6 / مصادر التاريخ في العصور الوسطى

دائما ما ينظر بعين السخرية إلى ما كتبه الإخباريون العرب حول الحضارات القديمة وما سردوه من أقاويل ومبالغات لا تتفق مع الكشوف الأثرية الحديثة .. لكن نظرة واحدة مدققة إلى مؤلفات العديد من علماء العصر الوسيط سوف تخبرنا أنهم اجتهدوا اجتهادا كبيرا في الترجمة وحصر ما أتيح لهم الاطلاع عليه ..

ومنهم أبو الريحان البيروني مؤلف كتاب (الآثار الباقية من القرون الخالية) والذي احتوى على سجل بأسماء فراعنة مصر من الأسرات العشر الأخيرة ونقلها غالبا من كتب يونانية فقدت الآن ، ويظهر في هذا السجل تقارب كبير مع المكتشفات الأثرية الحديثة وقوائم الملوك المتعددة  ..

 فهو يذكر الملوك الكوشيين ويصفهم بالأحباش (الأسرة 25) ويذكر الفرعون أمازيس (أحمس الثاني الأسرة 26) ويذكر أيضا أمير تايوس الذي قاوم الفرس (الأسرة 28) كما ذكر الرعامسة (الأسرة 20) بوصف (ديسفوليتا) وهو نفس المصطلح الذي ذكره مانيتون في قوائمه ويعني (ملوك من طيبة) دون أن يفصل أسماءهم التي كانت كلها متشابهة (من رمسيس الثالث وحتى رمسيس الحادي عشر) لكنه ذكر مدة حكمهم بالضبط وهو 178 عام  ..

 وذكر أيضا كلا من شيشنق وأوسركون وبسماتيك ونخاو مع سنوات حكمهم .. وهذا الكتاب القيم يجعلنا نعيد النظر بالتأكيد في كل ما أنتجته قريحة المؤلفين في ذلك العصر وأن نخضعها من جديد للتحليل والفحص وأن نجعلها مرة أخرى في بؤرة الاهتمام لأنها قد تكمل لدينا بعض المعلومات وتسد ثغرات كثيرة فقدت مع فقدان الكثير من الآثار الفرعونية المنهوبة عبر زمن طويل وكذلك ضياع الكتب اليونانية في أوروبا بسبب وصمها بالوثنية من قبل أباطرة الرومان المسيحيين ..

ولعل الفائدة الكبرى من تراجم اليونان التي عكف عليها البيروني وغيره تعطينا وجهة النظر الشعبية التي رصدها رحالة اليونان عن مصر الفرعونية وذلك في مقابل الكتابات الرسمية المنقوشة على المعابد والتي كانت تعبر عن وجهة نظر الحكام والكهنة والتي لا تعبر بالضرورة عن حقيقة الأوضاع وقتها بل ربما تعطينا الأسباب الحقيقية لانهيار هذه الحضارة العظيمة التي جاوزت أربعين قرنا من الزمان .. وهو أمر لو تعلمون عظيم.

تعدد مصاد التاريخ

التاريخ علم له أصوله وقواعده ومجال البحث الأكاديمي الخاص به والمرجع الأساسي فيه هم أساتذة التاريخ المتخصصون ، لكن لأن التاريخ يجذب كثيرا من الهواة والمثقفين والمهتمين بالقضايا السياسية والاجتماعية فقد يكون هناك فرصة في الاستعانة بعدد من المراجع التي تساعد على الإلمام بتصور مقبول للتاريخ بعيدا عن القناعات المسبقة والرؤية المزاجية أوالتناول الجزئي البعيد عن الحيادية  ..

ويجب دراسة الإيجابيات والسلبيات وعدم الاقتصار على الرواية الرسمية المرتبطة بالعاصمة وإنما إكمال الصورة بدراسة تاريخ الأقاليم والمجتمع والتراث الشعبي ، والعصور الإسلامية هامة لوجود اتصال معها على مستوى اللغة والدين والجوانب الاجتماعية المختلفة ، وحتى يمكننا استيعاب تلك الفترة يجب علينا دراسة المكان والأشخاص والظروف المحيطة وعدم الاكتفاء بالأحداث وحدها وذلك على النحو التالي  :

أولا / دراسة المكان .. وهو مسرح الأحداث التي توالت في العصور الإسلامية وجرت جميعا فيما عرف باسم (الأمصار) وهي المدن الجديدة التي بناها العرب على حافة الصحراء في الأقاليم المختلفة مثل الكوفة والبصرة وواسط والفسطاط والرملة والقيروان وفاس وذلك في القرون الأولى ثم تلا ذلك إنشاء بغداد وسامراء والعقبة والموصل والرقة وخان يونس وتعز وزبيد وذلك في المشرق العربي  ..

وفي المغرب العربي تأسست كل من تونس والمهدية وصفاقس والجزائر ووهران وتلمسان ومراكش والرباط والدار البيضاء ، وفي مصر بنيت القاهرة وضواحيها الجيزة وحلوان والخانكة وفي الدلتا والصعيد كل من المحلة والمنيا والمنصورة وقوص وكفر الشيخ والصالحية والنحارية لأسباب مختلفة ، بالإضافة إلى تأثيرات واضحة في المدن القديمة مثل الإسكندرية ودمشق وحلب وطرابلس  ..

وتم رصد كل ذلك من خلال كتب الجغرافيين والرحالة أمثال ياقوت الحموي والمسعودي وابن حوقل والإدريسي وما كتبه الرحالة أمثال ابن بطوطة والبغدادي وابن جبير ، وفي مصر كل من الأسعد بن مماتي (كتاب قوانين الدواوين) وابن الجيعان (كتاب التحفة السنية بأسماء البلاد المصرية) وهما من كبار موظفي الدولة وحوت كتاباتهم معلومات تفصيلية عن كافة قرى مصر وحالتها الزراعية والمالية  ..

ثانيا / دراسة الأشخاص .. وقد توافرت السير الذاتية لعشرات الآلاف من الشخصيات من الحكام والعلماء والمتصوفة والشعراء والأعيان بفضل ظهور مؤلفات التراجم والتي بدأت مع الكتابات عن المحدثين والتابعين مثل كتاب الطبقات لابن سعد وتعددت أغراضها مثل الكتب التي تناولت حصر الأطباء أو الشعراء أو عرب الفسطاط مثل كتاب تاريخ المصريين لمؤلفه ابن يونس الصدفي المصري  ..

ومنذ القرن السادس ظهرت الكتب التي تؤرخ لشخصيات كل قرن من خلال مؤلف معاصر لهم مثل كتاب ابن حجر (الدرر الكامنة في أعيان المئة الثامنة) وكتاب السخاوي (الضوء اللامع لأهل القرن التاسع) وذلك في كافة القرون حتى العصر الحديث ، وهو ما يعطي فرصة لمعرفة رجال كل عصر بل ورجال كل مدينة وقرية في مصر وعلاقتهم بالسلطة ودورهم في المجتمع وتأثيرهم في الأحداث  ..

ويشمل ذلك المراجع التي تناولت القبائل العربية واستقرارها في مصر لأنها كانت العنصر المحرك للأحداث طوال العصور الإسلامية مثل كتاب البيان والإعراب عما بأرض مصر من الأعراب وكتاب قلائد الجمان في التعريف بعرب الزمان وجمهرة أنساب العرب بالإضافة إلى كتب المتصوفة والأضرحة والقبور والمساجد ومن أهمها كتاب دكتورة سعاد ماهر مساجد مصر وأولياؤها الصالحون.   

ثالثا / دراسة الظروف .. ويشمل ذلك الكتب الموسوعية التي احتوت على معلومات تفصيلية في الجوانب السياسية والاجتماعية مثل كتب ابن فضل الله والنويري والقلقشندي وابن منظور (والأربعة مصريين من أبناء القبائل العربية) حيث تناولت الكتب دراسة الجوانب السياسية وعلاقة مصر بالدول الأخرى وتبادل السفارات والمراسم السلطانية وإدارة الهيكل الإداري للدولة وكذلك الاحتفالات المختلفة الرسمية والشعبية والدينية  ..

ويشمل ذلك كتابات السيوطي وابن دقماق والأرشيف العثماني والمخطوطات الأهلية وحجج الأوقاف وأوراق المحاكم وسجلات الأزهر والتي تعطي صورة عن الواقع المحلي من خلال وثائق رسمية ، ومنها والبرديات التي تناولت جوانب إدارية واجتماعية منذ وقت مبكر خاصة في مجال الزراعة والتجارة ، ومنها الجرود العائلية وسجلات حصر النفوس والمناشير الصادرة عن السلطنة المملوكية فيما يخص الإقطاعيات والمنح والعطايا  ..

ويلعب الأدب والشعر دورا موازيا في رصد كثير من المتغيرات الاجتماعية والثقافية بل وتدوين الأحداث التاريخية من باب الفخر أو الهجاء ، وتحوي كتب الأدب أكثر من ثلاثين ألف بيت من الشعر طوال العصور الإسلامية بالإضافة إلى الشعر الشعبي المتمثل في السيرة الهلالية وسيرة سيف بن ذي يزن ، كما تعد كتب الصوفية تعبيرا عن الحالة الدينية الشعبية حيث ترصد أحوال الريف  ..

رابعا / دراسة الأحداث .. وتعتمد على كتب التاريخ التقليدية ومن أشهرها الولاة والقضاة للكندي واتعاظ الحنفا للمقريزي والروضتين لأبي شامة والنجوم الزاهرة لابن تغري بردي وغيرهم ومقارنتها بالمؤرخين البيزنطيين والصليبيين ، ومن الكتب القبطية كتابات حنا النقيوسي وسعيد بن بطريق وتاريخ الآباء البطاركة لساويرس أسقف الأشمونين وتاريخ الكنائس والأديرة لأبي المكارم  ..

ومنذ القرن الثاني الهجري تدور الأحداث الداخلية في مصر حول محور الصراع بين القبائل العربية والسلطة المركزية من خلال تعاقب ثورات الجروي واللخمي والمدلجي في الدلتا والإسكندرية ودحية الأموي وابن الصوفي والعمري في الصعيد والنوبة ، وخلال ذلك تم رصد تحركات القبائل الكبرى سواء العربية أو المغاربية مثل جهينة وبلي وجذام وكنانة وهوارة وكتامة ولواتة وزويلة  ..

وبلغت ذروة ذلك في عصر المماليك حيث تحول الصراع إلى حروب دموية طاحنة انتهت كلها عندما أصدر السلطان العثماني سليمان القانوني كتاب (قانوني نامه مصر) منح بموجبه شيوخ العرب السلطة الكاملة رسميا على الأرياف (ما عدا امتلاك الجنود) ومنح المماليك سلطة الحكم في المدن فقط وهو ما سوف يؤثر على تطور اللهجات العامية المصرية في المحافظات تبعا لتوطن القبائل المختلفة ..

ويحتج بعضهم بأن مصادر التاريخ في العصور الوسطى فيها خلط بين السردية الدينية والسردية التاريخية أو حدث فيها تزاوج بين الخيال الشعبي والوقائع الحقيقية ، ولبيان ذلك أقص عليك القصة التالية :

يحكي الإمام عبد الوهاب الشعراني عن نفسه فيقول إنه كان في أول حياته من علماء الشريعة وكان ينظر إلى المتصوفة نظرة متعالية وكان إذا خرج من الجامع الأزهر يمر على أحد هؤلاء وهو علي الخواص فيتعجب من التفاف المريدين حول هذا الرجل البسيط الذي يعمل بيده في صناعة الخوص فكان كلما مر عليه ينادي بصوت عال : ” ما اتخذ الله من ولي جاهل ” فينظر إليه علي الخواص ولا يرد عليه ، وبعد فترة من الزمن غاب الشعراني عن دروسه ليتزوج من فتاة تدعى زينب حيث كان يحبها حبا شديدا وكان يتلطف معها ويداعبها ويحملها على ظهره ويدور بها في صحن الدار مثلما يفعل الناس مع أطفالهم الصغار وعندما عاد بعد ذلك إلى دروسه خرج من المسجد كالمعتاد ومر على مجلس علي الخواص وناداه بعبارته المشهورة :  ” ما اتخذ الله من ولي جاهل ”  لكنه فوجيء هذه المرة بالمتصوف علي الخواص يرفع رأسه إليه ويبتسم ويقول : ” بل اتخذه وعلمه يا حمار زينب ” !! ..

يمكنك ألا تصدق هذه القصة التي رواها الشعراني بنفسه لأنها ذات طابع خرافي من وجهة نظرك وربما يصدقها آخرون من أتباع الشيخ بل ويصدقون أيضا أنه تكلم مع السيد البدوي في قبره ومد يده مصافحا له لتلقي العهد وهز هلال القبة وكان من أهل الخطوة .. لكن كل ذلك لا ينفي وجود الرجل تاريخيا في فترة زمنية معلومة حيث لا يمكن التشكيك في ذلك لمجرد أن قصصا أسطورية تحيط بشخصيته فقد ذكرته كافة المؤلفات التاريخية المعاصرة له من ناحية تاريخ مولده ووفاته وشيوخه وتلاميذه ومؤلفاته وأهم الأحداث التي شارك فيها بل ومكان قبره خاصة وقد كان ذلك العصر حافلا بعدد كبير من مؤلفات السيرة الذاتية من أمثال الكواكب السائرة بأعيان المئة العاشرة وخلاصة الأثر بأعيان القرن الحادي عشر وغيرها .. ومن غير المقبول رفض كل ما ورد عنه جملة وتفصيلا بسبب اختلاط السردية الدينية بالسردية التاريخية لأن ذلك من سمات التاريخ القديم كله  ..

في كل الحضارات القديمة تم استخلاص السردية التاريخية من ثنايا السردية الدينية ولم يتم رفضها من قبل علماء التاريخ والآثار .. تاريخ الصين والهند وفارس وبابل في عصورها القديمة مرتبط ارتباطا وثيقا بالمعتقدات الدينية والأساطير الشعبية .. وجزء كبير من النقوش الأثرية للحضارة المصرية القديمة هو كتابات دينية محضة مثل متون الأهرام التي تحوي آلاف الأسطر من الترانيم والتعاويذ لمساعدة الملك المتوفي على العبور إلى الأمجاد السماوية والبعث بعد الموت واللقاء مع الآلهة والاستعداد للحساب .. معبد الأقصر يروي قصة المولد الإلهي للملك أمنحتب الثالث ومعبد الدير البحري يروي قصة الميلاد المعجز للملكة حتشبسوت وبنوتها للإله آمون .. وفي اليونان القديمة مهد الفلسفة كان تاريخها مرتبطا بآلهة الأوليمب والأبطال الخارقين .. كل ذلك كان مكتوبا إلى جوار الأحداث التاريخية الطبيعية التي رصدها المؤرخون من الآثار والبرديات أو الأعمال الأدبية ..

ولا شك أن الملوك في كل الدنيا هم الأوفر حظا في التاريخ لأنهم كانوا قادرين على ترك آثار عمرانية ملموسة باسمهم أو سك صورتهم على العملات .. لكن ما عداهم من الشخصيات مثل الكتاب والأدباء والشعراء والفلاسفة والأنبياء والفرسان لا يملكون هذا الترف وإنما تعرف سيرتهم من الكتب .. يروي لنا التاريخ سير الأنبياء العبرانيين وفلاسفة اليونان والمشرعين الرومان في السيناتو والآباء البطاركة في فجر المسيحية .. وربما أحاطت بهم هالات التمجيد ومبالغات الأتباع والمعجبين لكن ذلك لا يمنع من استخلاص الأحداث التاريخية من هذه الكتابات .. لا يمكن إنكار وجود روما قبل اتساع دولتها بحجة أن جيرانهم من الإغريق أغفلوا ذكرهم تماما في كتاباتهم وقت أن كانوا قبائل متفرقة ولم يلتفتوا لهم إلا مع طلائع جيوشهم وهي تغزو بلادهم بل العكس هو الصحيح حيث شهدت الجزيرة الإيطالية وقائع وأحداث داخلية كانت مقدمة لهذا البعث الامبراطوري الجبار  ..

ومن الأحداث التي غيرت وجه العالم القديم خروج العرب من جزيرتهم لتأسيس واحدة من أهم إمبراطوريات العصور الوسطى في سنوات معدودة .. ولا شك أن تاريخهم كان مرتبطا بالدين وأنهم كتبوا تاريخهم من وجهة نظرهم كما هو الحال مع كل الأمم والشعوب .. وربما كانت هيمنة الدين الإسلامي واللغة العربية على المنطقة دافعا للبعض لمحاولة التشكيك في الرواية التاريخية بسبب هجومهم على السردية الدينية بصورة فيها قدر كبير من المبالغة والشطط .. وقد وصل الأمر بالبعض إلى القول بأن العرب لم يخرجوا من الحجاز أساسا وأن الإسلام قد ظهر بين عرب الشام التابعين للبيزنطيين بزعامة الأمويين وبالتالي فهم يرون أن كافة أحداث السيرة النبوية ملفقة ومخترعة في زمن لاحق بما في ذلك وجود مكة والمدينة وقريش والقبائل والشعر الجاهلي وكذلك إنكار بناء المسجد الأقصى في زمن الفتح وحجتهم في ذلك أن مؤرخي الرومان لم يكتبوا عن فترة ما قبل معاوية  ..

والحقيقة أن مستوى الكتابة التاريخية للعرب والفرس والرومان متقاربة في تلك الفترة بل كانت الكتابات العربية أغزر إنتاجا وأكثر انفتاحا على كل الثقافات كما أن بحر التاريخ واسع ولا يمكن لشخص مهما بلغت درجة علمه أن يصدر حكما نهائيا ويدعي أنه يملك كافة المعلومات حول حقبة زمنية ما كما لا يجوز تقديم الفرضيات على أنها حقائق دامغة دون دليل علمي معتمد ولا التشكيك في المراجع إذا خالفت الأهواء وإثباتها إذا وافقتها .. في الحضارات القديمة يجب الاعتماد على الآثار لأنها المصدر الوحيد أما في العصور الوسطى فتوجد الكتب المعتمدة على الروايات الشفوية في بلاد العرب وفي أوروبا أيضا .. أما رفض السردية التاريخية لارتباطها بالسردية الدينية فهو أمر يهدم التاريخ خاصة في بلد مثل مصر التي ارتبط فيها التاريخ بالدين منذ القدم .. كل آثارنا هي قبور ومعابد من أول الأهرام والكرنك والرمسيوم مرورا بالسيرابيوم والكنائس والأديرة وحتى المساجد والقباب والأضرحة ..

الشعر العربي بين الشك واليقين

من أشهر الكتب التي يتم الاقتباس منها للدلالة على تطور الفكر كتاب في الشعر الجاهلي تأليف عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين حيث تجد الكثيرين وهم يتداولون عبارات منه أو يضمنون عنوان الكتاب في مقالاتهم ولا أدري إن كانوا بالفعل قد أتموا قراءة الكتاب بتمعن أم اكتفوا بالنقل عن الآخرين .. وسبب ذلك أن الكتاب يحوي الكثير من المغالطات التاريخية التي ترقى لدرجة التدليس من خلال منهج الشك الذي اتبعه المؤلف قاصدا الطعن في المرويات وفق نظرة أحادية يمكن تفنيد بعضها في الآتي  :

أولا : لجأ المولف إلى التشكيك في الوجود التاريخي الفعلي لعدد من شعراء العصر الجاهلي مثل امرىء القيس والمهلهل وعلقمة والحارث بن حلزة وطرفة بن العبد حيث تناول الروايات الأسطورية التي أحاطت بحياتهم وفي نفس الوقت سكت عن غيرهم من الشعراء الكبار من أصحاب المعلقات مثل عنترة والنابغة الذبياني والأعشى وزهير بن أبي سلمى حيث كان الإنصاف يقتضي ذكرهم وذكر أشعارهم لكنه تغافل عنهم لأن وجودهم التاريخي ثابت في كل مراجع التاريخ التي استقى المؤلف منها كل اقتباساته وبالتالي سوف تنهار نظريته .. وبالنسبة للشاعر عمرو بن كلثوم فقد ظل يراوغ في صفحات كثيرة لكنه في النهاية أقر بوجوده التاريخي بسبب وجود ذريته وقبيلته حتى وقت متأخر رصده المؤرخون في تلك العصور ومنهم أبو الفرج الأصفهاني في كتاب الأغاني  ..

ثانيا : طعن المؤلف في شعر امرىء القيس الذي روي بلغة العرب التقليدية وليس بلغة حمير المختلفة عنها رغم أن الشاعر من قبيلة كنده اليمنية والمفترض في رأيه أنها اللغة التي يجب أن تروى بها أشعار قبائل اليمن بل وكل قبائل قحطان خارج اليمن أيضا .. وفي هذا خلط واضح لأن لغة حمير قديما وحديثا خاصة بفروع محدودة من قبيلة حمير وحدها وليس كل اليمن ولا كل قحطان بل كانت لكل قبيلة لهجتها مثل لهجة سبأ التي يتكلم بها أبناء قبيلة همدان من حاشد وبكيل أما مذحج وكندة فقد كان يطلق عليهم اسم أعراب سبأ تمييزا لهم عن سائر اليمن .. ولا أدري هل كان المؤلف جاهلا بقبائل العرب وتقسيماتهم أم أنه تعمد ذلك الخلط ليكرس لفكرة معينة .. وعموما فقد أثبت علم السلالات الجينية الحديث خطأ وجهة نظر المؤلف حيث إن غالبية قبائل اليمن تتصل بعرب الشمال ..

ثالثا : ثلث الكتاب يتناول مسألة انتحال الشعر عند كل الأمم خاصة في اليونان القديمة وعدد أسباب ذلك والتي تنوعت ما بين سياسية ودينية وغيرها وأفرد صفحات كثيرة للأشعار التي تداولها المهاجرون والأنصار بعد الإسلام أثناء الصراعات السياسية ودلل على ذلك بالتشابه بين قصة حياة امرىء القيس والثائر الكندي عبد الرحمن بن الأشعث للدلالة على صناعة السير الشعبية في زمن متأخر لخدمة الأغراض السياسية لقبيلة بعينها رغم أن سيرة أي منهما لم تكن متداولة على الصعيد الشعبي مثل سيرة عنترة بن شداد مثلا والتي استقرت في التراث رغم أن قبيلة بني عبس كانت بعيدة تماما عن الصراعات السياسية والمذهبية  ..

رابعا : كل النتائج اليقينية التي وصل إليها المؤلف بدأها بعبارات من قبيل : (وأظن .. ويغلب على ظني .. وأغلب الظن .. ويبدو لي .. ربما .. إلخ) أو يعلق على قصيدة ما بقوله إنه ليس فيها طابع القدم وهو أمر نسبي بحت حيث يضع المؤلف وجهة نظره باعتبارها نتيجة مؤكدة رغم وجود تناقض كبير في ترتيب الأفكار .. مثلا ساق صفحات كثيرة لنفي الوجود التاريخي لامرىء القيس لكنه في موضع آخر يثبت له أشهر قصيدتين وهما (قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل .. ألا أيها الطلل الباكي) وهما تحويان أشهر أبياته وتعبيراته .. وهو يعيب على عنترة أنه لم يتناول في شعره الأحوال الدينية في عصره لكن في موضع آخر يعيب على أمية بن أبي الصلت اهتمامه بالشؤؤن الدينية ويلمز في شعره أنه منتحل بعد الإسلام  ..

خامسا : يخلط المؤلف بين اللغات واللهجات وينتهي إلى فرضية أن كل شاعر يجب أن يقرض الشعر بلهجة قبيلته وليس بالعربية القياسية حيث لا يوجد اختلاف بين شعراء المعلقات وهو احتمال أدرجه المؤلف لكنه ضعفه ورجح الاحتمال الثاني وهو أن الشعر كله منحول بعد الإسلام وسيادة اللغة العربية .. والحقيقة أن الفوارق في اللهجات بين معظم قبائل الجزيرة العربية قديما وحديثا هي محدودة للغاية ومعظمها في لكنة بعض الحروف عند النطق وليس في أصل اللغة ولا ألفاظها ومشتقاتها .. رغم أن المؤلف في موضع آخر يؤكد على استحالة معرفة الزمن الحقيقي لنشأة اللغة العربية القياسية المعروفة بلغة قريش ومن ثم أقر بصعوبة تتبع اللهجات وتنوعها ومعرفة متى ظهرت الفواق بينهم  ..

سادسا : يصف المؤلف شعر المهلهل بن ربيعة بقوله إنه مستقيم الوزن مطرد القافية يلائم قواعد النحو وأساليب النظم لا يشذ في شيء وهذه هي حجته في عدم إثبات الشعر للعصر الجاهلي لكنه في نفس الموضع يرى أن شعر المهلهل مضطرب ومختلط ولذلك فهو منحول بعد الإسلام على يد شعراء من قبيلة تغلب .. وهو يرى أن قصيدة عمرو بن كلثوم الشهيرة سهلة الألفاظ لا تخلو من جزالة وفيها معان حسان وفخر لا بأس به وتمثل إباء البدوي للضيم واعتزازه بقوته وبأسه وبذلك هي تتفق مع البيئة العربية في ذلك العصر لكنه في نفس الوقت يرى أن القصيدة فيها من رقة اللفظ وسهولته ما يجعل فهمها يسيرا على أقل الناس حظا من العلم باللغة العربية في هذا العصر الذي نحن فيه وبالتالي لا تنتمي للماضي !!

وكثير من أدعياء الثقافة لديهم (هسهس) من الشعر الجاهلي استنادا إلى الفرضية التي طرحها الدكتور طه حسين في كتابه ويستميت بعضهم في إنكار وجوده ويتخذ ذلك مطية للهجوم على الثقافة العربية كلها ، ومن أجل هذه الحساسية فسوف ننحي الشعر الجاهلي جانبا خاصة وأنه يمثل نسبة بسيطة جدا من الأدب العربي الذي شهد ازدهاره الحقيقي مع ظهور الإسلام ، ويمكن ألا يستهويك الشعر العربي لأن تذوق الأدب مسألة مزاجية لكن ليس معنى ذلك إنكار الوجود التاريخي للشعراء وقصائدهم  ..

وبعيدا عن الذائقة الأدبية فقد لعب الشعر العربي دورا كبيرا في كتابة التاريخ حيث أعطانا صورة وافية عن الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية في كافة العصور الإسلامية كما كان الشعر العربي هو المكون الأساسي في السير الشعبية التراثية ..

في القرن الأول الهجري ظهرت في الحجاز مدرسة الغزل والعشق من خلال مجموعة من الشعراء مثل جميل بن معمر العذري (شاعر مصر والحجاز والمدفون في الفسطاط وهو يعد من المصريين) وكثير بن عبد الرحمن الخزاعي وعمر بن أبي ربيعة المخزومي وقيس بن الملوح العامري (مجنون ليلى) وقيس بن ذريح الليثي (مجنون لبنى) وعبد الله بن قيس القرشي (ابن قيس الرقيات) ..    

وفي الناحية الأخرى من البادية سوف نجد المدرسة السياسية وأبطالها جرير بن عطية التميمي والفرزدق همام بن غالب التميمي والأخطل غياث بن غوث التغلبي وقطري بن الفجاءة المازني والكميت بن زيد الأسدي والطرماح بن حكيم الطائي والنابغة عبد الله بن قيس الجعدي ، وبعيدا عن السياسة ظهرت مدرسة اللغويين من أمثال محمد بن يعلى (المفضل الضبي) وعبد الملك بن قريب الباهلي (الأصمعي) وأبو الأسود ظالم بن عمرو الدؤلي ويضاف لهم الإمام محمد بن إدريس الشافعي  ..

تبع ذلك مدرسة الحضارة في أوج ازدهار بغداد وفيها بشار بن برد العقيلي وأبو نواس الحسن بن هانىء الحكمي وأبو العتاهية القاسم بن سويد العنزي وأبو الوليد مسلم بن الوليد الأنصاري وأبو الفضل العباس بن الأحنف الحنفي والحسين بن الضحاك الباهلي ومحمد بن علي الخزاعي (دعبل) وأبو العباس عبد الله بن المعتز العباسي وأبو الحسن محمد الشريف الرضي ومحمد بن عبد الملك الزيات وأبو الفرج علي بن الحسين المرواني (الأصفهاني) وكلثوم بن مالك العتابي حفيد عمرو بن كلثوم ..      

وتبعتها مدرسة الحكمة والفلسفة والتأمل والتي نبعت من التجربة الحياتية والصراعات السياسية في العصر العباسي ممثلة في أبي تمام حبيب بن أوس الطائي وأبو عبادة الوليد بن عبيد التنوخي (البحتري) وأمير الشعر العربي أبو الطيب أحمد بن الحسين الكندي (المتنبي) والأمير أبو فراس الحارث بن سعيد الحمداني وأبو العلاء أحمد بن عبد الله التنوخي القضاعي (المعري) وعلي بن العباس بن جريج (ابن الرومي) والأمير الفارس أبو المظفر أسامة بن مرشد بن علي بن منقذ الكناني  ..

وفي ربيع قرطبة بالأندلس والمغرب العربي نبغت قريحة الشعراء وعلى رأسهم أبو الوليد أحمد بن عبد الله بن زيدون المخزومي وأبو بكر بن عمار المهري القضاعي والأمير المعتمد بن عباد اللخمي ومحمد بن سعيد السلماني (لسان الدين بن الخطيب) وعبادة بن ماء السماء الخزرجي الأنصاري وأبو إسحق إبراهيم بن سهل الأندلسي وأبو البقاء صالح بن يزيد الرندي وأبو الحسن علي بن رشيق القيرواني وأبو القاسم عباس بن فرناس التاكرني وأبو الحسن علي بن نافع الموصلي (زرياب) ..    

وفي أوج ازدهار القاهرة نجد المدرسة المصرية تحوي كل أغراض الشعر من أول التصوف وحتى الحماسة ومن أهم رجالها سلطان العاشقين عمر بن الفارض ومحمد بن هانىء بن سعدون الأزدي (ابن هانىء الأندلسي) وبهاء الدين زهير بن محمد المهلبي (البهاء زهير) وأبو القاسم هبة الله بن جعفر بن سناء الملك وأبو عبد الله محمد بن محمد بن حامد (العماد الكاتب) وعبد الرحيم بن علي البيساني اللخمي (القاضي الفاضل) وأبو الحسن جمال الدين يحيى بن عيسى (ابن مطروح) ومحمد بن سعيد البوصيري صاحب قصيدة البردة  ..

وتذكر لنا المدونات عددا كبيرا من النساء الشاعرات مثل غزالة الشيبانية والأميرة ولادة بنت المستكفي وعائشة الباعونية واعتماد الرميكية وليلى الأخيلية والسيدة سكينة بنت الحسين وبوران بنت الحسن بن سهل وبنان جارية المتوكل وعلية بنت المهدي وحميدة بنت النعمان بن بشير وحفصة بنت حمدون الأندلسية ولبنى القرطبية وبكارة الهلالية وزينب المرية وأمة العزيز الحسينية وسودة بنت عمارة الهمدانية وميسون بنت بحدل الكلبية وقبلهم جميعا شهيدة العشق الإلهي السيدة رابعة العدوية ..

ارحموا التاريخ

عندما يتطور النقاش على وسائل التواصل الاجتماعي في المسائل التاريخية وتصل إلى نقطة التضاد في الرأي تظهر حجة غريبة وهي التشكيك في الأحداث التاريخية مع تهمة سابقة التجهيز وهي غياب المراجع فإذا وجدت ظهر التشكيك في المراجع نفسها .. وقد حدث هذا معي في مواقف عديدة أذكر منها الآتي لما لها من أهمية وهي  :

1 / على موقع النسابون العرب نشر مقال لي عن معاونة القبائل العربية في مصر للسلطان صلاح الدين الأيوبي ونبهني مشرف الموقع الأستاذ الفاضل والنسابة الكبير الدكتور أيمن زغروت إلى تعليق كتبه الأستاذ الدكتور أحمد فتيان وهو من العروبيين المعتزين بالنسب القرشي وكان نص التعليق : ” انت جايب الكلام ده منين انت بتألف العرب لا تحالف الأكراد ولم يناصروا يوسف أيوب ” يقصد صلاح الدين ..

فعقبت بأن هذه الحادثة مذكورة في جميع مراجع التاريخ وصورت سكرين شوت من كتب ابن شداد وابن الأثير فطلب مني أن أحدد أسماء زعماء القبائل العربية القرشية التي تواصلت مع شيركوه أو صلاح الدين ولحسن الحظ كان تحت يدي كتاب الروضتين لأبي شامة ومذكور فيه أسماؤهم بالتفصيل فلما رآها بدأ يشكك في المؤرخ ويصفه بأنه من عملاء صلاح الدين ..

وطلب أن أذكر مراجع أجنبية وليست عربية وتحداني إن كان هناك مؤرخ غربي واحد ذكر هذه الحادثة فنقلت له عبارات المؤرخ الصليبي وليم الصوري المعاصر للأحداث والذي ذكر هذه الحادثة بالتفصيل فأقر أخيرا بحدوث الواقعة لكنه لمح إلى أنه ربما كانت هناك مؤامرة وأن وليم الصوري عميل للإمبراطور الألماني فريدريك صديق الأيوبيين لتشويه سمعة العرب فلم أعلق  !!

2 / كتبت مقالا يتناول سيطرة العثمانيين على الوطن العربي ورصدت حالة الأقاليم العربية الواقع تحت سلطتهم والتي عانت من انحدار اقتصادي واجتماعي طوال أربعة قرون بينما كانت الأقاليم المستقلة عنهم في حالة أفضل وضربت مثالا بكل من عمان والمغرب حيث كانت كل منهما إمبراطورية كبرى فكانت حدود المغرب تضم أفريقيا المدارية وانتصرت على الأسبان والبرتغاليين بينما كانت سلطنة عمان تحكم سواحل الهند وأفريقيا وتناطح القوى العظمى ولم يتعرض أي منهما للاحتلال إلا مع الحرب العالمية الأولى ..

وكتب الصديق أحمد عبد الحليم زلط تعليقات عديدة على المقال بدأها بالقول : ” اتق الله ” حيث كان يرى أن المقال يشوه دولة الخلافة الإسلامية ويروج لفكرة القومية العربية وأنه لولا العثمانيين لضاعت البلاد العربية مثل الأندلس ..

وتشعب الحوار لينتهي إلى عدم وجود أي إنجازات في هذه الفترة فانتقل إلى التشكيك في المراجع وأنني أنقل عن المستشرقين المتآمرين على الإسلام فذكرت له مراجعي ومنها كتب العثمانيين أنفسهم بل وأهم مناصريهم وهو الزعيم الوطني محمد فريد مؤلف الكتاب الموسوعي تاريخ الدولة العلية العثمانية وأكدت على أن التاريخ يؤخذ من مصادره الأكاديمية المعروفة وليس من أفواه الوعاظ أو المسلسلات التركية !!

3 / كتبت سلسلة مقالات بعنوان جذور اللهجات العامية المصرية ومنها مقال يتناول اللهجة الدارجة في الإسكندرية وكفر الشيخ والبحيرة وأنها متمايزة ولها لكنة خاصة بسبب هجرة وتوطن القبائل المغربية من عرب وبربر والتي لجأت إلى مصر بسبب سقوط الأندلس حيث أسس المهاجرون حي بحري في الإسكندرية ومدينة رشيد ومدينة كفر الشيخ طلحة التلمساني المعروفة حاليا باسم كفر الشيخ ..

وفوجئت بتعليق من الأستاذة أميرة أبو شهبة وهي من أنصار القومية المصرية تقول فيه : ” كلام فارغ لا أصل علمي له ” وبدأت في التشكيك في المعلومات الواردة في المقال وسط مشاركات قيمة وموضوعية من كل من الكاتب الأستاذ عمرو الشامي والكاتب الأستاذ خالد البوهي والكاتب الأستاذ أحمد الزلوعي لتفنيد فكرة النقاء العرقي عند المصريين أو غيرهم من الشعوب لأن الاختلاط والهجرات الدائمة في العصور الوسطى كان أمرا طبيعيا في كل بقاع الأرض ..

بعد ذلك شككت الأستاذة أميرة في أحد المراجع وهو كتاب (العائلة والثروة البيوت التجارية المغربية في مصر العثمانية) لأن مؤلفه الدكتور حسام عبد المعطي كان يعمل في جامعة قطر في التسعينات حيث اتهمته بأن هواه عثماني مدفوع الأجر يتآمر على الهوية المصرية  !!

4 / الصديق والكاتب الروائي الدكتور محمد داود كتب مقالا بعنوان (الحجاب في ضوء نظرية عندنا غزوة بكره) حيث يرى أن عسكرة المجتمع المدني بسبب الغزوات والسرايا في العهد النبوي جعلت الصلاة بمثابة تمام يومي للمقاتلين مع القائد بدليل حرق مسجد الضرار وفرضت الحجاب لحماية عائلات المقاتلين الغائبين عن المدينة وتسببت في تحريم الخمر حتى لا تثير نزاعات قبائلية داخلية ..

وكانت ملاحظاتي عليه أن الصلوات الخمس فرضت في مكة قبل الهجرة بثلاث سنوات وظلت مستمرة خلال أول عامين بعد الهجرة لم تكن فيهما معارك وأن مساجد القبائل كانت موجودة مثل بني سلمة وبني عمرو بن عوف ولم تغلق وأن مسجد الضرار كان في العام العاشر بعد انتهاء المعارك وأن الحجاب تم فرضه في العام السادس بعد صلح الحديبية وانتهاء المعارك الكبرى وليست كل أحداث السيرة مرتبطة بالحروب لأن المعارك الكبرى كلها كانت بقرب المدينة والسرايا كانت أعداد مقاتليها صغيرة جدا من ثلاثين إلى خمسين وأن الخمر قد حرمت بعد الحديبية أيضا والمدينة آمنة وليست ثكنة عسكرية ..

وقد عقب الدكتور محمد بأن معلوماتي مستقاة من مرويات ضعيفة الثقة وأنه يحاول قراءة ما وراء الأحداث .. وكان ردي على ذلك أنه هو أيضا نقل عن نفس هذه المرويات التي هي محل شك والتاريخ كله عبارة عن وجهات نظر تعبر عن رأي كاتبيها وأنني لا أستطيع التشكيك في كل رواية تاريخية تخالف أفكاري وإلا انهار علم التاريخ كله !!

5 / تلقيت ملاحظات قيمة وتعليقات عديدة حول علاقة اللهجات المصرية باللغة العربية وهجرات القبائل العربية أثناء نشر مقالات اللهجات العامية لكن أغرب تعليق جاء بعد نشر المقال في أحد الصفحات العروبية حيث كتبت مشرفة الصفحة الكاتبة الأستاذة سلوى الجبوري وجهة نظر مفادهها الآتي : العرب العاربة فقط هم سكان الجزيرة العربية الأصلاء بينما العرب المستعربة وافدون عليها في زمن متأخر رغما عنهم لأنها ليست مكانا صالحا للسكن وهم أبناء الحضارات القديمة في كل من مصر وكنعان وبابل وقد خرجوا منها باتجاه الصحراء بعد احتلال بلادهم بواسطة الأخمينيين والإغريق ثم الساسانيين والرومان وأن حركة الفتوحات العربية كانت حرب تحرير قاموا بها بعد ألف عام من الاحتلال ليعودوا إلى موطن آبائهم وأجدادهم وأن الفحوصات الجينية سوف تثبت صحة رأيها ..

وقد عقبت على نظريتها بوصفي لها أنها فرضية وليست حقيقة مؤكدة كما أنني أدرس في مجال السلالات الجينية منذ خمس سنوات ولم أجد ما يؤيد ذلك من نتائج حتى الآن بالإضافة إلى أن الفتوحات كانت تضم العرب العاربة أيضا وليس المستعربة فقط كما أنني لا أعتمد على  التقسيم التقليدي إلى عاربة ومستعربة ولا شجرة الأنساب التوراتية عند دراسة التاريخ .. فقط عندما تثبت النظرية بما يكفي من الأدلة الدامغة فسوف أقبل بها .. وبعد جدال كبير لم تقتنع الصديقة بوجهة نظري وقام بمحو المقال والتعليقات والردود !!

6 / أحد التعليقات على مقالي في الشعر الجاهلي كتبته الكاتبة والمترجمة الأستاذة شيخة آل سالم العنزي وتساءلت فيه : لماذا لا نفتح باب الشك في كافة القضايا التاريخية وضربت مثالا بموضوع أن قوم عاد هم بناة الأهرام كما جاء في كتاب الدكتور سيد القمني النبي موسى وآخر أيام العمارنة .. فسألتها على الفور إذا كانت قرأت الكتاب الذي يبلغ آلاف الصفحات في أربع أجزاء فأجابت بالنفي وإنما قرأت ملخصا له في إحدى المجلات فنصحتها بقراءة الكتاب لأن قوم عاد ليسوا بناة الأهرام كما يتداول عند بعض المؤلفين غير الموضوعيين ولا يوجد أي علاقة إطلاقا بين مصر وقوم عاد إرم الذين ذكرتهم الخرائط اليونانية القديمة في منطقة حضرموت اليمنية..

أما كتاب الدكتور سيد القمني فيتناول نظرية مفادها أن أخناتون هو نفسه النبي موسى هو نفسه أوديب اليوناني ودلل على ذلك بالكثير من الأبحاث اللغوية والأركيولوجية وعدد من المراجع منها كتاب آلهة مصر العربية للدكتور علي فهمي خشيم وفيها أبحاث شيقة تتعلق بالعرب البائدة مثل عاد وثمود والعماليق وربما هذا ما سبب الخلط .. ونظرية الدكتور القمني تبدو في ظاهرها خلابة وجذابة لكنها تظل فرضية وليست حقيقة دامغة حيث يدعو في نهاية الكتاب إلى التنقيب في وادي الطميلات لإثبات رأيه وحتى يحدث ذلك فهي تظل فرضية ونبهت على أن تاريخ الحضارات القديمة يجب أن يعتمد فقط على النقوش الأثرية القليلة لأننا لا نملك غيرها فلم يكن في زمنهم مؤلفات تاريخية مطولة مثل العصور اللاحقة  ..

7 / كتب المفكر الأستاذ حامد عبد الصمد مقالا حول حديث الأستاذ إبراهيم عيسى عن الإسراء والمعراج وذكر في ثنايا المقال أن عبد الملك بن مروان بنى المسجد الأقصى بدوافع سياسية أثناء صراعه من ابن الزبير .. وكتبت معلقا أن هناك فارق بين المسجد الأقصى الذي بني في زمن الفتوحات ومسجد قبة الصخرة الذي بناه الأمويون وبناء عليه فإن نظرية اختراع المعراج في عهد عبد الملك تظل فرضية واهية ولا يجب أن تقدم على أنها حقيقة دامغة وذكرت أن بعض المراجع الغربية ذكرت بناء المسجد مبكرا .. وعلق الأستاذ حامد بالقول إن المسجد الأقصى بناه الوليد بن عبد الملك وطلب مني ذكر هذه المراجع التي أستند إليها لكنه اشترط ألا أستعين بكتابات المؤرخ البيزنطي ميخائيل بيسلوس وبالطبع هو يرفض المراجع العربية ..

رجعت إلى كتاب خزعل الماجدي حول تاريخ القدس واستعنت بالمراجع الموجودة في آخر الكتاب ونقلت منها دليلين أولهما مخطوطة للراهب أدومان الأيوني بعنوان الأماكن المقدسة نقل فيها عن شاهد عيان هو الأسقف الفرنسي أركولف الذي زار القدس عام 670 م. بعد فتحها بثلاثة عقود وفيها وصف جيد للمصلى القبلي وسعته وجاء فيه أنه بدائي وبسيط .. الدليل الثاني من كتابات الراهب يوحنا موسكوس بعنوان فصول المعجزات ويتحدث فيها عن مسيحيين اضطروا للعمل في بناء مسجد القدس في زمنه منتصف القرن السابع .. والأمر يحتاج بالطبع إلى الاستعانة بالمتخصصين لكن هذا ما وجدته بالبحث السريع .. شاهدان معاصران للحدث فهل تلقى القبول أم يجب أن أحضر أربعة شهود !!

8 / نشرت سلسلة مقالات بعنوان شيوخ وعلماء بني عدي ومنها مقال يتناول سيرة عدد من المتصوفة في مناطق عديدة في مصر ومنهم الشيخ عبد العزيز أبي زرموح العدوي تلميذ الشيخ عبد السلام القليبي صاحب الضريح المعروف في قرية قليب بيار بالغربية وأنهما ليسا من أتباع الطريقة الرفاعية التي أسسها في منطقة الدلتا الشيخ محمد زين الدين العدوي الطنتدائي المعروف بلقب ابن الزين وتلميذه الشيخ برهان الدين إبراهيم بن الشيخ محمد شمس الدين النحراري العدوي وهما من رجال القرن التاسع الهجري .. وعلق الصديق الأستاذ هشام مصطفى أبو حجاج على المقال بالتشكيك في شخصية الشيخ ابن الزين وأنه شخصية وهمية وليست حقيقية وسألني من أين جئت بهذه المعلومات فأجبت بأن مصدري هو كتاب روضة الناظرين وخلاصة مناقب الصالحين من تأليف الإمام العلامة العارف بالله الشيخ أحمد بن محمد الوتري الشافعي الرفاعي المتوفي سنة 980 هـ ..

فرفض اعتماد هذا المرجع بحجة أنه من كتابات الصوفية التي تجنح للمبالغات وتخترع شخصيات لا وجود لها وأنني ربما أنقل عنه لإثبات وجود بني عدي في الدلتا قبل الصعيد على عكس الشائع من أن بني عدي جميعا أصلهم من الصعيد وهي فرضية غير مؤكدة ، لكن من حسن الحظ أن مؤرخي العصور الإسلامية كانوا مهتمين بالسيرة الذاتية للمعاصرين وهكذا بحثت ووجدت ترجمة كاملة للشيخين ابن الزين وبرهان الدين في كتابات اثنين من المعاصرين هما كتاب عنوان الزمان للبقاعي والضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي فضلا عن كتاب متأخر هو الأعلام للزركلي لكن الصديق لم يقتنع !!  

ولا زال النقاش مستمرا حول دراسة التاريخ من مصادره المعتبرة ومحاولة بعض الباحثين التشكيك في المراجع التاريخية إذا خالفت أفكارهم بالإضافة إلى الجرأة في تحويل الفرضيات المحتملة إلى حقائق دامغة والترويج لها .. وهذا هو الواقع للأسف الشديد.