
أقدم أثر مادي باق حتى الآن من آثار موجة الهجرة الأولى لقبيلة بني عدي إلى مصر هو مشهد السيدة عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل العدوية في شرقي الفسطاط القديمة بجوار مشهد السيدة رقية في شارع الخليفة حاليا .. وكانت السيدة عاتكة من فضليات الصحابة ومن السابقات في الإسلام وكانت شاعرة حسناء تزوجها عبد الله بن أبي بكر الصديق واستشهد عنها في حصار الطائف فتزوجها زيد بن الخطاب وقتل عنها يوم اليمامة شهيدا ثم تزوجها عمر بن الخطاب سنة اثني عشرة فلما استشهد تزوجها الزبير بن العوام وكان شديد الغيرة فاحتال عليها ليمنعها من الخروج للمسجد في قصة مشهورة (كمن لها ليلا وأخافها فتوقفت عن الخروج) واستشهد عنها في معركة الجمل وقام بينها وبين أولاده خلاف على الميراث فصالحها عبد الله بن الزبير على ثمانين ألف درهم ورضيت بذلك ثم تزوجت محمد بن أبي بكر الصديق الذي عين واليا على مصر فصحبته إلى الفسطاط.
ولم تهنأ السيدة عاتكة كثيرا حيث شهدت تلك الأحداث الدموية التي أسفرت عن قتل زوجها فاستقرت بدارها بالفسطاط بجوار قرابتها من بني عدي ومعها أموالها ولم ترجع إلى الحجاز واعتذرت للإمام علي الذي أرسل في خطبتها وقالت له : ” إني أضن بك يا ابن عم رسول الله على القتل ” وكان المسلمون يتندرون عليها ويقولون : ” من أراد الشهادة فليتزوج عاتكة ” .. وكانت تقول : ” لا أتزوج بعد ذلك إني لأحسبني لو تزوجت جميع أهل الأرض لقتلوا عن آخرهم ” وقد حزنت كثيرا على مصرع زوجها والي مصر ورثته بأبيات منها : (أن تقتلوا وتمثلوا بمحمد .. فما كان من أجل النساء ولا الخمر) وقد توفيت رضي الله عنها في خلافة معاوية وضريحها معروف في شرقي الفسطاط القديمة بجوار أضرحة كل من السيدة رقية والسيدة نفيسة والسيدة عائشة والسيدة سكينة والسيدة زينب وتم إعادة إعماره في العصر الفاطمي وذلك في عام 515 هـ بأمر السيدة علم زوجة الخليفة الآمر بأحكام الله.
ويتكون مشهد عاتكة من غرفة مربعة طول ضلعها 3.80 مترا ويبلغ سُمك الجدران 70 سم تعلوها منطقة الانتقال وهي تبدو مثمنة من الداخل ومدرجة من الخارج .. ومنطقة الانتقال تتكون من ثلاث حنايا ركنية في أركان المربع الأربعة يعلوها حنية رابعة وبين الحنايا الركنية نافذة ثلاثية الفصوص وفوق منطقة الانتقال بنيت القبة الضريحية التي تغطى المشهد وهي قبة مفصصة .. وعند بناء المشهد إلى الغرب من مشهد الجعفري تم سد باب مشهد الجعفري وبُنى في موضعه محراب مشهد عاتكة وفتح الباب في كل مشهد في الجهة الشمالية منه (والجعفري هو الإمام محمد بن جعفر الصادق) .. ومحراب مشهد عاتكة ارتفاعه 3.04 مترا وعرض حنيته 1.76 مترا ويحيط بعقد المحراب شريط من الكتابه بالخط الكوفي المزهر وعلى خواصر العقد زخارف نباتية مُحّورة ومازال المشهد يحتفظ بالكثير من الزخارف الجصية تبدو في شريط من الكتابة الكوفية المزهرة يحيط بأعلى الجدران وتحت المقرنصات.
وقد تتابعت هجرة بني عدي إلى مصر خلال العهد الأموي لأسباب متعددة منها ما هو اقتصادي مثل سائر القبائل العربية التي توطنت في مصر ومنها ما هو سياسي مثل ما حدث لكثير من عشائر قريش تحديدا حيث الأمان النسبي في أرض الكنانة بعيدا عن مناطق التوتر في الحجاز والعراق والشام وهو الأمر الذي رحب به الحكام الأمويون والعباسيون من بعدهم ، وسوف نجد أن مصر كانت مستقرا طيبا لعدد كبير من القرشيين منهم آل بيت النبي (ص) في العهد الأموي والأمويون أنفسهم بعد أن زالت دولتهم وفتك بهم العباسيون ثم العباسيون أنفسهم بعد أن دخل المغول بغداد فأعلنت خلافتهم الصورية من القاهرة وسكنوا بها حتى زالت دولتهم على يد العثمانيين ، ومن أهم أسباب اختيار مصر تحديدا هو وجود ظهير قوي من القبائل العربية المتوطنة من قيسية ويمانية حيث يمكن لأي عشيرة قرشية أو غيرها أن تدخل في حلف أو جوار يحميها من بطش الحكام.
وعندما نتتبع مسار الأحداث السياسية في تلك الحقبة سوف ندرك على الفور كيف وجدت قبيلة بني عدي مستقرها النهائي في أرض الكنانة حيث يسكن غالبيتها حاليا ولم يبق منهم خارج مصر إلا عشائر معدودة متفرقة في البلاد مثل الشام والعراق والمغرب والهند وبعضها دخل في أحلاف مع قبائل أخرى في الحجاز وبقية الجزيرة العربية حتى فقد اللقب ولم يعد موجودا إلا في مصر وحدها حيث (البيت والعدد) وتواجد جميع فروع القبيلة فيها ، وكان من أهم أسباب الهجرة أن منازل بني عدي في المدينة المنورة كانت مؤقتة بعد هجرتهم كما أن منازلهم في مكة قد فقدت لأن القبيلة هي الوحيدة التي هاجرت بكاملها ولم يبق منها أحد فكان البحث عن مكان جديد أمرا منطقيا خاصة مع الصراعات السياسية والقبلية في الحجاز والتي جعلت بقاء القبيلة في المدينة صعبا بينما كان لهم أبناء عمومة في مصر يشجعونهم دوما على الهجرة والالتحاق بهم وتكثير عددهم.
وكانت الموجة الثانية من قبيلة بني عدي قد وفدت إلى مصر في عهد معاوية بن أبي سفيان تحت قيادة عبد الله بن مطيع بن الأسود العدوي والذي جاء على رأس مدد من المدينة المنورة لتدعيم حامية الإسكندرية في عهد الوالي عتبة بن أبي سفيان وفقا لما ذكره ابن عبد الحكم في كتابه (فتوح مصر وأخبارها) حيث يقول : ” إن عتبة بن أبي سفيان عقد لعلقمة بن يزيد الغطيفي على الإسكندرية وبعث معه اثني عشر ألفا فكتب علقمة إلى معاوية يشكو عتبة حين غرر به وبمن معه قائلا له : إنك خلفتني بالإسكندرية وليس معي إلا اثنا عشر ألفا ما يكاد بعضنا يرى بعضا من القلة .. فكتب إليه معاوية : إني قد أمددتك بعبد الله بن مطيع في أربعة آلاف من أهل المدينة وأمرت معن بن يزيد السلمي أن يكون بالرملة في أربعة آلاف ممسكين بأعنة خيولهم متى يبلغهم عنك فزع يعبروا إليك “.
وقد أبلت الحامية بلاء حسنا في الدفاع عن الإسكندرية ضد هجمات الروم المتفرقة وكذلك في الدفاع عن البرلس عندما نزلت فيها الجيوش الرومانية محاولة احتلال الدلتا في عام 672 م. ذلك أن الرومان استهدفوا البرلس بعد فتحها كمحاولة منهم لاستردادها والانطلاق منها عبر سواحل مصر لإخراج المسلمين بعد أن فشلوا في مهاجمة الإسكندرية وهي الحادثة التي ذكرها ابن عساكر في كتابه (تاريخ دمشق) فيقول : ” وحدث أن القوات الرومانية داهمت سواحل البرلس فجاء الصريخ إلى الإسكندرية ـ وكان عليها علقمة بن يزيد الغطيفي ـ أن الروم قد نزلوا البرلس فأغيثوها فاستنفر علقمة الناس إليهم فولى عليهم وردان أبي عبيد مولى عمرو بن العاص فنفر بهم حتى قدم البرلس بجيشه فوجد الروم بها فاقتتلوا قتالاً شديدًا فاستشهد وردان ومن معه وعدد من الصحابة منهم أبو رقية اللخمي وكان على الخراج فاستشهد وعائذ بن ثعلبة البلوى وكان على الخيل فاستشهد “.
وقد كانت عشائر بني عدي التي سكنت مصر تتمتع بالحظوة في مصر طوال عهد معاوية حيث كانوا قريبين من الولاة الذين تعاقبوا على البلاد وهم عبد الله بن عمرو بن العاص وعتبة بن أبي سفيان وعقبة بن عامر ومعاوية بن حديج ومسلمة بن مخلد فهم جميعا من أشياع الأمويين لذلك كانوا من وجهاء القوم لا سيما أبناء خارجة بن حذافة الأربعة عبد الرحمن وأبان وعبد الله وعون وأبناء أخيه حفص بن حذافة حيث صارت لهم إقطاعات في ريف الدلتا في مناطق عديدة ، وكان معاوية قد سمح للولاة والوجهاء بتملك الأراضي بشرائها أو استصلاحها مثل ما حدث مع عقبة بن عامر الجهني الذي امتلك مساحة كبيرة من الجيزة (قرية ميت عقبة الحالية) بعد أن ضاقت الفسطاط بساكنيها فتم منح الأراضي لبعض القبائل وأهمها بني سهم وبني عدي وجهينة وكندة وكنانة فكانت قبيلة بني عدي تملك أراضي قرب مرتبعاتها السابقة في ريف الدلتا الغربي والصعيد الأدنى.
وكان عبد الله بن مطيع سيدا من سادات بني عدي خلال عهد معاوية حيث عاش متنقلا بين مصر والمدينة وهو حال الكثير من سادات قريش إذا كانت هناك سيولة في حركة التنقل بين ولايات الدولة الإسلامية بدافع التجارة كما كان لبعضهم إقطاعات في ولايات مختلفة ينيب عليها بعض بنيه أو مواليه ، وقد أخرج الطبراني وابن منده وغيرهما من طريق زكريا بن إبراهيم بن عبد الله بن مُطيع عن أبيه عن جدّه قال : رأى مطيع في المنام أنه أهدي إليه جِراب تمر فذكر ذلك للنبي صَلَّى الله عليه وآله وسلم فقال : ” هَلْ بِأحَدٍ مِنْ نِسَائِكَ حَمْلٌ ؟ ” قَالَ: نَعَمْ امْرَأةٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ قَالَ : ” فَإِنَّهَا سَتَلِدُ لَكَ غُلاَمًا ” فَوَلَدَتْ لَهُ غُلاَمًا فَأَتَى بِهِ النِّبِي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّم فَحَنَّكَهُ بِتَمْرَةٍ وَسَمَّاهُ عَبْدَ اللهِ وَدَعَا لَهُ بِالْبَرَكَةِ ” ، وذَكَرَهُ ابْنُ حِبّان وابْنُ قَانِع وغيرهما في الصحابة وله أموال وبئر فيما بين السُّقْيا والأبـْواء تُعْرَف ببئر ابن مطيع يَرِدها الناس ..
وأبوه هو الصحابي مطيع بن الأسود .. كان اسمه العاص فسماه رسول الله (ص) مطيعاً وقال لعمر بن الخطاب إن ابن عمك العاص ليس بعاص ولكنه مطيع روى عنه ابنه عبد الله بن مطيع وروى في تسمية رسول الله (ص) إياه مطيعاً خبر رواه أهل المدينة : أن النبي جلس على المنبر وقال للناس : ” اجلسوا ” فدخل العاص بن الأسود فسمع قوله اجلسوا فجلس فلما نزل النبي جاء العاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ” يا عاص مالي لم أرك في الصلاة ؟ ” فقال : بأبي أنت وأمي يا رسول الله دخلت فسمعتك تقول : ” اجلسوا ” فجلست حيث انتهى إلى السمع فقال : ” لست بالعاصي ولكنك مطيع ” فسمي مطيعاً من يومئذ .. وهو أحد السبعين الذين هاجروا من بني عدي وله بنون كثر منهم سليمان بن مطيع الذي قتل يوم الجمل مع عائشة .. ومات مطيع في خلافة عثمان وأوصى إلى الزبير بن العوام.
وقد كان عبد الله بن مطيع حاضرا في الأحداث الكبرى التي دارت وقائعها في الحجاز وكانت سببا في حدوث الموجة الثانية من هجرات بني عدي إلى مصر حيث كانت أول تلك الحوادث هي المنازعة التي دارات بين فرعي قبيلة بني عدي (رزاح وعويج) والتي سميت مجازا باسم (حرب زجاجة) والتي رواها محمد بن حبيب البغدادي في كتابه (المنمق في أخبار قريش) ، وكان أسباب تلك المنازعة تافهة لكنها أججت نار العداوة بفعل العصبية القبلية حيث اشتكت خولة بنت القعقاع التميمية زوجة أبي الجهم بن حذيفة من مرض أقعدها في شيخوختها واتهمت ضرتها زجاجة بأنها سحرتها وأوغرت صدر زوجها على الجارية (وكانت سبية غسانية في معركة أجنادين) فعزم أبو الجهم على قتلها وكانت فيه بقية من عمية الجاهلية فبلغ ذلك ابنيها عبد الله وسليمان فعظما ذلك عليه وذكراه الله تعالى والإسلام والحق فأبى وقال : ” ليست أمكما عندي كخولة ولا أنتما عندي كولدها “.
فلما أعياهما انطلقا إلى خولة وكلماها فأصرت على رأيها وكانت بدوية جافية فانصرفا عنها وأتيا إخوتهما فذكرا لهما ما قال أبوهما وأمهما فقال محمد وهو ابن خولة : ” ما يأمرنا أبونا وأمنا بشيء حسن ولا قبيح إلا أطعناهما فيه ” وتابعه إخوته الآخرون صخر وصخير وعبد الرحمن على قوله وأما حميد فكان غائبا بالعراق ، فأغلظا لهم القول وقالا : ” إن كنا عذرنا شيخا كبيرا أو امرأة سقيمة سفيهة لرأيهما رأي النساء فما عذركم عندنا والله لا يكون هذا أبدا حتى نقتل ووالله لا نقتل حتى يقتل بعضكم فلا تبقوا إلا على أنفسكم ” ونشب الشر بين بني أبي الجهم وشغلوا عن الناس وصار بأسهم بينهم ، وخرج عبد الله وسليمان إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وسألاه أن يمنعهما وينصرهما لكنه لم يصدق ما سمعه وهون من شأنه فلقيهما المسور بن مخرمة الزهري ونصحهما باللجوء إلى عبد الرحمن بن زيد بن الخطاب بدلا من عبد الله بن عمر لزهادته وحياده.
استمع عبد الرحمن إليهما فأفزعه ما أتيا به وقال : ” مهلا أنظر في هذا الأمر وأتثبت فيه وأعلم حقه من باطله ” وقرر أن يرسل ابنه عمر للتوسط بين الطرفين وكان يقال له المصور من حسنه وجماله وكان قد وفد على معاوية وأقام عنده شهرا ثم قام إليه يوما فقال : ” يا أمير المؤمنين اقض لي حاجتي ” فقال له معاوية : ” أقضي لك أنك أحسن الناس وجها ” ثم قضى له حاجته ووصله وأحسن جائزته ، وانطلق عمر بن عبد الرحمن فلقي أبا الجهم وخولة وعاد إلى أبيه بالقول الفصل فقال عبد الرحمن : ” ما أرى الأمر إلا حقا وأيم الله لا يصلون إلى ما يريدون منكما ومن أمكما أبدا إن شاء الله ، وأمرهما بأن يحملا أمهما وما كان لهما من أهل ومال ثم ينتقلا إليه ففعلا فأنزلهما في دار مولاه عبيد بن حنين وهو مولى أمه لبابة بنت أبي لبابة الأنصارية (وكان مقربا من عبد الرحمن ولبيبا فقيها علامة وولاه عبد الرحمن بن زيد القضاء حين تولى إمرة مكة بعد ذلك).
وانطلق عبد الله وسليمان ابنا أبي الجهم إلى عاصم بن عمر بن الخطاب فقال لهما : ” وأنا معكما ولن يصل إليكما شيء تكرهانه ” وانطلقا إلى زيد بن عمر بن الخطاب فقال لهما : ” لا هضيمة عليكما ولا ضيم ” وأتيا بني عبيد الله بن عمر بن الخطاب الأكابر عمر ومحمد وعثمان وأبي بكر فوعدوهم بالنصر ثم أتوا بني سعيد بن زيد وهم زيد وعبد الله ومحمد وإبراهيم فوعدوهم بالمؤازرة ثم أتيا بني سراقة وبني المؤمل فأجمعوا على نصرهما ومعونتهما ، ولما رأى بنو أبي الجهم الأكابر ما فعل أخواهم انطلقوا إلى عبد الله بن مطيع بن الأسود فأخبروه الخبر وكان بنو أبي الجهم يد عبد الله بن مطيع وناهضته في كل مهمة نزلت به وأمر أراده فقال لهم : ” أما ما أردتم بذات حرمتكم وأم ولد أبيكم فإني لا أرى أن أعلم علمه ولا أن أدخل معكم فيه وأما غير ذلك فوالله لو أن أخي وابن أمي وأبي عاداكم لنصرتكم عليه ” أي أنه قائم بنصرتهم عصبية وحمية دون النظر في سبب ذلك.
وعندما علمت عشيرة بني عويج أن عبد الله بن مطيع قد تابعهم وشايعهم مالوا إليه ثم لم يتغادر منهم أحد ومنهم سليمان بن أبي حثمة بن حذيفة وحكيم بن مؤرق بن حذيفة وعبد الرحمن بن حفص بن حذافة وعبد الرحمن بن مسعود بن الأسود ونافع بن عبد عمرو بن عبد الله بن نضلة وإبراهيم بن نعيم النحام وصالح بن النعمان بن عدي فافترقت بنو عدي فرقتين ووقع الشر ونشبت العداوة ، وكان كهولهم يقعدون في منازلهم ويخرج شبابهم ليلا فيجتلدون بالعصي ويرمون بالحجارة ولا يفترقون إلا عن شجاج وجراح وكسر أيدي وأرجل فطال ذلك البلاء بينهم وكانوا إذا لم يخرجوا يرتمون ليلا من السطوح بالنبل والحجارة وكانت أشد وقعة بينهم ليلة التقوا فيها بحرة واقم ففقئت عين نافع بن عبد عمرو وكسرت رجل صالح بن النعمان والتزم واقد وسالم ابنا عبد الله بن عمر الحياد احتراما لأبيهم رغم أن هواهم مع بني عويج بينما وقف حميد بن أبي الجهم والحر بن عبيد الله بن عمر مع الآخرين.
ثم إن عبد الله بن مطيع ركب ذات يوم يطلع غنما له وبلغ ذلك عبد الله وسليمان ابني أبي الجهم فخرجا يرصدانه لرجعته وأتى الخبر إخوتهما فخرجوا إليهما وتداعى الفريقان وانصرف ابن مطيع فالتقوا بالبقيع فاقتتلوا وتنوول ابن مطيع بعصا فنالت مؤخرة السرج فكسرته وأقبل زيد بن عمر بن الخطاب ليحجز وينهى بعضهم عن بعض فخالطهم ونالته ضربة على رأسه في الظلام فشجته فصرع وتنادى القوم زيدا زيدا وتفرقوا وسقط في أيديهم ، وأقبل عبد الله بن مطيع فلما رآه صريعا نزل ثم أكب عليه فناداه : ” يا زيد .. بأبي أنت وأمي ” مرتين أو ثلاثا ثم أجابه فكب ابن مطيع ثم حمله على بغلته حتى أداه إلى منزله فدووي زيد من شجته حتى أفاق ثم إن الشجة انتقضت بعد مدة فلم يزل منها مريضا حتى توفاه الله ثم توفيت معه في نفس اليوم أمه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب بعد أن مرضت حزنا عليه وصلى عليهما عبد الله بن عمر ومعه الحسن بن علي.
ثم إن معاوية بن أبي سفيان لما تتابعت عليه أخبارهم أعظم الذي أتاه من ذلك وبعث إلى أبي الجهم بن حذيفة فأتاه بالشام فاحتفى به وأكرمه وعتبه فيما بلغه عن بنيه وقومه وعزم عليهم ليكفنهم عما كانوا عليه حتى يصلح الذي بينهم ويعود إلى الأمر الجميل وأعطاه مائة ألف درهم فلما وصلت إليه استقلها وقال : ” اللهم غير ! ” ثم انصرف إلى المدينة قاطعا ذلك الأمر واصطلح القوم وكف بعضهم عن بعض ، وقد كان معاوية يحرص على إرضاء بني عدي وإكرامهم لأنهم كانوا أقرب عشائر قريش إلى التحالف معه فقد كان على خيله يوم صفين عبيد الله بن عمر بن الخطاب وكان خارجة بن حذافة من شيعة عثمان في مصر وعبد الله بن مطيع من قواده كما أن عبد الله بن عمر وقف على الحياد أثناء التحكيم ولم يتطلع للخلافة فكان يرى أنهم من أحلافه وأنصاره فكان حليما معهم رغم غلظتهم عليه وعفا عنهم في مواقف كثيرة بل وأوصى بهم ولاته على المدينة.
ومن هذه الحوادث ما دار بين بني عدي وبني أبي معيط (من بني أمية) بسبب حمية الشباب حيث حاصرت بنو عدي عددا من بني أمية في السوق وضربوهم فقام إسماعيل بن خالد بن عقبة بن أبي معيط وضرب سيد القوم عبد الله بن مطيع بالسيف فجرحه فثارت عشيرة بني عدي وعلى رأسهم محمد بن أبي الجهم وحميد بن أبي الجهم وعيسى بن عبد الله بن مطيع وأبو الغيث سالم مولى ابن مطيع وسليمان بن سليمان بن مطيع بعد عودته من مصر والذي قام بإثارة قومه حمية لعمه ، وكان من نتيجة ذلك الاعتداء على خالد بن عقبة بن أبي معيط فاحتشد الفريقان جوار دار مسعود بن العجماء التي في سوق المدينة هم وأشياعهم فبلغوا أربعة آلاف ونشبت بينهم منازعة من الصباح إلى العصر وكادت تتحول إلى حرب فعلية فتدخلت أم المؤمنين عائشة للصلح بينهما فاضطر والي المدينة مروان بن الحكم أن يتدخل ويكف بني أمية عما هم فيه فخرج وحجز بين الفريقين.
ومن هذه الحوادث أيضا ما جرى بين عبد الله بن مطيع ووالي المدينة مروان بن الحكم حيث اعترض موكبه يكلمه في بعض الأمور فرد عليه مروان فأجابه ابن مطيع وأغلظ له في القول فأقبل مصعب بن عبد الرحمن بن عوف الزهري وهو صاحب شرطة مروان فضرب وجه ناقة ابن مطيع بسوطه وقال : ” تنح ” فتنحى وأقبل صخير بن أبي الجهم يتخلل الموكب حتى دنا من مصعب فخطم أنفه بالسوط ثم ولى على ناقته ، أثارت الحادثة غضب مصعب ومروان الذي توعده بقطع يده فقال ابن مطيع : ” لقد أردت أن تكثر جذامى قريش ” وكادت تقوم الفتنة بين بني عدي وبني زهرة قوم مصعب لولا تدخل معاوية الذي حضر للحج حيث توسط بينهم وبين مروان بن الحكم ومصعب بن عبد الرحمن وتم حل الأمر وديا بالتراضي وتعويض مصعب بالمال بدلا من المطالبة بثأره وكان ذلك من حسن السياسة الذي تفرد به معاوية دون غيره من الحكام.