2 / مآثر قريش

أثناء فتح مكة اقترب رجل من النبي (ص) يكلمه لكنه كان يرتعد مهابة من شخصه فقال له النبي : (هون عليك فإني لست بملك .. إنما أنا ابن امرأة من قريش كانت تأكل القديد) وهو تعبير عن البساطة والتواضع لكنه في نفس الوقت يعكس الانتماء القبلي الذي هو المؤثر الأول في حياة كل إنسان لأنه مرتبط بنمط الحياة الذي يسلكه في معيشته ويحكم علاقاته وسلوكياته ، وقد قضى النبي (ص) حياته الأولى في مكة التي تحمل الطابع الديني والتجاري في نفس الوقت حيث أثر عن سكانها جميعا الاشتغال بالتجارة والبراعة فيها حتى جاء ذكر ذلك في نبوءات عرافي اليمن في المقولة المشهورة : (لمن ملك ذمار .. لحمير الأخيار .. ثم للحبشة الأشرار .. ثم لفارس الأحرار .. ثم لقريش التجار) .. وربما قيلت هذه العبارة بعد ظهور الإسلام في اليمن لكنها تحمل دلالة واضحة على السمت العام الذي عرف به سكان هذه البلدة في ربوع الجزيرة العربية كلها من أقصاها إلى أدناها.

وقد ولد النبي (ص) في هذه القبيلة التي تجمع بين الريادة الدينية وميراث الرئاسة لذلك كان أهلا للرسالة السماوية والقيادة السياسية معا وهو الأمر الذي نلمسه عند متابعة أحداث السيرة ويعطينا فكرة كبيرة عن ماهية السياسة النبوية التي نجحت في توظيف الواقع القبلي لخدمة الدين الجديد وظل أثرها ممتدا طوال العهد النبوي بل وفي عهد الراشدين والأمويين والعباسيين والفاطميين والأدارسة حيث انتماء الحكام لقبيلة قريش طلبا لشرعية حكمهم ، ولعلنا نعلم جيدا أنه في غزوة حنين وقع جيش المسلمين في كمين نصبته هوازن عند مدخل الوادي في ساعة الفجر فحدث اضطراب كبير تراجعت معه القوات بغير نظام وأوشكت الهزيمة أن تحل بهم لولا ثبات النبي (ص) مع نفر قليل من أصحابه استطاعوا تحويل الهزيمة إلى نصر ساحق عندما تجاوبوا مع النداء : (أنا النبي لا كذب .. أنا ابن عبد المطلب) حيث أمر النبي عمه العباس بتكراره لأنه جهير الصوت.

وعندما نتأمل ذلك النداء الذي نادى به النبي (ص) في ساعة البأس نجده يتكون من شقين .. أولهما معني بصدق النبوة وهو أمر مفهوم في حق الرسول القائد .. لكن لماذا أردف النبي بالشق الثاني الذي ينتسب فيه لجده عبد المطلب .. بالطبع لم يكن القصد هو الفخر بالأحساب والأنساب ولا هو دعوة للعصبية المذمومة وإنما كان هذا النداء جريا على مقتضى الحال في المعارك في ذلك الزمن ، في وقتها كانت القوة الضاربة هي القبيلة .. والقبائل هي التي تولت حماية الإسلام في أول أمره .. فقد وقفت قبائل بني هاشم وبني المطلب (مسلمهم وكافرهم) موقفا حازما في حماية النبي (ص) عندما حوصر في شعب أبي طالب وقامت الأوس والخزرج (مسلمهم وكافرهم) بالدفاع عنه ضد الناس جميعا بل إنه لما رأى مشية أبي دجانة المتبخترة بين الصفوف يوم أحد أقرها في هذا الموطن.

وعندما ينتسب النبي إلى عبد المطلب دون غيره من أجداده فهو يعلن أحقيته في قيادة قريش وحلفائها حيث كان عبد المطلب سيد قومه المطاع في أمور الدين والدنيا بوصفه أحد أهم أحفاد قصي بن كلاب زعيم مكة الأهم .. ولذا كان مصعب بن عمير يحمل لواء الجيش لأنه من بني عبد الدار بن قصي (وهم المكلفون باللواء والحجابة ودار الندوة) فلما استشهد كان النبي (ص) يدفع اللواء إلى علي بن أبي طالب (أحد رجال بني عبد مناف بن قصي) أو الزبير بن العوام (من بني أسد بن عبد العزى بن قصي) ، وطوال العهد النبوي كانت التقاليد القبلية يوضع لها كل اعتبار فكانت راية المهاجرين مع أحد ساداتهم مثل أبي بكر (من قبيلة تيم) وعمر (من بني عدي) وأبو عبيدة (من بني الحارث بن فهر) كما كانت راية الأوس مع سعد بن معاذ ثم أسيد بن حضير وراية الخزرج مع سعد بن عبادة ثم ابنه قيس بن سعد .. وفي فتح مكة كانت كل قبيلة من العرب تحمل رايتها الخاصة لأن الناس لا تقاتل إلا هكذا.

وقد كانت الخلافة في المهاجرين لأن العرب لا تدين إلا لهذا الحي من قريش كما قال الصديق للأنصار يوم السقيفة .. ولذا فإن كل وسيلة لحماية الدين فهي مشروعة سواء كانت القبيلة أو القومية أو أي فكرة قادرة على جمع الناس تحت راية واحدة تدفع الظلم وتحفظ الحياة وتحمي الثغور وتنهض بالأمة .. لقد كان النبي (ص) سياسيا ناجحا كما كان نبيا مرسلا لأنه كان عالما بمقتضى الحال وكان رده على الحباب بن المنذر في بدر وخيبر تعبيرا صادقا عن ذلك عندما أجاب عليه بقولته المشهورة : ” بل هو الرأي والحرب والمكيدة ” ، ذلك أن النبوة اختيار من الله لا تشترط زعامة قبلية ولا مهارة سياسية إذا كانت المهمة مقتصرة على البلاغ مثل الكثير من رسل الله السابقين أما إذا كلف الرسول بمهمة حماية الدعوة والدفاع عن الدين فإن من مقومات ذلك المكانة القبلية والريادة الاجتماعية التي تدفع الناس للانضواء تحت رايته والتسليم لقيادته.

ولا شك أن الأحداث السياسية التي عاصرها النبي (ص) قد تركت لديه خبرة كبيرة لأنه شهد حرب الفجار وهو الحدث الأهم في تاريخ مكة القريب حيث ترتبت عليه أوضاع جديدة نتيجة إعادة توزيع مراكز النفوذ القبلي داخل قريش كما اشترك بالفعل في العمليات الحربية وأخبر عن ذلك بقوله : ” قد حضرته مع عمومتي ورميت فيه بأسهم وما أحب أني لم أكن فعلت ” وقال : ” ما سرني أني لم أشهده إنهم تعدوا على قومي عرضوا عليهم أن يدفعوا إليهم البراض صاحبهم فأبوا ” ، وشهد النبي (ص) أيضا حلف الفضول الذي قامت فيه بعض عشائر قريش برد الظلم والتعاهد على نصرة المظلوم في بلدهم حيث أخبر عن ذلك بقوله : ” لقد شهدت مع عمومتي حلفا في دار عبد الله بن جدعان ما أحب أن لي به حمر النعم  ولو دعيت به في الإسلام لأجبت ” حيث يتبدى حرص النبي (ص) على كل أمر فيه مصلحة قومه بل والمشاركة الإيجابية الفعالة مع عمومته في كل موطن.

ولم تجتمع مآثر الشرف في شخص واحد بعد عبد المطلب حيث توزعت الرئاسة بين قبائل قريش ونالت كل عشيرة قدرا من التميز على قدر ما حوت من وجهاء وسادات وهو ما رسم معالم الوزن النسبي لكل منها عند ظهور الإسلام ، وقد انتقل أمر السقاية والرفادة إلى الزبير بن عبد المطلب الذي تولى زعامة بني هاشم وكانت له مآثر عدة رغم أنه لم يكن من الموسرين فهو الذي قاد عشيرته في حرب الفجار وهو الذي دعا إلى حلف الفضول عندما سمع استغاثة رجل غريب يشكو العاص بن وائل السهمي الذي منعه ثمن بضاعته ، وبعد وفاته تولى مكانه عبد مناف بن عبد المطلب (أبو طالب) وكان ذا مكانة كبيرة في القوم وكان مشتغلا بالتجارة لكنه لم يحقق ثراء كبيرا بل اضطر تحت ضغط الديون للتنازل عن السقاية والرفادة إلى أخيه العباس والذي حقق كسبا جيدا في مجال التجارة هو وأخوه عبد العزى بن عبد المطلب (أبو لهب) حتى صارا من أغنياء قريش المعروفين.

وقد تولى حرب بن أمية بن عبد شمس زعامة قريش في الشئون السياسية بحكم السن خاصة بعد أن قاد قريش كلها في حرب الفجار حيث قررت العشائر حماية القاتل بل والاحتفاظ بالقافلة المنهوبة في مكة وتحمل تبعات ذلك ، وقد أسفرت تلك الحرب عن رسالة ضمنية موجهة للملك النعمان والفرس من ورائه بأن إرسال قوافله من الحيرة إلى اليمن مباشرة غير مأمونة العواقب وذلك لأن سيطرة الفرس على اليمن قد أضعفت مركز قريش التجاري فجاءت هذه الحادثة لتعيدها لصدارة المشهد رغم الهزيمة العسكرية ، وبعد موت حرب بن أمية آلت زعامة عبد شمس إلى اثنين من سادتها .. سعيد بن العاص بن أمية (أبو أحيحة) الذي كان من الأثرياء وله أملاك في مكة والطائف وعتبة بن ربيعة بن عبد شمس والذي لم يكن موسرا لكنه كان معروفا بالحكمة وسداد الرأي خاصة بعد دوره الكبير في إنهاء حرب الفجار حيث خرج من بين الصفوف داعيا إلى حقن الدماء وتسوية النزاع.

وفي بني أسد بن عبد العزى اجتمعت الزعامة في أكبر بيت فيها وهو بيت خويلد بن أسد (والد أم المؤمنين خديجة) والذي قاد العشيرة في حرب الفجار وقتل في أحد معاركها كما قتل ابنه العوام بن خويلد ، وتولى القيادة في الحرب بعده عثمان بن الحويرث بن أسد والذي كان رفيق ابن عمه ورقة بن نوفل بن أسد في رحلة البحث عن الدين الحق حيث قضى فترة طويلة في الشام ثم تنصر وأقام علاقات جيدة مع قيصر الروم وعرف بلقب (البطريق) ، وقد عاد إلى قريش عارضا عليهم اقتراح تتويجه ملكا على مكة من قبل الروم فيأمنوا بذلك تهديدات الفرس وعملائهم ويعيشوا في حماية دولة عظمى وتزدهر تجارتهم مع الشام فلا يهددها أحد لكن اقتراحه هذا قوبل بالرفض من زعماء قريش الذين أرادوا الحفاظ على الحياد بين الدولتين الكبيرتين ، ورحل عثمان إلى الشام حيث كان من أهم أسباب الرفض أن عشيرته نفسها لم تتبن الأمر وأعلن زعيم العشيرة الجديد ابن عمه الأسود بن المطلب بن أسد في موسم الحج أن قريشا لقاح لا تملك ولا تملك.

وعلى رأس ميمنة الجيش في حرب الفجار يأتي عبد الله بن جدعان التيمي سيد بني تيم بن مرة وأحد أغنياء قريش المعدودين المعروف عنهم الكرم والجود والنجدة والمروءة وقد تكفل وحده بتجهيز مائة بعير عليها مائة مقاتل بكل أسلحتهم وما يلزمهم من عتاد (يروى عن سبب ثرائه أنه عثر على كنز مدفون في مقبرة من مقابر ملوك جرهم الأقدمين ثم استثمر المال بنجاح في تجارة الرقيق) ، وفي داره الفخم عقد حلف الفضول لنصرة المظلوم وإحقاق الحق حيث استجابت له عشائر بني هاشم وبني المطلب وبني تيم وبني أسد وبني زهرة وبني الحارث بن فهر (وهي مكونات حلف المطيبين القديم بدون عشائر عبد شمس ونوفل) ، وقد بلغ مكانة كبيرة لدى العرب كافة حتى إن الحارث بن ظالم المري استجار به في مكة بعد أن قتل خالد بن جعفر الكلابي عند الحيرة فأجاره فترة من الزمن حتى يؤمن نفسه عند  العرب كما كانت جميع القبائل تستأمنه على سلاحها في سوق عكاظ.

وعلى ميسرة الجيش في حرب الفجار يأتي هشام بن المغيرة أحد أهم سادة قريش وزعيم أكبر بيوتها (عائلة المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم) وهو من المعروفين بإطعام الطعام حتى أطلق عليه اسم (زاد الركب) وكان سيد قريش بعد حرب الفجار لما له من دور فعال في الحرب و ما له من مال وبنين حتى إن قريش أرخت بموته سبع سنين حتى إذا بنيت الكعبة أرخوا بها وهو الرجل الذي جعل عشيرته من أقوى عشائر قريش ، وساد القبيلة بعده أخوه الوليد بن المغيرة الذي عرف بين قومه بلقب (العدل) لأنه كان يعدل قريشا كلها فكانت قريش تكسو الكعبة جميعها عاما ويكسوها الوليد وحده عاما من فرط ثرائه حيث كان يملك مزارع الثمار والأشجار الشاسعة في الطائف وبلغ من نجاح تجارته أنه وأولاده كانوا لا يضطرون للسفر مثل بقية قريش وإنما يملكون من المال ما يستأجرون به الرجال ويحقق لهم المكاسب العظيمة وكان الوليد أسن وجهاء مكة عند ظهور الإسلام.     

أما في سائر عشائر قريش فقد احتفظت عشيرة بني عبد الدار بالحجابة واللواء ودار الندوة حيث كان اللواء شرف تحمله كل عائلاتها في الحروب بينما كانت سدانة الكعبة في عائلة عبد الله بن عبد العزى بن عثمان بن عبد الدار (أبو طلحة) وهو حامل المفتاح بينما كانت دار الندوة من نصيب عكرمة بن هاشم بن عبد مناف بن عبد الدار وكلاهما من قادة العشيرة في حرب الفجار ، وهكذا في كل عشيرة ظهر زعيم أو أكثر تلتف حوله العائلات خاصة إذا كان من قادة هذه العشائر في أهم معركة خاضتها قريش وهي بالطبع حرب الفجار مثل عبد يزيد بن هاشم بن المطلب في بني المطلب والمطعم بن عدي بن نوفل في بني نوفل والعاص بن وائل وقيس بن عدي في بني سهم وأمية بن خلف في بني جمح وزيد بن عمرو بن نفيل في بني عدي ومخرمة بن نوفل في بني زهرة وعبد الله بن الجراح في بني الحارث بن فهر وضرار بن الخطاب بن مرداس في بني محارب بن فهر وعمرو بن عبد شمس في بني عامر بن لؤي.

ونلاحظ أن الزعامة في قريش كانت أول الأمر تحمل طابعا دينيا ثم بدأت تأخذ طابعا ماليا حيث سعت القبائل التي لا تملك مميزات دينية للاعتماد على سطوة المال والعدد لكنها لم تستطع أن تطاول أهل الشرف من أبناء قصي خاصة بيت عبد المطلب بن هاشم الذي يتولى مهمتي الرفادة والسقاية والتي أتاحت لهم بالطبع التواصل مع كافة القبائل العربية من حجاج البيت لأن هذه الخدمة لها مردود عملي ملموس في الموسم ، وبينما اقتصر نفوذ أصحاب الأموال والعتاد على مكة وحدها كان صيت بني هاشم معروفا في جزيرة العرب كلها وأضحت لهم مكانة روحية كبيرة وضعتهم في موضع الزعامة الدينية رغم توزع الرئاسة السياسية لقريش على كافة القبائل بل إن تأثير كرم الضيافة وخدمة المسافر تفوقت بالطبع على حجابة البيت وحمل اللواء ودار الندوة والذي احتفظ به بنو عبد الدار لأنها جميعا خدمات محلية مرتبطة بأهل مكة بينما كانت وظيفة بني هاشم مرتبطة بالمناسك الدينية التي يقدسها العرب كافة.