8 / بين الواحة والصحراء

في مجال علم الأحياء التطوري ظهرت عبارة دارون (البقاء للأصلح) والتي تعني أن الانتخاب الطبيعي يسير في اتجاه الحفاظ على الأنواع والسلالات الأكثر قدرة على التكيف والتي تملك القوة اللازمة لمقاومة التغيير ، لكن نيتشة كان له رأي آخر في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) عندما طرح شعاره (البقاء للأقوى) قاصدا بذلك الصراع بين القوميات على الأرض والموارد وهو محور أحداث التاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل  ..

وهذا الصراع هو الذي يرسم الخريطة الثقافية والديموغرافية والسياسية للعالم المعاصر حيث قدر لعدد محدود من الشعوب أن تهيمن على الآخرين وتفرض عليهم لغاتها وثقافتها ونظمها السياسية والاجتماعية ، ولا يعني أن ذلك حدث بالقوة وحدها لكن الأهم منها هو القدرة على التكيف والاستمرار والانتشار وتحدي عوامل الزمن ..

التوزيع الجغرافي الحالي للمجموعات اللغوية الأساسية مرتبط ارتباطا وثيقا بحركة الهجرات البشرية الكبرى التي رصدها التاريخ .. العالم الجديد هو أقرب نموذج لذلك حيث اكتسبت أمريكا اللاتينية لغاتها من المهاجرين الأسبان والبرتغاليين والإيطاليين بينما انتشرت اللغة الإنجليزية في الولايات المتحدة وكندا وأستراليا بسبب هجرة البريطانيين الكثيفة نسبيا إلى تلك البقاع  ..

أوروبا نفسها اكتسبت لغاتها من هجرة الدوريين إلى اليونان وهجرة اللاتين إلى إيطاليا والكلت إلى غرب أوروبا ففرضوا لغاتهم على السكان الأقدم ثم جاءت حركة الغزوات البربرية عندما اندفع الجرمان من الشرق باتجاه حوض الراين ثم قام الفرنكيون باحتلال غالة وأطلقوا عليها فرنسا وقامت قبائل الأنجلز والساكسون والجوت بغزو الجزيرة البريطانية وقسموها فيما بينهم ..

وفي أوروبا الشرقية انتشرت أولا اللغات الأورالية والفينية بسبب غزوات الهون لكن الغلبة في المنطقة أخيرا صارت للسلاف بسبب الإمبراطورية الروسية التي ابتعلت سيبيريا كلها ، وفي الهضبة الآسيوية انتشرت اللغات الإيرانية مع قيام الإمبراطورية الفارسية القديمة ثم طغت عليها اللغات التركية بسبب الهجرات التي صاحبت حركة السلاجقة والمغول والعثمانيين  ..

وفي الصين سادت لغة المندرين بسبب هجرة عرقية الهان من حوض النهر الأصفر إلى بر الصين والساحل الجنوبي ، وفي جنوب شرق آسيا سادت اللغات الأسترونيزية والأستروآسيوية واليابانية والكورية بسبب هجرات معروفة من البر الرئيسي إلى الأرخبيل وأشباه الجزر ، وفي الهند الصينية انتشرت لغات التاي كاداي ولغة التبت بسبب الغزو المباشر من الشمال ..

أما الهند فقد اكتسبت ثقافتها الكلاسيكية ولغتها الهندوسية من الغزو الآري القادم من وسط آسيا والذي أطاح بحضارة السند ودفع السكان الدرافيد إلى الجنوب ثم فرض الغزاة الديانة الهندوكية واللغة السنسكريتية ، وفي أفريقيا جنوب الصحراء انتشرت لغات البانتو بسبب الهجرات الكبرى لعشائر البانتو المحاربة من المنطقة المدارية الاستوائية باتجاه الشرق والجنوب  ..

وفي النطاق الجغرافي للغات الأفروآسيوية القديمة انتشرت اللغة العربية بسبب هجرة القبائل العربية من الجزيرة العربية إلى الهلال الخصيب بعد الاحتلال الفارسي والروماني ثم جاءت الخطوة التالية في العصور الوسطى حيث اندفعت القبائل باتجاه الغرب إلى وادي النيل والقرن الأفريقي وشمال أفريقيا وكلها مناطق متاخمة للصحراء الكبرى التي تشبه موطنهم الأصلي ..

من نحن ؟  

تنتمي اللغة العربية إلى عائلة لغوية تعرف باسم الأفروآسيوية والتي كانت تسمى قديما السامية الحامية .. وسبب التسمية أن هذه العائلة اللغوية تنتشر فقط في جنوب غرب آسيا في الجزيرة العربية والهلال الخصيب وفي كل من وادي النيل والقرن الأفريقي وشمال أفريقيا .. ولا يوجد انتشار لهذه اللغات في أي بقعة خارج هذه المنطقة المحددة التي صارت مميزة لها ومقتصرة عليها  ..

وتضم هذه العائلة من اللغات القديمة كلا من السريانية والقبطية والحميرية والفينيقية والجعزية .. ومن الحميرية تنحدر اللغات العربية الجنوبية الحديثة مثل المهرية والسوقطرية والشحرية والباثارية والحرسوسية .. ومن الفينيقية تنحدر البونيقية لغة قرطاجة والعبرية القديمة أما العبرية الحديثة فهي خليط مع لغة اليديش الألمانية الهندوأوروبية والتي تشكل نصف تكويناتها تقريبا ..

وأما اللغات الحالية من هذه العائلة فهي الكوشية والأوموتية والتشادية والأمازيغية وكذلك اللغات المنحدرة من الجعزية القديمة المنتقلة من اليمن إلى الحبشة وهي التقراي والتغرينية والأمحرية .. وتضم الكوشية كلا من الصومالية والأرومو والعفارية ولغات البجا .. وأكبر لغة تشادية هي الهوساوية وهي اللغة القومية لدولة النيجر وإحدى اللغات الرسمية في نيجيريا ..

وقد اقتصر انتشار اللغة العربية على الحدود الجغرافية القديمة لأخواتها من نفس العائلة اللغوية حيث ابتلعتهم بسهولة في مناطق عديدة .. أما خارج حدود هذه المنطقة فقد اقتصر على تأثير في المفردات فقط حيث حاجز صلب من عائلات لغوية أخرى مثل الفارسية والكردية والتركية في الجانب الآسيوي وكذلك لغات البانتو والنوبة واللغات النيلو صحراوية في الجانب الأفريقي ..

ومن العوامل الأساسية لانتشار اللغة العربية في نطاقها الجغرافي الحالي هجرة القبائل العربية من الشرق إلى الغرب عبر مراحل تاريخية مختلفة واستقرارها في مضاربها الجديدة .. وسبب حركة الهجرة في هذا الاتجاه دون غيره هو تشابه المناخ الجغرافي للمنطقة كلها والتي يغلب عليها البيئة الصحراوية والأجواء الحارة وهي طبيعة جغرافية تكاد تقتصر على هذه المنطقة دون غيرها ..

ولم يكن الإسلام السبب الأول لانتشار العربية فقد دخل الإسلام إلى أفريقيا المدارية بدون العربية بينما العكس في القرن الأفريقي بسبب حركة القبائل .. وكذلك دخل مبكرا إلى بلاد الفرس والأناضول مع دخول العرب إلى العراق والشام ومصر حيث اقتصرت العربية هناك على الأحواز التي سكنتها عشائر بني كعب وفي جنوب تركيا حيث المنطقة التي تعرف حتى اليوم باسم ديار بكر ..

ولا يريد البعض أن يصدق فكرة التنوع السكاني في الوطن العربي بسبب هجرة العرب إلى العراق والشام وشمال أفريقيا والسودان ويتعجب من سرعة تكاثر العرب في البلاد المفتوحة وهيمنتهم عليها ، بينما أمامهم مثال واضح من العصر الحديث عندما هاجر الأوروبيون إلى العالم الجديد وتكاثروا فيه وفرضوا لغتهم وثقافتهم على السكان الأصليين من الهنود الحمر الذين أصبحوا أقلية هامشية في الولايات المتحدة ..

لكن حدث اختلاط واسع النطاق بين المهاجرين والسكان الأقدم في أمريكا الوسطى والجنوبية من أبناء حضارات الإنكا والمايا والآزتك وهو المثال الأقرب لما حدث في العالم العربي ، ويرفض بعضهم الهوية اللغوية قائلا بأن المكسيك لا يسمون أنفسهم أسبان ولا البرازيليين يسمون أنفسهم برتغاليين بينما الحقيقة الدامغة أن جزء من سكان المكسيك من أصول أسبانية وجزء من سكان البرازيل من أصول برتغالية ولذلك ظهر مصطلح لغوي يصف ذلك وهو مصطلح أمريكا اللاتينية ..

وقد ظهر مصطلح (أمريكا اللاتينية) خلال الصراعات الأوروبية على المستعمرات وقصد به تلك المنطقة من العالم الجديد التي تسكنها مجموعات من السكان الأوروبيين ممن ينتمون إلى (أوروبا اللاتينية) وكان معظمهم من الإيطاليين والأسبان والبرتغاليين والفرنسيين وذلك لتكون عونا لها في مواجهة أوروبا الجرمانية وأمريكا الأنجلوساكسونية وأوروبا السلافية .. ثم صار هذا المصطلح رسميا ومتداولا وقصد به دول أمريكا الجنوبية والوسطى والكاريبي والمكسيك ..

والحقيقة أن الأوروبيين في أمريكا اللاتينية يشكلون الأغلبية بنسبة 36 % من السكان (ويقصد بهم من ينحدر من أبوين أوروبيين) ويشكل السكان الأصليون من الهنود الحمر 10 % فقط بينما يشكل المستيزو نسبة 30 % (وهم نتاج تزاوج الأوروبيين بالهنود الحمر خلال القرون الماضية) ويشكل الخلاسيون نسبة 20 % (وهم نتاج تزاوج الأوروبيين بالأفارقة أثناء حقبة العبودية) .. أما النسبة الباقية فهي مجموع السود والآسيويين وآخرين  ..

وهذه النسبة متباينة في دول أمريكا اللاتينية تبعا لمكونات كل دولة .. في بعض المناطق (السهول والوديان) احتفظ الأوروبيون بأغلبية مطلقة مع عدم اختلاط بالآخرين مثل الأرجنتين وأورجواي وكوستاريكا وبورتوريكو وبنسبة أقل في شيلي حيث أطلق عليهم (أمريكا الأوروبية) .. وفي مناطق أخرى (الأجزاء الجبلية) ظلت الغالبية للهنود الحمر مثل بوليفيا وبيرو وجواتيمالا وبنسبة أقل في الإكوادور حيث أطلق عليهم (أمريكا الأصلية) ..

وهناك مناطق حدث فيها اختلاط وتزاوج بين الأوروبيين والهنود ليشكل (المستيزو) غالبية السكان مع أقلية من الأوروبيين وأقلية من الهنود الحمر مثل المكسيك وبدرجة أقل في كولومبيا وباراجواي ومعظم دول أمريكا الوسطى حيث يطلق عليهم (أمريكا المستيزا) أي الهجينة .. أما في في البرازيل يشكل الأوروبيون أكثر من نصف السكان في مناطق خاصة بهم بينما يشكل الخلاسيون النسبة الباقية مع أقليات معزولة من الأفارقة والهنود الحمر  ..

وفي فنزويلا ترتفع نسبة الخلاسيين والمستيزو مع أقلية أوروبية بينما يشكل الخلاسيون غالبية كوبا والدومينيكان .. هذه الخلطة هي التي أكسبت تلك المنطقة من العالم طابعها القومي المميز وأعطتها شخصيتها الخاصة .. وربما رأى البعض أن مصطلح أمريكا اللاتينية غير دقيق لأنه مرتبط بانتماء لغوي لفئة الغزاة من السكان لكنه أصبح معبرا عن الثقافة السائدة التي صبغت تلك المنطقة من العالم وصارت معبرة عن هويتها ..

وبالمثل فقد تعربت مصر بسبب اختلاط القبائل العربية الواسع وتزاوجهم بغيرهم في الأرياف بينما لم تتحول مصر إلى اللغة التركية رغم خضوعها للمماليك والعثمانيين بسبب انعزالهم في المدن حيث كان تأثيرهم في لهجة القاهرة والمدن على قدر اختلاطهم ببقية السكان فضلا عن تعدد لغاتهم واختلافها الكبير عن لغات المنطقة ، وبلغ هذا الاختلاط لدرجة قيام العرب والقبط معا بثورة كبرى ضد العباسيين والمعروفة باسم ثورة البشموريين ..  

وهذه الثورة تستعمل للدلالة على انتفاض السكان الأصليين ضد الغزاة متعمدين إغفال دور القادة العرب فيها مثل ابن عبيدس الفهري حفيد عقبة بن نافع الذي أعدم في سخا وأبي ثور اللخمي الذي قتل في المحلة وكذلك بحْر بْن علي اللَخْميّ وابن عُقاب اللَخْمي ورئيس جماعتهم مُعاوية بْن عَبْد الواحد بْن محمد بْن عبد الرحمن بْن مُعاوية بْن حُدَيج ، وفي ذلك يقول الكندي : ” ثمَّ انتقضت أسفل الأرض كلّها عربَها وقِبْطها فِي جمادى الأولى سنة ستّ عشرة وأخرجوا العُمَّال وخالفوا الطاعة وكان ذَلكَ لسُوء سيرة العُمَّال فيهم ” .. 

ويتم الترويج لذلك واستلهام الروح الشوفينية من تلك الثورة رغم وجود دلائل توحي أن البشموريين هم بقية الاستيطان اليوناني ، من ذلك أن لهجة البشموريين تكتفي بالحروف اليونانية ولا تستعمل الحروف السبعة المضافة من الديموطيقية مثل بقية اللهجات القبطية ودائما ما وصفوا في الأدبيات الكنسية بأنهم من بقايا الروم والعمالقة كما أن الخليفة المأمون وقتها اصطحب معه بطريرك أنطاكيا السرياني ليقنعهم بإنهاء ثورتهم مما يشير إلى اختلافهم اللغوي والمذهبي عن بقية السكان !! 

الواحة والصحراء

كثيرا ما يردد البعض فكرة التباين بين ثقافة الصحراء في البادية وغيرها من ثقافات البيئة الزراعية أو البحرية ، وقد يصدق هذا الأمر في المناطق التي تكتسي باللون الأخضر على الخريطة مثل الصين والهند والشرق الأقصى وأوروبا ، لكن نظرة موضوعية إلى الخريطة سوف تخبرنا أن الوطن العربي يختلف جذريا عن سائر مناطق العالم لأنه عبارة عن صحراء شاسعة تظهره على الخريطة بلون أصفر مميز لها  ..

من المحيط غربا إلى الخليج شرقا ينتشر السكان في ربوع تلك الصحراء مع تركز في مساحات محدودة من اللون الأخضر تشكل واحات متناثرة في هذا البحر الزاخر من الرمال ، هذه الواحات هي حافة الفرات وساحل الشام وجبال اليمن والحجاز ثم شريط ضيق في وادي النيل ومثله في جبال أطلس بالساحل الشمالي للمغرب العربي وهي جميعا مساحات محدودة جدا من الأرض الزراعية مقارنة بباقي مناطق العالم ..

ولا شك أن سكان هذه الواحات المتناثرة قد جاء من مصدرين أولهما من داخل تلك المنطقة أي الصحراء نفسها عبر تراكم الهجرات في العصور المختلفة القديمة والوسطى وهو الأكثر عددا على الأرجح ، أما المصدر الثاني فهو الأقل عددا وجاء من خارج المنطقة أي من الهضبة الإيرانية والأناضول والحبشة أو عن طريق البحر سواء كانت تحركات سلمية أو في إطار هيمنة إمبراطوريات الفرس والإغريق والرومان  ..

وبالتالي فإن التاريخ كله هو صراع مستمر بين سكان الصحراء والغزاة القادمين من خارجها على الموارد المحدودة للمنطقة ، وظلت الثقافة المحلية للسكان متأثرة بالصحراء وأجوائها الحارة التي تحيط بالمساحات الخضراء القليلة من كل جانب على عكس المناطق الزراعية الكبرى في سائر قارات العالم والتي كانت بعيدة تماما عن البادية واعتمدت على الإنتاج الزراعي في إنشاء حضارتها الممتدة حتى اليوم  ..  

أما الصحراء وواحاتها فلا يمكن أن تعتمد على الزراعة وحدها وإلا فقدت قوتها وانهارت ولذا كانت أنماط الاقتصاد فيها تعتمد أيضا على الرعي والتجارة طوال تاريخها وبرزت أهمية المنطقة قديما وحديثا من خلال الموقع الجغرافي الذي يتوسط طرق التجارة والنقل بين الشرق والغرب ثم في الثروات المعدنية التي خرجت من باطن الأرض لتثبت مرة أخرى أن الصحراء هي التي ترسم معالم ثقافة المنطقة كلها  .. 

في قلب الدلتا يحيط بنا من كل مكان اللون الأخضر الذي يعبر عن النماء حتى يخيل لنا أن العالم كله مصبوغ بهذا اللون لكن الحقيقة أن الدلتا والوادي بمثابة واحة صغيرة وسط صحراء قاحلة وهو ما يظهر لنا بمجرد التحرك لمسافة بسيطة شرقا أو غربا ، وهذه الحقيقة الجغرافية يجب أن تكون موضع اعتبار عند دراسة أسباب التقدم والتخلف لأن البعض يتغافل عنها ويرجع الأمر لثقافة البشر وسلوكهم وأخلاقهم فقط  ..

والعوامل البشرية هامة بالطبع لكنها أيضا متأثرة بالجغرافيا التي فرضت على السكان ذلك التنوع في الأعراق والثقافات حيث يختلف سكان الغابات في أفريقيا جنوب الصحراء عن سكان الجزر في جنوب شرق آسيا ويختلف سكان شبه القارة الهندية عن جيرانهم في الصين كما تختلف روسيا الجليدية الباردة عن الوطن العربي الصحراوي الحار والجميع يختلف عن أوروبا ذات السهول الخضراء والأنهار الجارية  ..

وبالإضافة إلى العوامل البشرية والجغرافية فإن التقدم مرهون أيضا بمعادلة القوة والثروة كما يخبرنا التاريخ ، وإذا كانت القوة مكتسبة وتتغير موازينها باستمرار فهذا لأنها مرتبطة بالعامل البشري والإرادة السياسية للدول ، أما الثروة فإنها مرتبطة بالعامل الجغرافي وطبيعة الأرض والمناخ والموقع حيث تركزت الثروات الطبيعية في مناطق وحرمت منها مناطق أخرى وتمتعت بعضها باعتدال المناخ دونا عن بعضها  ..

ولا شك أن الوطن العربي يعاني من شح في المياه والتي هي من أهم الثروات الطبيعية وهو ما جعل مساحة الأرض المزروعة في كافة دوله مجتمعة أقل من دولة واحدة مثل البرازيل التي تحتل المركز الخامس عالميا بمقدار يقارب ستمائة وخمسين ألف كيلومتر مربع بعد الدول الأربع الكبرى وهي الولايات المتحدة وروسيا والصين والهند التي تجاوز كل منها حاجز المليون كيلومتر مربع وتكتفي ذاتيا من الغذاء  ..

وحتى الإنتاج البترولي في الوطن العربي لا يقارن بتنوع الثروة المعدنية في مناطق مثل روسيا وأفريقيا السمراء ولا يساعد المناخ على السياحة مقارنة بمناطق المناخ المعتدل ، ورغم ذلك فهناك نقاط قوة يمكن استغلالها في المنطقة مثل الطاقة الشمسية ومصايد الأسماك والنقل البحري وأعمال المحاجر وصناعة الزجاج وزراعة النخيل والنقل البري للبضائع مع دول آسيا وأفريقيا عبر دروب الصحراء الشاسعة .. 

وليس من قبيل المصادفة أن حدود انتشار اللغة العربية تكاد تطابق حدود الصحراء التي تظهر على الخريطة باللون الأصفر ، نظرة واحدة إلى جغرافية الوطن العربي سوف تجعل هذه الحقيقة ماثلة للعيان حيث تحتوي الدول العربية جميعا على نصيب من الصحراء سواء في الدول صغيرة المساحة أو الكبيرة التي تشكل الصحراء نسبة عالية من مساحتها مثل الجزيرة العربية وشمال أفريقيا من مصر وحتى المغرب  ..

وقد يكون من المصادفة أيضا أن الجزء العربي من إيران وهو إقليم الأحواز مطابق في جغرافيته لجنوب العراق حيث الصحراء والسهول على عكس الجزء الفارسي كما أن الجزء الكردي في شمال العراق جبلي في طبيعته وليس داخلا في الصحراء ، وفي جنوب تركيا كذلك نرى الجزء العربي في البقعة الصحراوية الممتدة من عينتاب وحتى أورفة والتي كانت تعرف في الماضي باسم الأقاليم السورية الشمالية ..

ومن المصادفة أيضا أن الجزء العربي من السودان هو الواقع في الصحراء بينما الجزء الأفريقي ليس كذلك حيث الغابات الكثيفة حول منابع النيل وهو الذي انفصل حديثا تحت اسم جمهورية جنوب السودان ، وفي الدول ثنائية اللغة مثل أريتريا وتشاد تنتشر اللغة العربية في الجزء الصحراوي في كل منهما حيث الطبيعة القبلية للسكان ، وفي النيجر تنتشر القبائل العربية في نطاقها الصحراوي عكس بقية السكان  ..

وليس من المصادفة أن الدول الأفريقية ثنائية اللغة التي انضمت إلى جامعة الدول العربية مثل الصومال وجيبوتي هي صحراوية في طبيعتها الجغرافية ومميزة جدا بذلك على الخريطة بل إن الجزء الصومالي في كينيا وأثيوبيا هو أيضا في النطاق الصحراوي الواقع في كل منهما ، وفي مالي يسكن العرب والطوارق في إقليم أزواد وهو الجزء الصحراوي الذي يسعى للانفصال بالقوة منذ رحيل الاستعمار الفرنسي  ..

وربما من المصادفة أن جزيرة سوقطرى التابعة لليمن والواقعة في بحر العرب شرقا لها نفس الطبيعة الجغرافية الصحراوية بينما في أقصى الغرب نجد الجزء غير العربي من موريتانيا شريط ضيق صغير في وادي نهر السنغال بعيدا عن الصحراء ، وبالقرب منها كل من وادي الذهب والساقية الحمراء والذي أعلن استقلالها بعد رحيل الأسبان واستمدت روحها من طبيعة المكان تحت اسم الجمهورية العربية الصحراوية  ..

ومصر جزء من الوطن العربي .. فيها أربع مدن مصرية حدودية تقف كل واحدة منها على أول الطريق نحو جزء منه .. السلوم في أقصى الغرب هي أول الطريق (المتخيل) البري والبحري معا باتجاه ليبيا وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا .. حلايب في أقصى الجنوب تحملك إلى السودان ثم الجزء العربي من أريتريا (ساحل عصب ومصوع) ثم جيبوتي والصومال .. رفح في أقصى الشمال هي بوابة فلسطين ثم لبنان وسوريا  ..

أما في الشرق حيث مدينة طابا فيمكنك السير برا وبحرا بمحاذاة الساحل إلى صحراء النقب ثم العقبة الأردنية ثم الحجاز في السعودية حتى اليمن ومنها إلى عمان وسائر بلدان الخليج العربي الإمارات وقطر والبحرين والكويت ثم العراق ، ومصر هي الدولة الوحيدة التي تملك هذا التواصل البري والبحري مع جيرانها لأنها تقع تماما في قلب المنطقة الجغرافية الشاسعة التي رسمتها السواحل والصحاري منذ الأزل  ..

وجميع الدول العربية تملك قدرا من السواحل والصحاري بنسب متفاوتة حيث تركز السكان في أشرطة ضيقة بمحاذاة البحر أو في وديان الأنهار التي تخترق الصحراء وتصب في البحر أو في الجبال والهضاب المطيرة ، ولا نتجاوز الحقيقة عندما نقول إن السكان في الوطن العربي يسكنون في واحات ساحلية متناثرة وسط بحر عظيم من الرمال الصحراوية الصفراء التي تشكل المساحة الأكبر من بلادنا ..

وقد كانت إسهامات العرب في النشاط البحري أمرا مشهودا خاصة في بلاد المغرب العربي وارتياد المحيط وأعمال الصيد وفي عمان وحضرموت حيث كان لهم تواجد كبير في سواحل آسيا وأفريقيا ، وفي مصر والشام ظلت البحرية العربية مهيمنة على حوض البحر المتوسط طوال العصور الوسطى وكانت الموانىء مزدهرة وفي حركة دائبة مع المواني الإيطالية وتتوسط التجارة بين الشرق والغرب ..

وقد شكل الساحل خط الدفاع الأول عن الصحراء وواحاتها حيث شهدت السواحل العربية معارك كبرى مع البيزنطيين ثم الصليبيين ثم الجيوش الاستعمارية التي توالت تباعا على المنطقة ، وفي نفس الوقت شهدت الصحراء أعنف المعارك مع الغزاة قديما وحديثا ورويت الرمال في كل مكان بدماء الشهداء الطاهرة ، وحتى اليوم يظل كل من الساحل والصحراء من أهم محددات الأمن القومي العربي.

الحقيقة والوهم

هذا هو الأمر الواقع .. المنطقة التي تعرف بالوطن العربي مرتبطة ببعضها ثقافيا ولغويا وسكانيا وجيوسياسيا ، لا أريد أن أتطرف في الرأي وأقول إن الغزوات العربية كانت عملية تحرير للمنطقة من أسر الرومان والفرس بواسطة قسم من أبنائها أو أن العرب المستعربة هم أبناء الحضارات القديمة الذين فروا من الاحتلال إلى بادية الصحراء واختلطوا بالعرب العاربة ثم عادوا لتحرير أوطانهم رغم أنها سردية جذابة وربما تعجب الكثيرين.

لكن دراسة التاريخ تعلمنا أن الماضي ليس ورديا دائما وأن المحرك الأول للأحداث هو صراع القوميات والشعوب على الأرض والموارد باستعمال القوة المسلحة والهيمنة الثقافية وذلك منذ إنسان الكهف وحتى يومنا هذا ، وفي عالمنا المعاصر تلجأ كل الدول للبحث عن الانتماء الإقليمي الأكبر ولا يسعى للتفرق والتشرذم إلا من سار على درب الأغبياء والمغرضين والشعوبيين الجدد.

ويسعى بعضهم لنفي صفة العروبة عن إقليم ما مثلما يحدث في المغرب العربي أو ينزعها عن شمال أفريقيا ويقصر العرب على الشام والعراق الجزيرة العربية ومنهم من يريد حصرها في عرب الخليج فقط بل ظهرت دعوات لنفي صفة العروبة عن اليمن نفسها وهي أصل العرب بالادعاء أنها سبأية أو حميرية ولكل دعوة من تلك الدعاوي أهدافها وتصوراتها التي تصب في اتجاه العزلة والتفتت.

ويبلغ بهم الشطط إلى درجة العبث بالتاريخ فظهرت دعوات تنفي عن مصر ارتباطها بالتراث الديني القديم والادعاء أن مصر المذكورة في الكتاب المقدس والقرآن ليست هي إيجيبت صاحبة الحضارة الفرعونية ثم يتم البحث عن مكان خارج وادي النيل مثل اليمن أو بادية الشام لملأ هذه الثغرة رغم أن مصر اسم سامي استعمل من قبل الآشوريين وورد في الرسائل المتبادلة بين مصر وآسيا وهو يختلف عن مصطلح المصريين الذي ظهر مع العرب.

وأحيانا يكون ذلك بسبب عدم وضوح الرؤية ومثال ذلك عندما كتبت مرة عن السيدة فاطمة الفهرية حفيدة عقبة نافع التي هاجرت من القيروان وأسست جامعة القرويين بمدينة فاس المغربية فعقبت إحدى الصديقات قائلة : ” كنت أظنها مغربية ولم أكن أعرف أنها عربية ” وهي تكرار لثنائية المصريين والعرب فلا يصح التقسيم إلى عرب ومغاربة بل التصنيف الصحيح هو العرب المغاربة والسكان الأقدم من البربر (الأمازيغ) لأن مصطلح المغرب هو عربي بحت قصد به تسمية المكان بعد دخول المهاجرين الجدد ولم يكن يعرف من قبل بهذا الاسم وإنما تسميات أخرى قديمة.

وكما تغير وتطور مفهوم مصطلح المصريين تغير أيضا مصطلح العرب ، أول الأمر كان يطلق اسم المصريين على عرب الفسطاط دون غيرهم لكن اليوم يعني عموم سكان وادي النيل بحدود البلاد المعروفة ، بالمثل كان مصطلح العرب أول الأمر يعني القبائل العربية التي تسكن الجزيرة العربية لكنه اليوم يعني كافة سكان الوطن العربي الناطقين باللغة العربية ولهجاتها العديدة.

وتعدد اللهجات داخل الوطن العربي هو أمر طبيعي ومنطقي حدث في كافة لغات العالم ويؤكد الوحدة المشتركة بين الدول العربية كلها لأنها ظلت لهجات تشترك في أشياء وتختلف في أشياء ولم تتحول في يوم ما إلى لغات ، ولا توجد في مصر لهجة عامية قياسية واحدة يمكن اعتبارها لغة مستقلة وإنما عدد من اللهجات التي تشترك في أشياء وتختلف في أشياء مثل سائر اللهجات العربية.

والاختلافات الدينية والمذهبية لا تعني التنصل من العروبة لأن العروبة قديما وحديثا هي بمثابة حلف قبلي كبير جامع للعرب وغيرهم وفي زمن ما كانت قبيلة تغلب تدين بالمسيحية لكن تنضوي تحت لواء اللسان العربي الذي عاشت تحت ظله ثقافات متعددة ،  لكن هناك من يفزع من فكرة التنوع والتعددية الثقافية ولا يتقبل فكرة التعايش في ظل الاختلاف وإنما يجب أن يكرس لمفهوم النقاء العرقي والوحدة الثقافية.

ويهدف بعضهم من مهاجمة العروبة أن يلمز الثقافة الإسلامية بشكل غير مباشر ووصفها من وجهة نظرهم بأنها ثقافة وافدة على البلاد من البادية لكن أيضا كانت المسيحية وافدة من الخارج وكانت مطعمة بالثقافة اليونانية الرومانية والتراث اليهودي بل إن معظم أسماء الأعلام والبلاد في الفترة السابقة على دخول العرب كانت معظمها يونانية مثل أنطونيوس وجورجيوس وبولس وماركوس وثيودوروس وألكسندروس وبطرس وفيليبس.

ويستشهد بعضهم بكلمات ابن خلدون عن وحشية العرب وهو أمر واقع وهكذا كانت كل الشعوب القاهرة مثل الجرمان والهنود الآريين والروس والأتراك وجميعها تطور مع الزمن وانتقل من البداوة إلى الحضارة ، ومن علامات الثراء الحضاري هي سيادة اللغة على اللغات القديمة في المنطقة وهو ما يعني تميزها واتساعها باللهجات الفرعية واحتوائها على التراث الشعبي الحافظ للوجدان الجمعي.

والانتماء للمشترك الإنساني العام لا يعني التخلي عن الانتماء القومي المرتبط باللغة والثقافة حيث إن القوميات الكبرى هي جزء من العالم يحدد بالجغرافيا والسياسة .. دول أوروبا يجمعهم مشترك ثقافي وجغرافي ودول أفريقيا السمراء وأمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا نفس الشيء ، والقيم الإنسانية تطبق فقد بين الأفراد داخل الدولة الواحدة أو بين الدول ذات الثقافة المشتركة (مثل الدول الرأسمالية الصناعية).

أما بين الدول والقوميات فإن هذه القيم لا محل لها من الإعراب حيث القوة هي العامل الأهم في حسم الصراعات والمنافسات ولذا من المهم أن نعرف هويتنا وانتماءنا الأكبر وما يعنيه ذلك من حدود وأرض وقضايا قومية ، وهو صراع قديم من زمن الاستعمار وحديث بسبب الإصرار على زرع الكيان الإسرائيلي في أرضنا وهو الغريب عنها في الثقافة والجينات وهذا سبب الإلحاح على فكرة الشرق الأوسط بدلا من العروبة.

وهناك توجس مشروع عند الأقليات اللغوية والدينية من الذوبان في محيط الثقافة العربية الواسع لكنه شعور مبالغ فيه حتى مع السماح بالتعددية وقبول اللغات الأخرى الحية أو الميتة لأن اللغة لا تفرض بقرار فوقي في ظل قاعدة البقاء للأقوى ، واللغة مثل السلعة إذا لبت احتياج المستهلك نمت وانتشرت وإذا عجزت عن ذلك اندثرت ولذا فإن اللغة العربية ولهجاتها باقية وقادرة على التطور في المستقبل.

ولا شك أن الشعوبيين الجدد يتبنون نهجا متحيزا وغير علمي ولا محايد بل ويغلب عليه الهوى فهم يقتنعون بنتائج العلم إذا جاءت وفق قناعاتهم فقط وإلا استعملوا التلفيق والتقييف وإظهار أنصاف الحقائق والطنطنة بالدعاية الشعبوية ، وقد حاولنا في هذا الكتاب أن نتتبع جذور ثقافتنا ومكوناتها التراثية واللغوية والجغرافية والتاريخية بشكل صادم لهذه الأفكار الساذجة والقناعات الملوثة والأباطيل التي يجب أن تمحى من الوجود.

وقد ظهرت دعوات للتشكيك في تاريخنا بحجة أن الروايات الشفوية غير دقيقة وأن المصادر المعتمدة هي فقط المخطوطات والنقوش الأثرية والدلائل الأركيولوجية التي يمكن التثبت من تاريخها بالوسائل العلمية ، وقد فاتهم أن كل مراجع التاريخ المعروفة هي في الأصل مخطوطات تم تحقيقها واعتمادها من قبل علماء التاريخ المتخصصين في الغرب والشرق كما يوجد لدينا مخزون هائل من شواهد القبور والألواح التأسيسية للمنشآت وضعت تحت الدراسة الأثرية للتحقق من صحة تاريخها.

ثم تأتي الخطوة الثانية وهي التشكيك في المحتوى المكتوب بدعوى المبالغات والغرائب وفاتهم أن الحضارات القديمة أيضا احتوت على نفس الشيء حيث يمكن التثبت من تاريخ الأثر لكن يمكن تكذيب ما ورد فيه من معلومات سواء البرديات أو نقوش المعابد لأن مواضيعها كلها دينية وأسطورية وتمجد في الملوك بشكل مبالغ فيه ، لكنهم لا يفعلون ذلك لأنهم يبحثون في الماضي المنصرم عن أي قشة تربطهم به رغم غموض التاريخ القديم بينما يغفلون عمدا عن التاريخ الواضح والتفصيلي لأنه لا يوافق هواهم وقناعاتهم.

والفكرة العروبية ليست دعوة للقبلية ولا هي دعوة لتمجيد الماضي أو تقديس التراث بل على العكس هي تلبية للمصلحة الوطنية التي يجعلها البعض فوق كل شي وقد أثبتت التجربة أن  مصالح البلاد الاقتصادية والسياسية مرتبطة بالجيران قلبا وقالبا ، والتمسك بالعروبة ليس دعوة للتخلف بل هي سبيل اللحاق بركب المدنية والحداثة والعرب هم واحد من عشر مكونات سكانية في العالم ويملكون القدرة على التفوق عند اتحادهم.

ويريد البعض أن يتخلى عن الثقافة العربية بدعوى أنها سبب تخلفنا وأن علينا أن نستبدلها بثقافة أخرى أفضل ، والحقيقة أننا لسنا في محل تجاري نختار منه صنفا ونرفض آخر وفق الهوى ولكنه اختيار قائم على واقع الحياة وعلى الوجدان الجمعي فإذا نزعنا العربية بمكوناتها فما هو المتبقي من الثقافة المصرية التي هي جزء لا يتجزأ من الثقافة العربية كما رأينا فهما شيء واحد سواء في الموروث الشعبي أو التاريخ المشترك.

والثقافة المصرية ذات الطابع العربي هي كل ما تبقى لنا من العصور السابقة لنا وهي المتصلة مع واقعنا المرتبط بكل من العراق والشام والسودان والمغرب وهي مكونات الوطن العربي التي اكتسبت أسماءها العربية مع انتشار القبائل في ربوعها فعمرت المنطقة وبنت المدن فضلا عن موطنهم الأصلي في جزيرة العرب ، وهذه الروح العربية هي التي حفلت بالوصية الخالدة باتخاذ الجند الكثيف في أرض الكنانة لأنهم خير أجناد الأرض وواسطة العقد بين مكونات الوطن الكبير. 

ويكره بعضهم الاسم الرسمي والدستوري للبلاد وهو جمهورية مصر العربية ويسعى جاهدا لإزالة وصف العربية من مصر ، والحقيقة أن العبرة بالمسمى وليس بالاسم لان كلمة مصر وحدها كافية للتعبير عن الهوية العربية للبلاد كما أسلفنا ، وعلاقة مصر بالعرب هي علاقة الواحة بالصحراء المحيطة بها كما هو الحال في كل مكونات الوطن العربي المتصل اجتماعيا وثقافيا وقبل كل ذلك كله قبائليا وسكانيا.

إجابات

التراث الشعبي المصري هو امتداد للثقافة العربية التي تمتد من المحيط إلى الخليج ، وهو مرتبط بالشعر العربي وقصص البطولات التي تتغنى بها القبائل العربية التي حطت رحالها في وادي النيل وصارت من ضمن مكوناته السكانية بل كانت العنصر الأهم في التغيير اللغوي والثقافي للبلاد حتى يومنا هذا.

والسير الشعبية وعلى رأسها السيرة الهلالية هي الجزء الخفي من تاريخ العرب والذي يقبع في الوجدان الجمعي وتظهر تأثيراته من خلال الأدب الشفهي والفن الشعبي حيث نرى تمجيد قيم الفروسية في البادية التي خرج منها أبطال السير.

واللهجات العامية المصرية التي تحوي هذا التراث هي فروع من اللغة العربية وليست لغات مستقلة ، وفروعها في الصعيد وأجزاء من الدلتا قريبة من لهجة البدو ، وقد تأثرت لهجة أهل الشرقية بتحالف قبائل جذام العربية بينما تأثرت في المنيا بالقبائل المغربية والحجازية الوافدة.

واختلفت عنهم لهجة القاهرة بسبب المؤثرات الأجنبية سواء التركية أو الأوروبية ، أما اللغة القبطية فكان تأثيرها في اللهجات العامية مقتصرا على بعض المفردات لأنها تأثرت باليونانية إلى حد كبير وفقدت جانبا من مكوناتها القديمة.

وقد تأسست في مصر مدن جديدة أنشأها العرب مثل الفسطاط والجيزة وحلوان والمحلة حيث  منازل القبائل العربية والتي عرفت مواضعها باسم محلة وكفر ونزلة ونجع وكلها تعني ديار أو مساكن أو تسمى بأسماء العشائر ، ولا يمكن دراسة التراث واللغة إلا من خلال دراسة مسرح الأحداث الذي دارت فيه وقائع التاريخ.

وقد انتشرت اللغة العربية في البلاد التي دخلت فيها القبائل والتي تعرف اليوم باسم الوطن العربي حيث تشابه العربية مع اللغات القديمة بينما لم تنتشر العربية خارج الصحراء ولم تصاحب الإسلام في رحلته إلى فارس والأناضول وأفريقيا المدارية.

ومصطلح تاريخ المصريين باللغة العربية كان يعني في القرن الثالث الهجري تاريخ عرب مصر ثم اتسع تدريجيا حتى شمل كل السكان وهو نفس ما حدث في العراق والشام والسودان والمغرب العربي ، لكن الشعوبيين الجدد يسعون للفصل بين الثقافة المصرية والهوية العربية بالتدليس وادعاء أن العامية المصرية لغة مستقلة.

ونحن المصريين شئنا أم أبينا جزء من ثقافة الصحراء وواحاتها التي صبغت المنطقة كلها تاريخيا وجغرافيا وسكانيا ولغويا ، وليس من الغريب أن يكون التراث الشعبي والأدب العربي مشتركا بين ربوع كل هذه المساحة المترامية بل من الطبيعي أن يجلس المصري في حافة الوادي على مشارف الصحراء وهو ينشد السيرة الهلالية أو يتذكر أمجاد أبي الفوارس عنترة والزير سالم والملك سيف بن ذي يزن.