
إهداء
إلى واحد من أعظم أبناء المحلة الكبرى عبر تاريخها الطويل ، الإمام الشيخ ولي الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن المحلي زعيم الثورة الكبرى في المحلة ضد ظلم المماليك في القرن التاسع الهجري ، رجل جاهد في الله حق جهاده فصدع بالحق ونطق بالصدق ولم يخش في الله لومة لائم وتحمل في سبيل ذلك العناء والأذى والسجن ، رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له المثوبة والعطاء وتقبله في عباده المؤمنين وأسكنه في عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وألحقنا بهم على خير حال وحسن أولئك رفيقا.
مدينتي
تأسست مدينة المحلة الكبرى عام 641 م لتكون معسكرا للجيش العربي الفاتح على الضفة الغربية لفرع النيل مقابل قرية فرعونية قديمة تدعى ديدوسيا وقرية إغريقية تدعى هورين بهرمس على الضفة الشرقية وظلت معزولة عنهما حتى القرن العشرين ، وارتبطت المدينة منذ يومها الأول بعشائر الأنصار وعلى رأسهم عدد من الولاة وهم مسلمة بن مخلد ورويفع بن ثابت وسعد بن قيس صاحب الضريح المعروف في وسط البلدة القديمة باسم سيدي سعد الأنصاري.
وعرفت أول الأمر باسم محلة أسفل الأرض حيث نشأت لتكون عاصمة إدارية وعسكرية لوسط الدلتا واكتسبت أهميتها بعد محاولة الروم غزو البرلس عام 672 م ثم عرفت في القرن الثاني الهجري باسم محلة شرقيون بعد أن سيطر عليها عرب الحوف الشرقي ، وشهدت المدينة أحداثا تاريخية كبرى في العصر العباسي مثل ثورة عبد العزيز الجروي زعيم جذام الذي اتخذها مقرا له وتعرضها للنهب على يد الوالي أحمد بن السري عام 822 م وثورة أبي ثور اللخمي وثورة جابر بن الوليد المدلجي الكناني عام 867 م.
وتعرضت المحلة لحصار القرامطة عام 974 م ثم سقوطها بيد ناصر الدولة بن حمدان الذي تزعم قبائل طيء ولواته وحكم الدلتا أثناء الشدة المستنصرية ثم لعبت المحلة دورها الفعال في الحروب الصليبية عن طريق مهاجمة سفن الفرنجة من بحر المحلة ، وأطلق عليها منذ العصر الفاطمي اسم محلة الكبراء نسبة إلى شيوخ العرب المقيمين بها حيث توسعت باتجاه الجنوب وعاش بها عدد كبير التجار والأعيان والعلماء والشيوخ والأمراء والشعراء.
وفي عام 1320 م أصدر السلطان محمد بن قلاوون قرارا بجعل المحلة عاصمة للأعمال الغربية والتي صارت ولاية الغربية بعد ذلك ، وكانت تضم كافة أراضي وسط الدلتا بين فرعي دمياط ورشيد وجزء من المنوفية لتشهد المدينة عصرها الذهبي طوال خمسة قرون في عصر المماليك والعثمانيين ، وعمر المماليك الجانب الشرقي منها وهو المنشأة وازهرت بعدد كبير من أئمة العلم والتصوف أمثال الشيخ الحنفي والطريني والحريثي والغمري أصحاب المساجد المعروفة فيها بالإضافة إلى مئات غيرهم.
واستمر العمران التجاري والصناعي في المحلة طوال تاريخها خاصة في مجال صناعة الحرير والمنسوجات حتى تعرضت للتدمير والتخريب على يد الحملة الفرنسية ، بعدها قرر محمد علي باشا إعادة إعمارها ودعم الصناعة فيها عام 1808 م وإنشاء الفابريقة المعروفة للنسيج ، وفي عام 1836 م قرر والي الغربية عباس الأول نقل العاصمة إلى طنطا لتتراجع أهمية المدينة من الناحية الإدارية لكنها ظلت ثالث أكبر مدينة مصرية في عدد السكان بعد القاهرة والإسكندري.
واستعادت مكانتها في مجال الصناعة عندما تأسست فيها شركة مصر للغزل والنسيج على يد طلعت باشا حرب حيث تحولت إلى أكبر مركز صناعي وعمالي في دلتا مصر وهو ما جعلها دائما في بؤرة الأحداث السياسية والتي بلغت ذروتها عام 2008 م في أولى موجات الثورة ، وتقع المدينة العربية اليوم في المنطقة المحصورة بين مقابر سيدي خلف شمالا ومقابر سيدي حسن البدوي جنوبا لكن في القرن العشرين ردم فرع النيل واتصلت بها قرية صندفا القديمة ثم محلة البرج ثم توسعت المدينة باطراد شرقي بحر الملاح لتتكون معالم المدينة الحالية.
وفي عام 2022 م كتبت سلسلة مقالات حول تاريخ مدينة المحلة الكبرى وأسعدني الحظ بوفرة في المراجع التي تناولت التطور العمراني للمدينة وأهم الأحداث الكبرى التي شهدتها وكذلك السيرة الذاتية لعدد كبير من الشخصيات التي عاشت فيها في كل العصور ، وقد تركزت المقالات حول العصور الإسلامية خاصة ما يتعلق بالمساجد والآثار المتنوعة فيها حيث حاولت تجميع أكبر قدر من المعلومات في ترتيب يحافظ على الاتصال والتسلسل التاريخي.
وقد دعمني الأستاذ سيد شرارة بعدد من الصور لمعالم المحلة المختلفة وكذلك التعليقات القيمة من مدير عام آثار المحلة الأستاذ الدسوقي منصور وذلك لاستكمال المعلومات في بعض الآثار الإسلامية المسجلة ، أما العصر الحديث فلا يحتاج إلى جهد لأنني قد استفدت كثيرا من كتابات من سبقني وهم جبرتي المحلة الأستاذ أشرف الغنام والصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أبو شامية خاصة الخريطة النادرة التي تبين معالم المدينة في نهاية القرن التاسع عشر والتي تعبر عن تطور العمران بين عصرين.
وإنني إذ أكتب هذه الكلمات عن المحلة الكبرى وهي مسقط رأسي وموضع ذكرياتي ومحل معيشتي فإنني أرفع أكف الضراعة راجيا المولى عز وجل أن ينزل هذا الجهد منزل الرضا من القارئين وأن ينال الإعجاب والقبول لدى أبناء بلدتي الأعزاء وأن يكون إضافة لتاريخها المشرف الذي يبعث على الفخر والاعتزاز ، والله ولي التوفيق.