
1 / هذا شعر عُلْويٌّ
الناس فيما يعشقون مذاهب .. ولا لوم عليَّ إن طربت لضربٍ من ضروب الشعر تستلهم روحها من تراثنا العربي القديم وتعبر عن واقعنا المعاصر وكأنها مرآته المذهبة ..
ولا أكتب هنا من قبيل النقد فلم اعتبر نفسي يوما في هذا المصاف العالي وإنما أنا متذوق للأدب مستمتع بالكلمات .. وعندما طالعت الدواوين الشعرية الستة للشاعر خالد الشيباني جالت بمخيلتي على الفور عبارة قالها الملك النعمان عندما سمع شعر النابغة أول مرة إذ قال قولته المشهورة ( هذا شعر عُلوي ) يقصد شعر عالي المقام وكأنه آت من السماء
وقد أطربني الحفاظ على الوزن والقافية لأنني أظنها من علامات تمكّنِ الشاعر من اللغة والكلمة والمعنى والبلاغة .. فهو في ديوان ( باق من الزمن حياتك ) يقول :
سيراك الناس بأشعاري .. ويرافق طيفك أنظاري
وسأكتب قصتنا بدمي .. لتزين وجه الاقمار
وفي ديوانه ( الحب والبارود ) يقول :
نصلِّي معًا في فروضٍ عديدةْ ونعشق في الشعر نفس القصيدةْ
وصوتي وصوتك ذابا سويًّا .. على ذكريات النضال المجيدة
أما في ديوان (رحلة الليل وحكايات النهار ) فهو يقول :
اليوم يظلمك الرجالُ ويزرعونَ بكَ الألمْ
ويهلِّلونَ ويرقصونَ ويذبحونكَ بالنغمْ
والآن يخترعونَ ذنبًا كي تصيرَ المتهمْ
نبضات قلبك أصبحتْ جرمًا فما عدد التهمْ؟
وفي ديوانه ( رحيل المجرة ) يقول :
تشدو السماء لموكب الشهداءِ .. ختموا الصلاة بساحة الاضواءِ
قال الملاك لهم : هنيئًا مجدكم .. وبقاؤكم دوما من الأحياءِ
ولا تقتصر البلاغة على حسن النظم وإحكام البناء وإنما تتعدى ذلك إلى الصور الشعرية التي تبعث على التأمل وتستحث الخيال مثل قوله : “أنا شبح أضم رماد ذاتي أرتدي جسدي” وقوله : “يستوقف رقص النرد دخانا كان يحلق ناحيتي” وكذلك قوله “أنا قطعة الورق التي اكتشفت تحولها رمادًا حين أمكن أن تطيرْ ” .. وتتجلى التعبيرات البلاغية حتى في عناوين قصائده كالعنوان الفذ لقصيدة كتبها يوم انتصار الثورة ( وأخيرًا ابتسم النيل ) ..
وتتبدى التجليات العلوية التي يلقيها وحي الشعر إلهامًا وفيضًا في العديد من المعاني الجديدة التي سبق إليها الشاعر حيث اختلطت الروح الوطنية بالتجربة الحياتية مثل قوله :
أبحث عن وطن في عينيك .. تضيء شوارعه الكلماتْ
الضوء تخلَّى عن دربي ويقيني تعصرهُ الظلماتْ
وكذلك في قوله :
هذه الأحزان تطوينا معا .. ثم نشكوها فنبكي مرتين
للمساء الأف يبدو أننا .. نسهر الليل سويا مرغمين
وأردد معبرًا عن نفسي ما قاله في ثنايا كلماته ..
عفوًا ما زال هنالك بي آثار عصور رجعيةْ
ذكرى لامرأة مهنتها صنع تقاليد البشريةْ
أطفالٌ يحتضنون النور وآياتٍ قرآنيةْ
أقداري تنسج لي حزنًا .. ونهاياتٍ مأساوية
لكن اجمل تعبيراته البلاغية جاءت في ذكره (مملكة الشعر) حيث يردد :
مملكة الشعر بدونك معتقلٌ .. لا تغريني ثروات أو مجدُ
أترك تاريخي يكتبني ملكًا .. بعد فتوحاتٍ يهزمه البعدُ
وختامًا
لو أني اليوم أجلس مكان الملك النعمان لأعجبت بشعر نابغة العصر “خالد الشيباني” واحتفيت به ولأجزلت له العطاء ..

2 / الحرف السادس .. الجميع في انتظار دائرة الرحيل ..
رسالة ينقلها لنا “خالد الشيباني” من تلك المنطقة الغامضة بين الوجود والعدم .. الحد الفاصل بين الموت والحياة .. ربما تخاطب ما وراء العقل والحواس لتدفعنا إلى الرضا واليقين وربما تتسلل إلى مكنون النفس الإنسانية فتثير فيها مزيدا من الحيرة والتشكك .. إشارات خفية إلى الحكمة الصينية والفلسفة الهندية .. روحانية الشرق وواقعية الغرب .. التصوف والتدين .. نوم بلا أحلام وخيال في اليقظة .. وقت طويل في محاولة حل الألغاز والأحجية .. وانتظار لدائرة الرحيل ..
ولا يمكننا استيعاب فحوى الرسالة إلا بعد تأمل تلك الكلمات المتناثرة التي وردت على لسان أبطال الرواية .. أحدهم يقول : ” بعد مئات الأعوام هنا أستطيع أن أقول لك إن دور المتفرج هو أفضل الأدوار على الإطلاق ” .. وآخر يقول : ” نحن مجبرون على كل شيء رغم أن لنا حرية الاختيار الكاملة يا لها من معادلة صعبة ” .. لكن أعمق الأفكار جاءت من ذلك التباين الكبير بين مجموعتين .. الأولى تسأل : (من أنا ؟) والثانية تسأل : (أين أنا ؟) ..
وتأتي أهم العبارات الكاشفة على لسان أحد الأبطال والتي صاغها الشيباني بقوله : ” هو بالتأكيد يفكر في الهروب عن طريق السماء فهي المخرج الوحيد ولكنه لا يعرف كيف يصل إليها ” .. وفي سياق آخر تأتي عبارة أخرى تعبر عن تجربة الحياة في قول بطل الرواية الحكيم : ” تيقنت أن الجلوس في حر الأمل أفضل من التخبط في ضباب اليأس ” .. ويصف الموت والحياة من خلال كلماته البسيطة : ” لا تخافوا الموت فما يخيف بحق هو الحياة كموتى ” ..
أسئلة بلا إجابات .. وألغاز ليس لها حلول .. ربما أعادتني الرواية لأجواء عمر الخيام وهو ينشد : سأنتحي الموت حثيث الورود .. ويمحى اسمي من سجل الوجود .. هات اسقنيها يا منى خاطري .. فغاية الأيام طول الهجود .. هل هي مصادفة أن شخصية الرجل الحكيم يرمز لها في النهاية بالاسم (درويش) .. ولماذا كانت العبارة الأخيرة في الرواية هي قوله : “رغم حاجتنا الشديدة للمعرفة يجب أن نترك بعض الأشياء غامضة كما هي “..
وفي النهاية لا يسعنا إلا أن نهنىء الكاتب المبدع “خالد الشيباني” على هذه الملحمة التي تألقت في سماء الإبداع عندما قامت بالغوص في أعمق الأسئلة الوجودية لتحاول الإجابة على الكثير مما يعتمل في صدور الباحثين عن الحقيقة ففيها سوف يشعر القارىء أنها اقتربت من مكنون نفسه وفي نفس الوقت فتحت أفق التفكير والتخيل .. اقرأها معي وسوف تعيش تلك الأجواء الساحرة التي تبعث على التأمل والتفكير العميق.

3 / تركة العم حساب
كلنا نحب المال ونحلم بالثراء السريع .. وتتفاوت سلوكيات البشر تجاه المال تبعا لعوامل شتى من القيم والأخلاق والظروف الاجتماعية .. لكن هناك من الناس من لديه استعداد للتضحية بكل المبادىء من أجل الحصول على المال بل وارتكاب الجريمة تلو الأخرى للوصول إلى هذا الحلم .. الشراهة والطمع هما آفة الجنس البشري التي يحاول إخفاءها بمظهر زائف يتهاوى عند أول اختبار حقيقي وكأنه رجع الصدى لقوله تعالى : ” وتأكلون التراث أكلا لما .. وتحبون المال حبا جما ” ..
هذا ما يرصده لنا المؤلف خالد الشيباني في الثلاثية الروائية المتميزة (تركة العم حساب) .. في الجزء الأول (الوصية) نتابع في أجواء بوليسية أفراد العائلة المتصارعة على الميراث وهم يسعون إلى حتفهم واحدا تلو الآخر .. وبدلا من المال الذي سعوا إليه يحصل كل واحد منهم على قبر تنتهي على عتباته كل آمالهم وأحلامهم .. وخلال هذا العرض يتبدى لنا تباين هذه المجموعة الصغيرة من البشر ومواقفهم تجاه المال حيث كانت فرقتهم سببا في هلاكهم ..
وفي الجزء الثاني (ابن غير شرعي) يتم إزاحة الستار عن ذلك السر الدفين الذي كان سببا في اللعنة التي حلت بهذه العائلة وتسببت في المصير المظلم الذي حل بأبنائها وعلى رأسهم العم حساب نفسه الذي عاش قلقا ومات كمدا في مزرعته المنعزلة عن العالم .. أما الجزء الثالث (الميراث المفقود) فهو يخبرنا عن ما حدث في نهاية الأمر للكنز المدفون والذي هلك الجميع وهم يبحثون عنه ولم ينج من لعنته سوى ثلاثة أشخاص في النهاية .. أحدهم مشلول والآخر مجنون والثالث يائس من الحياة ..
ثلاث روايات متلاحقة الأحداث لاهثة الأنفاس تجمع بين الخيال العلمي والجريمة وتحمل في طياتها تشريحا للمجتمع وعلاقة أفراده بالمال .. تبدو مشاهدها وكأنها فيلم سينمائي يتراءى أمام عينيك .. لا يمكنك التوقف عن القراءة إلا مع الصفحة الأخيرة .. وهي ليست رواية وعظية أو مقال في الأخلاق لكنها تنير أمامنا الطريق لفهم حقيقة أنفسنا ومحاولة تلمس الحقيقة الكامنة خلف نوازع النفس التي تبعث على الشقاق والاختلاف وحتى لا يكون مصيرنا يوما ما هو مصير عائلة العم حساب ..

4 / أرض اليورانيوم
إذا كان الشعر هو ديوان العرب فإن الرواية هي مرآة العصر .. ومن بين كل الفنون الأدبية المتنوعة فإن فن الرواية هو الذي يجذبني إلى عالمه الساحر وهو القادر على أن يشغلني عن القراءة في المجالات المختلفة بل يفصلني عن الحياة الواقعية في أحيان كثيرة عندما أعيش بوجداني مع عمل من الأعمال المتميزة ، وقد أسعدني الحظ بالحصول على مجموعة الأعمال الكاملة للصديق العزيز والكاتب المبدع الأستاذ خالد الشيباني وهو غني عن التعريف حيث تشهد له أعماله بالنبوغ والتميز في كافة مجالات الإبداع الأدبي والفني.
وقد أسرتني روايته (أرض اليورانيوم) بسحرها وهي تتحدث عن بطل الرواية الشيخ مؤمن السوهاجي الذي قرر وهو في منتصف العمر أن يرحل بأهله عن البلاد بعد أن فقد الأمل في الإصلاح السياسي إثر انفراد محمد علي باشا بالحكم ونفي السيد عمر مكرم عام 1809 وهو ما كان يعني إقصاء دور الزعامة الشعبية ، وفي اللحظة التي ظن فيها أن حياته على وشك الانتهاء إذا بالأقدار تلقي به في تلك الجزيرة حيث يبدأ حياة جديدة وينفتح على عالم متعدد اللغات والثقافات والأعراق والأديان ويجد نفسه في قلب الأحداث الساخنة من جديد.
وقد أضافت هذه الأحداث إلى تجربته حكمة بليغة صاغها الشيباني في كلمات الامام مؤمن لولده والتي تعبر عن خلاصة فلسفته في الحياة قائلا : ” أتريد قدرا بلا مشكلات .. ولا أزمات أو صراعات .. أتريد ألا يعرف الحزن الطريق لمدينة قلبك .. فتعيش عمرا من السعادة الصافية .. لا تفقد فيه عزيزا ولا يفقدك الأعزاء .. أتريد أن تصل لكل طموحاتك بلا معاناة وألا تفقد شيئا تمتلكه أبدا .. تلك الأمنيات غير موجودة على سطح هذا الكوكب .. فلا ترهق نفسك بالبحث عنها .. وتقبل حياتك كما هي .. فمهما بلغت معاناتك فيها تظل منحة عظيمة من الله “.

5 / بلا جدران .. الحياة بدون أسرار
في حياة كل منا أسرار تختفي عن الناس لا نحب أن يعرفها أحد .. مشاعر وأحاسيس وأفكار وذكريات قد تكون سعيدة وقد تكون حزينة .. بعضها مبهج والآخر مؤلم .. وجزء كبير من السلام النفسي والاستقرار العاطفي يعتمد كليا على بقاء هذا كله في ذلك البئر العميق بعيدا عن الآخرين حيث لا يطلع عليه مطلع أو يدركه إنسان ..
لكن ماذا يحدث إذا تهاوت الجدران من حول النفس وأسرارها وصار البشر قادرين على اختراق الحجب ومعرفة ما لا يجب معرفته .. من المؤكد أن تغييرا كبيرا سوف يحدث في نظرة الناس لبعضهم .. ربما يصبح البشر أكثر حذرا وربما أكثر خوفا وذلك تبعا لما يعتمل في نفوسهم من نوازع الخير والشر ..
من المحتمل أن يؤدي ذلك إلى نزع كثير من الفوارق بين البشر بعد أن سقطت أقنعة الجميع عن الجميع .. هل يمكن بعدها أن يصبح الكل متشابهين بعد أن تكشفت النوايا وعرفت الخبايا .. هذا ما يرصده لنا خالد الشيباني في روايته الرائعة بلا جدران حيث يحلق بنا في تلك المساحة الغامضة بين الحقيقة والخيال ..
وعلى لسان بطل الرواية يعبر الشيباني عن هذه الحالة بقوله : ” أنا الهامش الخالي .. الذي لم يكتب فيه أحد أي شيء .. إلى متى سأظل أتحدث إلى نفسي .. مللت الحديث مع الآخرين .. كلنا متشابهون .. نفس الرغبات تتأجج في نفوسنا .. نفس الذرات في الأجساد .. أتراني أصبحت فيلسوفا .. كل الفلاسفة متشابهون أيضا ” ..
هي رحلة في أعماق النفس تحاول سبر أغوارها وترصد الانفعالات المختلفة عند مجموعة متباينة من البشر .. وعندما تقرأ الرواية بإحساسك فإنها سوف تأخذك إلى الأعماق وتدرك أن ظاهر الإنسان ليس بالضرورة كباطنه وأن الهالة التي يرسمها البعض حول شخصياتهم ربما تخفي قلبا رقيقا حالما يحمل نوازع الخير ..

6 / كتاب الحكم الخفية .. خطوة على الطريق
مع انتشار دعوات تجديد الخطاب الديني منذ سنوات انطلقت موجات نقد للتراث الإسلامي وهجوم عليه بدوافع شتى منها ما هو مغرض ومنها ما هو صادق .. لكن يبقى السؤال الهام وهو (من يجدد الدين) .. قطعا لا يمكن أن يأتي التجديد من منطلق إلحادي يرى الدين منتجا ثقافيا بشريا عتيقا لأنه في هذه الحالة لا يتعامل مع الدين بوصفه جزء من كينونة المجتمع ووجدانه الجمعي ..
التجديد الحقيقي للدين يجب أن يحدث بواسطة المؤمنين به وبرسالته ومن منطلق البناء وليس الهدم فما أسهل النقد والتشويه وما أصعب البحث الحقيقي .. من هنا تأتي أهمية كتاب الحكم الخفية للأديب خالد الشيباني الذي يشكل خطوة على الطريق نحو صناعة فلسفة إسلامية مجددة تحاول إعادة طرح الأسئلة الكبرى والإجابة عليها من منطلق إيماني داخل إطار الدين وليس من خارجه ..
طرح المؤلف أسئلة وجودية تمس جوهر الاعتقاد الديني محاولا إعادة تأويل المعطيات حول خلق الإنسان وأقدار العباد ومعايير الحساب الإلهية من ثواب وعقاب وتناول مسألة العصمة وما دار حولها من جدل في إطار القرآن والسنة .. وهذه المحاولة هي امتداد لمدرسة العقل في الفكر الإسلامي والتي كانت مهتمة بقضية العدل الإلهي ومسئولية الإنسان عن أفعاله ومرجعية الخير والشر ..
ويثمن المؤلف من قيمة التجربة الإيمانية الروحية جنبا إلى جنب مع النظر العقلي لأن الدين ليس مبحثا نظريا جامدا وإنما هو سيال حي يشغل حيزا من الوجدان والعاطفة ويتعامل مع المواقف الحياتية العادية للإنسان ومخاوفه ونزعاته .. وهو في هذا يتبنى المقولة الصوفية (من ذاق عرف) حيث الإخبات إلى رحمة الله وعنايته العلوية والسعي إلى طريق الإيمان بالتجربة العملية الصادقة ..
وفي ثنايا الكتاب تظهر روح الأديب المحب للبلاغة في مواضع شتى خاصة عند التعامل مع النص القرآني في قوله ” قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي ” حيث الفارق بين المحيا والحياة .. ولا يمكن فهم المعاني المنبثقة عن النصوص إلا إذا توفرت تلك الذائقة الأدبية التي تضفي على التجربة الإيمانية بعدا آخر تجعل من الفلسفة الإيمانية الجديدة أشد أثرا وأقوم قيلا.