
لا شك أن درة التاج من بني عدي هم العلماء الأجلاء من آل مخلوف (الأب والابن) .. والأب فهو فضيلة الإمام العلامة الفقيه الحجة العالم الأصولي المحقق الشيخ محمد حسنين مخلوف العدوي المالكي الأزهري والذي ولد في بلدة بني عدي التابعة لمركز منفلوط بمحافظة أسيوط في 5 رمضان سنة 1277هـ 1860م. في كنف والده وأسرته التي منها علماء أجلاء منهم والده العلامة الشيخ حسنين محمد علي مخلوف الذي درس في الأزهر ثم عاد إلى قومه ينشر العلم ، وقد حفظ القرآن الكريم ببلدته بني عدي وجوَّده ودرس بها مبادئ العلوم ثم قصد بعد ذلك الأزهر الشريف لينهل من علومه وظل به طالباً مجداً في دراسته حاد الذهن متوقد الذكاء وتتلمذ على شيوخ أعلام في تلك الحقبة من الزمن كالشيخ أحمد الرفاعي الفيومي شيخ مشايخ الأزهر وقتها والشيخ محمد الإمبابي صاحب التآليف الشهيرة في مختلف العلوم والشيخ محمد الروبي الفيومي وغيرهم من أعلام الأزهر.
وقد امتدت دراسته بالأزهر اثنى عشر عاماً ظهر فيها نبوغه وتفوقه على أقرانه فاختاره شيخ الأزهر الشيخ محمد الإمبابي لنيل شهادة العالمية وكلفه بوضع رسالة في مبادئ العلوم وعين له موضوعاً في علم أصول الفقه ليناقش مع الرسالة ويؤدي درساً في هذا الموضوع أمام لجنة برياسته من كبار الشيوخ بالأزهر كان من أعضائها العالمان الجليلان الشيخ أحمد الرفاعي والشيخ سليم البشري فألف الرسالة وتوفر على تحضير الدرس المعين ومثل أمام تلك اللجنة في منزل شيخ الأزهر الشيخ الإمبابي في اليوم المحدد ونوقش في الرسالة والدرس ساعات عديدة انتهت بنيله شهادة العالمية من الدرجة الأولى الممتازة في شعبان سنة 1305 / 1887م ، وأذن له بالتدريس في الأزهر في مختلف العلوم دون تحديد بعلم أو كتاب وكان ذلك نظام الامتحان والتدريس للنابهين من علماء الأزهر الشريف إذ ذاك ومن هذا الوقت تألق نجمه وأخذ في تدريس العلوم على اختلافها للطلاب وكانت الدراسة بالأزهر وقتها دراسة نموذجية هي المتبعة حالياً في الجامعات الأمريكية والأوروبية دراسة بحث وتحقيق وتحليل مما يربى في طالب العلم ملكات العلوم ويغذي النفوس بحفظ المعلومات وتحقيقها في كل فن.
وقد عني وقتها بتدريس كثير من العلوم التي تخرج على يديه فيها نخبة من طلاب الأزهر في ذلك العهد كما عرف عنه الجد والاجتهاد في كل أمر يتولاه والميل الكثير إلى الإصلاح والنظام .. فحينما اتجه الإصلاح في الأزهر إلى إنشاء مكتبة جامعة خاصة به على النظام الحديث والترتيب المعروف في المكتبات العامة اختير الشيخ محمد مخلوف أميناً لها في عهد الإمام الأكبر الشيخ حسونة النواوي في عام 1897 م. وقام بمجهودات فائقة ظهرت على أثرها مكتبة علمية هامة حديثة النظام والتنسيق حافلة بالمطبوعات والمحفوظات في العلوم القديمة والحديثة ، وبدأ في إنشاء فهرس حديث لها وكان مع ذلك دائباً على التدريس في الصباح والمساء بالأزهر وإحدى قاعات المكتبة الأزهرية حيث درس مختلف العلوم ثم عيِّن مفتشاً أول للأزهر والمعاهد الدينية ولم يشغل هذه الوظيفة أحد قبله ثم عيَّن عضواً بمجلس إدارة الأزهر الذي كان يضم أعلام الأزهر فكانت له فيه جولات إصلاحية هامة حيث كانت الصلة وثيقة بينه وبين الأستاذ الشيخ محمد عبده فكان عضده الأقوى من الأزهريين في مشروعاته وإصلاحاته الأزهرية.
ثم عيَّن شيخا للجامع الأحمدي بطنطا في فاهتم بأمره وبتخصيص كل عالم بدراسة ما يحسنه من العلوم ورفع مرتبات العلماء إلى ما يليق بهم حتى صار الجامع الأحمدي كأعظم المعاهد العالية بعد الأزهر الشريف ثم بنى للمعهد بناء فخماً وهو الموجود حتى الآن بجوار محطة سكك حديد طنطا ولذلك عهد إليه لإدارة معهدي دسوق ودمياط فنهض بهما نهوضه بالجامع الأحمدي ، ثم عيَّن مديراً للأزهر والمعاهد الدينية ولم يكن لهذه الوظيفة اسم من قبل فواصل العمل بخطته الإصلاحية التي بدأها وتغلب بذلك على العقبات الكأداء وكان قد أعد طائفة من نابهي الطلاب للمساهمة في الحياة الأدبية المعاصرة وكان هؤلاء الطلاب نواة التحرير والخطابة والإرشاد والتوجيه والزعامة الأزهرية في الحركة الوطنية المباركة سنة 1919 فكان لذلك محط أنظار القادة والمصلحين وأنعم عليه من الدولة العلية بـمنحه النشان المجيدي الثالث ثم النشان العثماني الثاني وممن يلي الأمر بمصر بكسوة التشريف العلمية من الدرجة الأولى.
ثم سافر إلى الآستانة وأزمير ثم الحجاز والتقى بكثير من العلماء الأمجاد ثم عيِّن عضواً بجماعة كبار العلماء بالأزهر أول ما سنها القانون وكان عددها ثلاثين عضواً يمثلون المذاهب الأربعة كذلك عيِّن عضواً بمجلس الأزهر الأعلى وكان حافلاً بأعضاء أجلاء موهوبين وقد ضمت إليه وظيفة وكالة مشيخة الأزهر فجمع بين الوظيفتين في عهد الشيخ سليم البشري شيخ الأزهر ولم يتجاوز عمره آنذاك الخامسة والخمسين ، وفي سنة 1915 اختلف مع السلطان حسين كامل في بعض الشؤون الأزهرية (أوقاف الأزهر) وأصر على رأيه فيها فعز ذلك على السلطة فأقصي عن وظائفه الإدارية فسري عنه كثيراً وأقبل على التدريس فكانت دروسه كل يوم بمسجد محمد بك أبي الذهب حافلة جامعة عظيمة يحضرها العلماء وكبار الطلاب من الأزهر وغيره وكان يقرؤها مساء بين المغرب والعشاء قراءة متواصلة حتى في شيخوخته وكانت قراءته في المراجع القيمة كما كان يزيد طلابه بحثاً وتحقيقاً وبياناً وتقريراً ، وتخرج على يديه نخبة من العلماء المبرزين نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر الشيخ عبد الله دراز والشيخ محمد مصطفى المراغي والشيخ عبد المجيد سليم ونجله الشيخ حسنين مخلوف مفتي الديار المصرية الأسبق فيما بعد وغيرهم من الأعلام الذين تولوا مناصب عليا في الأزهر والقضاء والإفتاء.

عاد بعد اعتزاله المناصب سيرته الأولى في الدراسة والتأليف فعكف عليهما عكوفًا منقطع النظير وكانت دروسه بعد الغروب غاصة بالعلماء ومتقدمي الطلاب حيث عني كثيرًا بتدريس أصول الفقه فقرأ جمع الجوامع مرتين في أربعة عشر عامًا وكتب عليه حاشية كبيرة قيمة تبلغ مجلدين وألف كتابًا قيمًا سماه (بلوغ السول في مدخل علم الأصول) اشتمل على عدة مباحث هامة وأهمها مباحث الاجتهاد والتقليد وحجية القياس والاستحسان والمصالح المرسلة وأوضح فيه المنهج الأصولي والفقهي والخلافي في استنباط الأحكام الشرعية وكان تفسير البيضاوي آخر كتاب يدرسه للطلاب ، ومن مؤلفاته (حاشية على رسالة بهاء الدين العاملي في الحساب) وحاشية كبيرة قيمة على جمع الجوامع في الأصول في جزأين وكتاب
(المدخل المنير في مقدمة علم التفسير) وكتاب (القول الوثيق في الرد على أدعياء الطريق) وكتاب (رسالة في حكم ترجمة القرآن الكريم وقراءته وكتابته بغير اللغة العربية) وكتاب (عنوان البيان في علوم التبيان) وغيرها كثير .. وكان طوال عهده معروفًا بعلو النفس وبعد الهمة والجود والسخاء وصدق الوفاء ومساعدة البائسين والفقراء وكان أبيًّا لا يعرف الضراعة والخنوع وقورًا حسن الحديث يترفع عن الغيبة وذكر المثالب والتسمع إليها ويدعو إلى الفضائل ومكارم الأخلاق وكان كثير التعبد وتلاوة القرآن الكريم تلاوة تدبر وإمعان.
وقد قضى حياته في خدمة العلم والدين والأزهر الشريف ونشر الثقافة الإسلامية وفي الدعوة إلى الحق والقيم الروحية والأخلاقية في دروسه وأحاديثه ومؤلفاته واجتماعاته في الأزهر وغيره في كل المجالات ، وكان عف اللسان مهاباً في مجلسه موقراً محترماً من عارفيه شديد الصلابة في الحق صريح المقال عالي الهمة لا يرد قاصدا خيراً جواداً كريماً فصيح اللسان قوي البيان محققاً مدققاً في العلوم وتآليفه كثيرة تركها ما بين مطبوع ومخطوط وهي تزيد على سبعة وثلاثين مؤلفاً ، وقد كان خديوي مصر عباس باشا حلمي الثاني يجله ويحبه كثيراً ويعمل بما يشير به في الشؤون الأزهرية وغيرها وكان له أصدقاء كثيرون منهم الإمام الشيخ محمد عبده والزعيم سعد زغلول الذي أوصى أن يحضر غسله عند مماته وقد كان ، وكانت للشيخ مخلوف علاقة حميمة مع فخري عبدالنور القيادي الوفدي الشهير وكان الشيخ ينزل فى قصر أسرة عبدالنور فى جرجا وهو القصر ذاته الذى نزل به الخديوي عباس حلمى وسعد زغلول وفؤاد سراج الدين وكانت هناك غرفة مخصصة بالقصر للشيخ مخلوف الأب يطلقون عليها (غرفة الشيخ) ، وقد عاش رحمه الله تعالى زاهداً إلى أن توفاه الله في شهر الله المحرم سنة 1355هـ / 1936م ودفن في قرافة المجاورين بالقاهرة.
ويقول الأستاذ حسين مهران في تقديمه لمذكرات الشيخ حسنين مخلوف نجل العلامة الشيخ محمد مخلوف : ” لعل فيما كتبه الشيخ حسنين مخلوف فى مذاكرته عن رحلة الطفولة والصبا ما يمكن الدارس من أن يضع يده على مفاتيح هذه الشخصية العظيمة وأن يفسر فى ضوئها كثيرا من المواقف والاتجاهات التى التزم بها الشيخ طيلة حياته .. المفتاح الأول فيما يحكيه بقوله : ” فى طفولتي لم أعرف اللعب فقد كان والدي يصحبني معه إلى المسجد وأنا طفل أتابع دروسه وأرقب طريقته فى الإلقاء أرى سماحة صدره وهو يناقش .. يصل بالمفاهيم الدينية إلى أبسط فلاح فى قريتنا يتواضع مع الناس كلهم ويحبب إليهم حضور درس العلم والاشتراك فى المناقشة وعدم الخوف أو الخجل من السؤال عن رأى الدين فيما يعترضهم من مشاكل أو يغمض عليهم من مسائل ” ، وأحسبك ترى معى أيها القارىء الكريم أن الشيخ حسنين رحمه الله قد أعجب بهذه الشمائل الكريمة فى والده فضيلة الشيخ محمد حسنين رحمه الله ولاحظ آثارها الطيبة على تلاميذه فاقتبسها وتحلى بها واتخذها منهاجا فى حياته العلمية ، ولو أجهد باحث نفسه فى رصد صفات الشيخ حسنين كمدرس لم يجد خيرا من الأوصاف التى وصف بها الشيخ حسنين والده الجليل وكأنها طبعت فيه ولا عجب فى هذا فهو امتداد الطبع له إذ الولد سر أبيه كما قيل بل إن هذا ما كان يرجوه الشيخ الوالد لولده الحبيب أن يرثه فى هذا الجانب المقدس كما جاء على لسان الشيخ حسنين فى مذاكراته : ” بدأت فى تلك الفترة المبكرة من حياتى أسمع كلاما حول مستقبلى كما حدده الوالد أن يكون فى طلب العلم وأن أخلفه فى مجلسه ودروسه ويبدو أن الوالد كان يعدنى منذ طفولتى لهذه المهمة لذلك فإنه ليس غريبا أننى وأنا من بيت علم قد وهبت حياتى أيضا للعلم ولم أعرف اللهو ولم أعرف إلا الدرس والتحصيل .
المفتاح الثاني : ما جاء على لسان الشيخ رحمه الله وهو يحدد الدروس التى استفادها من معركة إصلاح الأزهر التى قادها الشيخ محمد عبده وكان والده الشيخ محمد حسنين مخلوف مشاركا فيها بصفة أساسية بسبب صداقته الوطيدة للشيخ محمد عبده واقتناعه بوجوب الإصلاح يقول الشيخ حسنين : ” الدرس الأول الذى تلقنته من هذه المعركة التى كنت أسمع تفاصيلها ولا أعيها : أن الإنسان الذى يؤمن بمبدأ لابد وأن يدافع عنه وأن يظل صامدا فى سبيل عقيدته وهكذا كان الشيخ محمد عبده وكان والدي أيضا وكان الدرس الثانى الذى لقنني والدي إياه أن أكون دائما فى غنى عن الناس وألا أحتاج إلى مخلوق من خلق الله وقد وقانى الله شر ذلك ولم يحوجنى لأحد طيلة حياتى وكنت أسأل الله تعالى منذ طفولتى ما علمنى إياه والدى رحمة الله عليه (التقى والهدى والعفاف والغنى عن الناس) فعشت حياتى كلها مرفوع الرأس لأنني لم أحن هامتي إلا لله سبحانه و تعالى ، وهذان الدرسان بينهما ارتباط وثيق فصاحب المبدأ لا يثبت فى الدفاع عنه ولا يتمسك به أمام الأعاصير إلا إذا كان ذا يقين كامل فى الله وحده وأنه سبحانه هو المتفرد بالنفع والضر والإعطاء والمنع فإذا كان الوالد فضيلة الشيخ محمد حسنين مخلوف وكيل الأزهر ومدير المعاهد الدينية آنذاك قد اختلف مع السلطان حسين كامل سنة 1915 فى بعض الشئون الأزهرية وأصر الشيخ على رأيه فيها فعز ذلك على السلطة الحاكمة فأقصى الشيخ عن وظائفه الإدارية مرفوع الرأس موفور الكرامة تاركا وراءه مؤلفه (منهج القرآن في بيان أن الوقف الأهلي من الدين) شاهد صدق وحق على هذه الواقعة الخطرة في ذلك الحين “.