5 / الرايات الخضراء

 في الوقت الذي كان العباسيون قد نجحوا في القضاء على الدولة الطولونية كانت الدعوة الشيعية الفاطمية في بلاد المغرب العربي قد تحولت إلى دولة بالفعل عندما سيطرت جيوش عبيد الله المهدي على تونس في عام 297 هـ. ثم انطلقت للتمدد في المغرب العربي من برقة وحتى جبال أطلس ومن ثم اتجهت أنظارهم صوب مصر ، وكانت الدولة الفاطمية تعتمد اعتمادا كبيرا في أول أمرها على القبائل الأمازيغية البربرية في المغرب من أمثال كتامة وزويلة وغيرها لكنهم أدركوا أن دخول مصر يتطلب سياسة أخرى تعتمد على سطوة ونفوذ القبائل العربية في مقابل العنصر التركي المدعوم من قبل العباسيين ولذا سعى الفاطميون لتوثيق علاقتهم بالقبائل العربية خاصة الموجودة في صعيد مصر وعلى رأسها قريش وعشائرها ، وقد لعبت العصبية القبلية دورا هاما في تأييد عشائر قريش للفاطميين الذين كانوا يعتزون بنسبهم إليها ويظهرون المودة لكافة القرشيين متغاضين عن الخلاف المذهبي بل والثارات التاريخية وقد ظهر هذا التأييد واضحا عندما أرسل الفاطميون جيشا لغزو مصر بقيادة حباسة بن يوسف في شوال سنة 297 هـ. وانتصر على جيش العباسيين الذي كان يقوده أبو النمر أحمد بن صالح من قبل الخليفة المقتدر العباسي.

وعندما رأى عبيد الله المهدي مساندة هذه القبائل له أرسل حملة ثانية بقيادة ابنه القاسم سنة 301 هـ. واستولى على الإسكندرية والفيوم من بلاد الصعيد ثم أرسل حملة بحرية ثالثة سنة 302 هـ. بقيادة حباسة بن يوسف استطاعت أن تستولي على الإسكندرية في شهر محرم من نفس العام ثم سار نحو الصعيد واستولى على قرية أبو جرج ولكن العباسيين استطاعوا دحرهم وأجبروهم على الرجوع إلى المغرب ، كما وقف أقباط مصر إلى جانب الفاطميين وأرسلوا إليهم الرسل مبينين لهم مناطق الضعف عند العباسيين في مصر وكذا ميلهم إلى مساعدتهم مما شجع الفاطميين على إرسال حملات عسكرية مكثفة لضم مصر إلى حوزتهم وفي هذه الحملات نجدها تتجه نحو صعيد مصر لعمل نقطة انطلاق للسيطرة على مصر كلها ومن هذه الحملات الحملة التي أرسلت ما بين عام 308 ـ 309 هـ. والتي توجهت نحو البهنسا والأشمونين واستولت عليهما وذلك لأن أغلب القبائل العربية من الأشراف القرشيين كانت بهما ثم سيطرت على الفيوم ولم يتمكن العباسيون من طردهم إلا بعد إرسال عدة حملات عسكرية بقيادة مؤنس الخادم.

وظل الفاطميون يترقبون الأحداث في مصر لاستغلال أي فرصة للانقضاض والسيطرة مثلما حدث عندما ثار أحمد بن كيلغ ضد الإخشيديين وتحصن بالصعيد سنة 323 هـ. أرسلت الدولة الفاطمية حملة عسكرية لمناصرة هذا الثائر كما أرسلت أيضا حملة عسكرية إلى الثائر العلوي ابن السراح في بلاد الصعيد والبهنسا ضد محمد بن طغج الإخشيد والذي استولى على بلاد الصعيد وعلاوة على ذلك أعلنت قبائل قريش بالصعيد انضمامها للدولة الفاطمية ومساندتها لدعوتها وبدأت القبائل العربية الأخرى المقيمة بالصعيد تتأثر بقريش وتؤيد قدوم الفاطميين ودخولهم مصر مثل بني هلال وسليم وربيعة ، وقد كانت تولية الإخشيد على مصر من قبل العباسيين لاجتهاده في مقاومة الغزوات الفاطمية لكن ذلك لم يمنعه من مهاندة الفاطميين أحيانا ومخاطبة ودهم حتى يتقي خطرهم خاصة وهو يعلم حقيقة العلاقة بينهم وبين القبائل العربية في الصعيد لذا آثر سياسة اللين على القوة حيث كان بين شقي الرحى حيث العباسيين في الشرق يطالبونه بالولاء الكامل والفاطميون في الغرب يهددونه بالغزو والعرب في الداخل يتحينون الفرصة للثورة وهو يجتهد للمحافظة على استقلاله عن الجميع.

وكانت الخلافة العباسية تشهد أسوأ أيامها حيث قامت ثورة الزنج بالعراق وشغل بها القادة فاستغل القرامطة الفرصة فعاثوا في الأرض فساداً وسيطروا على بعض مناطق الجزيرة العربية وارتكبوا مجازر كبرى خاصة في طريق الحجاج فألغى أهل الشام والعراق الحج لشدة الرعب منهم وقاموا بالهجوم على البصرة وقاموا بمجزرة كبرى استمرت 17 يوما واستباحوا الأموال واغتصبوا النساء ثم هاجموا أطراف الشام وكانوا كلما مروا بقرية سلبوا الأموال وقتلوا الرجال واغتصبوا النساء ثم يحرقون القرية بما فيها ومن فيها من أطفال وعجائز ، وفي عام (317هـ – 908م) أغاروا على المسجد الحرام وقتلوا من فيه وسرقوا الحجر الأسود وغيبوه 22 سنة (رُدّ إلى موضعه سنة 339هـ. بعد وساطة الفاطميين وتهديدهم للقرامطة) ففي ذلك العام وتحديدا يوم التروية قام أبو طاهر القرمطي ملك البحرين وزعيم القرامطة بغارة على مكة والناس محرمون واقتلع الحجر الأسود وأرسله إلى هجر وقتل عددا كبيرا من الحجاج وحاول أيضا سرقة مقام إبراهيم ولكن أخفاه السدنة وفي 318 هـ تقريبا سن الحج إلى الجش بالقطيف بعدما وضع الحجر الأسود في بيت كبير وأمر القرامطة سكان منطقة القطيف بالحج إلى ذلك المكان ولكن الأهالي رفضوا تلك الأوامر فقتل القرامطة أناسا كثيرين من أهل القطيف وقيل بلغ قتلاه في مكة ثلاثين ألفا.

وكانت الاضطرابات الحادثة في الحجاز سببا في انتقال عدد كبير من العشائر القرشية والحجازية إلى مصر هربا من القرامطة حيث كان الفاطميون يغدقون عليهم الأموال ويمنونهم بالحظوة إذا فتحت لهم مصر لكن سياسة كافور المهادنة حالت دون حدوث ذلك وهو ما جعل الخليفة المعز لدين الله يقول قولته المشهورة : ” دوننا ومصر الحجر الأسود ” يعني كافور ، ولم يضيع المعز الفرصة انتظارا لوفاة كافور وإنما بذل كل ما استطاع من مجهودات سياسية على محاور عدة فضغط على كافور حتى وافق على استضافة الدعاة الفاطميين في الفسطاط وظل يراسل القبائل العربية في الصعيد وفي نفس الوقت يتابع القبائل العربية في الحجاز حيث تدخل للصلح بين الجعافرة والحسينيين وتحمل الديات في عام 348 هـ. حيث عقد الصلح في المسجد الحرام ، وكانت الإرهاصات البادية للجميع أنه قادم إلى مصر لا محالة بعد أن حقق بالسياسة ما عجز عنه آباؤه بالحرب لذا عندما واتته الفرصة ومات كافور عجل بإرسال جيش جرار إلى مصر بقيادة جوهر الصقلي وقال وهو يودعه : ” والله لو سار جوهر وحده لفتح مصر ” وذلك ثقة في مولاه واطمئنانا لحسن سياسته التي آن أوان جني ثمارها.

في عام 358 هـ. دخل جوهر الصقلي إلى مصر سلما ولم يلق إلا مقاومة طفيفة من بعض أشياع العباسيين في الفسطاط والذين طلبوا الأمان في النهاية وبالتبعية قام الأشراف في مكة والمدينة بإعلان سيطرتهم على الحجاز باسم الخليفة المعز وبدأ الفاطميون يقدمون الهبات السخية للقبائل العربية التي ناصرتهم وأيدت دعوتهم والتي وقفت بجانبهم ورحبت بهجرة مزيد من القرشيين إلى مصر بل وتعدى الأمر ذلك إلى نصرتهم بالقوة المسلحة عندما استدعى الأمر ذلك حيث كانت هناك نزاعات طبيعية على النفوذ بين القبائل في الصعيد ، كانت منازل قريش أساسا في البهنسا وما حولها لكن مع الزيادة العددية وهجرة المزيد من الحجاز بدأت العشائر القرشية في النزوح شمالا وجنوبا حيث بدأ الأمر بالجعافرة بعد خلافهم مع بني الحسن في الحجاز فانتقلوا إلى مصر وهو الأمر الذي شجع بقية بطون قريش فرحلت واحدة إثر أختها حتى تكاثروا في نواحي البهنسا والأشمونين ، وكانت قبيلة جهينة تسكن في منطقة الأشمونين ويجاورها في الجنوب قبيلة بلي فلم تلبث الحرب أن نشبت بين قريش وجهينة فأرسل الفاطميون جنودهم لنصرة قريش فتم لها النصر وانزاحت جهينة جنوبا مما اضطر قبيلة بلي إلى النزوح هي الأخرى جنوبا ثم جاءت بطون من كنانة سمحت لها قريش بالمرور لتسكن بجوارها ناحية الجنوب بينها وبين جهينة.

وقد ذكر المقريزي ذلك بالتفصيل في كتابه البيان والإعراب عما في أرض مصر من الأعراب وهو يتحدث عن قبيلة جهينة قائلا : ” وهي قبيلة عظيمة وفيها بطون كثيرة وهي أكثر عرب الصعيد وكانت مساكنهم في بلاد قريش فأخرجتها قريش بمساعدة عساكر الخلفاء الفاطميين ونزلوا في بلاد إخميم أعلاها وأسفلها وروي أن بليا وبطونها كانت بهذه الديار وجهينة بالأشمونين جيرانا بمصر كما هم بالحجاز فوقع بينهم واقع أدى إلى دوام الفتنة فلما خرج العسكر لإنجاد قريش على جهينة خافت بلي فانهزمت في أعلى بلاد الصعيد إلى أن أديلت إلى قريش وملكت دار جهينة ثم حصل بينهم جميعا الصلح على مسألتهم هذه التي تقدم ذكرها وزالت الشحناء .. واتفقت هي وجهينة فصار لبلى من جسر سوهاي غربا إلى قريب غرب قمولة وصار لها من الشرق من عقبة قاو الخراب إلى عيذاب ” ، وأثناء سير العسكر الفاطمي حرص على حسن معاملة كافة عشائر قريش بما في ذلك الأمويين رغم العداوة التي كانت بين الفاطميين والأمويين في الأندلس وفي هذا يقول المقريزي : ” وأما بنو أمية بصعيد مصر فمنهم ولد أبان بن عثمان بن عفان وولد خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وبنو مسلمة بن عبد الملك بن مروان وبنو حبيب بن عبد الملك بن مروان وديارهم تنده وما حولها ومنهم المروانية أولاد مروان بن الحكم ومرت الدولة الفاطمية وهم بأماكنهم لم يروع لهم سرب ولم يكدر لهم شرب “.

ولا شك أن المعز لدين الله الفاطمي كان من أبرع السياسيين الذين أحسنوا الاستفادة من صلاتهم بالقبائل العربية فقرب إليه قبائل ربيعة ومضر (خاصة القيسية مثل هلال وسليم) لتكون عونا له على مناوئيه من القبائل اليمانية أمثال طيء وجهينة وبلي واستعمل في ذلك سياسة الترغيب والترهيب (سيف المعز وذهبه) فلم يتورع عن مهاجمة بعض العشائر القرشية التي رفضت بيعته والتفت حول أحد الأشراف وسيطر على أخميم وأسيوط فأرسل لها جيوشه وهزمهم ومنهم عشائر بني جمح وبني عمرو فقتل بعضهم وعفا عن البعض بوساطة من أمير مكة ثم عاد للإغداق على القبائل بالمال خاصة بعد أن تحالفت قريش كلها في الصعيد وصارت على قلب رجل واحد ، وكان من حسن السياسة عند المعز وخلفائه أنهم لم يشترطوا التشيع لتمام الولاء لأنهم يدركون صعوبة تغيير مذاهب الناس لذلك لم ينتشر المذهب الإسماعيلي خارج أسوار العاصمة الملكية الجديدة (القاهرة) وهو ما منح القبائل العربية قدرا من الاستقلالية ورفع عنهم حرج التشيع وساعدهم في ذلك بعدهم الاختياري عن العاصمة فكأنهم كانوا دولة داخل الدولة لها نفوذها وأملاكها وسلطتها الخاصة بها بل وأحيانا جيشها المستقل.    

وكانت قبيلة ربيعة قد أسست إمارة عربية لها ببلاد الصعيد الأعلى تمتد من قوص إلى أسوان فضلا عن منطقة المريس من بلاد النوبة (وهي نفس حدود إمارة العمري حيث قامت على أنقاضها) وقد تولى رئاسة هذه الإمارة أبو المكارم بن هبة الله الذي كان يعرف بالأهوج المطاع فأيد الفاطميون هذه الإمارة وأعطوا لزعيمهم لقب (كنز الدولة) تقديرا لمكانته عندهم وأصبح كل أمير من ربيعة يلقب بهذا اللقب ، وقد سار الخلفاء الفاطميون على نفس السياسة حيث عمد الحاكم للاستعانة بقبائل ربيعة في القضاء على الثائر الأموي أبو ركوة والذي جاء من الأندلس وجمع حوله الأتباع في صعيد مصر كما لجأ المستنصر إلى الاستعانة بقبائل هلال وسليم للهجوم على الانفصاليين في بلاد المغرب العربي من القبائل الأمازيغية التي نقضت عهدها وخلعت بيعة الفاطميين ، ولا جدال أن العصر الفاطمي كان العصر الذهبي للقبائل العربية في مصر خاصة في الصعيد حيث أتيح لها الانتشار والاستقرار وامتلاك الأراضي والثروات حتى إن ولاة الصعيد كانت لهم كلمة مسموعة في أواخر الدولة وكان منهم الوزراء وكبار القادة ، وكان لقبيلة بني عدي نصيب من ذلك حيث أصبحت لها مواطن ثابتة عرفت بمنازل بني عدي أو العدوية (العدوة) في أكثر من موضع داخل المنطقة الممتدة من شمالي البهنسا (بني سويف) وحتى جنوب الأشمونين (منفلوط) شاملة كل محافظة المنيا الحالية والتي عرفت عند المؤرخين باسم (بلاد قريش).