
في نفس الوقت الذي صار فيه الوطن العربي تابعا للآستانة كانت تحدث في الجانب الآخر من العالم تغييرات مماثلة عندما قام ناصر الدين محمد بابر حفيد تيمورلنك بغزوات واسعة النطاق حيث انطلق من عاصمته (سمرقند) ليعبر بجيوشه جبال الهندوكوش ويفتح الهند بعد سلسلة من الحروب حقق فيها انتصارات ساحقة على الهنادكة ويتخذ من مدينة ( أكبر آباد / أكرا ) عاصمة لدولته ويجلس على عرش الطاووس المزين بأكبر ماسة فى العالم ( كوهينور ) والتى صارت جوهرة التاج البريطانى بعد قرون ، وإذ استقر به الأمر فقد شرع فى كتابة مذكراته التى تعد تحفة أدبية عالية المستوى يظهر فيها أثر الفكر الصوفي والحمية للإسلام ، وخلفه على العرش ابنه همايون الذى قضى فترة حكمه فى حروب متواصلة يوطد بها أركان دولته ليخلفه ابنه البادشاه جلال الدين محمد أكبر حيث شهدت الدولة عصرها الذهبي فكان بلاط أكبر مؤتمراً ثقافياً تعددت فيه المشارب والرؤى ليخرج البادشاه فى النهاية بمذهبه الجديد الذى يجمع فيه أفكار الإسلام بالهندوسية بغيرها فى خلطة عجيبة أغضبت المسلمين وقربت إليه الهنادكة والحقيقة أنه لم يكن داعية لدين جديد وإنما هى من تجليات الصوفية الفلسفية ، ومن بعده وضع التجار البريطانيون أقدامهم على الساحل الغربى للهند وهم فى توجس وخيفة فقد كانت دولة المغول تعيش أوج عظمتها فى عهد جهانكير بن أكبر ثم ابنه شاه جيهان الذى بنى لزوجته ممتاز محل قبراً فخماً يعد من عجائب الدنيا السبع وهو مبنى (تاج محل) فى أكرا وهو الملك الذى حقق نصراً حاسماً على البرتغاليين لينهى توغلهم فى المنطقة.
وخلفه على العرش ابنه الملك الصالح أورنك زيب عالم كير الذى امتد حكمه زهاء نصف قرن أخذ على عاتقه فيها توحيد الهند ونشر الإسلام بشكل منظم وفعال وإن لم يخل من القسوة أحيانا ، كانت تربيته إسلامية متدينة وكان ضليعا فى الفقه الحنفي وله فيه مؤلفات وشروح عرفت باسمه (الفتاوى العالمكيرية) ظلت لفترة طويلة أساسا للتشريع ومرجعا فى الفقه كما كان متصفا بالحزم وحب الجهاد حيث قضى فترة طويلة فى حروب متواصلة حتى أخضع الهند كلها لسلطانه مما شغله عن قضاء فريضة الحج فعوض عنها بإرسال الآلاف على نفقة الدولة لحج بيت الله الحرام ، وكان عفيفا متواضعا يجل العلماء ويعقد المجالس الفقهية ولا يأكل إلا من كسب يده حيث كان يصنع الطواقي ويبيعها وينسج الصوف بيده إذ عاش حياة الزاهدين وأقام الأمر بالعروف والنهي عن المنكر وبدأ فى ذلك بالأمراء حيث نهاهم عن تعاطي حشيشة (الأفيون) التى قصفت عمر آبائه وأجداده كما كان يتابع الأمراء والعمال فى آدائهم الصلاة والمحافظة عليها ، لذلك فإن الإنجليز فى عهده لم يجدوا لهم فى الهند موطأ قدم فلم يكن أمامهم سوى أن ينزلوا (بومباي) على هيئة التجار ، وفى القرن الثانى عشر لم يستطع خلفاءوه الحفاظ على الدولة المغولية في الهند قوية كما كانت وذلك نتيجة دخولهم فى صراع مع نادر شاه ملك الفرس الذى غزا الهند عند منتصف القرن واستولى على عرش الطاووس ونقله معه على بلاده حيث اتخذه رمزاً لحكمه.
وفي هذه الأجواء المشحونة بالأحداث السياسية والأفكار الفلسفية ظهرت مدرسة المجددين في شبه القارة الهندية على يد عالم عمري من رجال بني عدي وهو الشيخ أحمد الفاروقي السرهندي .. ولد الإمام الرباني رحمه الله في بلدة سرهند التابعة لدولة الهند في شهر شوال سنة 971 هـ. ويُلقب بلقب “ الفاروقي ” لأن نسبه يعود إلى سيدنا عمر بن الخطاب .. كان والده السيد عبد الأحد صاحب فضل رفيع ومن أهل العلم والعرفان حيث كان مجازاً من الطريقة الجيشتية والقادرية ومتمماً للظاهر والباطن فيهما .. بدأ أحمد السرهندي تعليمه الأولي بحفظ القرآن الكريم وصار حافظاً له خلال فترة زمنية قصيرة وتلقى أغلب علومه من والده مع أخذه لجزء منها من كبار علماء عصره وبعد تلقيه العلوم من أبيه والعلماء المحيطين به توجه إلى سيالكوت التي تُعد مركزاً علمياً كبيراً وأخذ هناك العلوم العقلية والنقلية على يد مختلف العلماء ، وأولى السرهندي أهمية خاصة وكبيرة لعلوم التفسير والحديث والفقه ولما بلغ السرهندي السابعة عشر عاماً من عمره كان قد قطع أشواطاً متقدمة وكبيرة في تحصيل العلوم الظاهرية فعاد إلى أبيه وبدأ بإلقاء الدروس إلى جانبه وفي هذه الفترة أخذ الإجازة في التفسير والحديث من قاضي بهلول بداخشاني وعندما بلغ الثامنة عشرة أو العشرين عاماً من عمره ألف كتاباً أسماه “ إصابة النبوة ” تصدى به لعلماء البلاط الغافلين المنحرفين نحو الضلال والذين أبدوا إعجاباً فريداً بالفلاسفة وأقاموهم في مرتبة أعلى من الأنبياء فتناول فيه الأدلة العقلية والنقلية التي تثبت أهمية النبوة ولزومها وألف كتباً أخرى في هذه الفترة.
وبعد مدة من الزمن انتسب إلى أبيه وأخذ يداوم على حضور مجالسه بصورة مستمرة فكثف كل جهوده وهمته على التربية التصوفية ولازم والده ملازمة تامة حتى يتفادى التقصير في القيام بخدمته والبر به فلم يذهب إلى مكان آخر أبداً وتوفي والده عبد الأحد سنة 1007هـ / 1599م. وكان قبل وفاته بمدة قصيرة قد أعطى الخلافة لابنه الإمام الرباني أحمد الفاروقي .. وبعد وفاة والده خرج الإمام الرباني في شهر ربيع الآخر من عام 1008هـ من بلدة سرهند قاصداً مكة المكرمة لأداء فريضة الحج وكان عمره وقتئذ سبعة وثلاثون عاماً ولما وصل إلى دلهي زار الباقي بالله بناء على نصيحة من أحد أصحابه وبعد أن حضر مجلسه لمدة من الزمن انتسب إليه .. مكث الإمام الرباني عند الشيخ الباقي بالله مدة تقارب الشهرين والنصف إلى ثلاثة شهور ثم عاد إلى بلدته لأن موسم الحج كان قد فاته وأخذ يعلم شيخه بالأحوال الروحية التي يمر بها من خلال المراسلة وبعد فترة من الزمن زار أستاذه مرة أخرى وأعطي في هذه الزيارة إجازة الإرشاد “ الخلافة ” ، وبعد أن أمضى شهرين في كنف شيخه عاد مجدداً إلى بلاده وبدأ بإرشاد الناس وفقاً لأصول الطريقة النقشبندية وأحس في هذه الفترة بنقص في الناحية الروحية والمعنوية وفكر بالانكفاء والانزواء بنفسه إلا أن إصرار مريديه دفعه إلى التراجع عن فكرته ومتابعة الإرشاد.
وفي زيارته الثالثة لأستاذه صادفه في الطريق فأبدى اهتماماً وحفاوة بالغة به وأحال إليه مهمة تربية الكثير من مريديه وعلى الرغم من نيل الإمام الرباني الكثير من الأحوال والفضائل السامية والرفيعة إلا أنه كان يتصرف أمام شيخه بغاية الأدب والتواضع فذات مرة كان أستاذه قد أرسل أحد التلاميذ في طلب الإمام ولما سمع الإمام الرباني بدعوة أستاذه له امتقع لونه في الحال وبدت عليه حالة من الارتجاف التي تظهر على الشخص المتعرض لخوف وفزع شديد وكان أستاذه يبادله المعاملة ذاتها حيث كان يظهر له احتراماً ومحبة بالغة ، وبعد وفاة الشيخ الباقي بالله استمر الإمام الرباني رحمه الله بالإرشاد في سرهند وأخذ يبعث بالرسائل إلى مريديه القاطنين في أماكن بعيدة عنه وإلى رجال الدولة وكان يتناول في الرسائل التي يبعث بها إلى تلامذته المسائل الدقيقة للتصوف وأما الرسائل التي كان يوجهها إلى رجال الدولة فقد كان يركز فيها بشكل أكبر على أسس ومبادئ الإسلام وعلى المواضيع العامة مثل تلك المتعلقة بمذهب أهل السنة وكان الإمام الرباني يذهب كل عام في ذكرى وفاة أستاذه المصادفة لشهر جمادى الآخرة لزيارة قبره ثم يعود مجدداً إلى سرهند.
ورأى السرهندي أن السلطان أكبر قد انحرف نحو الأباطيل والأفكار الضالة تحت تأثير العلماء المحيطين به والذين كان كل همهم الوصول إلى المصالح المادية الدنيوية فكان رجال العلم هؤلاء يحاولون التقرب إلى السلاطين ورجال الدولة ويبذلون كل ما بوسعهم للظهور لطفاء ومقبولين أمامهم فكانوا يتسببون بإثارة وإيقاظ الكثير من الشكوك والشبهات في الأذهان تجاه الإسلام وكانوا يضللون الأغنياء عن طريق إثارة المسائل الخلافية والتركيز عليها وبالنتيجة قام أكبر شاه بإسناد الوظائف المهمة في إدارات الدولة لغير المسلمين وأدخل بعض النساء الهندوسيات إلى حرمه ، وأقدم بتشجيع من المقربين إليه على إيجاد دين جديد باسم “ الدين الإلهي ” بذريعة التوحيد بين الإسلام والهندوسية وتم هدم المساجد في بعض الأماكن ليشيد عوضاً عنها المعابد الهندوسية وبدأ أكبر شاه بإصدار أمر إلى الناس للسجود في حضرته تعبيراً عن إظهار الاحترام والتبجيل له ولم تكن هذه الحالة تشكل مسألة ذات أهمية بالنسبة للهندوسيين إلا أنها كانت تُعد مشكلة بالغة العظمة بالنسبة للمسلمين الصادقين المخلصين وكان أهل الأهواء والدنيا من اللاهثين خلف المنافع وعلماء الغفلة والسوء الذين يسعون إلى كسب رضا وود السلطان يصدرون الفتاوى بجواز السجود في حضرة السلطان مبررين الأمر بأن السجود بنية السلام والاحترام وليس بنية العبادة.
ذهب الإمام الرباني إلى العاصمة آغرا “ أكبر أباد ” فالتقى ببعض المقربين إلى السلطان وقال لهم : ” إن السلطان قد وقع في معصية الله تعالى ورسوله فذكروه بأن ملكه وسلطانه سوف يتصدع وينهار فليتب من معصيته وليعد إلى سلوك سبيل الله ورسوله ” .. وكان بعض رجال الدولة ممن يشغلون مناصب عالية ومرموقة يظهرون احتراماً كبيراً للإمام الرباني وبذلوا جهوداً كبيرة من أجل إعادة السلطان إلى الطريق القويم إلا أن السلطان كان غارقاً في أمواج الدين الجديد الذي أوجده ولم يُعر أي اهتمام بالنصائح التي قدمها له هؤلاء الرجال ، وبصورة مفاجئة أخذ منجمو أكبر شاه يتنبؤون بقرب انهيار حكمه وملكه فأصيب السلطان بحزن شديد نتيجة لهذه التنبؤات وفوق ذلك فقد رأى حلماً عجيباً في تلك الأيام ونتيجة لذلك فقد أصدر قراراً مفاده : ” من أراد اعتناق الإسلام فليفعل ومن أراد اعتناق الدين الإلهي فليفعل فلا إكراه ولا إجبار لأحد من الناس في اعتناق ما لا يريده ” .. ونُصبت في أحد الاحتفالات خيام لأتباع الدين الإلهي وأخرى لأتباع الإسلام وكانت خيام أنصار الدين الإلهي الجديد مصنوعة من أفخر وأجمل أنواع القماش وفيها موائد تتضمن أطيب وألذ أصناف الطعام والشراب والفاكهة وأما خيام المسلمين فكانت متواضعة من حيث القماش والطعام وتظهر عليها علامات الفقر والحرمان فجاء الإمام الرباني مع أتباعه إلى خيام المسلمين ونزلوا فيها ثم أخذ الإمام حفنة من التراب بيده وألقى بها تجاه خيام أنصار الدين الإلهي فهبت عاصفة شديدة على تلك الخيام وتعرض أكبر شاه وأنصاره للحظات عصيبة بينما بقيت خيام المسلمين هادئة ولم يتعرض لشيءٍ مما أصاب السلطان وأنصاره وأمام هذا التحذير الإلهي الجلي والصريح تراجع بعض أركان الدولة وضباطها عن مواقفهم وأصبحوا مريدين للإمام الرباني.
توفي أكبر شاه في عام 1605 م. وتولى العرش من بعده ابنه جيهانجير فسُر الإمام الرباني كثيراً بهذه الحالة لأنه كان يعتقد أن جيهانجير إنسان متمسك بالإسلام .. أرسل الإمام الرباني الكثير من مريديه كخلفاء له إلى مناطق مختلفة من البلاد من أجل القيام بمهمة التبليغ والإرشاد وعلى سبيل المثال تلميذه مير محمد نعماني فقد أعطاه الخلافة وأجازه ثم أرسله إلى “ دكن ” وقد التف حوله في تكيته المئات من الناس حيث كانوا ينشغلون بذكر الله تعالى ومراقبته وبتحصيل العلم وكذلك أعطى الخلافة للشيخ بديع الدين سهارنبوري ثم بعثه في البدء إلى بلدته ومن هناك أرسله إلى “ آغرا ” وبذلك انضم الكثير من رجال الدولة إلى حلقات الذكر والإرشاد وتاب الآلاف من ضباط العسكر على يد الإمام .. وأرسل الإمام الرباني سبعين شخصاً برئاسة مولانا محمد قاسم إلى أنحاء تركستان وبعث بأربعين شخصاً تحت قيادة مولانا فروح حسين إلى الجزيرة العربية واليمن وسوريا والأناضول وأرسل عشرة أشخاص ممن بلغوا مرتبة الكمال برئاسة مولانا محمد صادق باتجاه كاشغار وكذلك أرسل ثلاثين شخصاً آخرين بقيادة الشيخ أحمد بكري إلى أطراف تركستان وبداخشان وخراسان وحقق هؤلاء الأشخاص نجاحات باهرة في الأماكن التي أُرسلوا إليها واستفادت جماهير غفيرة من الناس من علمهم وإرشادهم.
كان التفاف الناس حول الإمام الرباني يزداد يوماً بعد يوم ولكثرة تجمع الناس واحتشادهم حوله كانت زيارات الأشراف وكبار الموظفين في إدارات الدولة للإمام تواجه صعوبات كبيرة بسبب الازدحام الشديد فامتعض السلطان جيهانجير من تعلق الناس الشديد بالإمام مما دفعه إلى استدعائه في عام 1619 م. إلى العاصمة آغرا وأخذ يحاسبه عن عبارات تصوفية واردة في إحدى مكتوباته ثم اقتنع بالتوضيحات العقلية التي قدمها الإمام الرباني له إلا أن بعض الأشخاص المقربين من السلطان أخذوا يوغرون صدره تجاه الإمام بقولهم : إن هذا الشيخ لم يسجد لك سجدة التحية والسلام وإن له الكثير من المريدين داخل الجيش ولربما يثير في القريب فتنة في البلاد من خلال مريديه ويلحق الضرر بملكك ولطالما أن للشيخ أحمد عدد كبير من المريدين ضمن العسكر فإنه لربما يخرج عليك ويدعي الملك لنفسه .. وكان أغلب وزراء السلطان وموظفو الدولة في تلك الفترة يعتنقون مذاهب باطلة ويغتاظون كثيراً من مكتوبات الإمام الرباني التي تنتقد المذاهب الخارجة والمنحرفة عن الشريعة وتشكل رسالة مستقلة بذاتها فكانوا يحرضون السلطان عليه ونتيجة لكل ذلك قام السلطان جيهانجر بحبس الإمام الرباني الذي كان قد بلغ الخامسة والخمسين عاماً من عمره في قلعة “ كوفاليار ” واستولى على كتبه وبستانه وبئره وداره ورحل عائلته إلى مكان آخر.
أخذ الإمام الرباني خلال السنة التي قضاها في القلعة يعلم السجناء الإسلام ويرشدهم إلى سبيل الهداية وقد صار سبباً في دخول البعض منهم إلى الإسلام وبعد انقضاء سنة على حبسه ندم السلطان جيهانجر على ما فعله به وأطلق سراح الإمام بشرط الإقامة الجبرية .. ثم طلب السلطان جيهانجر من الإمام الرباني أن يكون مستشاره في المسائل الدينية فناقش الإمام هذا الأمر لمدة ولما علم صدق وإخلاص جيهانجر قبل طلبه بالشروط الآتية : (أن يلغي السلطان سجدة التسليم والتحية بين يديه .. أن يعاد بناء وإصلاح كل المساجد التي تم هدمها وتخريبها .. أن تُلغى القرارات التي تمنع ذبح الأبقار .. أن يراعي القضاة والمفتون وموظفو الدولة تطبيق الأحكام الإسلامية في أعمالهم .. أن يُعاد أخذ الجزية من جديد .. أن تُلغى كل البدع وتُطبق أحكام الشريعة الإسلامية .. أن يُطلق سراح جميع الذين سُجنوا بسبب التدين) كما يتبين من الشروط المتقدمة فليس للإمام الرباني أي مطلب شخصي إذ أن هدفه الوحيد كان تلافي التخريبات والمفاسد التي ارتكبت في عهد السلطان السابق والحيلولة دون تكرار تلك المفاسد والمضايقات في ظل حكم السلطان اللاحق .. اعتبر الإمام الرباني أن وجوده قريباً من السلطان فرصة جيدة وثمينة من أجل التشجيع على الأسس والمبادئ الإسلامية فأصبح يغشى مجالس السلطان ويتحدث عن المسائل الدينية وكان الحاضرون في تلك المجالس يصغون إلى حديثه باهتمام بالغ.
وكان السلطان جيهانجر قد تعرض للانتقاد من قبل الإمام الرباني في الفترات الأولى لحكمه بسبب صمته عن هدم وتخريب المساجد لكنه أخذ يبني المساجد ببركة هذه المجالس والإرشادات وتعلق بالإسلام لدرجة أنه صار يضحي بالأبقار وبقي الإمام الرباني بجانب السلطان جيهانجر لمدة أربع سنوات وفي هذه الأثناء كان يستمر بكتابة الرسائل إلى أصحابه ، وفي سنة 1033هـ أُعيدت له حريته الكاملة فعاد الإمام الرباني مع أولاده الذي قدموا لزيارته إلى سرهند وقضى السنة الأخيرة من عمره في بلدته ، وقد ودع الإمام الرباني رحمه الله هذه الحياة الفانية في الثامن والعشرين من شهر صفر لعام 1034 هـ الموافق للعاشر من شهر كانون الأول لعام 1624م، وله من العمر ثلاث وستون سنة .. ومن أهم كلماته ما سطرت في كتابه المكتوبات حيث يقول : ” وفي الواقع فقد كانت المصائب التي تحل بالأقوام في السابق إنما تقع بسبب هؤلاء المفسدين فهؤلاء هم الذين أضلوا السلاطين والملوك السابقين ولم يكتفوا بتضليل الملوك فقط وإنما أصبح هؤلاء العلماء المنحرفين السيئين قادة للفرق الضالة التي بلغت اثنتين وسبعين فرقة فليس هناك من أحد يسري انحرافه وضلاله إلى الناس الآخرين بقدر علماء السوء إن غالبية الجهلاء الذين يتشبهون بالمتصوفة اليوم هم بحكم علماء السوء وذلك لأن أفكارهم المنحرفة والفاسدة تؤثر على الآخرين أيضاً “.
ولم يكن الإمام الرباني بدعا في منطقته أو زمنه وإنما كان واسطة عقد بين عدد من العلماء الفاروقيين من سابقيه ولاحقيه .. ومنهم من أعلام الهند في القرن التاسع الشيخ عزيز الله المندوي (المجددي الفاروقي العمري) وهو الشيخ العالم الفقيه عزيز الله بن يحيى بن لطف الله العمري المندوي كان من ذرية الشهاب فرخ شاه العمري الكابلي .. ولد ونشأ بالعفاف والطهارة وأخذ عن الشيخ ركن الدين مودود لكجراتي ولازمه مدة طويلة حتى بلغ رتبة الكمال وسافر إلى أحمد آباد وإلى بلاد الدكن ثم قام بمندو وكان زاهداً متوكلاً لم ير له نظير في القناعة والعفاف والتوكل وكان لا يقبل النذور ولا يدخر شيئاً حتى قيل إنه قد شعر مرة بضيق في نفسه فرأى أن صاحبته ادخرت قطعة من الخبز فكسرتها ونقعتها في اللبن لبنت الشيخ فأمرها عزيز الله أن تخرج ذلك من بيته ولا تدخر شيئاً بعد ذلك .. وكانت ولادته في سنة سبع وستين وسبعمائة ووفاته في الثالث والعشرين من صفر سنة اثنتين وخمسين وثمانمائة.
ومنهم الشيخ العلامة عبد الغني بن أبي سعيد بن صفي القدر بن عزيز القدر الدهلوي السرهندي المجددي العمري الفاروقي من أشهر علماء ومحدثي الهند ثم المدينة المنورة ولد سنة 1235هـ بدهلي وحفظ القرآن وتلقى العلوم على علماء الهند ومن أشهرهم محدث المدينة محمد عابد السندي رحمه الله تعالى كان حنفي المذهب سمع الحديث من إسحاق بن أفضل الدهلوي وأخذ الطريقة المجددية النقشبندية الصوفية التي أنشأها جده مجدد الألف الثاني العارف بالله عبد الاحد السرهندي عن أبيه محدث الديار الهندية أبي سعيد الدهلوي ، انتقل إلى المدينة المنورة سنة 1257هـ بسبب فتنة الانجليز في الهند ووصل المدينة سنة 1272هـ ودرس في الحرم النبوي وكان منقطعا للرواية والتحديث توفي رحمه الله تعالى سنة 1296هـ ودفن في البقيع ومن أشهر تلامذته في المدينة المنورة : السيد أحمد بن إسماعيل البرزنجي والعلامة عبد الجليل برادة والسيد أمين رضوان والمحدث فالح الظاهري والشيخ عثمان الداغستاني ومفتي المدينة تاج الدين إلياس والشيخ عبد القادر الطرابلسي والسيد علي بن ظاهر الوتري وغيرهم كثير وخرج له تلميذه العلامة محمد يحيى المحسن الترهتي الهندي المدني ثبت اسماه ( اليانع الجني ).