
صفحة مجيدة من تاريخ بني عدي كتبتها أسرة من العلماء المجاهدين يأتي في مقدمتهم العلامة موفق الدين أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامة بن مقدام العدوي القرشي المقدسي الجمَّاعيلي ثم الدمشقي الصالحي أحد أئمة وشيوخ المذهب الحنبلي ، ولد بجمَّاعيل (تسمى اليوم جماعين) من عمل نابلس في فلسطين سنة 541 هـ / 1146 – 1147 م وفي تلك السنة قامت الحملة الصليبية الثانية بقيادة لويس السابع ملك فرنسا وكونراد الثالث ملك ألمانيا ، وبعد ذلك بثمان سنوات استولى الصليبيون على فلسطين فهاجر أحمد بن قدامة مع أسرته إلى دمشق وطلب عبد الله العلم في دمشق ثم في بغداد حيث رحل إليها هو وابن خالته الحافظ عبد الغني المقدسي صاحب عمدة الأحكام والمحدث الكبير المتوفى سنة 600 هـ فدرسا على شيخ الحنابلة عبد القادر الجيلاني وابن الجوزي وغيره من مشايخ بغداد حيث خدم الموفق المقدسي المذهب الحنبلي خدمة عظيمة بمؤلفاته المفيدة ومنها العمدة والمقنع والكافي في فقه الإمام أحمد بن حنبل والمغني (أكبر كتاب في الفقه).
ولما زحف صلاح الدين الأيوبي بجيوش الإسلام لتحرير فلسطين في شهر المحرم سنة 583 هـ/ 1187م كان الشيخ ابن قدامة في مقدمة تلك الجيوش وشرفه الله بالمشاركة حصار الكرك وعكا وفتح طبرية ومعركة حطين قرب النبي شعيب في 25 من شهر ربيع الثاني حيث أُسر ملك الإفرنج جيفري وأميرهم أرناط وشارك الشيخ ابن قدامة مع صلاح الدين في تحرير طبريا وعكا والناصرة وقيسارية وصفورية وتبنين وصيدا وتحرير بيروت في 29 جمادى الأولى وتحرير عسقلان وفتح القدس يوم الجمعة 27 من شهر رجب الفرد ونصب فيها المنبر الذي أرسله نور الدين بن محمود زنكي ، وكان الشيخ ابن قدامة آنذاك في الثانية والأربعين من عمره وكان يقضي وقته بين التدريس والجهاد في سبيل الله فكان قدوة ومثلا للعلماء العاملين والأئمة المجاهدين الذين بثوا روح الحماسة في الأمة ولما بلغ التاسعة والسبعين من عمره وافاه الأجل يوم عيد الفطر المبارك سنة 620 هـ/ 1223 م ودفن في مغارة التوبة بمدينة دمشق ، وابنه هو مجد الدين عيسى (578 – 615هـ) كان فقيها خطيبا خطب مدة بالجامع المظفري.
قال عنه أبو عمرو بن الصلاح : ” مارأيت مثل الشيخ موفق ” وقال ابن تيمية عنه : ” ما دخل الشام – بعد الأوزاعي – أفقه من الشيخ موفق ” وقال ابن رجب الحنبلي : ” الفقيه الزاهد الإمام شيخ الإسلام وأحد الأعلام ” وقال أيضا : ” هو إمام الأئمة ومفتي الأمة خصه الله بالفضل الوافر والخاطر الماطر طنّت في ذكره الأمصار وضنّت بمثله الأعصار ” ، وقد وصفه الذهبي بأنه كان من بحور العلم وأذكياء العالم .. وقال الكتبي (صاحب فوات الوفيات) : ” كان إماما حجة مصنفا متفننا محررا متبحرا في العلم كبير القدر ” ونقل الذهبي عن الضياء المقدسي قوله : ” سمعت المفتي أبا بكر محمد بن معالي بن غنيمة يقول : ما أعرف أحدا في زماننا أدرك درجة الاجتهاد إلا الموفق ” وقال الصفدي : ” كان أوحد زمانه إمام في علم الخلاف والفرائض والأصول والفقه والنحو والحساب والنجوم السيارة والمنازل ” وقال ابن كثير عنه : ” إمام عالم بارع لم يكن في عصره بل ولا قبل دهره بمدة أفقه منه “.
وأسرة آل قدامة المقادسة هي أسرة فلسطينية الأصل دمشقية الدار كان لها أثرها الواضح في تاريخ الفكر الإسلامي خلال العصر الأيوبي والمملوكي سواء بكثرة من ظهر فيها من العلماء أو باستمرار نشاطها العلمي عدة قرون (ما بين أواسط القرن السادس والحادي عشر الهجريين) وهي شجرة باسقة مثمرة ذات فروع كثيرة نافعة لها جهود عظيمة في خدمة السنة ويقع للكثيرين الاشتباه والخلط بين أفرادها وقد اشتهرت هذه الأسرة بالمقادسة لكونهم في الأصل من جَمَّاعيل التابعة لنابلس الجبل القريب من بيت المقدس ، وقد هاجر كبيرهم أحمد بن محمد بن قدامة (أيام احتلال الصليبيين بيت المقدس وما حوله) من بلده جماعيل التي كان خطيبا بها لما أخبر بعزم حاكمها من قبل الصليبيين على قتله فسافر مع أولاده إلى دمشق بصحبة زوج أخته عبدالواحد بن علي بن سرور (والد الحافظ عبدالغني المقدسي) فنزلوا بجبل قاسيون في مكان قفر فعمروه وسمي بالصالحية وغدا حيا من أهم أحياء دمشق.
وقد اعتنت الأسرة كلها بالقرآن والحديث وروايته وبالعقيدة السلفية والمذهب الحنبلي وشاركت مع صلاح الدين الأيوبي في تحرير بيت المقدس ورحل كثير منهم طلبا للحديث كالشيخ أحمد بن قدامة وابنه الموفق وابن أخته عبد الغني وسبطاه الضياء والبخاري والد الفخر مرجع كثير من الأسانيد عند المتأخرين والذي كان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول عنه لعلو سنده : ” ينشرح صدري إذا أدخلت ابن البخاري بيني وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم ” ، وكانت وجهة أكثرهم في الرحلة بلاد المشرق كبخارى وأصبهان فتحملوا كتب الحديث الكبيرة فنقلوها إلى الناس ورووها ونسخوا منها النسخ الكثيرة وبعد ذلك بمدة هجم التتار على تلك الديار فأصبحت – بعد عمرانها – خرابا ولكن بعد أن نقلت منها كتب السـنة التي حملتها تلك الديار منذ العصور الأولى في الإسلام.
والجد الأعلى الذي حملت الأسرة اسمه هو قدامة بن مقدام بن نصر بن عبد الله المقدسي وكان من أهل قرية جَمَّاعِيْل أو جماعين (قرب نابلس) في القرن الخامس الهجري ويبدو أنه أو ابنه محمدا قد التقى بأبي الفرج عبد الواحد بن محمد الشيرازي الذي قدم القدس من بغداد ونشر مذهب ابن حنبل في فلسطين ثم في دمشق حيث توفي سنة 486هـ. ويروي لنا الموفق قصة ذلك اللقاء المبارك فيقول : ” كلنا في بركات الشيخ أبي الفرج .. لما قدم الشيخ أبو الفرج إلى بلادنا من أرض بيت المقدس تسامع الناس به فزاروه من أقطار تلك البلاد فقال جدي قدامة لأخيه : تعال نمشي إلى زيارة هذا الشيخ لعله يدعو لنا فزاروه فتقدم إليه قدامة فقال له : يا سيدي ادع لي أن يرزقني الله حفظ القرآن فدعا له بذلك وأخوه لم يسأله شيئا فبقي على حاله ” ، وكان محمد بن قدامة ثم ابنه أحمد ثم حفيده محمد أبو عمر خطباء جماعين حين غزا الفرنجة الصليبيون فلسطين سنة 492هـ/1099م. وقد عاشوا مع فلاحي الريف الفلسطيني في إقطاع الأمراء الفرنجة.
وكان المسلمون في أرض بيت المقدس ونواحيها زمن احتلال الفرنج في شدة وضيق فقد كان الفرنج يؤذونهم ويحبسونهم ويأخذون منهم أموالا كالجزية ويستخدمونهم في الفلاحة وكان من أعتى الكفار وأكثرِهم تجبرا ابن بارزان الذي كانت تحت يده جمّاعيل والقرى التي حولها ، وكان خطيب جمّاعيل الشيخ العالم الزاهد الرجل الصالح أبو العباس أحمد بن محمد بن قدامة المقدسي قد سافر واشتغل بالعلم ولاسيما الحديث النبوي الشّريف فقد حدث عن الإمام المحدث الشهير أبي الحسن رزين بن معاوية العبدري صاحب كتاب ” تجريد الصحاح ” ورجع إلى جمّاعيل وأقام بها ينفع الناس ويقرِئهم القرآن ويقرأ لهم الأحاديث ويعلمهم كما يعلم إخوته وأولاد عمه وكان له أخت تزوجها عبد الواحد بن علي بن سرور وكان بيته قريبا من بيت أخته.
وكان الشيخ أحمد لا يرضى بمقامه تحت أيدي الكفار كأبيه الذي كان يذكر الهجرة دائما وكان يخطب أيام الجمعات ويجتمع الناس إليه فقد تمثلت مقاومة آل قدامة في المزيد من التمسك بالدين والتقوى حتى كان أبناء القرى يجتمعون اليهم في خطب الجمعة وكان لأقوالهم صدى طيب في نفوسهم بسبب ما يعانونه من اضطهاد الإقطاع الفرنجي الذي كان يتقاضاهم الجزية أضعافا مضاعفة ويؤذي الناس بالضرب والحبس وقطع الأرجل فقيل لابن بارزان : ” إن هذا الرجل الفقيه يشغِل الفلاحين عن العمل ويجتمعون عنده ” ، فتحدث في قتله فأعلم الشيخ رجل فعزم على المضيّ إلى دمشق فسافر إليها سنة 551هـ / 1156م وصحبه عبدالواحد بن علي بن سرور زوج أخته وكانت دمشق سنة 551هـ / 1156م قد صارت منذ سنتين فقط لنور الدين محمود بن زنكي الذي اشتهر يومذاك بالجهاد والتقوى ولما جاء دمشق خرج إليه أبو الفضل محمد بن عبد الله بن القاسم الشافعي (491 – 572هـ) ومعه ألف دينار فعرضها عليه فأبى فاشترى بها موضعا بدمشق ووقفه على المقادسة.
وكتب الشيخ أحمد إلى ابنه أبي عمر ليهاجر إليه بجميع أهله فخرج بهم إلى دمشق متحملين المشقة صابرين وكانوا نحوا من أربعين نفسا من ذكر وأنثى وكبير وصغير فأنزلهم الشيخ أحمد في مسجد أبي صالح وضاق المسجد بعد ثلاث سنوات باللاجئين وكثرت عليهم المصاعب والأمراض المميتة والمشاكل بسبب عددهم ومذهبهم الحنبلي (وأكثر سكان دمشق شافعية) فارتاد لهم أبو عمر منزلا آخر في سفح جبل قاسيون المطل على دمشق حيث تقوم على المزارات المباركة وبنى دارا دعيت (دير الحنابلة) وهي اليوم جامع الحنابلة ، ومنذ سنة 554هـ/1159م بدأ تاريخ جديد لآل قدامة والبقعة التي نزلوها من قاسيون (وقد سميت الصالحية باسم سكنهم القديم في جامع أبي صالح) والمذهب الحنبلي الذي كان يحمله هؤلاء المقادسة وقد لحق بهم فيما بعد كثيرون من جماعين والقرى المحيطة بها (الجماعيات) وانتسبوا جميعا إلى القدس لأنها الأشهر وقد اهتم الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي بالشيخ أحمد وأسرته وكان يساعدهم وكان يقول : ” هذا الشيخ أحمد رجل صالح وأنا أزوره لأنتفع به “.
ثم بنى ابنه أبو عمر المدرسة العمرية ثم كثر البناء في تلك المنطقة التي اشتهرت بالصالحية قيل : سميت بالصالحية نسبة إلى صلاح هؤلاء المقادسة وقال أبو عمر المقدسي : ” قال الناس : الصالحية نسبونا إلى مسجد أبي صالح لأننا نزلنا فيه أولا لا أنا صالحون ” .. وعقب على ذلك العلامة محمد بن علي ابن طولون الصالحي الحنفي (880 – 953هـ) بأن قال : ” وهذا من باب التواضع من الشيخ رحمه الله ” حتى صارت مفخرة لدمشق يسهب في وصفها الرحالون والأدباء وينشد في مدحها الشعراء ، وقد توفي الشيخ أحمد بعد أربع سنوات من ذلك التاريخ (سنة 558هـ) ، قال الذهبي : ” وكان صالحًا زاهدا عابدا قانتا صاحب كرامات وأحوال جمع أخباره سبطه الحافظ ضياء الدين وساق له عدة كرامات وحكى عن خاله الموفق أن أباه قرأ فِي شهر رمضان بمسجد أبي صالح خمسا وستين ختمة ثم حكاها عن الشيخ العماد عن الشيخ أحمد أنه قرأ ذلك وقال العماد : كان الشيخ أحمد بين عينيه نور لا يكاد أحد يراه إلا قبل يده “.
وأبو عمر هو الشيخ الزاهد الفقيه المقرئ المحدث محمد بن أحمد بن قدامة ولد سنة 528هـ بجمّاعيل وسمع الحديث من أبيه وغيره وهو الذي ربى الموفّق وغيره ولذا يقال عنه (شيخ المقادسة) وكان قدوة صالحا كثير الصيام والتلاوة والصلاة والجهاد كان قلما يتخلف عن غزوة وكان ينسخ مختصر شيخ الحنابلة أبي القاسم عمر بن الحسين الخرقي المتوفى سنة 334هـ من حفظه وكتب بخطه المليح عدة مصاحف وكتبا كثيرة كالمغني لأخيه الموفّق ومعالم التنزيل لمحيي السنة الحسين بن مسعود البغوي المتوفى سنة 516هـ وهو واقف المدرسة العمرية وتوفي سنة 607هـ ، وأبو عمر محمد هو الذي بنى مجد الجماعة ورسم لها خط الحياة العلمية الذي ظلت عليه في القرون التالية فقد بنى لنفسه مدرسة عرفت بالمدرسة العمرية على ضفة نهر يزيد في سفح الجبل (وآثارها باقية إلى اليوم) وظل يعمل على التدريس فيها طوال نصف قرن إلى أن توفي سنة 607هـ/1210م. وقد أدت زيادة الطلبة إلى قيام مدرسة أخرى بناها ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي صهر أبي عمر على باب دير الحنابلة لتكون دار حديث للغرباء ووقف عليها كتبه.
ومن أولاده ابنته آمنة (550 – 631هـ) كانت مقرئة صالحة عابدة قرأت القرآن على والدها وكانت البنات يقرأن عليها القرآن وكانت كثيرة الصدقة ، وثلاثة أبناء عمر وعبد الله وعبد الرحمن وهم من شيوخ ابن تيمية والذهبي والنووي رحمهم الله وأشهرهم شمس الدين عبد الرحمن شيخ الإسلام المعروف بشيخ الجبل وهو صاحب (الشرح الكبير على المقنع للموفق) وكان شيخ وقته وفريد عصره وهو أول من ولي قضاء الحنابلة بدمشق وذلك سنة 664هـ تولاه مدة تزيد على اثني عشر عاما وكان لا يأخذ أجرا ويقول : ” نحن في كفاية ” كما أنّه أول من درس في دار الحديث الأشرفية وتوفي سنة 682هـ ، وللموفق وأبي عمر أخت اسمها رقية وتكنى أم أحمد كانت امرأة صالحة تنكر المنكر ويخافها الرجال والنساء وتفصل بين الناس في القضايا وكانت تاريخا للمقادسة في المواليد والوفيات توفيت في شعبان سنة 621هـ وقد تزوجها عبدالواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي السعدي.
وعبد الواحد بن أحمد السعدي من بيت علم وفضل فابن أخيه عبد الرحمن بن إبراهيم بن عبد الرحمن بن إسماعيل بهاء الدين أبو محمد لازم الموفّق وتفقه به وهو صاحب (العدة في شرح العمدة) وكان متواضعا حسن الخلق وأقبل على طلب الحديث وكتب فيه الكثير وسُمع عليه (فضائل القرآن) للفريابي وأقام يؤم بنابلس بعد فتوح صلاح الدين الأيوبي سنين كثيرة وانتفع به خلق كثير وتوفي سنة 624هـ ، وقد رزق عبد الواحد بن أحمد بن عبد الرحمن بن إسماعيل المقدسي السعدي ابنة عالمة هي آسية أم أحمد (577 – 640هـ) كانت دينة خيرة كثيرة الصيام والصلاة محافظة على قيام الليل حافظة لكتاب الله وكانت تلقن النساء القرآن الكريم ، كما رزق ثلاثة أبناء علماء منهم أحمد شمس الدين العلامة الأصولي المعروف بالبخاري لتفقهه وتحصيله العلوم ببخارى وكان ذكيا فصيحا من أوعية العلم توفي سنة 623هـ وابنه فخر الدين علي مسند الدنيا (595 – 690هـ) والذي كان ابن تيمية يفرح عندما يأخذ منه الحديث لتمام ثقته فيه.
أخذت سمعة آل قدامة في التقى وسمعة مدرستهم في العلم تنتشران وأخذ تلاميذهم في القرآن والحديث والفقه يتكاثرون وكانت الأموال والأوقاف والهبات بالمقابل تتدفق على الجماعة المقدسية والمدرستين فتحولت البقعة الى بلدة كاملة ذات أسواق ومنازل وسكان ومساجد وبنى بعض الأمراء مقابرهم في أطرافها ، وكانت صالحية آل قدامة الحنابلة ترافق في نشاطها في تلك الفترة النشاط السياسي والعسكري والعلمي العظيم الذي عرفته دمشق أيام نور الدين فصلاح الدين والملك العادل ولم يكن غريبا مع الحماسة الدينية التي أعقبت فتح القدس والأخطار الداهمة التي هددت بعد ذلك قلب العالم الإسلامي أن يصبح المركز الذي أقامه آل قدامة للعلوم الدينية في سفوح دمشق مركز إشعاع روحي واسع يجتذب الكثير من الأستاذة والطلاب على السواء .. ويذكر ابن عبد الهادي أحد مؤرخي الأسرة في القرن الثامن الهجري أنه لم يكن في بلاد الإسلام أعظم منها وقال عنها ابن بطوطة في أواسط القرن الثامن : ” مدينة عظيمة لها سوق لا نظير له وفيها مسجد جامع ومارستان ” ووصف القلقشندي الصالحية في أواخر القرن التاسع ومطلع العاشر بأنها ” مدينة ممتدة ذات بيوت ومدارس وربط وأسواق وبيوت جليلة وبساتين ” وحاليا هي حي الصالحية من أحياء دمشق.
وإذا كان آل قدامة قد أعطوا هذا المركز الكثير من جهودهم الفكرية فإن ما لقوه من التشجيع الكبير والاحترام والتكريم دفعهم بالمقابل إلى المزيد من العمل ولم يكن آل قدامة في هذا الجهد كله وحدهم فإن نجاحهم كان قد أغرى منذ الأيام الأولى مجموعة من الأسر الحنبلية القريبة لهم في جماعين وما حولها بالهجرة إليهم على توالي السنين والدخول في نشاطاتهم العلمية نفسها ، وقد ظلت هذه الهجرة قائمة في العصر الأيوبي وهكذا انتقل بالتدريج مجتمع قروي كامل من تلك البقاع الفلسطينية إلى سفح قاسيون بدمشق وتحول من العمل الزراعي إلى النشاط العلمي وبرز منه كما برز من آل قدامة وبتأثيره عدد من العلماء يرتبطون بآل قدامة بالروابط العائلية المتفاوتة وقد حملوا مثلهم لقب المقادسة ، وأبرز تلك الأسر خمس وهم آل عبد الهادي وجدهم يوسف بن محمد بن قدامة هو شقيق أحمد المهاجر الأول إلى دمشق وبنو سرور بن رافع الجماعيلي ويرتبطون بآل قدامة برابطة المصاهرة وبنو عبد الواحد بن أحمد السعدي وهم بدورهم أصهار لآل قدامة وأسرة راجح وجماعة ممن يحملون نسبة المرداوي وبينهما وبين آل قدامة روابط قرابة عائلية.
وقد أسهم عدد من رجال هذه الأسر في النشاط العام لذلك المركز العلمي الذي أسسه الحنابلة القداميون من جهة أخرى اجتذب آل قدامة بحركتهم العلمية النشيطة وسمعتهم الدينية علماء الحنابلة من حران وبغداد ونابلس وبعلبك وغيرها إلى دمشق، وشاركوا في نشاطات المركز الحنبلي الصالحي وذيوع شهرة دمشق العلمية ، ولعل من أبرز هؤلاء الإمام ابن تيمية الحراني (661 – 728هـ) المجتهد المشهور وأبناء مفلح المقدسيون بالإضافة إلى أعداد كبيرة من المسندين والحفاظ المحدثين والفقهاء والقضاة من أصحاب المذاهب الأخرى ، ومجموع العلماء الذين ظهروا من آل قدامة والأسر المتصلة بهم وذكرتهم كتب التراجم يزيدون في العدد على 110 شيوخ منهم قرابة النصف من آل قدامة (أسرة أحمد وابنه أبي عمر 52 اسمًا) و14 اسمًا من آل عبد الهادي و12 اسمًا من آل عبد الواحد والباقي من أسرة راجح ومن المرداويين.
ومن أبرز علماء آل قدامة والأسر المتصلة بهم : عبد الغني بن عبد الواحد (541 – 600 هـ) ومؤلفاته تزيد على 45 كتابا ، وموفق الدين عبد الله بن أحمد (541 – 620هـ) ، وضياء الدين محمد بن ابراهيم بن عبد الواحد (569 – 642هـ) وكان محدث عصره (وتنسب له دار الحديث الضيائية) ، وشمس الدين محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد (603 ـ 676هـ) قاضي القضاة في مصر ، وفخر الدين علي بن أحمد بن عبد الواحد (575 ـ 690هـ) محدث عصره وصاحب المسند وشمس الدين محمد بن أحمد بن عبد الهادي (704 ـ 744هـ) وله 58 مؤلفا وعائشة بنت عبد الهادي (723 – 816هـ) التي أصبحت آخر عمرها أسند أهل الأرض ورحلة الدنيا .. وجميعهم فخر للعروبة والإسلام وقدوة للعلم والجهاد يظل ماثلا للعيان إلى يوم الدين. (نقلا عن الموسوعة الفلسطينية طبعة 1984)