
نظرة موضوعية
طوال تاريخها وحتى يومنا هذا تتعرض جماعة الإخوان المسلمين لهجوم شرس من الحكومات والإعلاميين والمثقفين والسياسيين بل ومن أبناء التيار الإسلامي على اختلاف أطيافه ، بعض هذا الهجوم يأتي من باب النقد المشروع لكن أكثره يأتي على سبيل التجريح والسب والمعايرة بالأخطاء والطعن في الأشخاص بل يصل بهم الأمر لمطالبة الجماعة بعمل مراجعات .. وفي ذلك بعض الملاحظات :
أولا / من حق أي مواطن انتقاد البرامج المختلفة والمواقف السياسية للأحزاب السياسية وطالما ارتضت جماعة الإخوان أن تسلك المسلك السياسي في الإصلاح فسوف تتعرض لسهام النقد لا محالة .. مع ملاحظة أن الإخوان دائما هم المجني عليهم في الصراع السياسي والمفترى عليهم من قبل الإعلام وأذنابه.
ثانيا / نقد الأفكار أمر مسموح به بالطبع لكن مكانه الكتب حيث الأبحاث الموضوعية والدراسة الحيادية وليس مكانه وسائل التواصل الاجتماعي ولا الإعلام لأن ذلك سوف يكون من باب التشويه المتعمد وربما كان مدعوما بمن يريد الهجوم على الدين الإسلامي نفسه مستغلا الظرف السياسي النكد.
ثالثا / مراجعة الأداء السياسي للإخوان هو شأن داخلي بحت بين قيادة الجماعة وكوادرها وأفرادها خاصة وأنهم هم وحدهم من تحملوا عبء كل قراراتهم وقدموا من التضحيات في سبيل ما يؤمنون به ما لم يقدمه أي تيار إسلامي أو حزب سياسي وبالتالي فإن طلب المراجعة ممن هو خارج الجماعة أمر غير عملي.
رابعا / مراجعة الأفكار داخل الإخوان غير واردة بالمرة لأن ذلك يعني هدم الأساس الذي بنيت عليه الجماعة وتحقق بفضله الترابط بين أفرادها فلا يمكن مثلا مراجعة الأصول العشرين ولا أركان البيعة مثلما لا يمكن للسلفيين مثلا أن يتبعوا الأشعري ولا يمكن للصوفية أن يتبعوا ابن تيمية.
خامسا / أحيانا يكون النقد المتواصل للجماعة بحسن نية بسبب أن البعض لا يزال يعقد الأمل على الإخوان في نهضة الأمر مرة أخرى وهو أمر وارد بالطبع لكن يجب أن نضع في الاعتبار أن الجماعة قاربت على مائة عام وأنه يجري عليها ما يجري على البشر من عوامل الهرم والضعف والخرف والشيخوخة.
سادسا / الانشغال بنقد الآخرين وحده عمل سلبي لأنه سعي في اتجاه الهدم بينما الإيجابية الحقيقية في البناء وصياغة فكرة جديدة تتلافى أخطاء الماضي وتكمل ما بدأه الإخوان وغيرهم حيث سدوا الثغرة وقاموا بالحسبة وجددوا القرن الرابع عشر الهجري وربما حان الدور على غيرهم لإكمال المسيرة.
والدراسة الموضوعية لنشاط الدعوة السلفية هام للغاية لمعرفة أسباب الانتشار الطاغي لهم في ربوع البلاد وهي الحقيقة التي لا ينكرها منصف والتي تتلخص أسبابها في الآتي :
السلفيون لديهم منهج متكامل عقائديا وفقهيا مستند إلى مذهب معروف ومحدد وهذا المنهج على بساطته مقنع للجميع خاصة ممن ليس له حظ من القراءة والاطلاع ، والأفراد السلفيون يملكون حصيلة لا بأس بها من العلم الشرعي مما لا يتوافر عند غيرهم من الجماعات الإسلامية الأخرى حتى لو كان قاصرا على عدد من الكتب المحدودة.
الدعوة السلفية تعمل بتركيز شديد على هدف واحد فقط وهو الدعوة ونشر الفكرة مع نشاط اجتماعي محدود فلا يوجد مجال للتشتت في صراعات مختلفة وساحات متعددة ، ومسار السلفيين عموما آمن من بطش الحكومات وبعيد عن تقلبات السياسة وهو الأمر الذي يجذب قطاعات كبيرة محبة للالتزام بدون تحمل أي تبعات لكنه ساعد على الانتشار الطاغي.
حضورهم السياسي خافت في العهود الديكتاتورية لكن في عصر الحرية تمكنوا من حصد خمس أصوات الناخبين (في البرلمان والرئاسة) وهي نتيجة مهولة لتيار لم يدخل من قبل أي انتخابات (ولا حتى رئاسة الفصل في المدارس) وهو تفوق نسبي على منافسين مخضرمين في العمل السياسي والنقابي والطلابي وهذا من علامات نجاح الجهد الدعوي.
البنية الداخلية للدعوة سهلة ولا تقيدها القيود التنظيمية ولا (الكراكيب) الإدارية حيث هناك عدد قليل منظم والباقي يدور من حوله في نشاط وذاتية ولا يحتاج أن يربط الأعضاء جميعا مثل عرائس الماريونيت ومهمتهم الأساسية في المسجد حيث لا يمكن منافستهم كما أنهم وصلوا لقطاعات شعبية لم يصل إليها غيرهم من التيارات الإسلامية الأخرى.
البراجماتية الشديدة في 30 يونيو على حساب الأخلاق حرصا على مصلحة دعوتهم فقط لكنهم ليسوا أول من فعل ذلك ففي الثمانينات والتسعينات (عصر مبارك) شاركت كل القوى السياسية في الانتخابات بكل أنواعها وغضوا الطرف عن ثلاثين ألف معتقل من الجماعة الإسلامية تعرضوا للتعذيب البشع وهتك أعراض الرجال والنساء.
دائما ما يتم اتهامهم بالعمالة للأمن وهو قول متهافت يحاول به البعض تبرير العجز لكن الحقيقة أن النظام الحاكم يفتح لهم المجال لأنهم لا ينازعونه سلطاته ومصالحه وفي نفس الوقت ينافسون معارضي النظام في المجال الدعوي والفكري كما أن الحقيقة الدامغة أن الجميع في وقت ما كان له صلات بالأمن لأنه كان من ضرورات العمل العام.
يتم اتهامهم بتلقي دعم مالي من الخارج لكن أيضا جميع القوى الإسلامية والعلمانية والثورية والقومية كانت تتلقى دعما متنوعا .. المهم هو ماذا يصنع بهذا الدعم لأن السلفيين أحسنوا الاستفادة منه خاصة في مجال الفضائيات قبل الثورة وبعدها حيث الإنفاق موجه لخدمة الدعوة المباشرة في المساجد والجمعيات دون انتظار مردود سياسي أو مكسب انتخابي من النشاط العام.
السبب الأكبر لانتشار السلفيين طوال ثلاثين سنة هو غياب أي منافس حقيقي لهم في المجال الدعوي بل إن أفكارهم قامت بغزو الجماعات الأخرى حتى أصيب بعضهم بحساسية وأرتكاريا اسمها (الشبهات السلفية) ولا يمكن القضاء على الفكر السلفي المتخلف إلا بفكر مضاد مساوي له في القوة وله رصيد من الوضوح المذهبي والعمق الفقهي والتأصيل الشرعي والثقافة الطاغية.

البوصلة الحائرة
ينظر عدد كبير من الإسلاميين حاليا بانبهار إلى التجربة التركية آملين تكرارها في بلاد أخرى دون دراسة واعية لمآلات الأحداث التاريخية وأسباب النجاح النسبي للتجربة والتي كانت نقطة انطلاقها في عام 2001 م. عندما قررت مجموعة من نواب حزب الفضيلة الإسلامي التمرد على زعيم الحزب الدكتور نجم الدين أربكان وإنشاء حزب جديد هو العدالة والتنمية ..
ويظن البعض أن هذا الانشقاق كان مجرد اختلاف في التكتيك الانتخابي أو المسمى الحزبي لكنه في الحقيقة كان تغييرا كبيرا في الأفكار والرؤى الأساسية قبل أن يكون تطويرا في ممارسة السياسة مما أثار غضب أربكان الذي وصف هؤلاء المنشقين بأنهم خونة للمشروع الإسلامي وأنهم عملاء للغرب والصهاينة ..
والدكتور أربكان هو الأب الروحي لمدرسة الإسلام السياسي في تركيا حيث كان أكاديميا وأستاذا جامعيا ينهج النهج التقليدي الذي يمارس السياسة على أساس المبادىء فوضع البرامج السياسية ذات الشعارات الإسلامية وأسس في سبيل ذلك عددا من الأحزاب كلما أغلق له حزب انشأ الآخر (حزب النظام ـ حزب السلامة ـ حزب الرفاة ـ حزب الفضيلة ـ حزب السعادة) ..
وطوال ثلاثين عاما كان أربكان يتعاون مع التيارات الإسلامية المختلفة مثل الصوفية والنورسية مخاطبا الكتلة الإسلامية لكن لم يستطع تحقيق أغلبية انتخابية طوال تاريخه لأن هذه الكتلة البشرية ظلت ثابتة لا تزيد فكان دائما يشارك في حكومات ائتلافية وحاول تطبيق مبادئه (مثل قانون تحريم الماسونية وسحب الثقة من أحد وزراء الخارجية المعروف بتأييده إسرائيل ومشروع الدينار الإسلامي وتأسيس مجموعة الدول الإسلامية الثمانية الكبرى) ..
لكن عند تأسيسه لحزبه الأخير فوجىء بهذا الانشقاق الذي حدث من شباب الحزب بزعامة أردوغان الذي لم يكن أكاديميا وإنما كان أقرب للشعبوية خاصة مع احتكاكه بمشكلات الناس من خلال عمله في بلدية إسطنبول وكانت نظرة الشباب تتلخص في مجموعة من الأفكار منها أن العمل السياسي ليس مجال تطبيق المبادىء والقيم ولكنه مجال تطبيق المصالح المباشرة للناس حيث يجب أن يعبر الحزب عن متطلبات الناس سواء كانوا إسلاميين أو غيرهم ..
وفي سبيل تحقيق ذلك تبنى الحزب الجديد فكرة إحياء التراث العثماني من جانبه القومي وليس الإسلامي حيث الهدف السياسي العام هو نهضة الدولة التركية ولذلك فالحزب يفضل التحالف مع الأحزاب القومية حتى وقتنا هذا وبذلك استطاع اجتذاب كتلة انتخابية تتجاوز نصف الناخبين الأتراك وهو ما لم ينجح فيه أربكان أبدا كما تبنى الحزب اتجاها علمانيا صريحا يزيد من وتيرة الارتباط بالقارة الأوروبية خاصة في المجال الاقتصادي والتركيز على برامج عملية محددة وواضحة وبراجماتية تتبنى اقتصاديات السوق الرأسمالي القائم على الدعم الحكومي المباشر وهو ما ساعده على تحقيق طفرة اقتصادية ثبتت دعائم حكمه حتى يومنا هذا ..
ونتيجة الخلط بين الأفكار العقدية الدينية والرؤى السياسية تنشأ مشكلات كبرى في عقول البسطاء من جمهور الصحوة الإسلامية مما يؤدي إلى انحراف بوصلة التفكير نحو سذاجة الطرح وحيرة الفكر .. وأبرز مثال على ذلك هو الموقف من إيران حيث يربط الكثيرون بينها وبين التشيع وإلصاق كل نقيصة بها ووصلت ذروة الأمر عند البعض إلى اتهام إيران بأنها كانت وراء (حملة تمرد) التي كانت مقدمة لإسقاط حكم الإسلاميين في مصر وهو ما لا أصل له ولا فصل ..
ولذلك لا يصدق بعضهم أن هناك عداء بين إيران وإسرائيل ولا يريد أن يعترف أن إيران تناطح أمريكا وتسعى لتكون دولة قوية لها ثقلها الإقليمي والدولي .. وبعضهم كان ينظر إلى معارك حزب الله مع إسرائيل على أنها تمثيلية وبعضهم يرى أن حركة حماس في غزة مضطرة لقبول التبرعات الإيرانية بسبب الحصار الخانق فقط .. ولا شك أن تأثير الأفكار السلفية يلعب دورا كبيرا في انحراف تلك البوصلة عن التفكير السياسي السليم القائم على العقل والمنطق والمصلحة السياسية ..
وهناك بالطبع ارتباط بين المذهب الشيعي والدور السياسي الذي تلعبه إيران وهي لم تنكر ذلك فهي تعلن أنه مذهبها الرسمي وهي منحازة بصورة مؤكدة لكل طوائف الشيعة في الوطن العربي (حزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق ونظام الأسد العلوي في سوريا والحوثيين الزيدية في اليمن) لكنها أيضا تدعم حركة الجهاد الإسلامي في فلسطين وبعض الفصائل في أفغانستان وأيضا دعمت أرمينيا المسيحية ضد أذربيجان الشيعية ودعمت الأكراد السنة ضد نظام صدام ..
وليس الأمر قاصرا على الجمهور ضعيف الثقافة وإنما وصل الأمر إلى قيادات الحركة الإسلامية العاملة في المجال السياسي العام .. ولعلنا نذكر ذلك التراشق الحادث في الصحافة بين الأستاذ يوسف ندا والدكتور محمود غزلان بسبب تباين الموقف من إيران ما بين التعامل السياسي القائم على المصالح أو المفاصلة العقائدية القائمة على العداوة .. والحل الوحيد في سبيل اعتدال البوصلة هي تغليب المصلحة الوطنية العربية في التعامل مع ملف إيران بعيدا عن أوهام المذهبية وخرافات المؤامرة.
ومن أوجه انحراف بوصلة التفكير هو الازدواجية في المعايير عند ممارسة العمل السياسي ، مثال ذلك موقف بعض الإسلاميين من المشاركة الانتخابية في ظل اضطهاد طائفة أخرى منهم .. مثال ذلك أنه على مدار ثلاثين عاما من حكم مبارك تعرضت الجماعة الإسلامية لحملة شرسة من القمع بسبب مواجهتها المسلحة للدولة ومخالفتها للقانون فتم اعتقال أكثر من ثلاثين ألف شخص لسنوات طويلة في ظروف لا آدمية لدرجة وفاة الكثير منهم بسبب الأمراض الجلدية متعرضين لأبشع أنواع التعذيب البدني والنفسي كما تم اعتقال مئات الزوجات والأمهات واغتصابهن أمام أزواجهن وذويهن وتعرض عدد كبير من قيادات الجماعة وكوادرها للتصفية المباشرة مثل الدكتور علاء محيي الدين وعبد الحارث مدني وعشرات غيرهم حتى صار هدف قيادات الجماعة في النهاية أن يتم الإفراج عن المعتقلين في مبادرات المراجعة وتكرر الأمر مع أهالي سيناء من الاعتقال للآلاف والحجز التعسفي للنساء على مدار أربع سنوات متصلة ..
ورغم كل ذلك كانت جماعة الإخوان المسلمين تدخل النقابات المهنية المختلفة وتدخل البرلمان عام 87 والمحليات عام 92 وانتخابات 95 وشاركت في مجالس 2000 و 2005 بل كانت تتجنب منافسة قيادات الحزب الوطني في دوائر بعينها في تنسيق غير مباشر رغم هزلية المشهد الانتخابي كله من الأساس لأن ذلك ما كانت تقتضيه طبيعة الممارسة السياسية ، والآن يعتبون على كل من يختار المسار السياسي والاجتماعي المتاح بحجة الانقلاب على الشرعية رغم أن السيسي هو مبارك لكن في عصر الفضائيات والانترنت حيث لا يوجد أي فارق جوهري بين النظامين وهو الأمر الذي لا يمكن فهمه في ظل غياب أي رؤية مستقبلية واضحة عند الإخوان اللهم إلا المصالحة مع النظام التي تدور أحداثها في الكواليس ويتم نفيها من الطرفين في العلن !!
وانحراف البوصلة ليس قاصرا على الإسلاميين وحدهم بل أيضا عموم المواطنين الذين غلبت عليهم روح المكايدة السياسية ، فجأة أصبح الجميع بعد الثورة يفهم في السياسة بعد أن كنا في الماضي نكاد نقبل أرجلهم حتى يذهبوا إلى اللجنة الانتخابية ويمارسوا حقهم الطبيعي .. كل الشعب أصبح له موقف سياسي حتى العامة والدهماء والغوغاء والجهلة .. وطبعا كانت موجة الهجوم كاسحة على التيار الإسلامي سواء في الإعلام أو في الشارع وهو الأمر الذي كنت أجده غريبا جدا بسبب قدم العمل الإسلامي وتجذره في مصر حيث لا يمكن استيعاب هذا الانهيار في الشعبية بعد سنة واحدة من تجربة الحكم ولا يمكن تفهم الفرح الشديد عند الناس بما حدث لهم من قمع.
وقد يكون من المفهوم تمسك النخبة وبعض قطاعات المجتمع بالنظام القديم وفرحهم لإزاحة الإسلاميين من المشهد لأنهم مرتبطون بمصالح خفية مثل العلاقات المالية والمناصب والتسهيلات الاقتصادية من أراضي ومشروعات أو عمل البعض في أجهزة الدولة العليا ومرافقها الحساسة وأجهزتها السيادية دون وجه حق لهم ولأبنائهم وهؤلاء يرفضون قطعا أي إصلاح يهدد مراكزهم وثرواتهم سواء كان إسلاميا أو غيره ولذا إذا تحدثوا في الإعلام ظهرت الكراهية في وجوههم .. ” ولتعرفنهم في لحن القول “.
المشكلة ليست في كل هؤلاء وإنما في المواطن البسيط الذي لا يستفيد أي شيء من الأنظمة وإنما يعيش في فقر وجهل ومرض وظلم ثم يسلم أذنه للإعلام فيحركه يمينا ويسارا .. في يوم وليلة ظهر مصطلح (سيساوية) يعني المنتسبين للسيسي وهو ما لم يحدث مع مبارك ولا السادات ولا الملك فاروق ولا حتى محمد علي (مفيش مباركيين أو ساداتيين .. ومصطلح الناصريين ظهر بعد وفاة عبد الناصر) .. في نفس التوقيت صار الجميع يسمع أغنية (تسلم الأيادي) والتي فاقت في شهرتها أغاني الفيديو كليب.
إن العمل الدعوي مع النخبة الفاسدة وأصحاب المصالح لم يكن ليجدي معهم شيئا حتى لو أظهروا تعاطفا مؤقتا مع الفكرة الإسلامية لأنهم يدافعون عن جوهر وجودهم وحصيلة سرقتهم .. لكن لا يمكن إعفاء الإسلاميين من فشل العمل الدعوي مع بسطاء الناس حيث كان المجال مفتوحا طيلة ثلاثين عاما لا يحول بينهم وبين جموع الشعب شيء وهو ما يعني أن هناك خللا واضحا في فهم طبيعة المجتمع وقصورا شديدا في مهمة التوعية وهو الأمر الذي يحتاج إلى إعادة نظر ومراجعة جادة.
وعندما نشرت نعيا للمفكر الإسلامي الأستاذ محمد شحرور إذا بأحدهم يعلق قائلا : ” إنه ليس مفكرا وليس إسلاميا وإنما هو مبتدع وضال وقد هلك واسترحنا منه ” ، فقمت على الفور بمسح التعليق وإلغاء الصداقة (وهي أول مرة أفعلها على صفحات التواصل الاجتماعي) .. ودائما ما كنت أرحب بالآراء المخالفة ولا أقوم بمحو أي تعليق حتى لو كان متجاوزا إلا في هذا الموطن حيث لا يسعنا إلا احترام هيبة الموت وجلاله وتكريم تلك الروح التي صعدت إلى بارئها وذكر صاحبها بالخير وحسن الظن حتى لو كنت مختلفا مع أفكاره وآرائه ..
وبعد أيام معدودة توفيت الناشطة نورهان نصار فإذا بالبعض ممن لا حظ لهم من علم أو فقه ينكر على من دعا لها بالرحمة متعللا بأنها ملحدة دون أن يطلب أحد شهادته أو رأيه وهو يظن بذلك أنه يدافع عن الدين إذ يشن هجومه على الجانب الضعيف الذي لا يستطيع ردا عليه أو دفعا عن نفسه وقد صار تحت التراب .. بينما هو نفسه لا يستطيع أن ينتقد حاكم الدولة التي يعيش فيها (إن كان في الشرق) أو يهاجم القيم العلمانية المخالفة لمعتقده (إن كان في الغرب) إما خوفا من الأذى أو طمعا في المحافظة على مكاسبه ..
ولهؤلاء المتنطعين بالدين أقول لهم إن الأصل عندنا هو أن نرجو رحمة الله لكل إنسان على وجه الأرض مهما كانت معتقداته وأفكاره التي يؤمن بها وهذه رسالة المتدين الحق .. وهي فطرة إنسانية في النفس السوية المحبة للخير لكل الكائنات فإن غابت عنك هذه الفطرة فليكن سلوكك قائما على الأدب والذوق وحسن المجاملة كما يفعل أهل الرقي فإن غاب عنك ذلك أيضا فتعامل بالسياسة والذكاء كما يفعل العاقل اللبيب فإن غاب عنك ذلك أيضا وسعك السكوت بدلا من أن تكتسب المزيد من الأعداء وتخسر المزيد من الأصدقاء ..
هل أتاك حديث النكبات التي حلت بالبعض بسبب الغفلة عن أساسيات الدعوة والتعالي على الناس واتهام المخالفين بكل نقيصة وكأنهم يملكون مفاتيح الآخرة .. ألم تر إلى ما يجلبه التشدد والجمود من انفضاض الناس من حولك وكفرهم بما تدعو إليه .. ألم تسمع قوله تعالى : ” فذكر إنما أنت مذكر لست عليهم بمسيطر ” .. ألم تقرأ كتابا من قبل بعنوان ” كيف تكسب الأصدقاء وتؤثر في الناس ” .. ألم تكن الفرصة متاحة للكثيرين أعواما طوالا لعرض رأيهم وبث فكرهم فلم يؤدوا شكرها وبدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار !!