
الجيزة
دائما ما تذكر الفسطاط بوصفها أول مدينة عربية تأسست في مصر وذلك لشهرتها التاريخية واتساعها المطرد بعد اتصالها بالقاهرة الفاطمية .. ذلك أنه في نفس توقيت نشأتها المبكر فإن مدينة أخرى تأسست في مقابلها على الضفة الغربية لنهر النيل لكنها لم تلق نفس القدر من الشهرة ألا وهي مدينة الجيزة التي اشتق اسمها من اسم المكان للفعل (جاز) وكان يطلق على طرف الوادي عند العرب لفظ (جيز) بمعنى المكان القابل للاجتياز والعبور ..
كانت تلك المنطقة آنذاك صحراء قاحلة تمتد من نهر النيل شرقا وحتى الأهرام غربا ويتم الوصول إليها عن طريق جزيرة الروضة الفاصلة بينها وبين الفسطاط التي كانت هي الأخرى صحراء جرداء تمتد من النيل إلى جبل المقطم .. وقد وقع اختيار المسلمين على تلك المناطق للسكن بسبب قربها من بيئتهم الصحراوية وعدم رغبتهم في مزاحمة السكان الإغريق في المدن اليونانية التي كانت منتشرة في مصر طيلة العهد البطلمي والروماني ..
وقد عمرت الفسطاط بعدد من القبائل اليمنية التي دخلت مع عمرو بن العاص أول مرة وعلى رأسها كل من تجيب وغطيف وخولان ومعافر والتي سكنت جنوب الفسطاط بينما سكنت القبائل العدنانية في شمال المدينة واستقرت قريش في الوسط في منطقة أطلق عليها (خطة أهل الراية) .. وعندما عاد المدد من فتح الإسكندرية أمرهم عمرو أن يرابطوا في غرب النيل لحماية الفسطاط من أي هجوم روماني فأقاموا معسكرهم في تلك المنطقة ..
وعندما استقرت الأحوال طلبوا البقاء في مكانهم الذي اتسع لهم ربما بسبب رغبتهم في عدم الاختلاط ببقية القبائل لأنهم كانوا ينتمون إلى القبائل اليمنية الملكية وهي حاشد وبكيل (من قبيلة همدان) ويافع وأصبح (من قبيلة حمير) وهي القبائل التي حكمت مملكة سبأ طوال ألفي عام قبل الإسلام وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم (شعب سبأ) ويطلقون على غيرهم من عرب اليمن (مذحج وكندة) اسم (أعراب سبأ) تمييزا لهم عن سائر عرب الجزيرة ..
ولا تزال أسماء الشوارع في الجيزة تحمل ذكرى التأسيس حيث إن الشارع الطولي الأساسي أنذاك لا زال حتى اليوم يحمل اسم القبيلة العريقة (شارع همدان) بينما الشارع العرضي يسمى باسم يافع بن زيد اليافعي إلى جانب عدد من الشوارع على أسماء القبائل والقادة مثل بني عامر والأزد وأرحب ومراحق بن عامر (من بكيل) حيث صارت المدينة الناشئة بوابة الصعيد وأول محطة ينزل بها العرب القادمون من الجنوب في طريقهم إلى القاهرة.

القبائل اليمنية في الجيزة
اشتق اسم الجيزة من الفعل اجتاز وذلك عندما عبرت ميسرة جيش عمرو بن العاص نهر النيل واستقرت في الصحراء المحاذية لجزيرة الروضة وركزت العلم فيها وذلك بقيادة الصحابي مبرح بن شهاب بن الحارث اليافعي الرعيني ، وهناك في تلك المنطقة أسست القبائل اليمانية نواة مدينة الجيزة والتي تحمل شوارعها حتى الآن أسماء مؤسسيها (همدان ومراحق بن عامر ويافع بن يزيد ومبرح بن شهاب) وذلك حول مسجد قبيلة همدان وهو مسجد مراحق بن عامر بن بكيل ..
يقول المقريزي ..
(ولما رجع عمرو بن العاص من الإسكندرية ونزل الفسطاط جعل طائفة من جيشه بالجيزة خوفاً من عدوّ يغشاهم من تلك الناحية فجعل فيها آل ذي أصبح من حمير وهم كثير ويافع بن زيد من رعين وجعل فيها همدان وجعل فيها طائفة من الأزديين بني الحجر بن الهبو بن الأزد وطائفة من الحبشة وديوانهم في الأزد فلما استقرّ عمرو في الفسطاط أمر الذين خلفهم بالجيزة أن ينضموا إليه فكرهوا ذلك وقالوا : هذا مقدم قدمناه في سبيل الله وأقمنا به ما كنا بالذين نرغب عنه ونحن به منذ أشهر ..
فكتب عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب بذلك يخبره أن همدان وآل ذي أصبح ويافعاً ومن كان معهم أحبوا المقام بالجيزة فكتب إليه كيف رضيت أن تفرّق عنك أصحابك وتجعل بينك وبينهم بحراً لا تدري ما يفجأهم فلعلك لا تقدر على غياثهم فاجمعهم إليك ولا تفرّقهم فإن أبوا وأعجبهم مكانهم فابنِ عليهم حصناً .. فجمعهم عمرو وأخبرهم بكتاب عمر فامتنعوا من الخروج من الجيزة فأمر عمرو ببناء الحصن عليهم فكرهوا ذلك وقالوا : لا حصن أحصن لنا من سيوفنا ..
وكرهت ذلك همدان ويافع فأقرع عمرو بينهم فوقعت القرعة على يافع فبنى فيهم الحصن في سنة إحدى وعشرين وفرغ من بنائه في سنة اثنتين وعشرين وأمرهم عمرو بالخطط بها فاختط ذو أصبح من حمير من الشرق ومضوا إلى الغرب حتى بلغوا أرض الحرث والزرع وكرهوا أن يبني الحصن فيهم واختط يافع بن الحرث من رعين بوسط الجيزة وبنى الحصن في خططهم وخرجت طائفة منهم عن الحصن أنفة منه ..
واختطت بكيل بن جشم من نوف من همدان في مهب الجنوب من الجيزة في شرقيها واختطت حاشد بن جشم بن نوف في مهب الشمال من الجيزة في غربيها واختطت الجباوية بنو عامر بن بكيل في قبليّ الجيزة واختطت بنو حجر بن أرحب بن بكيل في قبليّ الجيزة واختط بنو كعب بن مالك بن الحجر بن الهبو بن الأزد فيما بين بكيل ويافع والحبشة اختطوا على الشارع الأعظم) ..

الجيزة في الخطط التوفيقية
الجيزة هذه المدينة هى مركز مديريتها واقعة على الشاطئ الغربى للنيل تجاه مصر القديمة تشتمل على ما تشتمل عليه المدن من أسواق ووكائل وخانات وحوانيت ، معمورة بالتجارة من جميع الأصناف وأرباب الحرف ، فيوجد بها تجار البن والحرير والنحاس والعقاقير والدخان والصيارف والطباخون والزياتون والجزارون والخضرية والقهوجية والبقالة وغير ذلك فى وسطها وجوانبها.
وبها جملة مصابغ ومعاصر للزيت وطواحين تديرها الخيل وطاحونتان بخاريتان ، ومعامل للفخار ومكينة فخار بآلات افرنكية تعلق الميرى ، وجيارة وجباسة تعلق الأهالى وأنوال لنسج القطن وغيره ، وفى وسطها منازل لبعض الأمراء مثل منزل إبراهيم باشا الفريق ، ومنزل إبراهيم أفندى أزهر وكيل المديرية سابقا.
وبها ديوان المديرية مستوفى بأبنية حسنة ومحكمة شرعية كبرى لها الحكم فى عموم القضايا الشرعية من نحو البياعات والاسقاطات والرهونات والأيلولات فى مواد الأطيان وخلافها بخلاف باقى محاكم مديريتها فإنها كانت ليست مأذونة بعقد بيع الأطيان ولا بمهمات الأمور ، بل بالمواد الجزئية مثل الأنكحة ونحوها ، وهى ثلاث محاكم محكمة قسم أول بناحية إنبابة ومحكمة قسم ثانى بالبدرشين ومحكمة شرق أطفيح كانت بالكداية ثم صارت فى طرا.
وبها جوامع عدة كلها عامرة وزوايا معدة للصلاة وأشهر جوامعها الجامع القديم المعروف بجامع أمير الجيش ، وبها مقامات شهيرة لبعض الأولياء ، مثل مقام سيدى سعد الدين ، وسيدى زرع النوى ، ومقام الكوفى والصابر وأبى شعبان وغيرهم ، ولهم موالد كل سنة فى رجب وشعبان كموالد المحروسة ، واكتساب أهلها من الزراعة والحرف والتجارة وأبنيتها وملبوسات أهلها كما فى المحروسة ، وسوقها السلطانى كل يوم أحد خلاف السوق الدائم.
وهى مشهورة باعتدال الهواء وكانت مأوى الغز من قديم الزمان ، وأنشأ بها العزيز محمد على مدرسة للسوارى تشتمل على ثلثمائة وستين نفسا عبارة عن ثلاث أورط كانت تحت نظارة وران الفرنساوى وقد رآها الدوكد يوراجوس فأعجبته وشهد بمحاسنها وقال : إنها تعادل مدارس أوربا فى تعليماتها ومهارة أهلها ، وقد تكلمنا عليها من ضمن المدارس فى كتابنا الموضوع لذلك.
وفى الجبرتى أن بالجيزة جامعا يعرف بجامع أبى هريرة فقد قال ومن مآثر الأمير عبد الرحمن بيك عثمان مملوك عثمان بيك الجرجاوى ، أنه عمر جامع أبى هريرة الذى بالجيزة على الصفة التى هو عليها الآن وبنى بجانبه قصرا وذلك سنة ١١٨٨، ولما أتمه وبيضه عمل به وليمة عظيمة وجمع علماء الأزهر يوم الجمعة وبعد انقضاء الصلاة صعد الشيخ على الصعيدى على كرسى وأملى حديث «من بنى لله مسجدا» بحضرة الجمع.
قال: وكنت حررت له المحراب ثم انتقلنا إلى القصر ومدت الأسمطة وبعدها الشربات والطيب ، وكان يوما سلطانيا وكان عبد الرحمن بيك حسن السيرة سليم الباطن والعقيدة محبوب الطباع جميل الصورة وجيه الطلعة وكان يميل بطبعه إلى المعارف وقلد الصنجقية عوضا عن سيده الجرجاوى الذى قتل فى واقعه قرا ميدان أيام حمزة باشا سنة تسع وسبعين ومائة وألف ، وتوفى عبد الرحمن بيك بمنزله بقوصون جوار بيت الشابورى سنة خمس بعد المائتين.

بين السرايات
جاء في الخطط التوفيقية وصف لضواحي الجيزة القريبة في القرن التاسع عشر وهي المنطقة الممتدة من بين السرايات حتى صحراء الأهرام حيث يقول علي باشا مبارك : ” وبالمدينة من الجهة البحرية وابور مياه للدائرة السنية ، وفى جنوبه قصر بجنينة لمصطفى باشا الجردلى ، وبجواره قصر لمحمد باشا رضا ، وقصر بجنينة لزعيم زاده ، وقبلى ذلك سراية بجنينة للمرحوم حسن باشا المنسطرلى.
ومن قبليه شونة غلال وملح تعلق الميرى واسبتالية وقصر مشيد لعنتبلى بيك ، وبجوار ديوان المديرية قصران ، أحدهما من إنشاء صفر باشا والآخر من إنشاء أحمد باشا طاهر ، وبجواره أيضا من الجهة الغربية جنينة تشتمل على الفواكه والأزهار من إنشاء المرحوم على باشا برهان ، وبجواره من قبلى منازل للمرحوم فاضل باشا ودكاكين وجامع فيه مقام ولى الله الكردى وبها سلخانة.
وبجوار المدينة من بحرى جسر سلطانى أنشأه الخديوى إسماعيل باشا ممتد من البحر إلى الجبل الغربى يعرف بجسر أهرام الجيزة تحفه الأشجار من الجانبين يمر به المتفرجون على الأهرام والآثار القديمة، وعمل به قناطر وبرابخ تمر فيها المياه للرى.
وفى آخره عند سفح الجبل بنى رباطات واصطبلاطات ، وبنى بجوار الأهرام من الجهة البحرية إلى الشرق سراى مشيدة فى غاية الزخرفة وأنشأ أيضا بحرى الجسر المذكور سراى بجنينة نحو خمسمائة فدان كل فدان أربعة آلاف ومائتا متر مربعة الأضلاع كل ضلع ألف متر وأربعمائة وثلاثون مترا يحيط بها سور مبنى بالدبش والمونة يمتد من بحرى مدينة الجيزة مغربا إلى السكة الحديد ومبحرا بشاطئ البحر الأعظم بتفصيلات لم ترها عين ناظر ولم يحم حولها فكر مفكر.
وقد اشتملت تلك الجنينة من العجائب على ما يبهر العقول من الشلالات والجبلايات والأزهار والرياحين والطيور والوحوش والحيوانات الجبلية الموضوع كل نوع منها فى مقاصير خاصة به مع رفع أرضها بحيث لا تنضح فى زمن الفيضان وإحاطة ماء النيل بها وبجوار سورها طريق مفروشة بالرمل وصغار الحجر مغروسة من الجانبين بأشجار مظلة من السكة الحديد إلى البحر.
وفى شمال تلك الطريق إلى جهة الغرب بنى أيضا سرايتين عظيمتين بجنائن وبساتين تحيط بهما أسوار مبنية بالدبش والمونة نحو ثلاثة وتسعين فدانا ، إحداهما سراية نجله حسين باشا ، والأخرى سراى نجله المرحوم حسن باشا وعمل سكة منتظمة منضدة بالأشجار من الجانبين من الباب الذى فى السور البحرى إلى جنينة سراى الجيزة ، ثم تمتد إلى جهة الشمال حتى تصل إلى سراى دولتلو المرحوم توسون باشا المعروفة بسراى بولاق التكرور التى أعدها له الخديوى المذكور.
وعمل سكة أيضا بالأوصاف المتقدمة مبتدأة من الكبرى المعروف بكبرى الإنكليز إلى السكة الحديد ، وبآخر تلك السكة أنشأ محطة عمومية لركاب السكة الحديد، ولم تزل التنظيمات والإصلاحات جارية بمواقع تلك السرايات ، والقصد اتصالها بالجزيرة العامرة التى تجاه بولاق المحروسة التى كان جاريا بها الردم والتنظيمات أيضا ، ويبلغ مقدار ما به التنظيم من الجيزة إلى الجزيرة نحو ألف وخمسمائة فدان “.

ميت عقبة
في عام 45 هـ أنشأ والي مصر عقبة بن عامر الجهني قرية جديدة في بر الجيزة وعمرها بالمساكن والبساتين كما قرر فصل قبيلة جهينة من ديوان أهل الراية وجعل لهم ديوانا خاصا بهم وطلب من الخليفة معاوية أبي سفيان أن يمنحه إقطاعا بجوارها من الأرض الفضاء الملاصقة لها ، قال أبو سعيد بن يونس : وهذه الأرض التى اقتطعها عقبة هى المنية المعروفة بمنية عقبة فى جيزة فسطاط مصر.
وهو عقبة بن عامر بن عبس بن مالك الجهني حليف الأنصار والمتوفي في مصر عام 678 م. وقبره معروف في قرافة الفسطاط باسم سيدي عقبة ، أسلم شابا ولحق بخدمة النبي (ص) يقود راحلته ويحمل رايته وكان من أهل الصفة ، ندبه الخليفة عمر بن الخطاب ليحمل كتابا عاجلا إلى عمرو بن العاص فوافاه في العريش ثم تولى قيادة ميسرة جيش الفتح ثم قيادة قوات غرب النيل ثم شارك في حملة الصعيد ثم تولى قيادة حامية غرب الدلتا.
قال ابن عبد الحكم : ” كتب عقبة بن عامر إلى معاوية بن أبى سفيان يسأله أرضا يرتفق فيها عند قرية عقبة فكتب له معاوية بألف ذراع فى ألف ذراع ، فقال له مولى له كان عنده : انظر أصلحك الله أرضا صالحة ، فقال عقبة : ليس لنا ذلك إن فى عهدهم – يعنى أهل مصر – شروطا ستة منها أن لا يؤخذ من أرضهم شئ ولا من نسائهم ولا من أولادهم ولا يزاد عليهم ويدفع عنهم موضع الخوف من عدوهم وأنا شاهد لهم بذلك ..
وفى رواية : كتب عقبة إلى معاوية يسأله نقيعا فى قرية يبنى فيه منازل ومساكن فأمر له معاوية بألف ذراع فى ألف ذراع ، فقال له مواليه ومن كان عنده : انظر إلى أرض تعجبك فاختط فيها وابتن ، فقال : إنه ليس لنا ذلك لهم فى عهدهم ستة شروط منها أن لا يؤخذ من أرضهم شئ ولا يزاد عليهم ولا يكلفوا غير طاقتهم ولا تؤخذ ذراريهم وأن يقاتل عنهم عدوهم من ورائهم “.
وذكر المقريزي أن منية عقبة كانت من عجائب مصر، وأنها كانت أول مراكز الطير التى تحمل البطائق (الحمام الزاجل) قال : ” وكان بالقلعة أبراج برسم الحمام التى تحمل البطائق وبلغت عدتها على ما ذكره ابن عبد الظاهر فى كتاب «تمائم الحمائم» الى آخر جمادى الآخرة سنة سبع وثمانين وستمائة ألف طائر وتسعمائة طائر وكان لها عدة من المقدمين لكل مقدم منهم جزء معلوم “.
وجاء عنها في الخطط التوفيقية : ” منية عقبة : قرية من قسم أول بمديرية الجيزة فى غربي مدينة الجيزة بنحو ساعة واقعة بين سقارة ومنشأة بكار ، وهى عامرة آهلة ذات نخيل كثير من نخيل الأمهات وفيها مساجد وأبنية بالآجر واللبن وتكسب أهلها من الزرع المعتاد وفيها أطيان للشيخ محمد المهدى شيخ الجامع الأزهر سابقا “.

مؤسس ميت عقبة .. سيدنل عقبة بن عامر الجهني .. صاحب رسول الله (ص)
مسجد سيدي عقبة الموجود في قرافة الفسطاط عند سفح جبل المقطم يرجع إلى صاحب رسول الله (ص) وحامل رايته سيدنا عقبة بن عامر بن عبس بن مالك الجهني حليف الأنصار ، ولد بالحجاز عام 608 م. وتوفي في مصر في عام 678 م. ، أسلم وهو شاب يافع عندما لقي النبي (ص) وهو في طريق الهجرة حيث كان يرعى الغنم في البادية على مشارف المدينة وبايعه على الإسلام والهجرة ..
وبعد غزوة أحد ترك عقبة البادية ولحق بخدمة النبي (ص) يقود راحلته ويحمل رايته وكان من جملة أهل الصفة فحفظ القرآن وروى الحديث وشهد سائر المشاهد ، خرج في فتوح الشام وحمل البريد إلى المدينة ببشارة فتح دمشق ثم ندبه الخليفة عمر بن الخطاب ليحمل كتابا عاجلا إلى عمرو بن العاص يأمره فيه بإتمام المسير إلى مصر إذا كان قد دخلها فوافاه عقبة في العريش وسلمه الكتاب ..
تولى عقبة قيادة ميسرة جيش الفتح ثم قوات غرب النيل ثم شارك في حملة الصعيد ثم تولى قيادة حامية غرب الدلتا وساهم في تأسيس مدينة الفسطاط واستخلفه عبد الله بن أبي السرح على مصر عندما خرج لفتح أفريقية ، انحاز عقبة إلى المطالبين بثأر عثمان وكان وقتها واليا بالإنابة فغادر الفسطاط بعد هجوم الثوار عليها وشهد صفين مع معاوية ثم تولى ولاية مصر لمدة ثلاث سنوات ..
أنشأ عقبة قرية جديدة في غرب النيل وعمرها بالمساكن والبساتين وأطلق عليها منية عقبة (ميت عقبة الحالية بمحافظة الجيزة) ثم قام بفصل قبيلة جهينة عن خطة أهل الراية وجعل لهم ديوانا خاصا بهم فزادت أعدادهم في مصر ، تولى بعد ذلك قيادة الحملة البحرية لغزو رودس حيث يروى أنه أول من نشر الأعلام والرايات على السفن وبسبب شعبيته المتزايدة عزله معاوية بعد المعركة ..
تفرغ عقبة بعد ذلك قرابة عشر سنوات للتدريس والإفتاء في جامع عمرو وتتلمذ على يديه عدد كبير من التابعين ، قال عنه ابن يونس : (كان عقبة قارئًا عالِمًا بالفرائض والفقه صحيحَ اللسان شاعرًا كاتبًا وهو آخِرُ مَن جمع القرآن) ، وقال ابن عبد الحكم : (وليس في الجبَّانة قبرُ صحابي مقطوعٌ به إلا قبر عقبة فإنه زاره الخلف عن السلف ولأهل مصر فيه اعتقاد عظيم ولهم عنه نحو مائة حديث) ..

أعلام ميت عقبة
جاء في كتاب الضوء اللامع للسخاوى : من منية عقبة رضوان بن محمد يوسف الزين ، أبو النعيم ، وأبو الرضا العقبى القاهرى ، الصحراوى الشافعى المقرى ، ولد بمنية عقبة بالجيزة سنة تسع وستين وسبعمائة ، ونشأ بخانقاه شيخو ، وجوّد القرآن ، وتلا بالسبع واجتهد فيها جدا ، وتفقه بالبلقينى ، وابن الملقن والمناوى ، والشموس الثلاثة : القليوبى ، والغراقى ، والشطنوفى وغيرهم ، وأخذ النحو عن الشطنوفى وغيره ، وأصول الفقه عن القليوبى وغيره ، والفرائض والحساب عن الغراقى وغيره ، وأخذ الصرف والمنطق والمعانى والبيان والجدل عن البساطى.
وناب فى عقود الأنكحة بالقاهرة وضواحيها ، وولى مشيخة الإسماع بالشيخونية ، والخدمة بالأشرفية المستجدة بالعنبريين ، والخطابة بجامع المرج وغير ذلك ، وحج مرارا ، وجاور مرتين ، وزار بيت المقدس والخليل ، واستوفى بالسماع والقراءة أصول السنة الستة وغيرها ، وانفرد فى الديار المصرية بمعرفة شيوخها ، ونظم ، ونثر ، وتخرج به جمع من الفضلاء.
قال السخاوى : وكنت ممن تخرج به ، وكان كثير المحبة لى والإقبال علىّ ، وكان خيرا دينا ساكنا بطئ الحركة ، ريض الخلق ، صادق اللهجة ، غزير المروءة متواضعا ، منطرح النفس ، وقورا بساما ، مهيبا بهيا ، نير الشيبة ، حسن السمت ، كثير التلاوة والعبادة ، غاية فى النصح ، سليم الباطن ، محبا فى الحديث وأهله ، سمحا بإعارة كتبه ، منجمعا عن الناس بتربة السيفى قجماش الظاهرى بالقرب من البرقوقية قانعا باليسير ، عديم النظير على طريقة السلف ، قلّ أن ترى العيون مثله ، طار اسمه بمعرفة الأسانيد والمرويات ، وأرسل للسلطان أبى فارس صاحب المغرب أربعين حديثا خرجها له ولأولاده فأثابه عليها.
سئل عن شيخنا ابن حجر : أيما أكبر أنت أو هو ؟ فقال : أقول كما قال العباس رضي الله عنه : أنا أسن منه وهو أكبر منى ، رحمهما الله تعال ى، مات سنة إثنتين وخمسين وثمانمائة بسكنه بتربة قجماش ، ودفن بها ، وتأسف الناس على فقده.
وذكر الجبرتى فى حوادث سنة إحدى وعشرين ومائتين وألف ، أن منية عقبة المذكورة نشأ منها الإمام الكبير والعالم الشهير الشيخ مصطفى العقباوى المالكى ، قدم الأزهر وهو صغير ، ولازم الشيخ حسن البقلى ، ثم الشيخ محمد عبادة العدوى حتى اشتهر فى مذهبه ، وتلقى عن الشيخ الدردير ، والشيخ الأمير ، والشيخ محمد البيلى ، وتصدر لإلقاء الدروس ، وانتفع به الطلبة ، واشتهر فضله ، وكان إنسانا حسنا مقبلا على الإفادة والإستفادة ، لا يتداخل فيما لا يعنيه ، ويأتيه من بلده ما يكفيه ، وكان فيه عفة وصلاح.
ومن تآليفه الرسالة المشهورة برسالة العقباوى فى علم التوحيد ، ومن مناقبه أنه كان يحب إفادة العوام ، حتى أنه كان إذا ركب مع المكارى يعلمه عقائد التوحيد وفرائض الوضوء والصلاة ، ولم يزل مستمرا على التقوى والصلاح إلى أن قبض روحه العليم الفتاح فى يوم الخميس تاسع عشر جمادى الآخرة من السنة المذكورة رحمه الله تعالى.