7 / ثقافة مصر العربية

في عام 2017 م. صدرت عن دار آفاق للنشر رواية للكاتب الكويتي محمد نبيل المعجل بعنوان (الولايات العربية المتحدة) حيث تدور أحداثها في إطار خيالي تتحد فيه الدول العربية جميعا في دولة فيدرالية ضخمة تحمل هذا الاسم ، وبطل الرواية هو الدكتور مدحت أستاذ العلوم السياسية الذي يحلم مع تلاميذه بوضع دستور لهذه الدولة ويحاول أن يشرح لهم كيف يمكن لهذه الدولة أن تنشأ في ظل الظروف السياسية المعقدة وما يمكن أن تتمتع به من قوة ومكانة في العالم المستقبلي  ..

وقد حققت الرواية صدى طيبا في المنتديات الشبابية العربية التي تعلقت بالفكرة وبدأ البعض ينشر تصميم العلم الخاص بها وشعارها والنشيد الوطني وكذلك العملة الموحدة وجواز السفر الموحد لها وبدأ البعض في عمل فيديوهات تشرح إمكانيات الدول العربية مجتمعة ، ولا شك أن كل ذلك يندرج تحت بند الأحلام والأمنيات لكن كل المشروعات السياسية الكبرى في التاريخ بدأت بفكرة بسيطة تبدو في وقتها مستحيلة وغير قابلة للتنفيذ وبعيدة عن الواقعية ثم تنجح في النهاية  ..

والحقيقة أن هناك خيط رفيع بين الخيال والحقيقة خاصة وسط المتغيرات الدولية المتسارعة وما قد ينتج دوما عن صراع القوى الكبرى ومثال ذلك ما حدث بعد الحروب العالمية عندما انهارت إمبراطوريات وظهرت دول جديدة وتغيرت خريطة العالم ، وقد عاصرنا انهيار دول كبرى مثل الاتحاد السوفييتي وتوحد ألمانيا بعد انقسامها واختفاء دولة يوغوسلافيا بل وتغيير الحدود البرية والبحرية ببساطة في كثير من الدول بعد أن كانت في وقت ما من المسلمات الوطنية المقدسة  ..

ويرى عدد من المتخصصين في العلوم السياسية أن الدولة القومية التي نشأت بعد حقبة الاستعمار في النظم الجمهورية العربية في طريقها إلى الفشل وأن موجات الربيع العربي كانت مؤشرا على بداية التغيير الحتمي ، والبديل المتوقع هو قيام منظومة إقليمية قادرة على حماية الأمن القومي للمنطقة حتى لا تسقط في فوضى قد تهدد استقرار العالم لكن ذلك يحتاج إلى قدر من الخيال وهو مفقود عند المشتغلين بالعمل العام لكنه موجود قطعا لدى الأدباء والشعراء والفلاسفة ..

هستيريا الهلاوس والضلالات

تأملت بتمعن تلك الظاهرة المحيرة في مونديال 2022 عندما قامت الجماهير العربية بتشجيع منتخبات المغرب وتونس والسعودية وقطر بصورة تلقائية وعفوية مع رفع علم فلسطين بشكل لافت ، وهذا الأمر لم يكن مرتبطا بأفكار الناصرية والبعثية والقومية العربية التي فقدت تأثيرها منذ زمن بعيد ولكنه نابع من إحساس داخلي بوجود قدر ما من الانتماء الطبيعي المشترك بين هذه الشعوب يتجاوز الأطر السياسية القديمة والحديثة  ..

وكان من الممكن أن يمر هذا الأمر البسيط مرور الكرام دون أن يلحظه أحد ولا يستحق كل هذه الضجة لولا الهستيريا المضادة التي حدثت في مواقع التواصل الاجتماعي لنفي وجود مثل هذا الارتباط بين الشعوب العربية ، وتطورت عندهم الهلاوس والضلالات وتحولت إلى تشنجات عصبية وأرتكاريا حادة حيث أخرج الجميع ما في جوفه من قيء (بالتعبير البلدي جاب اللي في بطنه) وبالتعبير الراقي (ولتعرفنهم في لحن القول) ..

وصاحب ذلك قدر كبير من التخبط .. بعضهم يقول إننا نمثل أفريقيا لكن في نفس الوقت لسنا أفارقة وذلك خوفا من دعاة الأفروسنتريك الذين يريدون سرقة الحضارات القديمة ونسبتها إليهم ، وبعضهم يقول إننا ننتمي للبحر المتوسط لكن مع تمييع وعدم تحديد لأن سوريا ولبنان وفلسطين وتركيا وألبانيا والبوسنة والهرسك دول متوسطية ، وفي النهاية يصل بهم الأمر إلى مرادهم الحقيقي وهي أن يصبح كل شعب معزولا وحده  ..

وعلى الطرف الآخر قدر من المزايدة عندما روج البعض أن الجماهير في بعض الدول الإسلامية غير العربية مثل تركيا وماليزيا قامت بنفس التشجيع وهو تهافت لا محل له ولزوم لما لا يلزم لأنها لم تكن منتشرة بقدر كبير بل كانت أيضا مرتبطة بشكل ما بالجاليات العربية في تلك الدول ، والأمر ليس متعلقا بالعرق ولا بالدين وإنما هو بسبب اللغة العربية ولهجاتها المنتشرة التي يتحدث بها سكان الوطن العربي من عرب وغيرهم ..

والطريف إن كل مهاجمي العروبة على اختلاف أهدافهم قد جمعتهم صفحات ومواقع مشتركة حيث تجد مثلا مجموعة تروج للانتماءات المحلية سواء من الناحية الثقافية أو الجينية مثل أنصار البابلية أو السريانية أو الفرعونية أو الأمازيغية وقد تجمعوا سويا من المحيط إلى الخليج من العراق وسوريا ومصر والمغرب وغيرها يتبادلون الآراء وتربطهم اللغة المشتركة وهو سلوك يؤكد فكرة الوطن العربي والتقارب بين شعوبه ولا ينفيه  ..

وقديما قال الأصوليون : ” لا مشاحة في الاصطلاح ” يعني ببساطة العبرة بالمسمى وليس بالاسم وبواقع الحال وليس بالمقال ، وإذا كانت كلمات مثل العرب والعروبة والوطن العربي والقومية العربية تثير غضب البعض وتصنع حساسيات وتصيب بالحرقان وتسبب البواسير فإن الحل هو تغيير هذه المسيات (كده وكده) ونطلق على المنطقة اسم الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واختصارها (ش أ ش أ) وتصبح اسمها بلاد شأشأ وسكانها الشأشأيون  ..

لكن ذلك سوف يذكرنا برواية يوسف السباعي الرائعة (أم رتيبة) عندما طلبوا من خبير الطرشي العريس سيد بنجر تغيير اسمه فعاد لهم بعد أسبوع ونفذ طلبهم وغير اسمه إلى علي بنجر !!

ومع تنامي تيار التنوير المعاصر والذي هو في طياته يتبنى وجهة (لا دينية) بدأت عملية البحث عن الهوية المفقودة لأنه من المهم للأفراد والجماعات تحديد ماهياتهم على الصعيد النفسي والعاطفي وذلك بعد رغبتهم الملحة في الانتزاع من محيطهم الاجتماعي والثقافي المحدد بالجغرافيا والتاريخ وسبب المعضلة أنهم يعيشون في الوطن العربي الذي هو جزء من العالم الإسلامي شئنا أم أبينا.

ولهذا جاءت الحيلة النفسية الدفاعية الأولى وهي اختراع مسمى جغرافي جديد لا يرتبط بالهوية العربية فأطلقوا على المنطقة مصطلحا مضحكا ساذجا غير محدد المعالم هو (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا) والذي أختصره كما أسلفت في حروف ش أ ش أ ، وصار بعضهم يقول عن نفسه أنهم شرق أوسطيين أو شمال أفريقيين مع الترويج لكل ما يعادي العروبة وقضاياها وانتماءاتها خاصة اللغة العربية.

وهنا تأتي الحيلة النفسية الدفاعية الثانية وهي قولهم في تقعر وتشدق وتظاهر بالأهمية أن بلادنا ليست عربية وإنما هي دول ناطقة بالعربية رغم أنه لا يوجد فارق من الناحية الفعلية وإنما هو مجرد اصطلاح غبي لنفي الهوية الحقيقية واختراع هوية جديدة زائفة ، وقد جاء في الأثر : ” ألا إن العربية اللسان ” بمعنى أن العروبة مرتبطة باللسان العربي وليست خاصة بعرق أو جنس أو لون أو قبيلة.

وهنا تأتي الحيلة النفسية الدفاعية الثالثة وهي قولهم إن بلادنا لا تتكلم اللغة العربية وإنما تتكلم اللغة المصرية ويقصدون بها اللهجات العامية المصرية وكذلك اللهجات العراقية والشامية والمغاربية حيث الإصرار على أنها لغات مستقلة وليست لهجات من اللغة العربية وهو الأمر السخيف والممجوج والمتهافت والمخالف للعلم والعقل والمنطق بل يدل على جهل كبير بالفارق بين اللغات واللهجات.

ولنفي هذا الترابط اللغوي تأتي الحيلة النفسية الدفاعية الرابعة وهي العودة بالتاريخ إلى الماضي السحيق واستحضار الهويات الفرعونية و الفينيقية والبابلية وغيرها واتخاذها مرجعية ثقافية واجتماعية بشكل سطحي والتأكيد على الوحدة القومية تحت هذه الراية مع نفي أي صيغة لتعدد الثقافات والتأكيد على وحدة الانتماء لهذه الحضارات القديمة التي لا توجد لها محددات تطبيقية في واقعنا.

ومن أجل سد ثغرات النظرية أعادوا كتابة التاريخ وبعد أن كان العرب غزاة وضيوف تغيرت السردية وصار المصريون كلهم شعبا من المستعربين بالقوة في محاولة لصناعة خصوصية قومية لكنهم يتناسون أن الحضارات القديمة كلها كانت قائمة على ثقافة دينية محضة في الفكر والمعمار ، وهم بذلك يشبهون رشدي في فيلم شيء من الخوف عندما عاش في الوهم وصار يهتف : ” أنا عتريس “.

ومن ضمن الآراء العجيبة التي قرأتها على الصفحات التنويرية أن سبب الأزمة الاقتصادية في مصر هو الاحتلال العربي الذي حدث منذ ألف وأربعمائة عام وأن الإسلام الحداثي أخطر فكريا من داعش وأن إسرائيل هي التي صنعت المقاومة الإسلامية مع حشر الأزهر والحجاب في أي جملة غير مفيدة ، ولا أعلق على ذلك لأنها مجرد آراء وإنما أتدخل فقط إذا كان الأمر يمس وقائع تاريخية محددة ومعروفة.

لكن لا أدري لماذا ذكرتني هذه الآراء بما كنت أسمعه قديما من غلاة السلفيين من أن جماعة الإخوان أخطر على الإسلام من اليهود ، وما ردده خبير استيراتيجي من أن المعارضة هي المسئولة عن السلعوة وسفاح المعادي ، وكذلك ما يردده أنصار الحنين المرضي المبالغ فيه للهوية الفرعونية التي لا تربطنا بزمنها أي مشتركات جينية أو لغوية أو ثقافية أو اجتماعية ويريدون محو فترة من تاريخنا تقدر بألفي عام أو تزيد.

ويبدو أن الجميع تنويريين وأصوليين مسلمين ومسيحيين أفرادا وجماعات قد صنع كل واحد لنفسه فقاعة خاصة به وراح يردد أفكاره بشكل مرضي هستيري لدرجة الهذيان وهو يحارب أعداء وهميين ويلبس ثوب البطولة ، التيار السلفي العام يتوجس من المؤامرة الكونية اللوذعية على العقيدة  بينما جماعة الإخوان انقسمت إلى ثلاث جبهات كل واحدة تهاجم الأخرى بأوسخ الألفاظ مع تبادل تهم الخيانة والعمالة والتآمر.

وكلا الطرفين التنويري والأصولي يتهم المجتمع بمناصرة الطرف الآخر ويعيش في دور ضحية الاضطهاد وشهيد الرأي ، والغريب أن من يطنطن بالعلم والمنطق طوال الوقت لم يعلق على (جهاز الكفتة) الذي يعالج جميع الفيروسات وذلك بسبب المكايدة السياسية أو لأن (الأدب فضلوه على العلم) ، وعلى الطرف الآخر يعيش الطوباويون على ذكريات نزول الملائكة في رابعة ومصرع بشار الأسد وهروبه في آن واحد.

المشكلة أنني شخصيا تأثرت بهذه الأجواء التي تشجع على التعصب وتبتعد عن العقلانية حتى صرت أكثر حدة في الكتابة وأقل تقبلا للنقد .. وكل ما أخشاه أن أتحول مثلهم تدريجيا وأن أصنع لنفسي فقاعة مليئة بالهلاوس والضلالات وأن أخترع معارك وهمية لا وجود لها .. وأتمنى ألا ينتهي بي الحال مثل قناوي في فيلم باب الحديد عندما ألبسوه القميص وهو يصرخ والعجوز يخدعه ويقول له : ” حاجوزك هنومة “.

أما القارىء المتعمق للتاريخ فهو يعرف جيدا أن دراسة مرحلة معينة في التاريخ لا تعني الحنين لها أو العودة إليها أو استنساخها في حياتنا المعاصرة لأن الزمن لا يرجع إلى الخلف ، وإنما الهدف من الدراسة هو معرفة العبر والدروس من ظهور الحضارات واندثارها وقيام الدول وانهيارها وتتبع صراع القوميات المختلفة على الأرض والموارد ومعرفة كيف تشكل واقعنا السياسي من خلال تراكم الأحداث وتفاعلها مع المحيط الإقليمي والمجتمع الدولي  ..

والقارىء الجيد للتاريخ يستطيع بسهولة إدراك مسار حركة الأمم والشعوب ودور القوة الاقتصادية والهيمنة الثقافية في رسم الأحداث وتبعاتها مما يمكنه من فهم تعقيدات الحاضر ويجعله قادرا على توقع المستقبل شريطة أن تكون هذه القراءة موضوعية وغير متحيزة ، والأهم من ذلك كله هو إمكانية الاستفادة من هذا الفهم بتطبيقه عمليا في الحياة السياسية وامتلاك الخيال اللازم لنقل الأفكار النظرية إلى حيز التنفيذ العملي ..

والقارىء المحايد للتاريخ يمكنه استيعاب التباينات الفكرية داخل المجتمع الواحد وفهم هذه الاختلافات عن طريق معرفة جذورها وكيف نشأت في إطار التفاعل بين الثقافة الغربية والتراث المحلي بل وإدراك نقاط القوة والضعف في هذه الأفكار كلها وتأثيراتها على قضايا الهوية الوطنية التي يجب أن تأخذ حجمها الطبيعي دون تهوين أو تهويل بما يساعد على تحقيق السلم الاجتماعي والتعايش بين التكوينات المختلفة في الفكر والسلوك ..

والقارىء المدقق للتاريخ يتفهم فكر أصحاب القراءة المزاجية المتحيزة لمرحلة زمنية معينة لأن الناس دائما في حاجة إلى قدر من الخيال يعالج مخاوفهم وهو احتياج فطري وغريزي للوصول إلى الشعور بالأمان من خلال الإحساس بالهوية المفقودة والتي لا تقتصر على المكان فقط بل تتعداه إلى الماضي الجميل من وجهة نظرهم من خلال الانتماء لعالم خيالي مثلما يحدث عند التماهي مع القصص والروايات والأعمال الأدبية والفنية والسير الشعبية ..

والقارىء الواعي للتاريخ لا يكتفي بالنقد وإنما يتعامل بواقعية مع متطلبات الحاضر ويستطيع تقديم حلول من خلال تراكم الخبرات المعرفية للدول في تاريخها القديم والوسيط والحديث ، وهذه الرؤية قادرة على رسم ملامح التطبيق العملي للأفكار النظرية وتضعها في إطارها السليم وتنقل صاحبها إلى خانة الفاعل في الحياة السياسية بينما يصر الكثيرون على البقاء في خانة المفعول به أو على الأقل في موضع لا محل له من الإعراب ..

وانتشار أي لغة مرتبط بالتكوين السكاني وانتشار اليونانية في مصر لمدة ألف عام قبل الإسلام كان بسبب السكان المتوطنين من أصول يونانية لكن الشعوبيين الجدد يستميتون في نفي ذلك كما يسخرون من العائلات التي تفخر بأصلها التركي أو جذورها العربية متهمين الجميع بالكذب رغم أن الواقع يؤكد هذا التنوع في الأطراف حيث العرب في سيناء والصحراء الشرقية والبدو والأمازيغ في الصحراء الغربية والواحات ومطروح والنوبيين والبجا في الجنوب فضلا عن تنوع الفنون الشعبية واختلافها من منطقة لأخرى وفي نفس الوقت هناك اتصال بين مصر وجيرانها في الثقافة الشعبية من سير وآداب وفنون بل وحتى في الأمثال الشعبية الدارجة.

ويسعى الشعوبيون الجدد لنفي علاقة اللغة بالهوية ويضربون مثلا بأن دول أفريقية تنطق بالفرنسية لكنها ليست فرنسية وهو قول مردود لأن اللغة الأم للأفارقة هي لغاتهم المحلية أما الفرنسية فهي لغة ثانية يتعلمونها لأسباب اقتصادية واستعمارية ، وفي نفس الوقت يصبون جام غضبهم على اللاجئين المقيمين في مصر من البلاد العربية وأن وجودهم سوف يغير هوية البلاد نحو مزيد من التعريب ويتعاملون معهم بعنصرية لكن يمجدون الثقافة الأمازيغية والسريانية التي تحمل نزعات انفصالية ولا يهتمون بالثقافة النوبية نفس الاهتمام بسبب انحيازها لفكرة الأصل الأفريقي للفراعنة كما يروجون أن العروبة تؤدي إلى التخلف بينما الشعوبية تؤدي إلى التقدم وهو لغو فارغ ولعب ساذج بالألفاظ.

ويحتج بعضهم بأن عروبة مصر تعني التسليم بأفكار الأفروسنتريك الذين يريدون سرقة الحضارة الفرعونية ونسبتها لهم وهو قول مردود لأنه لا يوجد علاقة بين مصر القديمة التي جزء من عالم جنوب غرب آسيا وبين الأفارقة جنوب الصحراء فادعاؤهم باطل لكن لا يجب مواجهة الباطل بالباطل لأن كليهما يحاول استعادة شيء ميت فأحدهما انفصل به الزمان والأخر انفصل به الزمان والمكان معا ، والحقيقة أنه إذا كان الأمر متاحا للاختيار ـ وهو ليس كذلك ـ فإن العقل يقتضي أن نختار ما هو متوافق مع ثقافتنا ومحيطنا وما هو متواصل مع تاريخنا ولغتنا وليس استحضار ثقافات ميتة لا يمكن لها أن تحيا لأن الخالق وحده هو القادر على أن يحيي العظام وهي رميم.

ويل للمدلسين

كثير من عوام الناس يحب القراءة في الطب وبعضهم يحب استعمال المصطلحات الطبية اللاتينية في كلامه العادي حتى لو بدت مضحكة أو سخيفة أو غير دقيقة مثل ذلك المريض الذي أراد عن يعبر عن التهاب في المعدة فقال لي إن عنده  stomachitis   باعتبار أن أي عضو به التهاب يضاف له المقطع itis  وهو طبعا مصطلح خاطىء لأن التهاب المعدة اسمه gastritis   !!

وللأسف هذا ما حدث لي على صفحات التواصل الاجتماعي عندما رأيت تعليقا على أحد منشوراتي من المهندس محمد عبد الهادي وهو شخص معروف في مجال السلالات الجينية وهو مشرف في صفحة واسعة الانتشار تحمل عنوان (مناقشة جينوم الشرق الأوسط الكبير) والتي أتابعها بانتظام وكذلك أتابع صفحته الشخصية وما ينشر فيها من نتائج آخر الأبحاث في المجال ، وسبب ذلك ما ذكرته أنني بصدد نشر كتاب حول التنوع الجيني عند المصريين.

تكلم معي بلهجة الأستاذ للتلميذ وقال : ” يا ريت متنزلش كتاب إلا وإنت متأكد من اللي حاتكتبه في الشق الجيني المشرحة مش ناقصة قتلى ” وذلك لأنه يتبنى وجهة نظر غير دقيقة مفادها أن المصريين الحاليين متشابهين جينيا ويتطابقون مع قدماء المصريين ورأيي عكس ذلك  فأخبرته أني بالطبع لن أنشر إلا ما هو موثق ومن خلال مركز خاص ننوي تأسيسه مع علماء متخصصين.

وهدفنا من ذلك أن ننقل هذه التقنية إلى بلادنا بالتعاون مع الجهات المختصة في الوطن العربي وأن تكون تحت إشراف أكاديمي لأنها حتى الآن قاصرة على الغرب وجميع المهتمين به في بلادنا هم من الهواة الذين يكتفون بالنقل والترجمة ، فقال في جرأة : ” حأبقى آخد نتايجكم وأعرضها على متخصصين من كبار جامعات أكسفورد وماكس بلانك وكامبردج على اتصال بيهم بشكل شخصي على تويتر “.     

فقلت إن دراستي متعلقة بالجزء التقني في المجال التطبيقي وأن متابعته تكون عن طريق المؤتمرات العلمية وليس تويتر ، وبدلا من أن يسألني عن طبيعة  دراستي وموضوع بحثي نظر إلى تخصصي السابق المكتوب على صفحتي ثم قال في سخرية : ” ايه نوع الدكتوراه اللي عند حضرتك بالمناسبة ؟ انت كلينيكال باثولوجي يعني .. ما هم اللي معاهم دكتوراه هم اللي ضيعونا في كورونا “.

ثم راح يسرد مصطلحات علمية متعاقبة على طريقة مريض التهاب المعدة التي ذكرتها في أول المقال لكني تجاوزت عن ذلك وقلت إنه من المنطقي أن تكون تخصصات التحاليل الطبية هي الأقرب للبيولوجيا الجزيئية وتطبيقاتها ، كل ذلك وأنا أخاطبه باحترام باعتباره أحد المتخصصين الكبار رغم أنه مذكور على صفحته أنه درس الهندسة المعمارية البعيدة تماما عن هذا المجال.

ثم قال أيضا بلهجة البروفيسور : ” أنا مش حاقبل إضافة صبغة من التقديس على كلامك لمجرد إنك دكتور .. مش عايزين نعمل أوصيا على هوية الناس ” ، كما قرر عدم الاستعانة بقاعدة بيانات شركة فاملي تري (وهي أكبر شركة عالمية في الفحوصات الجينية) ولا الأبحاث الخليجية (وهي أكثر من نصف الأبحاث في المجال) وطبعا السبب في ذلك أن نتائجها مخالفة تماما لوجهة نظره.

واتضح لي أن كل المهتمين بهذا المجال ليس لهم أي علاقة بالعلم ولا بالتجارب العلمية ولا دخلوا مختبرا أو أجروا تجربة وإنما كل معلوماتهم مستقاة من الجلوس خلف الشاشات ومتابعة ما تنشره المواقع المختلفة وهو ما يهدم تماما مصداقية المعلومات التي ترددها هذه المواقع والصفحات والمدفوعة بالتعصب للشعوبية بهدف التوظيف السياسي بعيد المدى.

ويبدو أن هناك من الناس من لا يطيق سماع الرأي المخالف بل وعدم القدرة على تقبل الاختلاف ، وربما ينبع ذلك من الخوف من هدم القناعات التي بناها بواسطة العلم الزائف ومنهم من يتبنى مقولة : ” اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس ” وذلك بهدف الترويج لفكرة القومية المصرية الشوفينية رغم أن كل ما طلبته أثناء المناقشة هو الانتظار وعدم التسرع ثم الاحتكام للعلم في حيادية.

ورغم ذلك فقد جمعت كل الروابط التي كتبها لي وأرسلتها إلى أحد أساتذتي في الولايات المتحدة للتأكد منها ومن مصداقيتها ودرجة اعتمادها ، ومع كل التجارب التي تمت بالآلاف فإنها لا تعبر عن نصف مليار إنسان هم سكان الوطن العربي ، ومن أجل ذلك كان هدفنا هو إنشاء مركز معتمد يسير وفق آليات البحث العلمي ، ورغم خبرتي في هذا فلا زلت أعتبر نفسي في أول الطريق.

وقد ذكرني ذلك الموقف بتصرف الإمام الشافعي مع ذلك الجاهل الذي تظاهر بالوقار والهيبة فكان يتحرج أن يمد قدمه في حضوره فلما تكلم ظهر جهله فمد قدميه وقال : ” آن للشافعي أن يمد قدميه ” ، أو لعلي أفعل مثلما فعل الحكم المستنصر عندما رد على رسالة الهجاء من العزيز بالله الفاطمي وقال له : ” أما بعد فإنك قد عرفتنا فهجوتنا ولو عرفناك لأجبناك “.

والحقيقة أن طفرة علمية كبيرة يشهدها العالم المعاصر بعد اكتشاف الخريطة الجينية للسلالات البشرية .. وقد كانت مومياوات الفراعنة أحد أهم العوامل التي ساعدت على إكمال هذه العملية لأنها أتاحت لنا إطلالة على الزمن القديم .. لكن أهم العوامل التي أسهمت إسهاما فعالا في رسم الخريطة الجينية للمنطقة العربية هو القبائل العربية التي احتفظت بسجلات الأنساب الممتدة إلى مئات الأعوام وهو ما يعني سيالا زمنيا يصل الحاضر بالماضي وهي الميزة التي لا تتوافر لغيرهم كما أن القبيلة الواحدة قد تتوزع في أكثر من دولة وتعطينا فكرة عن حركة الهجرات المتعاقبة مما يسهم بشكل فعال في إعادة ترتيب كثير من الأحداث التاريخية في العصر القديم والعصر الوسيط.

وتحاليل الحمض النووي سوف يكون لها الكلمة الأخيرة في المستقبل القريب وذلك فيما يتعلق بعلوم الأنساب والتاريخ وسوف تكون حاسمة في فض الاشتباك بين القبائل وإثبات أو نفي الانتساب لعائلات بعينها كانت تعتمد في الماضي على المخطوطات والروايات الشفوية وكذلك سوف تكون عظيمة النفع للمهتمين بمسألة الهوية وبيان تهافت أنصار النقاء الجيني وكذب رواياتهم بل إثبات التنوع داخل الوطن الواحد والذي هو من سمات البشرية (في الجزيرة العربية ظهرت نتائج عديدة للسلالات المصرية وفي مصر ظهرت نتائج عديدة لسلالات الجزيرة العربية والشام فضلا عن التنوع الكبير في سلالات المصريين المعاصرين).

ومن أهم الخطوات المأمولة في هذا المجال دراسة قبائل عرب الشمال تحديدا والتي سكنت البادية العربية (من النيل إلى الفرات) وأطلق عليها مجازا (عرب قحطان) مثل تنوخ ولخم وجذام وعاملة والأزد وقضاعة وطيء وما تفرع منهم خاصة وأن هذه القبائل قد سكنت مصر في زمن مبكر ومنها في دلتا مصر نسبة لا بأس بها من السكان (جذام في الشرقية وقضاعة في الدقهلية وطيء في الغربية ولخم في البحيرة والإسكندرية) فضلا عن انتشارهم الواسع في الصعيد (جهينة وبلي).  

وقد كانت منازل العديد من القبائل العربية في مصر مرتبطة بهذه القبائل تحديدا بسبب وجود حلف كبير بينهم نشأ في العصور الإسلامية وساهمت هذه التحالفات في الأحداث السياسية المختلفة ولهذا فإن هذا المشروع سوف يعطينا دلالات أولية حول نتائج المنتسبين إلى هذه القبائل مع الوضع في الاعتبار أن القبيلة الواحدة في الزمن المعاصر هي تحالف كبير من جذور مختلفة تضم في طياتها الأبناء الأصليين والأحلاف والموالي والمستجيرين بها وهذا أمر نابع من طبيعة القبائل العربية قديما وحديثا ولذلك سوف تساعدنا نتائج المشروع على فهم التاريخ جيدا  ..

وأبناء القبائل العربية هم أصحاب أول وأكبر المشروعات الخاصة بأبحاث السلالات الجينية وذلك منذ أكثر من عشرة أعوام ، وقد خرجت نتائج الفحوصات متفقة مع الدراسات الجادة والموضوعية في علوم التاريخ والأنساب لكنها قطعا كانت مختلفة مع الموروث الشعبي الشفوي ، وهو ما تلقفه المغرضون لنفي صفة العروبة عن مصر وإنكار وجود التكوينات السكانية العربية والمعروف وجودها التاريخي المتصل في مناطق معروفة في محافظات الشرقية والغربية والدقهلية والبحيرة وقنا وسوهاج وأسيوط والفيوم فضلا عن سيناء والبحر الأحمر ومطروح والواحات  ..

ومن التخاريف التي يرويها هؤلاء أن بعض أقباط مصر كانوا يشترون الأنساب العربية طمعا في الارتقاء الاجتماعي ويستدلون على ذلك بقصة الحرسيين التي حكم فيها القاضي العمري في القرن الثاني الهجري وندد بها الشاعر معلي الطائي وهي حادثة وحيدة لم تتكرر وكانت خاصة بقطاع من عرب الحوف من النصارى الذين أرادوا الانتساب إلى فرع من قضاعة ليدخلوا في ديوان الجند ، ولذا لا يمكن دراسة علوم السلالات الجينية بمعزل عن متابعة التحركات السكانية وتاريخ القبائل ومعرفة الأحداث التاريخية الكبرى والثقافة الشعبية السائدة وتتبع تأسيس المدن والقرى والتي تؤكد توطن العرب ..

ولا يمكن الاعتبار بنتائج الفحوصات الفردية ما لم تكن مصحوبة بدراسة مقارنة مع نتائج الآخرين في مصر وعموم الوطن العربي وكذلك المقارنة مع جثث السابقين المتاح فحصها وليس الأحياء فقط ، والأهم هو معرفة هوية العينات موضع الدراسة لأنها قد تكون عرضة للخلط حيث يمكنني أن أجري الفحص على مائة شخص من الحويطات في سيناء ثم أعلن أن العرب مائة بالمائة من سكان مصر ويمكن لآخر أن يدرس عشرة عينات من سيوة ثم يعلن أن مصر أمازيغية ، وهذا للأسف ما تفعله كثير من الصفحات المهتمة بالمجال وينشر فيها أشخاص وهميون مغرضون  ..

ويكثر في هذه المواقع نشر دراسات مجتزأة بطريق القص واللصق ثم الحذف والتقييف لتوافق غرضا واحدا وهو نفي صفة العروبة عن مصر بكل طريقة ممكنة وأحيانا توضع دراسة معتمدة وموثقة ثم ترفع بعدها بساعات عندما يتبين أنها تؤكد فكرة التنوع الجيني والذي هو حقيقة علمية في مصر وكل دول العالم بنسب متفاوتة ، ويتم الإلحاح بقوة على فكرة التجانس الجيني بين المصريين لتكريس فكرة القومية المصرية بإثباتات جينية وهو الأمر المخالف للواقع إذ يعتمد فيه على دراسات تمت على عدد محدود جدا من عينات الفحص لا تعبر عن أكثر من مائة مليون نسمة  ..

وأكبر دراسة حديثة نشرت في كافة المواقع والمجموعات لا يتجاوز فيها التجانس نصف السكان وهو الأمر الذي يؤكد فكرة التنوع ولا ينفيه لأن التنوع الجيني سمة للشعوب كلها وأيضا في القبائل العربية التي خرجت على سلالات متعددة تبعا لأصولها المختلفة وهو ما يتوافق مع معطيات التاريخ التي تخبرنا أن القبائل ليست عائلات وإنما هي تحالفات تكونت لأسباب معروفة وذلك قبل الإسلام وفي العصور الوسطى وفي الزمن المعاصر ، ويتشكل  التحالف من نواة قبلية وحولهم عدد أكبر من الحلفاء والموالي والأنصار وأمثلة ذلك كثيرة في السيرة النبوية والتاريخ الإسلامي .. 

وهذا الفهم لطبيعة القبائل يفسر لنا انتساب عدد كبير للأشراف حيث النواة من عائلات منحدرة من الطالبيين وحولها عدد أكبر الحلفاء ، ويظن البعض أن الفخر بالقبيلة هو مدعاة للتميز وهو جائز إذا صدر عن قلة متميزة وسط كثرة مغايرة لكن الحقيقة أن العرب في بعض مناطق الدلتا والصعيد يشكلون أغلبية نسبية ومنهم من وفد حديثا من البادية العربية ومن صحراء ليبيا وأسسوا قرى ومدن سجلتها الوثائق الرسمية ، وهؤلاء تحديدا يتعجبون من إصرار صفحات التواصل الاجتماعي على نفي وجودهم من خلال الادعاء بفكرة النقاء العرقي وهو ما يهدد البعض بنفي صفة المصرية عنهم  ..

ومن الخطر بالفعل نفي فكرة التعدد الجيني والتكريس لفكرة النقاء العرقي خاصة مع محاولة ربطها بالحضارات القديمة فقط والتي حدث انقطاع ثقافي ولغوي واجتماعي معها وإغفال فترة العصور الوسطى المتصلة مع واقعنا الحاضر في كافة جوانبه ، وسوف ينتهي هذا الجدل العقيم عندما تتسع دائرة الفحوصات مع التقدم في الشق التقني من الأبحاث وتخفيض سعر تكلفتها والبدء في عملها في مصر والوطن العربي بدلا من إرسالها للخارج واعتمادها من مؤسسات علمية جادة ، ولا شك أن الإنصاف يقتضي من العقلاء الإقرار بحقائق العلم المجردة بعيدا عن أوهام التوظيف السياسي لفكرة الهوية الإقصائية  ..

ويحاول أصحاب الهلاوس والضلالات وضع مقياس يتحدد بواسطته المصري الأصلي من غيره فإذا ظهرت النتائج العلمية مخالفة لدعواه يتراجع عن فكرة الهوية الجينية لصالح الهوية الثقافية وحدها لكن مع جهد جهيد لسلخها عن فكرة العروبة والتي هي جزء لا يمكن إنكاره من الحياة الثقافية والاجتماعية واللغوية ، وقد كانت القبائل العربية في مصر أكثر مرونة مع حركة التطور الاجتماعي ققامت بالتخلي عن الفكرة القبلية واستبدالها بتأسيس عدد من الجمعيات الأهلية ومؤسسات المجتمع المدني وربما يكون بينها وبين دخول عالم السياسة مسافة قاب قوسين أو أدنى .