3 / فكر جديد

حاجتنا إلى اجتهاد فقهي جديد

أولا / من الأهمية دراسة تاريخ ” علماء الإسلام ” الذين تزعموا الحركات السياسية والفكرية حيث يجب فهم واستيعاب العوامل المؤثرة في تكوين الشخصية وصناعة الفكر وبالتالي تأثير ذلك على المواقف السياسية .. وهنا يجب أن نفرق بين مصطلحين أولهما هو مصطلح (علماء الإسلام) والثاني مصطلح (رجال الدين) لأن الإسلام في حقيقته يعترف بأهل العلم ويضع قدرا للعلماء لكنه لا يكرس إطلاقا لفكرة رجال الدين (الكهنوت) وإنما جرى تحويل العلماء الى كهنة بمرور الزمن وساعد على ذلك رغبة الحكام في السيطرة على الناس ثم جاءت الصوفية وطرقها لتدفع في اتجاه التبعية والتقليد للشيوخ الذين لا حظ لهم من علم أو فقه.

ثانيا / الدور السياسي للعلماء نسبي وهناك من الأئمة الكبار من وقف وقفات سياسية قوية مثل أبي حنيفة ومالك والشافعي وابن حنبل وابن تيمية والعز بن عبد السلام وغيرهم لكن في الأغلب لم يحدث أن قام واحد منهم بقيادة الناس لعمل تغيير شامل حيث إن ذلك مرتبط بمهارة القدرة على الزعامة والتي لم تكن من نصيب العلماء وإنما احتاجت أشخاصا من ذوي المؤهلات القيادية مثل كل الدعاة الذين أسسوا الدول العباسية والفاطمية والخوارج والمرابطين والموحدين وغيرها فليس كل الدعاة يصلحون للعمل السياسي لكنهم يصلحون للتجديد الفكري إذا امتلكوا شجاعة نقد الذات مثل ابن حزم والأشعري والغزالي حيث أسفر اجتهادهم عن إنشاء مدارس فكرية غيرت الواقع السياسي.

ثالثا / الاتباع والتقليد كان آفة الأمة الإسلامية .. ورأيي أن الاجتهاد يجب أن يكون قاصرا على زمان ومكان محدد يعني مثلا : ابن تيمية وفتاواه تصلح في سلطنة المماليك القرن الثامن لأنها نشأت لتلبي احتياجا ملحا في هذا الظرف الزماني والمكاني فإذا حاولت تطبيقها مثلا في الهند القرن العاشر ستحدث ضررا لا أول له ولا آخر لاختلاف الظروف كليا وجزئيا ، وكذلك ابن عبد الوهاب الجزيرة العربية القرن الثاني عشر تكون الأفكار مقبولة بل ورائجة وتسد احتياج الناس لكن مثلا عند تطبيق نفس الأفكار في القرن التالي له في أقاليم الدولة العثمانية تم اعتباره من الخوارج لأنه اجتهاد غريب عنهم تماما .. ومشكلة كثير من البشر هي دائما التعلق بأهداب الماضي ورفض التجديد (ليس الأمر مقتصرا على الإسلاميين فقط ولكن أيضا عرفت بعض الشيوعيين ممن يقدس كلام ماركس رغم بعد الزمان والمكان) ..   

رابعا / مسألة الرأي السياسي لعالم الدين مرتبطة بالتطور البشري العام لأنه في الزمن القديم عند المسلمين وغيرهم كان العلماء موسوعيين حيث يجمع الواحد منهم بين الفقه والفلسفة والكيمياء والطب وغيرها وبالتالي لديه القدرة على صناعة رؤية فيما يتعلق بالسياسة لكن مع وجود التخصص في العلوم ابتعد علماء الشريعة عن هذا المجال وهو ما أوجد لنا هذه النماذج المشوهة سواء عند السلفيين أو غيرهم بل إن بعض نجوم الدعاة الجدد من الشباب ظهرت عليهم أمارات الجهل السياسي التام وليس فقط قلة العلم لأن من أهم أسباب امتلاك الرؤية السياسية هي الممارسة العملية للسياسة بجانب العلم الشرعي مثل ابن سينا وابن حزم وابن خلدون وغيرهم ممن تولى مناصب الوزارة وجمع بين السيف والقلم.

خامسا / ثقافة الثورة بالطبع غائبة عن أغلب المذاهب التقليدية بل معظم الجماعات الإسلامية تؤمن بسيادة المتغلب وفقه (الفتنة) وهذا راجع إلى السبب السابق وهو ضعف الفقه السياسي وكذلك عدم وجود الرغبة في التجديد بل وغياب القدرة على فعل ذلك ويتم التمسح بالمذاهب القديمة والأحاديث الضعيفة والموضوعة لتكريس الانهزامية رغم وجود فتاوى صريحة من علماء ثقات بما يخالف ذلك ، وليس معنى ذلك الدعوة إلى الثورة الدائمة لكن التعامل يجب أن يخرج من دائرة الفقه إلى دائرة السياسة مع ضرورة وجود علم جديد هو (علم الفقه السياسي) والذي يجب أن يخرج تماما من عباءة كتاب المواردي (الأحكام السلطانية والولايات الدينية) وهو الكتاب الأثير عند طوائف عدة من الإسلاميين حتى يومنا هذا.

سادسا / يجب أن يكون مقياسنا في الحكم على إسلامية الحكام والدول وفق مقتضيات العدل الذي هو قيمة إنسانية عامة لأنه أهم من إقامة الحدود وحماية الثغور وهذا ما يحتاج إلى فقه جديد لا يستند إلى فكرة (الإجماع) التي هي فكرة مذهبية تبنتها بعض بعض المذاهب الفقهية في الماضي لكن الحقيقة أنه لم يحدث إجماع في تاريخ الإسلام إلا على الأركان الخمسة وما هو معلوم من الدين بالضرورة ونقل بالتواتر ، وهذا يتطلب إعادة ضبط المصطلحات الفقهية وفق علم الفقه السياسي المشار إليه حتى يتم بدقة تحديد معاني كلمات مثل (الخروج على الحاكم .. السمع والطاعة .. مفهوم البيعة .. إلخ) والتي يجب استبدالها كليا بمصطحات ناشئة في علم الفقه السياسي المقصود.

وقد قضيت فترة طويلة من حياتي متابعا الحركات الإسلامية بتنوعاتها المختلفة كما أن تعليمي الابتدائي الأساسي كان في المدارس الدينية السعودية بالإضافة إلى النشأة في بيت ينتمي للأزهر .. لذلك أنا لا أتحدث عن كلام نظري بحت وإنما نابع من تجربة عملية استغرقت الكثير من جهدي ووقتي وتركت لدي خبرة لا بأس بها فيما يتعلق بالشأن الإسلامي.

أثناء التجربة العملية حرصت على القراءة في كل المجالات والانفتاح على كل الآراء مهما كانت وكذلك التواصل مع الجميع مهما كانت توجهاتهم الفكرية إلى جانب متابعة ما يحدث في مصر في الجوانب الثقافية والسياسية خاصة خلال الفترة من عام 2000 وحتى عام 2010 وانتهيت إلى فكرة مفادها أن التيارات الإسلامية الحالية تعاني من عوار فكري لا يجعلها مواكبة لمتغيرات العصر ولا تلبي تطلعات الأجيال القادمة.

في الفترة التي سبقت ثورة يناير (أي قبل الأحداث الساخنة) كنت قد توصلت إلى نتيجة هامة وهي حتمية ظهور فكرة إسلامية جديدة قادرة على سد الثغرة .. وكان السبب الأول في ذلك هو إعادة قراءة التاريخ من وجهة نظر محايدة بعيدا عن المدارس الحماسية ونظريات المؤامرة .. وقد أعلنت ذلك وكتبت عنه في وسائل التواصل .. لكن سخونة الأحداث بعد ذلك شغلت الجميع خاصة الانخداع اللحظي بارتفاع شعبية التيارات الإسلامية.

في الفترة من عام 2010 وحتى 2015 كتبت مجموعة من الموضوعات ضمنتها في كتابي (مقاصد الإسلاميين) حيث تناولت بالتحليل تطور الفكر الإسلامي ونشأة التيارات الإسلامية وتأثيرها على أجيال الشباب في الماضي والحاضر .. وقد حاولت في الكتاب أن أضع الخطوط العريضة للفكرة البديلة التي تنطلق من مبادىء العقلانية والوسطية والإسلام الحضاري والفكر المقاصدي.

أفكاري ليست محاولات تلفيقية ولا هي مواءمات فرضتها الظروف ولا هي رد فعل على ما أصاب البلاد في السنوات الأخيرة وإنما هي نابعة من فهم الإسلام من منبعه الصافي دون التأثر باجتهادات البشر في القرون السابقة والتي كانت في وقتها اجتهادات عظيمة لكن لم تعد تصلح لهذا الزمن .. ويشمل ذلك الإيمان بالحرية الإنسانية والعدل المطلق والنظام الديموقراطي إيمانا حقيقيا وليس إذعانا للظروف.

في إطار هذه المجموعة من الأفكار كان لا بد لي من تقديم العقل على النقل (حتى وإن أغضب مني الكثيرين) وذلك في التعامل مع النص القرآني وما يتبع ذلك من تغييرات في مفاهيم أساسية مثل الشريعة والدعوة والسنة بل تعدى ذلك إلى مجال الاعتقاد وأصول الفقه حيث تبرز الحاجة لتفسير جديد للقرآن يتجاوز عصر (الظلال) وما سبقه وكذلك القراءة المتأنية للسيرة النبوية.  

وأنا لا أشعر بالانهزامية أمام الحضارة الغربية بل إنني من أبنائها بحكم الأمر الواقع (رغم قسوة التعبير على البعض) لأنني أحترم العلم التجريبي الذي يظللنا بمنجزاته ويصبغ كل حياتنا من صغيرها لكبيرها .. ولا أرى أي تعارض بين العلم والدين ولا بين الحضارة الغربية وبين مذهبي في فهم الدين.

ورأيي أن نظرية التطور ترقى لدرجة الحقيقة العلمية على الأقل في تطبيقاتها العملية في الطب وعلوم الجينات .. والقرآن في فهمي ليس كتابا في العلوم ولا في التاريخ .. هو كتاب هداية وتربية .. وجميع ما ورد فيه يمكن حمله على (المجاز) بسبب طبيعته البلاغية وتعبيراته البيانية.

الآن أرى أننا بحاجة إلى صناعة تصور متكامل يشمل كل ما يتعلق بالدين وعلاقته بالحياة وليس مجرد أفكار متفرقة تعالج جزئيات معينة .. وكل همي هو المستقبل الذي سوف يعيش فيه أولادي ومثلهم أكثر من ثلاثين مليون طفل سوف يصلون إلى مرحلة الشباب في غضون بضع سنوات .. يجب أن يكون هناك طريق وسط واضح المعالم بين الإفراط والتفريط وبين التشدد من ناحية والإلحاد من ناحية أخرى.

معظم ما سلف من أطروحات حاولت تلمسها في كتاب (مقاصد الإسلاميين) وغيره من الكتب لكن لم ترق بعد إلى مستوى التصور المتكامل .. مع ملاحظة أن الكتب وحدها لا تصنع التغيير وإنما الجهد الجماعي المؤسسي هو النجاح الحقيقي لكنها خطوة أولية على كل حال.

وكتابي مقاصد الإسلاميين تمت كتابته على فترات طويلة .. وقد حرصت على عدم تغيير أي شيء على الكتابة الأولى بما في ذلك إضافة عناوين أو غيره لأن ما كتب يعبر عن تجربة شخصية وليس بحثا نظريا .. لذلك في الكتاب كثير من التكرار كما أن بعض الفقرات كتبت بأسلوب افتقد للترابط والتشويق لكن كل كلمة كانت مرتبطة عندي بموقف معين في حياتي العملية فلم أعدل الأسلوب حفاظا على الروح العامة التي كانت مهيمنة على تفكيري ساعة الكتابة الأولى .. لذا الكتاب خطوة على الطريق وليس التعبير النهائي عن الفكرة.     

والتعليق على المذاهب السلفية في الكتاب كان بكلمات مقبولة مع ملاحظة أن تعليمي الأول كان دينيا محضا .. لذلك أنا أعتبر هذه المذاهب محض اجتهاد صالح في زمن محدد ومكان معين لكنه غير صالح خارج هذا الإطار .. لكن في نفس الوقت أدرك أن السلفية أصبحت مدرسة كبيرة وفرضت نفسها فلا يجب تجاهلها .. أما عن مذهبي العقدي والفقهي فهو يقف منها كلها موقف النقيض ويختلف عنها كليا وجزئيا.

وعموما فكرة نقد الآخرين لم تعد مطروحة لدي لكني حرصت على عدم حذف أي كلمة لأنها كتبت في ساعة غضب .. وعندما عرضت بعض فصول الكتاب على والدي رحمه الله رفض نشره وقتها حتى لا يتخذ ذريعة للهجوم على كل الإسلاميين لكن الحقيقة أن الكتب لم تعد تملك هذا التأثير مثلما كان يحدث في الزمن الماضي .. وقد أردت بطباعة الكتاب مجرد توثيق الفكرة أما نشرها فله وسائل أخرى تواكب العصر.

وكلماتي عن الديموقراطية في الكتاب منقولة نصا من كتاب الدكتور يوسف القرضاوي وقد ذكرتها باعتبارها شرحا مفصلا لما دعا له الإسلاميون الجدد .. فهي مذكورة على سبيل الشرح لتطور أفكار الإسلاميين نحو الحداثة .. وقد عقبت في نهاية كلام القرضاوي في عشر نقاط أبين فيها نقاط التقائي معه لأنني أستفيد من الجميع دون تقليد بل حتى المعتزلة أنا لا أقلدهم وإنما أستفيد من تجربتهم الفريدة .. أما قناعتي النهائية فهي القبول التام بالديموقراطية وهو أمر لا مفر منه وإلا كان البديل هو الطغيان بصوره المتعددة.

وفي حديثي في الكتاب عن الكتابات التي تفوح برائحة الإلحاد فإنني لا أدعو إلى مصادرتها بل إنني قرات على سبيل المثال كل كتب سيد القمني واستمعت لفيديوهات حامد عبد الصمد ومحمد لمسيح وأحمد سعد زايد وإسلام بحيري وغيرهم .. لكن لا يمكن أن أعتبر ذلك تجديدا في الدين وإنما هي دراسات عامة لأناس مهتمين بالبحث العلمي والفلسفي فأنا أقبل نقدهم وأعطيهم الحرية الكاملة دون أي موانع بل أرحب بطرح هذه الأفكار والرد عليها كما فعل علماء الكلام في صدر الإسلام .. لكنها جميعا ليست من قبيل تجديد الدين لأن قناعتي أن الدين يجدده المؤمنون به فقط.      

والحوار الدائم يساعدنا على بناء منهج متكامل يمكنه التحول إلى فكرة ملموسة قادرة على التبلور في أرض الواقع .. وذلك لأن الحالة العامة للإسلاميين حاليا سيئة بل وتسير من انحدار لانحدار وتلقي بشباب الأمة في التهلكة فكريا وعمليا وفي أجواء من الشحن العاطفي الذي لا يستجيب لنداء العقل .. ولذا نحن في حاجة  لتأسيس مدرسة فكرية تتولى إنقاذ ما يمكن إنقاذه حتى لا يضيع المستقبل كما يوشك الحاضر على الضياع.

البكاء بين يدي زرقاء اليمامة

أمرتهموا أمري بمنعرج اللوى .. فلم يستبينوا الرشد إلا ضحى الغد

صح عن النبي (ص) أنه قال : ” إذا قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها ” .. وهي كناية عن فعل الواجب المطلوب على الفرد تعبدا لله دون انتظار نتيجة مثمرة ، ومن نعم الله على عباده المؤمنين أن فتح لهم باب العلم والعمل وذلك من خلال السير في ركب الفكرة الإسلامية التي لها الفضل الكبير في بناء الشخصيات وإصلاح المجتمع ودفع الظلم وإقامة الدين ، والموفق هو من سار في ركابها وحقق الأجر والثواب من خلال المشاركة الفاعلة في الأنشطة الاجتماعية التي تعود بالنفع على الفرد والأسرة والناس جميعا.

خلال مسيرة الحركة الإسلامية خلال ثلاثة عقود (1981 ـ 2011) كانت هناك ملاحظات ومآخذ متعلقة بالأهداف والوسائل لا يدركها إلا المتابعون للعمل الاجتماعي بمجالاته المختلفة متابعة حقيقية ، بينما الغالبية من جمهور المشجعين لا ترى ذلك والسبب أن أعدادا كبيرة من المنتسبين للفكرة كانت غير ذات جدوى في العمل العام وإنما هي فقط تكثر السواد في الفعاليات السياسية ويبدو أن قطاعات من الإسلاميين كانت راضية بذلك رغم التحذير المستمر من قبل الكثيرين من خطورة ذلك لأنه يؤدي إلى قراءة غير دقيقة للواقع وتقدير خاطىء لقوتهم الحقيقية.

في فترة الحراك السياسي (2005 ـ 2011) توالت النصائح إلى من يهمه الأمر بشكل يراعي مقام الأدب وقواعد النصح خاصة بعد عدد من الأحداث الخطيرة (مثل حادثة العرض العسكري في جامعة الأزهر  والموقف من تعديل الدستور وغيرها) مما يتطلب وقفة حازمة لمعالجة أخطاء كارثية تسبب فيها البعض أحيانا عن عمد وأحيانا بحسن نية مصحوبة بالجهل ، وكان رد الفعل غير مشجع بل إن الروح المسيطرة كانت دوما تميل للتبرير وإلقاء التبعة على مناخ الاضطهاد والحرب على الدعوة وعداء الأنظمة.

من الظلم الحكم على الحركة الإسلامية من خلال مواقف سياسية اجتهادية تحتمل الصواب والخطأ .. لكن المسار السياسي الغرائبي قبل الثورة وبعده كان الدافع الأكبر لدى الكثيرين لإعادة التفكير في آليات العمل الدعوي نفسه خاصة ما يتعلق بالمجتمع مثل النقابات والأحزاب والجمعيات وغيرها ، وهذه المراجعات وجد لها صدى في كتابات الشيوخ الأقدمين مثل محمد الغزالي ويوسف القرضاوي حتى يكاد القارىء لهما يظنهما يملكان القدرة على التنبوء بالغيب لكنها في الحقيقة قدما خلاصة الحكمة والتجربة التي لم يستفد منها أحد للأسف الشديد.

في عام 2011 تبين منذ الأيام الأولى أن عوارا كبيرا أصاب المسار السياسي والدعوي كليهما وأن ما كان مختفيا في الماضي من سلبيات ظهر على السطح كالشمس في كبد السماء ، وقد حرصت على إيصال صوتي وإعلان موقفي وذلك قبل مجلس الشعب والرئاسة وقبل حدوث كل المعامع الكبرى ، وعندما طلب مني توضيح رأيي باختصار أجبت في عبارات بسيطة : ” نحن مقبلون على كارثة .. وإذا حدثت فإنها ستكون بسبب سوء التقدير ولن أصدق بعد اليوم أن هناك أي تآمر على الإسلام أو الدعوة ” ..

استقر الرأي على وجوب تجديد الفكر الإسلامي كله وليس جزئيات فيه وذلك انطلاقا من كتابات مدرسة الإسلاميين الجدد (الغزالي والقرضاوي وتلاميذهم المعروفين) حيث إن الإطار النظري للدعوة الإسلامية الوسطية موجود في كتاباتهم بل إنه قتل بحثا ويحتاج فقط إلى تبسيط الأسلوب وترجمة تلك الأفكار إلى برنامج عمل ، ولهذا كتبت كتاب (مقاصد الإسلاميين) لأعرض فيه هذه الفكرة وكان من الطبيعي أن أقوم في الكتاب بمهاجمة التيارات الإسلامية التقليدية حيث توقعت في الكتاب حدوث انحسار في الشعبية وتمنيت أن يقتصر الأمر على ذلك.

كان من الصعب أن تجد فكرة التجديد أي قبول في تلك الفترة لأن الناس جميعا كانوا منبهرين بالتقدم الساحق للإسلاميين سياسيا وإعلاميا خاصة في البرلمان ثم الرئاسة .. بل إنني ساعتها اتهمت نفسي بالتشاؤم لكن سرعان ما بدأت الأحداث تسفر عن الحقيقة المرة وهي أن الإسلاميين ألقوا أنفسهم في التهلكة حرفيا .. ولا أبرىء بذلك ساحة الطرف الآخر الذي استغل الفرصة واتخذ إجراءات قمعية بذريعة إنقاذ البلاد من مؤامرات ونوازل متخيلة .. لكن مع ذلك لم يغب عن وعيي أن الخطأ الأول نشأ عند الإسلاميين حتى ولو ظلموا.

تتابعت الأحداث المأساوية بعد ذلك لتثبت أننا في حاجة ماسة لتجديد الفكر الإسلامي تجديدا شاملا في الأفكار والمناهج والآليات والوسائل .. وهذا التجديد ليس نابعا من رد فعل على فشل الاسلاميين في الحكم ولا هو تمييع لثوابت الدين وليس من باب إيثار السلامة أو القعود عن المواجهة .. وإنما بناء نموذج فكري وعملي متكامل يحل بالكامل محل القديم ويمتلك رؤية واضحة في الإصلاح السياسي والاجتماعي .. ويعتمد على الدراسة الواعية المتأنية ومعرفة احتياجات المجتمع وموازين القوى السياسية ومتطلبات المرحلة.

الصراع بين الحق والباطل دائم إلى قيام الساعة .. لكن الفريق الفائز هو من يتمكن من اجتذاب الجمهور إليه .. وهذا ما فشل فيه الإسلاميون بجدارة لأنه بعد ثلاثين عاما من الجهد والتعب انحسر الجمهور عند أول مباراة حقيقية وانحاز للفريق المنافس .. ربما كان الجمهور جاهلا أو متخلفا أو مغيبا لكن في جميع الأحوال فإن الإسلاميين مسؤلون عن ذلك إما بالتقصير في الدعوة أو بممارسة الدعوة بشكل خاطىء أو ربما لم يفهموا بعد طبيعة المجتمع .. وبالتالي فإن ساحة اللعب الحقيقية هي مع الناس وليست مع الفريق المنافس الذي تقدم بالقوة لكن تحت غطاء من تهليل المشجعين.

التجديد داخل الحركات الإسلامية أمر دائم الحدوث وقد تكرر في السودان والخليج والمغرب العربي والشام حتى تظن أحيانا أنها حركات منفصلة عن بعضها لفرط الاختلاف الواضح في التوجهات والأطروحات .. وأجمل مثال للتجديد هو حركة حماس التي تعد مزيجا من الفكر الإسلامي والقومي معا فلا يوجد في أدبياتها أي كلام عن الخلافة أو دولة الإسلام أو الحكم بالشريعة أو أستاذية العالم وإنما فقط تحرير الوطن .. وبالتالي فهي تتبنى شعارات تجمع ولا تفرق ولا يعيبها إطلاقا أنه مهتمة بجزئية لأنها تقوم بسد الثغرة فيها دون بقية المسلمين.   

ولا يوجد في الإسلام فصل بين الدين والسياسة على غرار ما هو حادث في غيره من الديانات بل إن الدعوة الإسلامية منذ بدايتها كانت تحمل مشروعا سياسيا واضح المعالم يدركه كل من قرأ السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي .. لكن مقتضيات العمل الميداني في واقعنا المعاصر تحتاج إلى الفصل التام بين المؤسسة  الحزبية (وحدة العمل في الحياة السياسية) وبين الجمعية الأهلية (وحدة العمل في الإصلاح الاجتماعي) .. ويظن البعض أن الدافع لذلك هو الخوف على العمل الدعوي من تقلبات السياسة وهو سبب وجيه لكن السبب الأكثر أهمية هو اختلاف طبيعة كل منهما عن الآخر وما يترتب على ذلك من طريقة إعداد الكوادر واختيار الرموز.

هناك حماسة بالغة لتجديد الفكر الإسلامي وصناعة بديل دعوي يسد الثغرة التي عجز الآخرون عن التعاطي معها بسبب الانشغال المبالغ فيه بالعمل السياسي .. لكن هذا التجديد يجب أن يكون في الوسائل مثلما هو مطلوب في الأفكار وهو ما يعني تجاوز الإطار التقليدي المتمثل في فكرة (الجماعة) المغلقة نحو العمل المجتمعي المفتوح .. ولن يكون العمل بادئا من الصفر لأن التيار الإسلامي بتنوعاته المختلفة حقق في العقود الماضية أرضية اجتماعية لا بأس بها بل إن نقطة تفوقه الكبرى كانت العمل التطوعي بمختلف أنشطته الخدمية والرعوية (مثل المدارس والمستشفيات) بغض النظر عن ضعف المردود السياسي المباشر لهذا الجهد.

يأتي على رأس أولويات العمل الدعوي التركيز على (الإصلاح الاجتماعي) بمفهومه الشامل خاصة النواحي الثقافية والإعلامية وكل ما يتماس مع التوعية الفكرية والتربية الأخلاقية .. وقد كانت نصيحتنا الدائمة للدعاة هي التركيز على الأجيال الجديدة من الناشئة والشباب وإعطاء ذلك الأولوية على ما عداه حتى لا تتحول التيارات الإسلامية إلى (دار مسنين كبيرة) يتجاوزها الزمن (وقد كان تمثيل الشباب في بعض الجماعات ضعيفا جدا وكان يجب أن يدفع ذلك المخلصين للتساؤل عن سبب عزوف الأجيال الجديدة عنهم) حيث اقتصر الانتشار على أجيال محددة من المتأثرين بالصحوة (مواليد الستينات والسبعينات والثمانينات) والذين دخلوا الآن مراحل الشيخوخة.          

وعند قراءة الواقع وتتبع الأحداث في العالم العربي يتضح لنا أهمية الإصلاح الاجتماعي والتوعية الفكرية قبل خوض العمل السياسي وإلا صار الجهد المبذول ضائعا مثل الحرث في الماء .. ولهذا ترسخت لدينا حتمية تجديد العمل الدعوي وفق آليات جديدة وأطر مستحدثة تتوافق مع الهدف الإصلاحي الطموح لأنه الأساس الذي تبنى عليه أي مسارات سياسية في المستقبل .. أما العمل السياسي فمن الأفضل أن يكون جهدا تعاونيا مع كل المخلصين من أبناء الوطن في إطار مشروع وطني جامع وليس داخل مشروع إسلامي محدود وهذا يتطلب اجتهادا فكريا لدى الإسلاميين لأنهم لا زالوا القوة الأكبر على الساحة.   

ويجب أن نعلم أن (المشروع الإسلامي) في السياسة يجذب نسبة كبيرة من الناخبين (25 %) لكنه يمنع من اجتذاب أنصار (المشروع الوطني) وهم الغالبية على المدى البعيد .. ورغم أن التيار الإسلامي هو الأكثر تنظيما والأوفر عددا إلا أنه في المجال السياسي لم يحقق التقدم اللائق بهذا الحجم (في برلمان 2011 حقق الاخوان والسلفيون معا 60 % من المقاعد رغم غياب أي منافس حقيقي لهم ورغم أنهم ترشحوا على جميع المقاعد وبذلوا أقصى ما عندهم وكان تقسيم الدوائر في صالحهم) وفي انتخابات الرئاسة 2012 تقاربت أصوات مرسي وشفيق في المرحلة الأولى بل تفوق الفلول في جميع محافظات الوجه البحري بفارق مخيف.     

وحتى يحدث اصطفاف وطني بين الإسلاميين وغيرهم يجب أن يحدث اصطفاف بين الإسلاميين وبعضهم البعض أولا .. وقد رأينا أن أكبر الكيانات (الإخوان) قد انقسمت بدورها إلى ثلاث جماعات تتبادل الاتهامات علانية بالتفريط والقعود والجهل .. والخلاف داخل الكيانات السياسية أمر وارد في وقت الترف لكنه جريمة في ساعة الأزمات .. وبدلا من جمع الشمل ورأب الصدع صارت لغة التخوين واتهامات العمالة هي السائدة في تيار يتميز عن غيره بالنزعة الأخلاقية والالتزام الإيماني قبل أي شيء .. فإذا كنت تستطيع وحدك النجاح وتملك آلياته فافعل (وهو ما لم يحدث) وأما إن كنت في حاجة لغيرك من القوى فأحسن لهم القول.

إن كل ما ظهر على السطح من سلبيات هي نتاج الخلط بين الدعوي والسياسي في الماضي حيث لم يكن هناك أي إعداد للكادر السياسي بشكل محترف (كان اختيار الرموز من بين الأكثر قدرة على الخطابة في المناسبات واختيار الكوادر من بين الأكثر قدرة على السمع والطاعة) ، ومن نتيجة ذلك استعمال لغة خطابية عتيقة في المجال السياسي والتعامل مع الجميع وفق مبادىء (الجرح والتعديل والتوثيق والتضعيف) ، وفوق كل ذلك الترويج لنظرية المؤامرة التي تعمي الناظر عن الحقائق المجردة وتدفع باتجاه اليأس والاستسلام وتقتل روح المبادرة وهذا الأمر ناتج أصلا من ضعف الثقافة السياسية والافتقار إلى الاطلاع الموسوعي.

وخلال العقود السابقة كان العمل السياسي سهلا (انتخابات ومظاهرات) بل إنه يشبع رغبة الأفراد في الإحساس بالإنجاز ويمتص قدرا كبيرا من حماستهم ولا يتطلب تضحية كبيرة بالمال ولا بالوقت وهو ما نجحت فيه التيارات الإسلامية .. أما العمل الصعب فهو (الإصلاح الاجتماعي) الذي يجب أن يتبناه المصلحون والذي يحتاج إلى قدر كبير من التركيز والتفرغ (تضحية بالوقت والمال) وتغيير نمط الحياة الشخصية للرائد الاجتماعي بما يكفل له النجاح الفعال في دائرة تأثيره وهو ما فشلت فيه التيارات الإسلامية لأنها لم تحدد هويتها هل هي أحزاب سياسية أم جمعيات أهلية حتى يتسنى لها السير في مسلك متخصص محترف يحقق لها هدفها.

وقد فشلت التيارات الإسلامية التقليدية في عمل تعاون بينهم في الماضي القريب حيث كانت النزاعات بينهم على المساجد ومصلى العيد تصل لحد الاشتباك بالأيدي وقلما كانت هناك جماعة إسلامية تمدح جماعة أخرى بين أفرادها أو تذكرها بالخير وإنما كانت اللغة السائدة هي أن جماعتنا وحدها هي الأصوب والأكمل بينما الأخرون عملاء أو مقصرون أو من عديمي الفهم .. ولذا فإن الإصلاح الاجتماعي في المستقبل لا يجب أن يعول فيه على التيارات التقليدية التي اعتادت الانشغال بالصراعات الجانبية والحروب الوهمية والرد على الشبهات وإنما يعول فيه على تيار التجديد الذي يجب أن يكون محددا وواضحا ومستقلا تماما عن غيره.    

ولا يمكن التعاون مع التيارات التقليدية في مجال الإصلاح الاجتماعي لكل ما سبق أن طرحته من مبررات .. أما في العمل السياسي فيجب أن يكون هناك قبول بكل عمل مشترك قائم على مشروع وطني جامع يضم الإسلاميين وغيرهم الآن أو غدا في وقت الرخاء أو في ساعة الشدة بل إن التخلف عن ذلك نقيصة في حق كل وطني مخلص .. وقد حاولت الإشارة إلى هذا الطرح من خلال كتابي (الطريق إلى أرض الكنانة) الذي تناولت فيه خطوات الإصلاح السياسي والاجتماعي بشكل مفصل بعد قراءة دقيقة للتاريخ القريب والمشهد المعاصر.

وكل على قدر طاقته وبما يناسب ظروفه ابتغاء الأجر والثواب من الله ، ومنذ سنوات وأنا أعيش في عزلة عن العالم أعكف على القراءة والكتابة وأنا سعيد جدا بهذا الأمر لأنه في الحقيقة متوافق مع طبيعتي الأولى قديما والتي أنفر فيها من الاختلاط بالناس وأميل إلى الانطوائية فضلا عن الاستمتاع بالقراءة وهي متعة لا يعرفها إلا القليل من الناس وكذلك كتبت في موضوعات متعددة منها الديني والثقافي والتاريخي والسياسي ويمكنني أن أريح ضميري وأقول لنفسي إنني فعلت ما أقدر عليه وأديت دورا يتفق مع اهتماماتي.

والحقيقة أن الكتاب في مصر فقد دوره منذ زمن ولم يعد له نفس ما كان في الماضي (وقد عملت فترة من الزمن في تجارة الكتب في الماضي وأدرك هذا جيدا) لذا فإن أحد أمنياتي أن أقوم باستئناف المشاركة في العمل الاجتماعي حتى ولو كانت عن طريق تبادل الأفكار والاقتراحات حيث إن فئات كثيرة في المجتمع تقبل على العمل الاجتماعي ووسائله التقليدية ويحسن توجيه الاهتمام إلى الأجيال القادمة (لأني فاقد الثقة في الأجيال الحالية) وربما هذا مذهبي منذ زمن طويل.

وعندي أمل كبير في أن يصبح العمل الاجتماعي الجاد بديلا للعمل الدعوي التقليدي مع الوضع في الاعتبار أننا يجب أن نغير نظرتنا التقليدية لمفهوم الفكرة الإصلاحية ليكون أكثر رحابة ومرونة وملاءمة لاحتياجات الزمن ، وكل ذلك لا ينفي أن الإصلاح السياسي هو الساحة الأهم للتغيير لكن الظروف الحالية وحالة الإحباط العامة لدى الجميع يحولان دونه ، كما أن العمل السياسي يحتاج إلى أرضية اجتماعية وثقافية تدعمه ..

ولا أستريح كثيرا للمنتديات الثقافية وأجواء الأدباء والشعراء لأني أراهم يعيشون في عالم وهمي (في كل واد يهيمون) .. وأيضا أشعر بتوجس كبير من وسائل التواصل الاجتماعي ولا أقضي فيها وقتا كبيرا إلا أنها بالنسبة للأجيال الجديدة بدأت تحل من حياتهم دورا هاما .. ربما مثل التليفزيون ونحن صغار أو الراديو والجرايد عند آبائنا حيث هي وسيلة تواصل ودعاية فقط مثل مكالمة التليفون لكن لا يعول عليها في أي خطوة إصلاحية لأنه في النهاية (عالم افتراضي) حتى لو شغل كل الوقت عند الناس.   

ولا أحب التوقف ولا الانهزامية ومؤمن بحتمية التخطيط الجيد والاستعداد للمستقبل .. وذلك بالطبع وفق القدرات المتاحة (بدون تهوين أو تهويل) .. وفي سبيل ذلك فأنا أرحب بكافة الأفكار والاقتراحات بل ومقتنع بأن وسائل التغيير متعددة .. وأنا لا أعول على العمل الاجتماعي وحده في التغيير لكنه فرصة للتواصل مع الناس وقراءة الواقع حيث إنه عامل مساعد وليس الهدف الأساسي وهناك حاجة بالفعل لمزيد من الدراسة الجادة للمستقبل.      

أحيانا كثيرة ينتابني شعور بأن دائرة العلاقات الاجتماعية غير مفيدة في أي شيء وأن الأفضل لي أن أواصل ما بدأته من تأليف للكتب لكن تبينت شيئا مهما وهي أن كل ما كتبته كان ناشئا عن تجربة عملية إما في المسجد أو المجتمع أو السياسة أو الطب وأن هذا التأرجح بين العزلة الاختيارية والانفتاح المجتمعي هو ما جعلني أوازن دوما بين الآمال العظيمة والنظرة الواقعية وأظن أن هذا المسلك هو أول طريق النجاح.