لديه وقتها ثلاثة جنيهات وهو أفضل بالطبع من الخيارات الأخرى حيث يمكن الحصول على هذه الشهادة فقط من عيادة رئيس أحد الأقسام بمبلغ عشرين جنيه ومن عيادة رئيس الجامعة بمبلغ ثلاثين جنيه (في السنوات التالية رفضت الكلية قبول شهادات دكتور مشالي وذلك لسبب غير معلوم رغم أنه الوحيد الذي كان يضع دمغة النقابة الرسمية) ..

والدكتور نفسه معروف في المنطقة وكثيرا ما كنت أجده يركب معنا الميكروباص في آخر الليل لينزل في الطريق عند محلة روح .. وكانت العيادة بسيطة ومتواضعة وتقع بالقرب من جامع السيد البدوي ومعظم روادها من الأرياف والأحياء الشعبية ومستوى الخدمة فيها يشبه المستوصفات الشعبية الخيرية والوحدات الصحية القروية بل ربما كانت أفضل حالا من بعض أقسام المستشفيات الحكومة .. ولفت نظري وجود غرفة فيها مئات الكتب مصفوفة في مكتبة تشغل جدارا كاملا ..

ربما لا تكون عيادة الدكتور مشالي نموذجا للخدمة الطبية المثالية لكنه يتيح الحد الأدنى من الرعاية الأولية للكثير من الناس الذين يستطيعون بالكاد دفع مبلغ عشرة جنيهات في الكشف .. نعم هناك عالم موازي من الكادحين والبسطاء الذين لا يملكون ثمن كشف كبار الأطباء وفي نفس الوقت لا يريدون التعرض للإذلال في المستشفيات الحكومية هم وأطفالهم .. والرجل لم يدعي أنه قدوة للأطباء ولا دعا أحدا أن يفعل مثله وإنما قدم خدمة على قدر مقابلها المادي المحدود ..

وهنا يجب أن نسأل أنفسنا ذلك السؤال الهام .. هل الصحة خدمة تؤدى بمقابل مثل بقية المرافق مثل الاتصالات والكهربا وغيرها أم هي حق من حقوق المواطن الدستورية .. فإذا كانت خدمة بمقابل تخضع لقانون العرض والطلب فلا لوم على أحد حيث سنجد مستويات متعددة منها من أول الشعبي وحتى الاستثماري .. أما إذا كانت حقا من الحقوق فالمسألة أكبر منا جميعا لأن أي حديث عن تطوير المنظومة الصحية دون زيادة الإنفاق المخصص لها هو العبث المطلق ..

9 / بوسة هنية

منذ قليل لمحت على الفيس صورة مفبركة تظهر اسماعيل هنية وهو يقبل احدى السيدات ولدهشتي فقد كانت منشورة في صفحة واحد من كبار الاطباء المثقفين التنويريين وكتب فوقها من باب السخرية عنوان (بوسة هنية) ..

ولما كنت احترم الكاتب واقدره فقد كتبت تعليقا لديه يوضح ان الصورة التي نشرها غير حقيقية وانني لست بصدد الدفاع عن صاحب الصورة ولكن رغبة مني في الحفاظ على مصداقية صفحة الدكتور الكبير صاحب الاراء التنويرية ..

وبدلا من النقاش العقلاني حول ما كتبته من تعليق قام المثقف الكبير بالغاء الصداقة وعمل حظر لي ولم يتقبل النقد او الراي الاخر .. رغم انه هو نفسه قد اشتكى قريبا من قناة النيل الثقافية التي قطعت عليه البث وصادرت حقه في حرية التعبير ..

في نفس الوقت الذي قام فيه الدكتور والمثقف الكبير بشن حملة شعواء على احد الشعراء المشهورين بسبب كلمات قصيدة قديمة له تمجد في نضال اهل غزة .. ورغم ذلك لم يتحمل الكاتب نقدا بسيطا مكتوبا بكل ادب واحترام ..

والحقيقة ان هناك اصرارا عجيبا من بعض المثقفين على التدليس في كل ما يخص الاحداث الجارية وكانهم في حالة صدمة من التفاعل الايجابي للناس مع القضية الفلسطينية .. اتمنى ان تكون حالة فردية وليس سلوكا عاما عند المثقفين ..

10 / أولياء الله

قبيل صلاة الجمعة في ذلك اليوم تلقيت اتصالا هاتفيا من الوالد رحمه الله يخبرني فيها أنه في طريقه الى طنطا وطلب مني أن أصلي الجمعة معه في المسجد الاحمدي فخرجت مسرعا حتى وصلت إلى ساحة المسجد فإذا زحام شديد على غير العادة حتى انني اضطررت للجلوس في الخارج .. وبعد الاذان بدأت استمع للخطبة فاذا صوت الوالد يدوي من فوق المنبر وهو ما جعلني اوقن أن حدثا جللا قد وقع حتى إذا استرسل في الحديث عرفت السبب إذ كان ينعي الى المصلين واحدا من شيوخ العلم والتصوف .. ذلكم هو المغفور له فضيلة الشيخ الدكتور جودة المهدي عميد كلية القران الكريم ..

وقد شرفت بمقابلته وانا صغير بصحبة الوالد مرات قليلة لكن معرفتي الاكبر به كانت من كتبه حيث كانت مكتبتنا تحوي الكثير من مؤلفاته القيمة خاصة تاريخ التصوف وقد افادتني كثيرا لأنها اتاحت لي الاطلاع على جزء غير مطروق من تاريخ مصر .. وكتاباته ليست أبحاثا نظرية وانما هي ترجمة عملية لواحد من اعلام التصوف المعاصر ..

وقد كان يوم جنازته مهيبا حيث شيعه المريدون بالدعاء الخالص وسرت مع الوالد الى ضريحه حتى إذا ووري الثرى وجدت العشرات من أهل الطريقة وهم يجتهدون في الدعاء والتضرع لله في اخلاص وحب شديد للمتوفى ثم قرأ الحاضرون سورة يس بشكل جماعي خاشع يخلب لباب القلوب حتى إذا وصلوا لقوله تعالى ” سلام قولا من رب رحيم ” راحوا يرددونها بنبرة اعلى فكانما سرت في نفسي قشعريرة القرب والمناجاة فسالت دموعي من عيني وكذا كل الحاضرين فلما انتهوا إلى قوله تعالى ” كن فيكون ” كنت كأنني خارج هذا العالم ..

وقد كانت تلك الجنازة مختلفة عما اعتدنا عليه من دفن الميت في سرعة والدعاء على القبر وقتا قليلا لان أهل الطريقة لم يفعلوا مثلنا وانما ظلوا عند القبر ساعة أو أكثر يدعون بمجامع الدعاء والوان الذكر حتى تمنيت والله إن اكون انا الميت .. ورجوت من الله أن يقف على قبري يوما من يخلص لي الدعاء ويجتهد فيه وعلمت ساعتها معنى الآية التي تطالع عيني عند مدخل جامع البدوي وهي قوله تعالى ” إلا أن أولياء الله لا خوف عليهم ولا يحزنون “.