1 / من هم العرب

دأب الكتاب على ابتداء السيرة بذكر أحوال العالم قبيل البعثة النبوية وما كان يعيش فيه من ضلال وظلم ثم ينتقل الكلام إلى الحديث عن بقعة معزولة من العالم (جزيرة العرب) ووصف أحوال القبائل فيها خاصة ما يتعلق بصفاتهم الجاهلية وتخلفهم الحضاري وكأنهم منفصلين تماما عن جوارهم الجغرافي الذي كان خاضعا للاحتلال الفارسي والروماني بعد أن كان في الماضي مهد الحضارة في المنطقة .. والحقيقة أن الجزيرة العربية لم تكن معزولة عن جيرانها سواء قبل الإسلام أو بعد البعثة سواء بسبب الحركة التجارية النشطة بين الجزيرة وجيرانها وانتشار اليهودية والمسيحية بين العرب أو بسبب التفاعل المبكر للإسلام مع البلاد المحيطة حيث الهجرة المبكرة للحبشة وتبادل المراسلات مع حاكم مصر وتوتر الأجواء مع عاهل الفرس وأتباعه من حكام اليمن ثم التصادم العسكري أكثر من مرة مع الدولة البيزنطية وأتباعها من عرب الشام.

لذلك لا يمكن دراسة التاريخ الإسلامي إلا بعد معرفة المسرح الذي دارت عليه تلك الوقائع بكامل تفاصيله بل ومعرفة العلاقات المتشابكة بين العرب وغيرهم من الأمم في الفترة التي سبقت ظهور الإسلام .. وهذا المسرح لا يقتصر على جزيرة العرب بحدودها الجغرافية الشائعة (الخليج العربي وبحر العرب والبحر الأحمر) وإنما يتعداها لأبعد من ذلك كثيرا .. ومن التصورات الخاطئة تلك التي تجعل الحد الشمال لبلاد العرب خطا وهميا يمتد من الكويت شرقا إلى العقبة غربا (يماثل الحدود السعودية الحالية) لأن العرب القدماء لم يكن يوقف سيرهم في أي اتجاه إلا الوصول للماء أو الجبال .. وبالتالي فإن حدود بلاد العرب قديما كانت ساحل الفرات بالكامل حتى تنتهي شمالا عند هضبة الأناضول ويضم بادية الشام ثم ساحل البحر المتوسط ثم النقب وسيناء والساحل الغربي للبحر الأحمر وصحراء مصر الشرقية بالكامل حيث يشكل نهر النيل ودلتاه الحدود الغربية الحقيقية لبلاد العرب التي تمتد حتى هضبة الحبشة.

وحتى يمكننا فهم ذلك يجب إدراك حقيقة هامة وهي أن الصفيحة الأرضية التي تشغلها الجزيرة العربية والهلال الخصيب من الناحية الجيولوجية تنتمي للقارة الأفريقية وليس الآسيوية حيث كانت في الأزمان الغابرة منفصلة عنها مثل القارة الهندية واقترب كلاهما من آسيا تدريجيا حيث نشأت جبال الهيمالايا من التحام الهند بقارة آسيا ونشأت جبال زاجروس وأرمينيا من التحام أفريقيا بآسيا ثم بعد ذلك نشأ البحر الأحمر ليفصل بين هذا الجزء وبين القارة الأم لكنه ترك منطقة باب المندب وبرزخ السويس لتسمح بقدر من الاتصال ، لذلك فإن الصحراء الموجودة في جزيرة العرب وبادية الشام هي جزء لا يتجزأ من الصحراء الكبرى في شمال أفريقيا والتي قامت بعملية فصل جغرافي عن بقية القارة الأفريقية حتى صارت منطقة (الوطن العربي) بالكامل في عزلة عن جيرانها مدة طويلة من الزمن كانت سببا في تجانسها الجغرافي والسكاني.

 في تلك الفترة كان السكان جميعا ينتمون إلى السلالات الأفريقية الشمالية والتي انقسمت إلى ثلاث فروع كبيرة انتشر أولها في بلاد المغرب العربي بمحاذاة ساحل المتوسط (وهم أجداد الأمازيغ الحاليين) وانتشر الفرع الثاني في شمال مصر والشام والحجاز حتى سواحل الفرات والخليج العربي (وهم أجداد العرب القدماء / البائدة) بينما انتشر الفرع الثالث بمحاذاة نهر النيل من أول جنوب مصر وحتى هضبة الحبشة وهذا بدوره انقسم إلى ثلاث تفرعات استوطن أولهم وادي النيل (أجداد سكان مصر الأوائل) ويطلق عليها سلالة البحر المتوسط وهاجر الثاني إلى البلقان وجنوب الأناضول حيث المنطقة الوحيدة الصالحة للحياة آنذاك في القارة الأوروبية (أجداد السكان الأوائل لجنوب أوروبا) بينما انتشر الثالث باتجاه القرن الأفريقي واليمن (أجداد الشعوب الكوشية مثل الأرومو والصوماليين وغيرهم).

ويمكننا أن نطلق عليهم (الفرشة الأساسية) للسكان في الوطن العربي والتي دفعتها الظروف الجغرافية والمناخية للانتشار في السواحل وبالقرب من الأنهار الكبرى حيث مصادر المياه المعتمدة على الأنهار الجارية أو الأمطار الموسمية لكن هذه الشعوب جميعا لم تستطع أن تطور حضارة زراعية وإنما اقتصرت حياتهم على الصيد وجمع الثمار من الغابات ، ومن المرجح أن لغاتهم كانت متقاربة إلى حد كبير حيث تعد كل من اللغة الأمازيغية واللغة القبطية واللغات الكوشية والعربية القديمة جزءا من عائلة واحدة لكنها تباينت عن بعضها بسبب الاختلاط مع شعوب أخرى في الأزمنة اللاحقة حيث وفد السومريون من أسيا ليقيموا حضارة جنوب الرافدين ثم سلالة الساميين التي عاشت في جبال أرمينيا زمنا طويلا قبل أن تنقسم إلى فرعين أحدهما اتجه عبر الصحراء نحو الجنوب ليستقر في اليمن والجزيرة العربية بينما انتشر الفرع الثاني من الرافدين إلى ساحل الشام ودلتا النيل ومن غرب إيران إلى هضبة الأناضول وجنوب أوروبا وهذه المجموعة بفرعيها قدر لها أن تكون صاحبة التأثير الحضاري الأكبر على المنطقة العربية في العصر الحجري الحديث.

وقد يسأل سائل : من هم العرب ؟؟ .. هل هم سكان الجزيرة العربية أم يضاف لها سكان الصحراء الشمالية الممتدة من النيل إلى الفرات .. وهل يتعلق الأمر بالانتماء الجيني لسلالة معينة أم التكلم باللغة العربية .. وماذا عن سكان الجزيرة العربية قبل اكتمال تكوين اللغة العربية عندما كانوا يتحدثون بلغات أخرى .. وهل الانتماء للعروبة يقتضي السكن في بقعة محددة بحيث نقول مثلا عن السكان في شرق البحر الأحمر أنهم عرب وفي غربه ليسوا كذلك أو في غرب الفرات أنهم عرب وفي شرقه ليسوا كذلك وهو الأمر الذي يصعب تحديده لأنه عبر التاريخ الطويل كان النزوح السكاني يتم دوما من الهلال الخصيب ومصر باتجاه الجزيرة العربية والعكس في سلاسة ويسر وذلك قبل الإسلام بقرون عديدة حيث يخبرنا علم الجينات أن الجزيرة العربية كانت خالية من السكان قبل مائة ألف عام ثم بدأ الإنسان يصل إليها تباعا من أربع جهات مختلفة من مصر والحبشة والعراق والشام وكل منها بالطبع يحمل خصائص جينية ولغوية واجتماعية مغايرة للآخر.

وعلى مدار القرون تداخلت هذه المكونات مع بعضها وتفاعلت مع المناطق التي جاءت منها تبعا لموازين القوى العسكرية والتغيرات الاقتصادية حيث وجود علاقات طبيعية بسبب التقارب اللغوي والعرقي فكات هناك مناوشات بين البدو وبين الدولتين الكبيرتين الأكادية في الفرات والفرعونية القديمة في مصر ، وكان يطلق على العرب في الهلال الخصيب (عريبو) ويقصد بهم البدو الرحل أيا كانت قبائلهم بينما يطلق على المستقرين منهم في حافة الفرات والشام (آرامو) أيا كانت جذورهم ، أما الفراعنة في مصر فكانوا يطلقون على كل سكان المشرق اسم (عامو) بمعنى آسيوي بما في ذلك حضارات الهلال الخصيب بينما أطلقوا على البدو الرحل منهم اسم (شاسو) وتعني سكان الصحراء في شرق الدلتا وسيناء والنقب وشمال الحجاز ، لكن علاقات الفراعنة باليمن كانت قوية حيث هناك جذور جينية ولغوية تجمع بين الدولة الفرعونية القديمة وبين الحضارات الأولى في اليمن بل كان يطلق على طريق وادي حمامات (طريق الآلهة) ويقصد به الطريق الذي جاء منه أجداد الفراعنة.

وعندما انهارت الدولتان بدأ استيطان العرب في جنوب العراق وشمال مصر حيث يؤكد المؤرخ المصري مانيتون أن الهكسوس كانوا من العرب ويؤكد بروسوس مؤرخ الكلدان أن دولة بابل الأولى كانت عربية لكن كليهما كان من عرب البادية الشمالية ، وقد كان العرب من ضمن سكان الإمبراطورية المصرية الحديثة حيث وجدت نقوش الفراعنة في بادية الشام وأعالي نجد لا سيما رمسيس الثالث الذي توغل في بلادهم والذي أطلق عليه العرب اسم (هاكون) ، أما الصراع الدموي فكان مع الآشوريين بسبب تحالف العرب مع دول آرام الشام وكنعان ضدهم فقاموا بغزو بلاد العرب حتى أعالي نجد (دومة الجندل) والبحرين وفرضوا سلطتهم على جميع الممالك البدوية في المنطقة بل إنه تلقى الجزية من ملوك سبأ في اليمن ، أما أكبر تأثير في المنطقة فكان من نصيب الكلدانيين في بابل والذين توغلوا في الجزيرة العربية حتى تيماء ويثرب في الحجاز كما أدت غزواتهم للشام إلى انهيار ممالك الآدوميين والعبرانيين.

 وفي أعقاب الغزو الفارسي لمملكة بابل انفرط عقد الآراميين في المنطقة كلها بسقوط أكبر دولة لهم مما أتاح الفرصة للأنباط القادمين من شمال الحجاز لبسط سيطرتهم على المنطقة وإنشاء دولتهم التي استمرت قرابة خمسة قرون صمدت خلالها ضد محاولات السلوقيين الإغريق غزوها وإخضاعها وكانت تسيطر على التجارة في الشرق الأوسط من عاصمتها البتراء (بطرا / الرقيم) لكنها في النهاية سقطت بيد الرومان ، وقد ورثتها دولة تدمر في الشمال حيث سيطرت على البادية العربية كلها من الفرات إلى مصر لكنها لم تصمد أمام الزحف الروماني وأدى انهيارها إلى تقدم قبائل تنوخ وبهراء وتغلب وإياد بقيادة جذيمة الأبرش متوغلا حتى سيطر على الأنبار والحيرة وفتح باب استيطان القبائل العربية هناك مما اضطر ملوك الفرس إلى مهادنته هو وخلفاؤه من اللخميين بينما سيطر الضجاعمة على بلاد الشام (وهم فرع من قبيلة سليح) حتى هزمهم الغساسنة وحلوا محلهم.

وفي كتابه (العرب قبل الإسلام) يذكر جورجي زيدان تمدد القبائل العربية في مصر فيقول : ” كانوا يشغلون الجزء الشمالي من الحجاز العربي وبرية سيناء إلى حدود مصر ولم تكن لهم دولة أو ملوك ولكنهم غلبوا على بادية مصر وصعيدها أجيالا ، فقد ذكر ابن خلدون (أنهم اجتاز منهم أمم إلى إلى العدوة الغربية من البحر الأحمر وانتشروا ما بين صعيد مصر وبلاد الحبشة وكثروا هناك سائر الأمم وغلبوا على بلاد النوبة وفرقوا كلمتهم وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد) .. ويوافق ذلك ما ذكره اليونان عن أخبار مصر لأوائل النصرانية فقد ذكر استرابون وبيلينيوس (أن العرب تكاثروا في أيامهما على العدوة الغربية من البحر الأحمر حتى شغلوا ما بينه وبين النيل في أعلى الصعيد وأصبح نصف سكان قفط منهم وكانت لهم جمال ينقلون عليها التجارة والناس بين البحر والنيل) ، وكانت العرب في أيام أغسطس قيصر بأوائل النصرانية قد دوخوا الحبشة وتملكوها وأوغلوا في بلاد النوبة ولهم فيها وفي مصر طرق مختصرة يعرفونها .. وتغيرت لغة الأثيوبيين وعبادتهم بنزول أولئك العرب فيها فبعد أن كانت مصرية أصبحت عربية فيستدل من ذلك أن العنصر العربي كان في أوائل النصرانية غالبا على صحراء مصر الشرقية والحبشة والنوبة “.

وقد حاولت الدولتان الكبيرتان فارس والروم مرارا التوغل في الجزيرة العربية وفشلتا بسبب الطبيعة الجغرافية الوعرة في شمالي الجزيرة حيث الصحراء القاحلة وبحار الرمال القاتلة وقد هلك جيش روماني قوامه عشرة آلاف جندي  قاده حاكم مصر الروماني إيليوس جالوس بسبب ذلك حيث تعرض لهجمات الأعراب المتكررة بعد أن عبرت القوات البحر الأحمر ورست على الشاطئ الشرقي بهدف مهاجمة مملكة سبأ في اليمن التي كانت تحتكر تجارة المر واللبان والبخور والعطور وقد دعمت الحملة بألف جندي من ملك الأنباط و500 من اليهود ورغم ذلك سارت 1400 كم في الصحراء الجرداء في زمن ستة أشهر دون أن تتمكن من الوصول لهدفها وبعدها يأس الرومان من فكرة احتلال بلاد العرب فقاموا بعقد معاهدات مع قبائل الغساسنة في بادية الشام ليكونوا وكلاء عنهم في التعامل مع العرب وليصنعوا منهم حاجزا ضد الهجمات المحتملة وقد توغل الغساسنة في الحجاز عندما كانت تستنجد بهم القبائل العربية مثلما حدث عندما طلب منهم الأوس والخزرج في يثرب المعونة ضد اليهود المسيطرين عليها ، وقبيل الإسلام حاول الرومان مرة أخرى احتلال اليمن عن طريق الأحباش بذريعة حادث الأخدود الذي تم فيه قتل المسيحيين في اليمن  لكنه لم يدم طويلا.

أما الفرس فقد حاولوا الزحف من جنوب الفرات باتجاه ساحل الخليج العربي (البحرين وهجر والشحر) ليوقفوا تدفق القبائل العربية باتجاه الشمال لكن جهودهم منيت بالفشل ، وقد قام بعد ذلك الملك الساساني شابور ذو الأكتاف بمهاجمة بلاد العرب هجوما شرسا قتل فيه الألاف منهم حيث سيطر على غرب الفرات تماما وتوغل جنوبا حتى وصل إلى اليمامة والقبائل تفر من أمامه لكنه لم يستطع الاحتفاظ بنفوذه جنوب كاظمة (الكويت) بسبب طبيعة الصحراء وبعد خطوط الإمداد ، بعد ذلك أرسل كسرى أنوشروان جيشا فارسيا لنصرة ملك اليمن سيف بن ذي يزن ضد الاحتلال الحبشي وحقق انتصارا صارت اليمن بموجبه محمية فارسية ، أما كسرى أبرويز فقد قام بمهادنة عدد من الحكام المحليين في البحرين واليمامة ومنحهم الألقاب الملكية نظير حماية قوافله الذاهبة لليمن بعد أن انتصرت القبائل العربية من شيبان وبكر بن وائل وحلفاؤهم من قبائل عربية كثيرة على الجيوش الفارسية انتصارا ساحقا في معركة ذي قار حيث رفرفت الرايات العربية لأول مرة على حدود الإمبراطورية العجوز وذلك قبيل البعثة النبوية بأعوام قلائل.

وهذا يعني أن الخطر كان محدقا بالجزيرة من بلاد فارس عن طريق العراق ومن بلاد الروم عن طريق الشام ومن مصر عن طريق سيناء والبحر ومن الحبشة عن طريق اليمن وذلك لأن الجزيرة العربية في حقيقة أمرها منذ فجر التاريخ هي جزء من تلك المساحة الجغرافية الكبيرة التي نطلق عليها الآن اسم (الوطن العربي) حتى لو لم يكن يحمل هذا المسمى في الماضي .. ولا شك أن جغرافية الجزيرة العربية نفسها مرتبطة بما حولها من المناطق حيث كان كل من اليمن والحجاز وبادية الشام يعد إقليما متصلا قائما بذاته بل ويمثل إقليما اقتصاديا شبه مستقل يتصل مباشرة بالحبشة ومصر .. بينما في الشرق كان ساحل الخليج كله من عمان إلى البحرين إلى الفرات إلى الحيرة مرتبط ببعضه ومتشابك مع النشاط الاقتصادي للدولة الفارسية .. أما في الوسط حيث الصحراء النجدية فهناك قدر كبير من الاستقلال والتحرر من هيمنة الدول لكن مع بعد عن الحضارة وفقدان للاستقرار ، وقد كانت المنافسة محتدمة بين كل من دولة المناذرة في الحيرة ودولة حمير في اليمن لفرض الهيمنة على كافة القبائل العربية والتحكم في التجارة حيث كان لكل دولة أشياعها من القبائل المختلفة كما كانت الحرب مستعرة بين دولة المناذرة ودولة الغساسنة بسبب التحيز السياسي لكل منهما للدولتين الكبيرتين وهو ما أدى في النهاية إلى انهيار دولة المناذرة وسقوط دولة حمير وضعف الغساسنة بسبب التورط في مغامرات لا طائل من ورائها.