
1 / كوريا
في منتصف القرن العشرين انقسمت شبه الجزيرة الكورية إلى دولتين حيث اختلف مصير كل منهما تبعا للنظام السياسي الحاكم في كل واحدة منهما رغم أنهما يضمان شعبا واحد يعيش على نفس الأرض ويملك نفس المقومات الاقتصادية ونفس الثقافة والعادات والتقاليد ونفس اللغة ونفس التاريخ المشترك وبالطبع نفس الجينات الوراثية ..
واحدة منهما صارت كوريا الجنوبية وهي دولة ديموقراطية رأسمالية على النمط الغربي والتي تميزت في مجال الصناعة والتقنية وحققت قفزة اقتصادية معروفة حتى صارت واحدة من النمور الآسيوية الأربعة واحتلت المرتبة الثانية عشر على مستوى العالم في الناتج القومي لكنها تحتاج إلى الحماية الأمريكية مثل معظم الدول الغربية ..
أما الثانية فقد صارت دولة كوريا الشمالية ذات النظام الشيوعي الديكتاتوري البوليسي الذي يقيد حريات الفرد وتنتقل فيه السلطة من الأب إلى الابن إلى الحفيد وهي متخلفة على الصعيد الاقتصادي سواء من ناحية الناتج الإجمالي أو مستوى دخل الفرد لكنها عوضا عن ذلك حققت تقدما في مجال التسليح وصارت إحدى الدول النووية الثمانية ..
ويعد ما حدث للدولتين مثال على تأثير النظام السياسي الحاكم على فئة من شعوب الأرض حيث سلك كل منهما طريقا مختلفا وفق الفلسفة التي تحكم أفكار كل منهما .. ولا شك أن دول قليلة في العالم هي التي حققت النجاح في التنمية والتسليح معا فجمعت بين القوة العسكرية والقوة الاقتصادية وهناك دول اكتفت بالنجاح في واحد منهما فقط ..
المهم في عالمنا المعاصر أن يكون لأي دولة إنجاز وتقدم في واحد منهما .. إما أن تكون من النمور الاقتصادية والصناعية والتقنية فتصل إلى مجلس إدارة العالم أو تكون من الدول النووية التي تفرض سطوتها في المحافل الدولية وتخرج بها من دائرة التبعية مثل زعيم كوريا الشمالية الذي يتحدى الدول الكبرى ويملي شروطه على الكل ..
ولا يشترط أن ترتبط التنمية والقوة بطبيعة النظام الحاكم فهناك الكثير من الدول الديموقراطية لم تحقق أي تقدم في الاقتصاد أو التسليح لكن على الأقل منحت الفرد الحرية والعدل .. المشكلة الكبرى عندما يوجد في بلد ما نظام عشوائي يجمع بين الديكتاتورية والفقر وليس له وزن على صعيد السياسة الدولية فيفقد تدريجيا مبررات وجوده ..

2 / القيصر
التاريخ لا يعيد نفسه لكن الجغرافيا لها أحكام .. وهكذا استولى القيصر الجديد على كازخستان فعليا ونشر قواته على حدود أوكرانيا بعد أن غزاها فعليا منذ بضع سنوات واستولى على الجزء الشرقي منها في دونباس وكذلك في الجنوب حيث شبه جزيرة القرم وقبل ذلك قضم أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية من جورجيا ولم يفعل الغرب أي شيء سوى الشجب وفرض العقوبات الاقتصادية ..
ولا يمكن فصل هذه الأحداث عن تصورات النخبة الروسية التي تعتبر كلا من بيلا روسيا أوكرانيا جزء من الدولة الروسية حيث يطلقون على أوكرانيا اسم روسيا الصغرى بينما صرح بوتين أن كازخستان دولة صنعها الاتحاد السوفييتي ولم يكن لقبائل الكازاخ دولة في الماضي وهو قول متهافت لأنه أيضا قبل قرون قليلة لم يكن هناك دول اسمها روسيا أو الولايات المتحدة ..
وفي عالم السياسة إما أن تكون قويا أو تصبح في مهب الريح حيث لا مجال للحلول الوسط .. البقاء دائما للأقوى وهناك دول قدر لها أن تكون مركزية في محيطها مثل ألمانيا التي توسعت مرتين على حساب جيرانها وتسببت في حربين عالميتين ومثلها روسيا التي توسعت من قبل في عهد القياصرة إيفان الرهيب وبطرس الأكبر وفي عهد الشيوعيين ثم تحاول الآن مرة أخرى ..
ربما يجد البعض تشابها مع أفعال هتلر في الماضي عندما ضم النمسا في البداية بحجة توحيد الشعب الألماني ثم احتل التشيك وسلوفاكيا بحجة وجود أقليات ألمانية ثم اتفق مع الزعيم السوفييتي ستالين على اقتسام بولندا فقاما معا بغزوها مما أشعل فتيل الحرب العالمية الثانية .. وعندما دخل النازيون باريس أرسل ستالين برقية تهنئة وهو لا يعلم أن هتلر ينوي مهاجمة بلاده أيضا ..
ربما ينجح بوتين في سعيه جزئيا ويحجز بأفعاله تلك مكانا متقدما في مجلس إدارة العالم وهي خطوة جيدة تعيد إلى روسيا وضعها في الصدارة وربما تعاكسه الظروف إذا عجز عن مواجهة الحرب الاقتصادية .. أما إذا كانت روسيا والصين في الطريق لتشكيل نواة محور عسكري جديد ضد العالم الغربي فإن التاريخ سوف يكون على موعد مع تغيير كبير ونسأل الله السلامة ..

3 / حادث 4 فبراير
أثناء الحرب العالمية الثانية وفي يوم 4 فبراير عام 1942 حاصرت الدبابات البريطانية قصر عابدين لإجبار الملك فاروق على تغيير الحكومة وتم تهديده بالعزل إذا أصر على موقفه واستبداله بالأمير محمد علي توفيق حيث أذعن الملك في نهاية الأمر للطلب خوفا من تكرار ما حدث في الحرب العالمية الأولى عندما عزل الخديوي عباس حلمي الثاني ونصب بدلا منه السلطان حسين كامل ..
وكان هدف بريطانيا وقتها هو تعيين الزعيم الوفدي مصطفى النحاس باشا في موقع رئيس الحكومة لأن حزب الوفد هو صاحب الشعبية الحقيقية على أرض الواقع مما يضمن استقرار الأوضاع في البلاد وذلك رغم عداء الوفد للاحتلال لكن وقتها كان الجيش الألماني على حدود مصر وتعالت هتافات المخدوعين ” إلى الأمام يا روميل ” ظنا منهم أن هتلر سوف يحررهم من الاحتلال البريطاني ..
نفس الشيء حدث في إيران التي كانت خاضعة للنفوذ الغربي إذ تم أيضا عزل الشاه رضا بهلوي لأنه لم يتخذ ما يكفي من تدابير لمكافحة النازية حيث كان الجيش الألماني على أبواب أذربيجان وتم استبداله بابنه محمد رضا الذي حكم تحت وصاية الحلفاء .. وهناك أمثلة كثيرة تشبه ذلك حدثت أثناء فترة الحرب الباردة في دول ضعيفة أو فقيرة في كل من أفريقيا وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا ..
وعندما يكون العالم على شفا أحداث ساخنة تصبح جميع المناطق الحيوية هامة لطرفي النزاع وتبدأ المنافسة الشرسة عليها خاصة تلك المحسوبة تقليديا في فلك النفوذ الغربي والتي تعيش على معوناته وقروضه وحمايته حيث الهاجس الأكبر للدول الغربية هو اضطراب الأوضاع الداخلية في تلك البلاد والذي يتيح للمعسكر المنافس أن يتدخل بأي صورة ويسحب البساط من تحت أرجلهم ويحل محلهم ..
وكثيرا ما يقوم الغرب بالتغيير بسبب استشعاره عجز حكام العالم الثالث عن تنفيذ أجندته بالمهارة اللازمة أو عدم إدراكهم خطورة المستجدات التي تتطلب مرونة وحنكة أو أحيانا يكون التغيير بسبب حماقة بعض الحكام وتعنتهم .. ومع تقدم وسائل الاتصال الحديثة لم تعد هناك حاجة لحصار الدبابات وإنما يكفي أن يتحدث الرئيس الأمريكي في الهاتف ويقول للطرف الآخر : ” ناو إز ناو ” ..

4 / الحاج بوتين
منذ فترة قليلة أدلى الرئيس الروسي بوتين بتصريح يقول فيه إن انتقاد النبي محمد (ص) ليس من حرية التعبير وأن إهانة النبي فيها انتهاك لمعتقدات المسلمين .. وهو لا يقول ذلك قطعا لأنه يحب النبي وإنما هو يغازل جموع المسلمين في العالم ويحاول تدريجيا أن يستميلهم إلى صفه وفي نفس الوقت يضرب الغرب ضربة تحت الحزام متهما إياهم بالإساءة إلى الإسلام ورموزه ..
وقد هلل الكثيرون لهذه التصريحات التي هي في حقيقتها لعبة سياسية حيث يشكل المسلمون نسبة مؤثرة من سكان الاتحاد الروسي بالإضافة إلى جمهوريات آسيا الإسلامية وإيران والقوقاز .. ويشبه ذلك ما فعله نابليون عندما تظاهر بالإسلام أثناء الحملة الفرنسية وأيضا ما فعله هتلر عندما قرب إليه بعض الرموز الإسلامية حتى أشيع أنه أسلم وسمى نفسه الحاج محمد هتلر ..
وتعلمنا دروس التاريخ أننا يجب ألا نثق في المستبد حتى لو ارتدى فوق رأسه عمامة الشيوخ وتقمص دور الداعية وبدأ في الوعظ ولعب على وتر العاطفة الدينية لأنه في ساعة الجد سوف يتحول إلى وحش كاسر لا يعرف شيئا عن الدين ولا عن الأخلاق مثلما كان الحال عند كل ملوك العصور الوسطى حيث استعملوا الدين مطية لاستمرارهم فوق عروشهم باسم الحق الإلهي ..
وفي المقابل أيضا لا يجب الثقة في ذلك الذي يرفع شعارات التقدمية ويهاجم المؤسسات الدينية ويفتح الباب أمام الحريات الاجتماعية ليغازل الغرب ويتقمص روح المصلح الثوري الذي يحارب الرجعية والتخلف وكأنه أتاتورك الجديد مروجا لأسطورة المستبد العادل المستنير الذي سوف يعيد بناء المجتمع ويجدد الخطاب الديني لكنه في لحظة الحسم يعصف بكل الحريات ..
وكما تعجب البعض من حدوث الثورة في بلد غني مثل ليبيا أو بلد يقاوم التطبيع مثل سوريا فإننا نجدها حدثت أيضا في السودان ضد البشير الذي كان يرفع شعارات الإسلام وأيضا حدثت ضد بن علي في تونس والذي كان يتبنى نهجا علمانيا واضحا .. الناس لم تخرج من أجل تطبيق الشريعة ولا المطالبة بالحريات الاجتماعية وحدها وإنما خرجت ثائرة ضد كل أنواع الاستبداد ..

5 / الرقص على رؤوس الأفاعي
انقلاب بوركينا فاسو الأخير هو امتداد لسلسلة من الانقلابات تمت في كل من أفريقيا الوسطى ومالي وغينيا وهي المنطقة التي عرفت في العهد الاستعماري باسم السودان الفرنسي حيث رجعت المنطقة إلى المشهد لتكون ساحة للصراع حول مناطق النفوذ وبالتالي يسعى حكام تلك البلاد لتقديم أوراق اعتمادهم ليقوموا بمهام وظيفية لخدمة للكبار ونيل أكبر قدر من المكاسب ..
والعلاقة بين الدول الكبرى والصغرى شديدة التعقيد خاصة في مناطق الصراعات الملتهبة .. دولة مثل بوتان يفترض أن تكون مستقلة ذات سيادة لكن لا توجد بعثات دبلوماسية على أرضها وتتم كل علاقاتها السياسية عن طريق وزارة الخارجية الهندية .. أيضا دول مثل فنلندا والسويد لم تغامر أي منهما بالانضمام إلى حلف الناتو خوفا من استفزاز روسيا على حدودها ..
وبجوار الصين توجد جزيرة تايوان ذات الموقع الاستيراتيجي بين اليابان والفلبين والتي قال عنها الجنرال الأمريكي الشهير ماك آرثر : ” هذه الجزيرة هي حاملة الطائرات الأمريكية التي لا يمكن إغراقها ” .. وهي تخضع للسيادة الأمريكية لكن الصين لن تصبر طويلا على هذا الوضع لأن الجزيرة كانت معبر الغزوات التي تعرضت لها الصين في تاريخها ..
وبالمثل تمثل كل من كوبا وفنزويلا خطرا على الولايات المتحدة بينما تسعى روسيا لإعادة بسط نفوذها على كل من كازخستان وأوكرانيا وفي جنوب شرق آسيا يظل تهديد إندونيسيا قائما لكل من تيمور وغينيا الجديدة وفي قبرص يستمر الاحتلال التركي لشمالها وفي القارة الأفريقية جنوب الصحراء تظل أنظمتها دائرة في فلك النفوذ الأوروبي وساحة للصراع ..
وفي البلاد العربية يمارس البعض لعبة القط والفأر مع القوى الكبرى ويلاعب أحدهما بالآخر ويظن ذلك من باب السياسة لكن عندما تتأزم الأمور يجب أن يكون منحازا لجهة واحدة وتابعا لسيد واحد خاصة مع زيادة النفوذ الإيراني .. وقد كان بعضهم يفخر بقوله إنه محترف للرقص فوق رؤوس الأفاعي فجاءه الرد : إن هذه الكلمات سوف تكون الرقصة الأخيرة ..

6 / رقعة الشطرنج
” نسأل الله أن يجنبنا ويلات حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل ” .. هذه العبارة منسوبة للإمام الأكبر محمد مصطفى المراغي شيخ الأزهر وهو يتحدث عن الحرب العالمية الثانية حيث كانت الحرب أوروبية في المقام الأول للصراع على النفوذ ورغم ذلك فقد نقل المتحاربون معركتهم إلى الوطن العربي فدارت المعارك في الصحراء الكبرى من العلمين وحتى تونس ..
وفي الحرب العالمية الأولى اقتصرت الوقائع في بلادنا على مناطق محددة في العراق والشام بعيدة عن الحياة المدنية .. وكانت دول كثيرة قد تعلمت من دروس التاريخ مثل تركيا التي وقفت على الحياد في الحرب الثانية فنجت من ويلاتها على عكس ما حدث لها في الحرب الأولى رغم الإغراءات المتكررة من هتلر بمنحها مساحات في البلقان إذا انحازت إليه ضد الحلفاء ..
وعند الأزمات الكبرى تظهر القوة الحقيقية للدول مثل بولندا التي أصرت على مواجهة دبابات النازي بواسطة سلاح الفرسان الملكي والذي أبيد عند أول هجوم وكذلك فرنسا التي كانت تستعمر نصف العالم لكنها سقطت في أسابيع قليلة وتحطم خط ماجينو الدفاعي الشهير .. ولا أحد يدري ما يمكن أن يحدث لدول تملأ الدنيا دعاية حول قوتها التي لا تقهر مثل إسرائيل ..
ومنذ فترة قليلة تمت في خليج عمان مناورات عسكرية مشتركة بين كل من الصين وروسيا وإيران وهي ليست المرة الأولى لكن تكرار ذلك يوحي بوجود نواة محور جديد يريد إجراء تعديل على النظام العالمي الحالي وإنهاء مرحلة القطب الواحد .. وهناك مناطق ساخنة مثل أوكرانيا وتايوان وكذلك البلاد العربية توجد أطماع إيران وسعيها لمزيد من النفوذ ..
ترى ماذا سيفعل ساكن البيت الأبيض وهو ينظر إلى رقعة الشطرنج المعقدة وقد تبين له أن الكثير من الأنظمة التابعة له في العالم الثالث بوضعها الحالي قد فقدت صلاحيها وباتت غير قادرة على مواجهة ذلك المحور الجديد الذي يعتمد على القوة العسكرية وأيضا يعتمد في مناطق عديدة على التناقضات الفكرية والمذهبية والقومية وهو ما يحتاج إلى استيراتيجية مختلفة ..

7 / أمريكا والمصير البريطاني
الولايات المتحدة الأمريكية لا زالت حتى اليوم القوة الأولى في العالم عسكريا وتقنيا واقتصاديا وسياسيا وهي تشبه في ذلك المملكة المتحدة التي كانت في يوم ما امبرطورية لا تغيب عنها الشمس ثم أثقلتها تبعات الدفاع عن ذلك النفوذ فانكمشت الامبراطورية لكن بقيت بريطانيا العظمى دولة كبيرة وغنية لكن ليست الزعيمة وغالبا سيكون مصير أمريكا كذلك ..
وتنفق الولايات المتحدة قرابة خمسين مليار دولار سنويا لدعم حلفائها وأتباعها في العالم كما تنشر قواعدها العسكرية في مناطق عديدة للدفاع عن محمياتها ولا شك أنها تنتظر منهم في المقابل دعمها للحفاظ على مكانتها في مواجهة المحور المقابل لأنها إذا عجزت عن فرض إرادتها على روسيا في قضية أوكرانيا سلما أو حربا فسوف تضيع هيبتها للأبد في العالم ..
ولذلك تحشد أمريكا حلفاءها في قارة أوروبا بكامل طاقتهم لمواجهة روسيا وحصارها اقتصاديا وسياسيا وسوف تفعل الشيء نفسه في شرق آسيا لمواجهة الصين وكوريا الشمالية كما لا يستبعد أن تغازل الهند لتضمها إلى جانبها وتستثير عداءها التاريخي مع جارتها الصين فتكون رادعا لها خاصة وقد صارت الهند دولة نووية لكن ذلك بالطبع لن يتم دون مقابل ..
ورغم أن البيت الأبيض لا يحب أردوغان لكن يبدو أنه الوحيد القادر على مواجهة المد الإيراني وملأ الفراغ في الشرق الأوسط بما له من تأثير على جمهور الإسلاميين في البلاد العربية وهم أصحاب الشعبية الأكبر مع إثارة النعرة المذهبية ضد الشيعة بالإضافة إلى العداء التاريخي مع روسيا والخلاف مع الصين حول الإيجور كما أن تركيا عضو في حلف الناتو ..
وهكذا سوف تضطر الولايات المتحدة إلى الخيار المر في مناطق كثيرة كما فعلت من قبل وجلست مع حركة طالبان على طاولة المفاوضات واستعانت في ذلك بعدد من الدول .. ولا يمكن التنبؤ بالسياسة الأمريكية في المرحلة القادمة تجاه أتباعها من حكام العالم الثالث وهل سيكون للشعوب وزن في هذه المعادلة أم أن القيم الديموقراطية سوف تختفي تبعا للمصالح ..

8 / سلاح الاقتصاد
الجيوش وحدها لا تكفي لأن الصراعات في العصر الحديث ليست في المجال العسكري وحده وإنما يجب أن يساندها اقتصاد قوي بل إن الحرب الاقتصادية أحيانا تكون أشد في تأثيرها من استعمال القوة المسلحة وربما تؤدي إلى تركيع الدول وإذلال الأنظمة الحاكمة خاصة تلك التي تعيش على المنح والقروض وتعتمد على الاستثمار الأجنبي في قطاعات غير إنتاجية ..
والاقتصاد القوي يعني الإنتاج الصناعي الذي يفتح الباب للصادرات ولا يشترط أن يكون في مجال محدد مثل الغرب حيث الصناعات الثقيلة أو التقنية وإنما يكفي أن تكون الدولة متميزة في قطاع معين يشكل أهمية للعالم لا يمكن الاستغناء عنه مثل صناعة الملابس أو الأثاث أو الصناعات الكيماوية أو غيرها من المجالات التقليدية فيعتدل الميزان التجاري عندها ..
ولا يمكن أن تنهض أي دولة اقتصاديا طالما كانت غالبية القوة العاملة فيها مقتصرة على القطاعات الخدمية مثل مجالات الأمن والمرافق والترفيه وغيرها لأنها جميعا غير إنتاجية حيث تتحول العمالة إلى جيوش من الموظفين وهو ما يشكل عبئا على موازنة الدولة حيث الإنفاق على الخدمات دون عائد إنتاجي يضمن مدخولات ثابتة من العملة الصعبة اللازمة ..
والقاعدة الصناعية تحتاج في المقام الأول إلى توجيه التعليم نحو خدمة سوق العمل والتركيز على المجالات الإنتاجية الصناعية والتوسع في التعليم التقني القائم على اكتساب الخبرة العملية التي تحتاجها الصناعة .. وهذه السياسة تحتاج إلى إدارة واعية لمقدرات الثروة البشرية ومن خلفها إرادة سياسية لتحقيق النجاح في هذه المنظومة المتكاملة التي تنهض بالاقتصاد ..
هذه الوصفة تمت تجربتها في عدد من الدول المتباينة في الثقافة مثل النمور الآسيوية وعدد من دول أفريقيا وأمريكا اللاتينية وحققت نجاحات لا بأس بها .. المشكلة ليست في المجتمعات وثقافتها كما يروج بعض المثقفين وإنما في فلسفة النظام الاقتصادي للدولة وقدرتها على صياغة منظومة متكاملة تبدأ عند التعليم التقني الجاد وتنتهي عند بوابات المصانع وموانىء التصدير ..

9 / الشيطان يعظ
الدول الصغيرة تذهب ضحية للصراع بين القوى العظمى .. ربما كان ذلك ما حاول أن يعبر عنه نجيب محفوظ في مجموعته القصصية (الشيطان يعظ) والتي تحولت إحدى قصصها إلى فيلم سينمائي يبدأ برغبة البطل شطا أن يصبح فتوة من الفتوات وراح يستعد لذلك برفع الأثقال ولعب الملاكمة ثم طلب من الفتوة العجوز المعلم طباع أن يتوسط له عند المعلم الديناري ليصبح من رجاله ..
وبالفعل صار شطا من الفتوات فارتدى الملابس الفخمة وامتلك النبوت لكن في الظاهر فقط بينما في الحقيقة كان يقوم بمهام أخرى عند المعلم الديناري سرا مثل أن يغسل له قدميه أو يكلفه بمراقبة الفتاة وداد والتي وقع في حبها وقرر ان يهرب بها ويحتمي بالمعلم الشبلي المنافس الأكبر للديناري لكنه اشترط عليه أن يتخلى عن النبوت (يسلم سلاحه) ويعيش مثل الأشخاص العاديين في حمايته ..
وانتهت الأحداث باغتصاب وداد على يد الشبلي وقيام معارك ضارية بين الفتوات الكبار انتصر فيها الديناري على الشبلي لكن أيضا مع مقتل شطا الذي راح ضحية لطموحه في أن يصير بين الكبار .. ربما كان دور المعلم الديناري (فريد شوقي) يمثل أمريكا التي تتعامل مع أتباعها بالسياسة لكن في إطار مهام محددة على عكس القوة الغاشمة عند روسيا التي مثلها الشبلي (عادل أدهم) ..
ويبدو أن القارة العجوز أوروبا كان يمثلها المعلم طباع (توفيق الدقن) والذي تمتع بالحكمة واقترح عليهم أن يتفاوضوا في مكان محايد (المقابر / سويسرا) .. وفي نهاية الفيلم يأتي له شاب آخر يطلب منه أن يتوسط له ليصير فتوة عند الديناري وأنه يرفع الأثقال ويلعب الملاكمة ليبتسم العجوز ويقول قولته الخالدة : ” هو جرى ايه للدنيا الناس كلها بقت فتوات أومال مين اللي حاينضرب ” ..

10 / من حق الكبير يدلع
يروج الإعلام الغربي أن الرئيس بوتين في عزلة بسبب مقاطعة أمريكا وأوروبا الاقتصادية لكن الحقيقة أنه غير مكترث بذلك بل العكس هو الصحيح حيث تحول إلى رجل الساعة وصار أهم شخص في العالم حاليا وذلك بصورة ترضي غروره الدكتاتوري والذي جذب نحوه عددا من زعماء العالم الراغبين بقوة في صناعة حلف مناوىء للهيمنة الأمريكية والأوروبية على العالم ..
في أقصى الشرق يستقبله الرئيس الصيني بالأحضان والابتسامات والدعم الخفي وفي جمهوريات آسيا الوسطى يرسلون له بيانات التأييد خاصة كازخستان وقرغيزيا ومن قبلهم رئيس إيران الذي حج إلى الكريملين طالبا تحالفا طويل الأمد ثم لحقه رئيس أذربيجان ليقدم فروض الطاعة والولاء عقب بداية الحرب مباشرة ومن بعده رئيس وزراء باكستان ومن خلفه أبناء تورا بورا ..
ولا شك أن روسيا طوال السنوات الماضية قد مدت أصابعها في أماكن كثيرة في آسيا وأفريقيا لتزاحم النفوذ الغربي وتقتطع منه لحسابها بالتدريج على حساب فرنسا وأمريكا بالإضافة إلى الأتباع المخلصين في كل من كوبا وفنزويلا وسوريا ونيكاراجوا وأبخازيا وأوسيتيا وعدد من الحكومات الأفريقية المدعومة من روسيا حديثا وكذلك جنوده المتقدمين في إقليم دونباس ..
وربما هناك عدد آخر من زعماء العالم الثالث من أتباع الغرب يترقب ما يحدث للزعيم الكبير الذي وقف يتلقى أكبر دلع من شريكه في الجريمة ألكسندر لوكاشنكو رئيس بيلاروسيا والذي التقط معه الصور التذكارية بابتسامات بلهاء أمام الكاميرات تخليدا لتلك اللحظة المشؤمة من تاريخ العالم .. ولم يكتف بذلك بل عانقه بقوة أمام الجميع وأصر إنه (يبوسه من بوقه) ..

11 / سلام يا صاحبي
خلال العقود الماضية لم تحقق أوروبا وحدتها الكاملة بسبب رغبة كل دولة في الحفاظ على خصوصيتها الثقافية والاجتماعية وتمايزها القومي واللغوي لكنها خطت خطوات جيدة في الانتقال إلى صورة من صور الوحدة الاقتصادية من خلال الاتحاد الأوروبي وكذلك في المجال العسكري من خلال حلف شمال الأطلسي وهي مرحلة من مراحل التعاون المشترك لكنها لا ترقى لمرحلة الوحدة الكاملة ..
وبدلا من السعي الجاد نحو الوحدة كانت سياسة أوروبا في الماضي القريب هو محاولة تفكيك روسيا الاتحادية وريثة الاتحاد السوفييتي لكنها فشلت في ذلك ثم جاءت أزمة أوكرانيا لتعجل بحدوث مزيد من الاندماج في مجال الدفاع والأمن القومي لمواجهة التهديدات الروسية وذلك تحت قيادة ألمانيا التي تعد الدولة المركزية في قارة أوروبا والقادرة على قيادة قطار الوحدة والدفاع عن القارة ..
ويبدو أن القادة الأوروبيين مدركون أن الخطر الحقيقي لن يقف عند حدود أوكرانيا التي تشكل لديهم خط الدفاع الأول وأنها إذا سقطت بيد بوتين فإن الخطوة التالية حتما سوف تتمثل في تكرار الأمر مع دول البلطيق حيث يحشد قواته ويختلق الذرائع بل ربما كانت أحلامه التوسعية تتجاوز كل ذلك إلى ما هو أبعد خاصة وأنه يستحضر الماضي الامبراطوري من التاريخ ويستمد منه رؤيته ..
وخطر التفكك أيضا تعاني منه دول آسيا الوسطى والبلاد العربية والأفريقية ودول آسيان وأمريكا اللاتينية وليس أمام كل تجمع منهم إلا تطوير نمط من أنماط الوحدة التي تمكن دوله من الدفاع عن أمنهم الإقليمي .. نحن الآن نشاهد ذلك البلطجي الذي يقف عاريا في الشارع يهدد الناس ويطلع لهم النووي وهو يردد كلمات فيلم سلام يا صاحبي : ” يا نعيش عيشة فل يا نموت احنا الكل ” ..

12 / الأمم غير المتحدة
منظمة الأمم المتحدة هي الذراع التنفيذي للنظام العالمي الذي أقرته الدول الكبرى بعد الحرب العالمية الثانية بهدف تحقيق السلام وإنهاء الحروب وفض المنازعات بين الدول .. لكن في الحقيقة يتم تنفيذ قراراتها على الدول الصغيرة والضعيفة والفقيرة فقط بينما لا تخضع الدول الكبرى لهذه الأحكام وهو ما حدث منذ أيام عندما استعملت روسيا حق الفيتو ضد قرار يدين غزوها لأوكرانيا ..
وأثناء الحرب الباردة خضعت المنظمة الدولية للشد والجذب بين الكتلتين الشرقية والغربية للصراع على النفوذ حيث كانت الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن تتحكم فعليا في القرارات الصادرة لتحقيق مصالحها الخاصة أو تعطيل قرارات أخرى لخدمة أغراضها مثل ما حدث في القضية الفلسطينية وحرب البوسنة والهرسك ومساندة نظام الفصل العنصري في جنوب أفريقيا ..
وبعد انهيار الكتلة الشرقية بدأ الغرب يعيد هندسة العالم وفق الواقع الجديد حيث تم تجاوز الأمم المتحدة في كثير من الأحداث وبدأت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا في التحرك بقوتها الذاتية بعيدا عن مظلة المؤسسات الدولية مثل حروب العراق وأفغانستان ومناطق النفوذ الفرنسي في أفريقيا كما خططت لإعادة هيكلة الأنظمة الحاكمة في كثيرا من البلدان الخاضعة لنفوذها ..
واليوم بدأ حلف جديد مضاد يتشكل يسعى لتقويض النظام العالمي الحالي بالكامل وتجاوز مؤسساته بالقوة .. ولا شك أن الكثيرين من أنصار الدكتاتورية سوف يشجعون هذا النمط الشمولي للأنظمة نكاية في الدول الغربية التي بشرت بالديموقراطية في بلادنا ودعمت الربيع العربي وفق هندستها للمنطقة .. لكنهم غير مدركين أن الحلف القادم سوف يحمل لهم خريف الغضب ..