الفسطاط والقاهرة المعزية

الفسطاط

في صيف عام 643 م. تم فتح مصر واستقر الأمر على بناء مدينة جديدة في الموقع الذي عسكر الجيش عنده لحصار حصن بابليون وذلك في الفضاء الصحراوي شمال الحصن بين جبل المقطم شرقا ونهر النيل غربا وقد أطلق عليها اسم (الفسطاط) تيمنا بمقر القيادة حيث إنهم عندما أرادوا نزع الخيمة عند التوجه للإسكندرية وجدوا عليها يمامة قد أفرخت فلم ينزعها عمرو بن العاص وقال : ” لقد تحرمت منا بمتحرم ” وأوصى نائبه خارجة بن حذافة بحفظ الخيمة حتى يرجع ، وقد عهد عمرو إلى أربعة من الرجال بمهمة تنظيم القبائل وهم معاوية بن حديج التجيبي الكندي وشريك بن سمي الغطيفي المرادي وعمرو بن قحزم الخولاني وحيويل بن ناشرة المعافري ففصلوا بين القبائل وأنزلوا الناس منازلهم ..

اختطوا الخطط (الحارات) وبنوا الدور والمساجد وعرفت كل خطة بالقبيلة أو الجماعة التي اختطتها أو بصاحبها الذي اختطها حيث كان اختيار الرجال الأربعة على هذا النحو لأن أكثر الجيش الفاتح كان من قبائل اليمن ، وقد سكنت القبائل اليمانية جنوب الفسطاط بينما سكنت القبائل العدنانية في شمال المدينة واستقرت قريش في الوسط في (خطة أهل الراية) ثم اتسع العمران باتجاه الشمال الشرقي والشرق حيث خطة أهل الظاهر وخطة اللفيف (وهي الأمداد التي عادت بعد فتح الإسكندرية) وقد وقع اختيار المسلمين على تلك المناطق للسكن بسبب قربها من بيئتهم الصحراوية وعدم رغبتهم في مزاحمة السكان الإغريق في المدن اليونانية التي كانت منتشرة في مصر طيلة العهد البطلمي والروماني.

عرف مركز الفسطاط بخطة أهل الراية وهم جماعة من قريش والأنصار وخزاعة وأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وثقيف ودوس وعبس بن بغيض وجرش من بني كنانة وليث بن بكر لم يكن لكل منهم من العدد ما ينفرد به بدعوة من الديوان فجعل لهم عمرو بن العاص راية لم ينسبها إلى أحد وقال يكون وقوفكم تحتها فكانت لهم كالنسب الجامع وكان ديوانهم عليها فعرفوا بأهل الراية وانفردوا بخطة وحدهم كانت من أعظم الخطط وأوسعها ، وكانت عادة العرب أن يتجمعوا وفق التقسيم القبلي لذلك فإن خطة أهل الراية كانت مقسمة إلى (حارات) فرعية بحيث تسكن كل قبيلة في حارة خاصة بها وكانت خطة أهل الراية تحيط بالمسجد (جامع عمرو) من جوانبه كلها ..

ولارتباط القيادة بالمسجد مثلما كان الحال في المدينة المنورة فقد كان يسكن فيها معظم قادة فتح مصر أمثال عمرو بن العاص السهمي وخارجة بن حذافة العدوي و الزبير بن العوام الأسدي وعبادة بن الصامت الأنصاري ومسلمة بن مخلد الأنصاري وعمير بن وهب الجمحي وعقبة بن عامر الجهني وعبد الله بن حذافة السهمي والمقداد بن عمرو الكندي (حليف بني زهرة) ونافع بن عبد القيس الفهري وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ، وكانت أرض المسجد في البداية من نصيب قيصبة بن كلثوم التجيبي فلما رجع عمرو من الإسكندرية سأل قيصبة فيه ليجعله مسجدا وذلك لتوسط موقعه فسلمه إليه وقال تصدقت به على المسلمين واختط له خطة مع قومه من بني سوم في تجيب ..

أهل الراية

في حي مصر القديمة بالقاهرة لا يزال الشارع المحيط بمسجد عمرو بن العاص يحمل حتى يومنا هذا اسم (أهل الراية) حيث عرف مركز الفسطاط بخطة أهل الراية ، وكانت خطة أهل الراية مقسمة إلى (حارات) فرعية بحيث تسكن كل قبيلة في حارة خاصة بها.

وأطلق على الحارة الكبرى اسم زقاق الأشراف أو زقاق القناديل (لتلعيق القناديل أمام منزل عمرو بن العاص الذي يقع في أوله) ، ويتفرع منها خطة خارجة بن حذافة العدوي وتضم منزله المعروف باسم (دار القند) وما يليها من دور وفي مقابلها منزل عبد الله بن عمر بن الخطاب (دار البركة).

جاء في الخطط المقريزية : ” اعلم : أنّ الخطط التي كانت بمدينة فسطاط مصر ، بمنزلة الحارات التي هي اليوم بالقاهرة ، فقيل لتلك في مصر : خطة ، وقيل لها في القاهرة : حارة.

قال القضاعيّ : ولما رجع عمرو من الإسكندرية ، ونزل موضع فسطاطه ، انضمت القبائل بعضها إلى بعض ، وتنافسوا في المواضع ، فولى عمرو على الخطط : معاوية بن خديج التجيبيّ ، وشريك بن سميّ الغطيفيّ ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ ، وحيويل بن ناشرة المعافريّ ، وكانوا هم الذين أنزلوا الناس ، وفصلوا بين القبائل ، وذلك في سنة إحدى وعشرين.

خطة أهل الراية : أهل الراية جماعة من قريش والأنصار وخزاعة وأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وثقيف ودوس وعبس بن بغيض وجرش من بني كنانة وليث بن بكر، والعتقاء منهم إلا أنّ منزل العتقاء في غير الراية ، وإنما سموا أهل الراية ونسبت الخطة إليهم لأنهم جماعة لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد بدعوة من الديوان فكره كل بطن منهم أن يدعى باسم قبيلة غير قبيلته ، فجعل لهم عمرو بن العاص راية ولم ينسبها إلى أحد فقال : يكون موقفكم تحتها فكانت لهم كالنسب الجامع وكان ديوانهم عليها.

وكان اجتماع هذه القبائل لما عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الولاية بينهم ، وهذه الخطة محيطة بالجامع من جميع جوانبه ، ابتدأوا من المصف الذي كانوا عليه في حصارهم الحصن ، وهو باب الحصن الذي يقال له : باب الشمع ، ثم مضوا بخطتهم إلى حمام الفار ، وشرعوا بغربيها إلى النيل ، فإذا بلغت إلى النحاسين ، فالجانبان لأهل الراية إلى باب المسجد الجامع المعروف : بباب الوراقين ، ثم يسلك على حمام شمول ، وفي هذه الخطة زقاق القناديل إلى تربة عفان إلى سوق الحمام إلى باب القصر الذي بدأنا بذكره “.

وجاء أيضا : ” وكان إذ ذاك زقاق القناديل أعمر أخطاط مصر ، وإنما قيل له زقاق القناديل من أجل أنه كان سكن الأشراف ، وكانت أبواب الدور يعلق على كلّ باب منها قنديل ، قال القضاعيّ : ويقال أنه كان به مائة قنديل توقد كلّ ليلة على أبواب الأكابر “.

وجاء في كتاب تاريخ بيمارستانات الإسلام : ” بيمارستان زقاق القناديل : قيل إنه كان في الدولة الأموية مارستان في زقاق القناديل دار أبي زبيد. وزقاق القناديل – ويقال له زقاق القنديل – من أزقة الفسطاط. قال القضاعي إنما وسم زقاق القناديل أو القنديل لأنه كان برسم قنديل كان على باب عمرو بن العاص وفي هذا الزقاق ولد الإمام الحافظ ابن سيد الناس صاحب السيرة المتوفى سنة 734هـ “.

القبائل المؤسسة للفسطاط وخططها

جاء في الخطط المقريزية :

خطة مهرة : بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير : وخطة مهرة هذه قبليّ خطة الراية ، واختطت مهرة أيضا على سفح الجبل الذي يقال له : جبل يشكر مما يلي الخندق إلى شرقيّ العسكر إلى جنان بني مسكين ، ومن جملة خطة مهرة الموضع الذي يعرف اليوم بمساطب الطباخ ، واسمه حمد ، ويقال : إنّ الخطة التي لهم قبليّ الراية كانت حوزا لهم يربطون فيها خيلهم إذا رجعوا إلى الجمعة ، ثم انقطعوا إليها ، وتركوا منازلهم بيشكر.

خطة تجيب : وتجيب هم بنو عديّ ، وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السكن بن الأشرس بن كندة ، فمن كان من ولد عديّ ، وسعد يقال لهم : تجيب ، وتجيب : أمّهم ، وهذه الخطة تلي خطة مهرة ، وفيها درب الممصوصة آخره حائط من الحصن الشرقيّ.

خطط غافق : هو غافق بن الحارث بن عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد ، وهذه الخطة تلي خطة لخم إلى خطة الظاهر ، بجوار درب الأعلام ، خطط الصدف : واسمه مالك بن سهل بن عمرو بن قيس بن حمير ، ودعوتهم مع كندة.

خطط الفارسيين : واستبدّ بخطة خولان من حضر فتح مصر من الفارسيين ، وهم بقايا جند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام ، أسلموا بالشأم ، ورغبوا في الجهاد ، فنفروا مع عمرو بن العاص إلى مصر ، فاختطوا بها ، وأخذوا في سفح الجبل الذي يقال له : جبل باب البون ، وهذا الجبل اليوم شرقيّ من وراء خطة جامع ابن طولون تعرف أرضه بالأرض الصفراء ، وهي من جملة العسكر.

خطة مذحج : بالحاء قبل الجيم ، وهو مالك بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان ، خطة غطيف : بن مراد ، خطة وعلان : بن قرن بن ناجية بن مراد ، وكلهم من مذحج ، فاختطت وعلان من الزقاق الذي فيه الصنم المعروف بسرية فرعون ، وهذا الزقاق أوّله باب السوق الكبير، واختطت أيضا بخولان ، ثم انفردت وعلان بخططها مقابل المسجد المعروف : بالدينوريّ ، وأسندت إلى خولان ، وهذه الخطة اليوم : كيمان تطلّ على قبر القاضي بكار.

خطة يحصب : بن مالك بن أسلم بن زيد بن غوث ، وهذه الخطة موضعها : كيمان ، وهي تتصل بالشرف الذي يعرف اليوم : بالرصد المطلّ على راشدة.

خطة رعين : بن زيد بن سهل ، خطة ذي الكلاع : بن شرحبيل بن سعد من حمير ، خطة المعافر : بن يعفر بن مرّة بن أدد ، وهذه الخطة من الرصد إلى قاية بن طولون ، وهي القناطر التي تطلّ على عفصة ، وتفصل بين القرافتين والقناطر للمعافر ، ولهم إلى مصلى خولان ، وإلى الكوم المشرف على المصلى.

خطة سبأ وخطة الرحبة : بن زرعة بن كعب ، خطة السلف بن سعد : فيما بين الكوم المطلّ على القاضي بكار ، وبين المعافر ، خطة بني وائل : بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام بن جذام بن عديّ ، وهي من سفح الشرف المعروف بالرصد إلى خطة الخولان.

خطة القبض : بالتحريك ، بن مرثد ، وهي بجانب خطة بني وائل إلى نحو بركة الحبش ، قال : وكان سبب نزول بني وائل ، والقبض ورية وراشدة والفارسيين هذه المواضع أنهم كانوا في طوالع عمرو بن العاص ، فنزلوا في مقدّمة الناس ، وحازوا هذه المواضع قبل الفتح “.

أهل الظاهر ولخم واللفيف

جاء في الخطط المقريزية عن القبائل التي نزلت في ضواحي الفسطاط زمن الفتح :

وخطط لخم في موضعين : فمنها خطة لخم بن عديّ بن مرّة بن أدد ، ومن خالطها من جذام ، فابتدأت لخم بخطتها من الذي انتهت إليه خطة الراية وأصعدت ذات الشمال ، وفي هذه الخطة سوق بربر ، وشارعه مختلط فيما بين لخم والراية.

ولهم خطتان أخريان ، إحداهما منسوبة إلى بني رية بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة من لخم ، وأوّلها شرقيّ الكنيسة المعروفة بمكائيل التي عند خليج بني وائل ، وهذا الموضع اليوم وراقات يعمل فيها الورق بالقرب من باب القنطرة خارج مصر.

والخطة الثانية : خطة راشدة بن أدب بن جزيلة من لخم ، وهي متاخمة للخطة التي قبلها ، وفي هذه الخطة جامع راشدة ، وجنان كهمس بن معمر الذي عرف : بالمادرانيّ ، ثم عرف بجنان الأمير تميم ، وهو اليوم يقال له : المعشوق بجوار الآثار النبوية ، ولهم مواضع مع اللفيف ، وخطط أيضا بالحمراء.

خطط اللفيف : إنما سموا بذلك لالتفات بعضهم ببعض ، وسبب ذلك : أنّ عمرو بن العاص ، لما فتح الإسكندرية أخبر أنّ مراكب الروم قد توجهت إلى الإسكندرية لقتال المسلمين ، فبعث عمرو بعمرو بن جمالة الأزديّ الحجريّ ليأتيه بالخبر ، فمضى وأسرعت هذه القبائل التي تدعى اللفيف ، وتعاقدوا على اللحاق به.

واستأذنوا عمرو بن العاص في ذلك ، فأذن لهم وهم جمع كثير ، فلما رآهم عمرو بن جمالة استكثرهم ، وقال : تالله ما رأيت قوما قد سدّوا الأفق مثلكم ، وإنكم كما قال الله تعالى : فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً فبذلك سموا من يومئذ اللفيف.

وسألوا عمرو بن العاص : أن يفرد لهم دعوة فامتنعت عشائرهم من ذلك ، فقالوا لعمرو : فإنا نجتمع في المنزل حيث كن ا، فأجابهم إلى ذلك ، فكانوا مجتمعين في المنزل متفرّقين في الديوان إذا دعي كل بطن منهم ، انضم إلى بني أبيه ، قال قتادة ومجاهد والضحاك بن مزاحم في قوله : جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً قال : جميعا.

وكان عامتهم من الأزد من الحجر ومن غسان ومن شجاعة ، والتف بهم نفر من جذام ولخم والزحاف وتنوخ من قضاعة ، فهم مجتمعون في المنزل متفرّقون في الديوان ، وهذه الخطة أوّلها مما يلي الراية سالكا ذات الشمال إلى نقاشي البلاط ، وفيها دار ابن عشرات إلى نحو من سوق وردان.

خطط أهل الظاهر : إنما سمي هذا المنزل بالظاهر لأنّ القبائل التي نزلته كانت بالإسكندرية ، ثم قفلت بعد قفول عمرو بن العاص ، وبعد أن اختط الناس خططهم ، فخاصمت إلى عمرو ، فقال لهم معاوية بن حديج : وكان ممن يتولى الخطط يومئذ أرى لكم أن تظهروا على أهل هذه القبائل ، فتتخذوا منزلا فسمي الظاهر بذلك.

وكانت القبائل التي نزلت الظاهر العتقاء ، وهم جماع من القبائل ، كانوا يقطعون على أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فبعث إليهم ، فأتى بهم أسرى فأعتقهم ، فقيل لهم : العتقاء ، وديوانهم مع أهل الراية ، وخطتهم بالظاهر متوسطة فيه ، وكان فيهم طوائف من الأزد وفهم.

وأوّل هذه الخطة من شرقيّ خطة لخم ، وتتصل بموضع العسكر ، ومن هذه الخطة سويقة العراقيين ، وعرفت بذلك لأنّ زيادا لما ولاه معاوية بن أبي سفيان البصرة ، غرّب جماعة من الأزد إلى مصر، وبها مسلمة بن مخلد في سنة ثلاث وخمسين ، فنزل منهم هنا نحو من مائة وثلاثين ، فقيل لموضعهم من خطة الظاهر : سويقة العراقيين “.

الحمراء القصوى

الحمراء القصوى والدنيا والوسطى هي مكان الضاحية الشمالية من مدينة الفسطاط وتأسست بجوارها كل من مدينة العسكر والقطائع بعد ذلك ، جاء في الخطط المقريزية :

خطط الحمراوات الثلاث : قال الكنديّ : وكانت الحمراء على ثلاثة : بنو نبه وروبيل والأزرق ، وكانوا ممن سار مع عمرو بن العاص من الشام إلى مصر من عجم الشأم ممن كان رغب في الإسلام من قبل اليرموك ، ومن أهل قيسارية وغيرهم.

قال القضاعيّ : وإنما قيل الحمراء لنزول الروم بها ، وهي خطط بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وفهم وعدوان ، وبعض الأزد وهم ثراد ، وبني بحر ، وبني سلامان ويشكر بن لخم وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وبني نبه ، وبني الأزرق ، وهم من الروم ، وبني روبيل ، وكان يهوديا، فأسلم.

أوّل ذلك الحمراء الدنيا خطة بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، ومنها خطة ثراد من الأزد ، وخطة فهم بن عمرو بن قيس عيلان ، ومنها خطة بني بحر بن سوادة من الأزد.

ومن ذلك الحمراء الوسطى : منها خطة بني نبه ، وهم قوم من الروم حضر الفتح منهم مائة رجل ، ومنها خطة هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، ومنها خطة بني سلامان من الأزد ، ومنها خطة عدوان.

ومن ذلك الحمراء القصوى ، وهي خطة بني الأزرق ، وكان روميا حضر الفتح منهم أربعمائة ، وخطة بني روبيل ، وكان يهوديا فأسلم ، وحضر الفتح منهم ألف رجل ، وخطة بني يشكر بن جزيلة بن لخم وكانت منازل يشكر مفرّقة في الجبل ، فدثرت قديما ، وعادت صحراء حتى جاءت المسودّة ، يعني جيوش بني العباس ، فعمروها ، وهي الآن خراب.

وقال ابن المتوّج : الحمراوات ثلاث : أولى ، ووسطى ، وقصوى ، فأمّا الأولى : فتجمع جابر الأور ، وعقبة العدّاسين ، وسوق وردان ، وخطة الزبير إلى نقاشي البلاط طولا وعرضا على قدر ذلك ، وأمّا الوسطى : فمن درب نقاشي البلاط إلى درب معاني طولا وعرضا على قدره ، وأمّا القصوى فمن درب معاني إلى القناطر الظاهرية يعني قناطر السباع ، وهي حدّ ولاية مصر من القاهرة.

وكانت هذه الحمراوات جلّ عمارة مصر في زمن الروم ، فإذا الحمراء الأولى والوسطى هما الآن خراب ، وموضعهما فيما بين سوق المعاريج ، وحمام طن من شرقيهما إلى ما يقابل المراغة في الشرق.

وأما الحمراء الدنيا فهي الآن تعرف بخط قناطر السباع ، وبخط السبع سقايات ، وبحكر الخليليّ ، وحكر أقبغا والكوم ، حيث الأسرى ومنها أيضا خط الكبش ، وخط الجامع الطولونيّ والعسكر ، ومنها حدرة ابن قميحة إلى حيث قنطرة السدّ ، وبستان الطواشي ، وما في شرقيه إلى مشهد الرأس المعروف بزين العابدين ، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند ذكر العسكر.

وكانت مدينة الفسطاط على قسمين هما : عمل فوق ، وعمل أسفل ، فعمل فوق له طرفان غربيّ وشرقيّ ، فالغربيّ من شاطىء النيل في الجهة القبلية ، وأنت مار في الشرف المعروف اليوم بالرصد إلى القرافة الكبرى ، والشرقيّ من القرافة الكبرى إلى العسكر ، وعمل أسفل ما عدا ذلك إلى حدّ القاهرة.

مدينة العسكر

عندما تقف فوق قلعة الجبل وتنظر يسارا باتجاه الجنوب سوف ترى عددا كبيرا من المساجد والقباب متنوعة الاشكال والاحجام .. لكن واحدا منها سوف يخطف الابصار وهو يظهر مميزا واضحا باللون الذهبي اللامع تحت اشعة الشمس .. ذلك هو مسجد السيدة نفيسة رضي الله عنها ..

وقد اقيم المسجد مكان منزل والي مصر من قبل العباسيين السري بن الحكم والذي استضاف فيه السيدة نفيسة العلم بنت الحسن الانور بن زيد الابلج بن الامام الحسن السبط .. وكانت تستقبل فيه المصريين يومين من كل اسبوع للاستماع الى دروسها فلما توفيت ودفنت بالمنزل تحول الى مدرسة ومزار ..

وتكمن الاهمية التاريخية للمسجد في كونه جزء من مدينة العسكر التاريخية عاصمة العباسيين والتي بناها الوالي صالح بن علي بن عبد الله بن العباس لتكون مقرا لحكمه حيث راى عدم مزاحمة سكان الفسطاط في دورهم فقرر البناء في الصحراء في المنطقة التي عرفت يومها باسم الحمراء القصوى ..

وقد تأسست المدينة عام 750 م وكانت في البداية مقصورة على الجنود العباسيين فاطلق عليها اسم العسكر واستمر ذلك الحال حتى جاء السري بن الحكم واليا على مصر عام 816 م فأذن للناس بالبناء فتهافت الناس على البناء بالقرب من مقر الحكم ونمت المدينة حتى اتصلت بالفسطاط ..

ويجاور المسجد من ناحية القرافة اضرحة عدد من الخلفاء العباسيين الذين استقروا بمصر بعد سقوط بغداد حيث تم تنصيبهم في القاهرة وتمتعوا بسلطة رمزية تشبه النظام الملكي البريطاني بينما المماليك هم الحكام الفعليون .. وقد منحوا وقتها حق الاشراف على المسجد في اشارة رمزية لعاصمتهم القديمة ..

وشهدت مصر قرابة عشرين خليفة عباسي اولهم الامام احمد المستنصر بالله الذي استقبله بيبرس و اكرمه واعلن خلافته في احتفال ضخم واخرهم المستمسك بالله ابو الصبر يعقوب الذي اجبر على التنازل عن الخلافة لصالح سليم الاول العثماني بعد هزيمة المماليك في مرج دابق ..

وكانت المنطقة تحوي مقر اقامة الخلفاء العباسيين طوال عصر المماليك البحرية والشراكسة الذين اقروا بسلطتهم الروحية ولم ينازعوهم فيها .. وكانت منطقة المسجد قديما تعرف باسم درب السباع وتقع على اطراف مدينة العسكر باتجاه القرافة وهي الان جزء من حي الخليفة بمحافظة القاهرة ..

جاء في الخطط المقريزية : ” ذكر العسكر الذي بني بظاهر مدينة فسطاط مصر : اعلم أن موضع العسكر قد كان يعرف في صدر الإسلام بالحمراء القصوى وقد تقدّم أن الحمراء القصوى كانت خطة بني الأزرق وبني روبيل وبني يشكر بن جزيلة ثم دثرت هذه الخطط بعد العمارة بتلك القبائل حتى صارت صحراء ..

فلما قدم مروان بن محمد آخر خلفاء بني أمية إلى مصر منهزما من بني العباس نزلت عساكر صالح بن عليّ وأبي عون عبد الملك بن يزيد في هذه الصحراء حيث جبل يشكر حتى ملؤوا الفضاء وأمر أبو عون أصحابه بالبناء فيه فبنوا وذلك في سنة ثلاث وثلاثين ومائة ..

فلما خرج صالح بن عليّ من مصر خرب أكثر ما بنى فيه إلى زمن موسى بن عيسى الهاشميّ فابتنى فيه دارا أنزل فيها حشمة وعبيده وعمر الناس ثم ولي السريّ بن الحكم فأذن للناس في البناء فابتنوا فيه وصار مملوكا بأيديهم واتصل بناؤه ببناء الفسطاط ، وبنيت فيه دار الإمارة ومسجد جامع عرف بجامع العسكر ثم عرف بجامع ساحل الغلة ، وعملت الشرطة أيضا في العسكر وقيل لها الشرطة العليا وإلى جانبها بنى أحمد بن طولون جامعه الموجود الآن.

وسمي من حينئذ ذلك الفضاء بالعسكر وصار أمراء مصر إذا ولوا ينزلون به من بعد أبي عون فقال الناس من يومئذ : كنا بالعسكر وخرجنا إلى العسكر وكتب من العسكر ، وصار مدينة ذات محال وأسواق ودور عظيمة ، وفيه بنى أحمد بن طولون مارستانه فأنفق عليه وعلى مستغله ستين ألف دينار “.

القطائع

عندما تنظر من فوق سور القلعة باتجاه الغرب مباشرة يظهر لك مسجد أحمد بن طولون بمأذنته المدرجة المميزة والتي تشبه مأذنة مسجد سامراء حيث نشأ هناك ، وهو الأثر الوحيد المتبقي من عاصمته القطائع والتي سميت بهذا الاسم بسبب تقسيمها إلى أقسام مقطعة بين الترك والروم والسودان والموالي ، وقد أدمجت في العسكر والفسطاط واتصلت بهم.

وبنى فيها قصرا فخما واتخذ ميدانا كبيرا كان يلعب فيه بالكرة وأنشأ فيه أماكن للطيوور ومرابط للسباع وغرس فيه الأزهار والرياحين ، وكان هذا القصر والعمائر التي أقامها ابن طولون في حاضرته الجديدة عراقية الأسلوب والطابع وغدا القصر والميدان بعد إنشائهما متعة الناظرين وأقام دور الحكمة إلى الجنوب من المسجد وكان يفصلها عنه ميدان فسيح.

ذكرها المقريزي في خططه فقال : ذكر القطائع ودولة بني طولون : اعلم أنّ القطائع قد زالت آثارها ولم يبق لها رسم يعرف وكان موضعها من قبة الهواء التي صار مكانها قلعة الجبل إلى جامع ابن طولون وهذا أشبه أن يكون طول القطائع ، وأمّا عرضها فإنه من أوّل الرميلة تحت القلعة إلى الموضع الذي يعرف اليوم بالأرض الصفراء عند مشهد الرأس الذي يقال له الآن زين العابدين ، وكانت مساحة القطائع ميلا في ميل فقبة الهواء كانت في سطح الجرف الذي عليه قلعة الجبل.

وتحت قبة الهواء قصر ابن طولون ، وموضع هذا القصر الميدان السلطانيّ تحت القلعة والرميلة التي تحت القلعة مكان سوق الخيل والحمير والجمال كانت بستانا ويجاورها الميدان في الموضع الذي يعرف اليوم بالقبيبات ، فيصير الميدان فيما بين القصر والجامع الذي أنشأه أحمد بن طولون وبحذاء الجامع دار الإمارة في جهته القبلية ولها باب من جدار الجامع يخرج منه إلى المقصورة المحيطة بمصلى الأمير إلى جوار المحراب وهناك أيضا دار الحرم ، والقطائع عدّة قطع تسكن فيها عبيد ابن طولون وعساكره وغلمانه وكل قطيعة لطائفة فيقال قطيعة السودان وقطيعة الروم وقطيعة الفرّاشين ونحو ذلك فكانت كل قطيعة لسكنى جماعة بمنزلة الحارات التي بالقاهرة.

ويفصل المقريزي سبب بناء القطائع في موضع آخر فيقول : وصار أحمد بن طولون من كثرة العبيد والرجال والآلات بحال يضيق به داره ولا يتسع له فركب إلى سفح الجبل في شعبان وأمر بحرث قبور اليهود والنصارى واختط موضعها فبنى القصر والميدان وتقدّم إلى أصحابه وغلمانه وأتباعه أن يختطوا لأنفسهم حوله فاختطوا وبنوا حتى اتصل البناء لعمارة الفسطاط .. وبنى القوّاد مواضع متفرّقة فعمرت القطائع عمارة حسنة وتفرّقت فيها السكك والأزقة وبنيت فيها المساجد الحسان والطواحين والحمامات والأفران.

وسميت أسواقها فقيل : سوق العيارين وكان يجمع العطارين والبزازين ، وسوق الفاميين ويجمع الجزارين والبقالين والشوّايين فكان في دكاكين الفاميين جميع ما في دكاكين نظرائهم في المدينة وأكثر وأحسن، وسوق الطباخين ويجمع الصيارف والخبازين والحلوانيين ، ولكل من الباعة سوق حسن عامر فصارت القطائع مدينة كبيرة أعمر وأحسن من الشام وبنى ابن طولون قصره ووسعه وحسنه وجعل له ميدانا كبيرا يضرب فيه بالصوالجة فسمي القصر كله الميدان وكان كل من أراد الخروج من صغير وكبير إذا سئل عن ذهابه يقول : إلى الميدان.

وبنى الجامع فعرف بالجامع الجديد وبنى العين والسقاية بالمغافر وبنى تنور فرعون فوق الجبل واتسعت أحواله وكثرت اصطبلاته وكراعه وعظم صيته .. فلما مات أحمد بن طولون وقام من بعده ابنه خمارويه أقبل على قصر أبيه وزاد فيه وأخذ الميدان الذي كان لأبيه فجعله كله بستانا وزرع فيه أنواع الرياحين وأصناف الشجر ونقل إليه الودى اللطيف الذي ينال ثمره القائم ومنه ما يتناوله الجالس من أصناف خيار النخل وحمل إليه كل صنف من الشجر المطعم العجيب وأنواع الورد وزرع فيه الزعفران.

القاهرة المعزية

(والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر وليدخلن مصر بالأردية من غير حرب ولينزلن خرائب ابن طولون ويبني مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا) .. بهذه الكلمات ودع الخليفة المعز الفاطمي قائد جيوشه جوهر الصقلي أمام شيوخ كتامة معلنا ثقته الشديدة فيه لسابق أعماله في المغرب حيث وصل بجنوده إلى ساحل الأطلسي وأرسل لسيده في تونس أسماك المحيط في قلال الماء علامة على نجاحه في مهمته لذلك أوكل إليه المهمة الكبرى وهي دخول مصر ودعمه بالجنود والأموال والأسطول ..

وقد دخل جوهر البلاد سلما بفضل سياسة المعز في تهيئة الأحوال بواسطة دعاته واستمالته القبائل العربية في الصعيد والدلتا ووافق على إعطاء الأمان لممثل المصريين وقتها وهو الوزير جعفر بن الفرات ثم عسكر بجيشه شمال القطائع في الموضع الذي رسمه له الخليفة ، وفي يوم 6 يوليو 969 م. وضع جوهر أساسات القاهرة والتي يحدها جبل المقطم من الشرق وخليج أمير المؤمنين من الغرب وبنى في وسطها القصر الكبير والجامع الأزهر وأحاطها بسور كبير على الطراز المغربي ويوافق ذلك اليوم العيد القومي لمحافظة القاهرة..

ومنذ اليوم الأول فإن القاهرة لم تكن عاصمة لمصر وحدها لأن مصر كانت تدار من خلال مدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص ووسعها صالح بن علي العباسي وأحمد بن طولون وعرفت باسم مدينة مصر ، لكن القاهرة تأسست من البداية بوصفها عاصمة إمبراطورية ضخمة شاسعة الأرجاء تضم المغرب العربي كله من فاس إلى طرابلس بالإضافة إلى مصر والسودان واليمن والحجاز والشام وأعالي الفرات (أي ما يعرف الآن بالوطن العربي باستثناء أجزاء من العراق وساحل الخليج) ..

وعندما أتم جوهر بناء العاصمة ونجح في ضم بلاد الشام والحجاز أرسل إلى سيده ليحضر إلى عاصمته الجديدة فرحل عن المنصورية في جيش ضخم واصطحب معه رفات أجداده ، وفي يونيو 973 م. دخل المعز إلى مصر واستقبل استقبالا حافلا في شهر رمضان وحظي بإعجاب الناس لما تمتع به من مواهب وقدرات حيث وصفه الفقيه النعمان المغربي بقوله (إن المعز قد نظر في كل فن وبرع في كل علم .. أما الطب والهندسة وعلم النجوم والفلك والفلسفة فأهل النفاذ من ذلك عيال عليه) ..

سور مصر والقاهرة

ربما يذكر التاريخ السلطان صلاح الدين الايوبي بانتصاراته العسكرية الباهرة التي خلدت ذكره وربما يراه اخرون من كبار السياسيين الدهاة في عصره وربما يعجب اخرون باصلاحاته الادارية في ربوع دولته الامبراطورية .. لكن الجانب الاهم انه كان واحدا من رواد العمران والبناء وكانت اعماله خطوة نحو تاسيس مدينة القاهرة التي نعرفها اليوم والتي كانت قبله مدنا منفصلة ..

في البداية كانت الفسطاط في تلك المنطقة الصحراوية بين جبل المقطم ونهر النيل وتاسست على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص ثم تاسست مدينة العسكر على يد صالح بن علي العباسي واتصلت بها ثم تاسست مدينة القطائع على يد احمد بن طولون والتحمت المدن الثلاث واطلق عليها العرب اسم مدينة مصر التي تحولت في وقت قياسي الى مركز تجاري هام ..

وفي القرن الرابع الهجري تاسست القاهرة لتكون مقرا للخلفاء الفاطميين وبنيت على الطراز المغربي حيث الاسوار التي تجعلها تشبه الحصن وذلك في المنطقة الصحراوية شمالي مدينة مصر وكانت في اول امرها مدينة ملكية قاصرة على الحاشية والجند وكان مدخلها من ناحية مدينة مصر هو باب زويلة من الجنوب بينما مدخلها من ناحية الصحراء هو باب الفتوح من الشمال ..

واكتمل عمران هذه العواصم الاربع بفضل السلطان صلاح الدين الايوبي الذي قرر بناء قلعة على الطراز الشامي فوق جبل المقطم في منطقة تتوسطهم وتشرف عليهم جميعا ثم احاط العواصم كلها بسور واحد يمتد من ميناء المقس شمالا وحتى ساحل اثر النبي جنوبا واحاط ذلك السور بهم احاطة الام باولادها فصارت العواصم جميعا مدينة واحدة واتصل العمران فيما بينهم ..

ولا شك ان بناء القلعة والسور هو الذي ادى لظهور مدينة القاهرة بطابعها التاريخي لانه كان الخطوة الاكبر في اعمار القاهرة حيث تاسست داخل السور الكبير احياء سكنية جديدة تماما في الفراغات الجغرافية بين العواصم الاربعة .. وهذا الامر هو الذي مهد لظهور اكبر حركة عمران وبناء وتشييد في تاريخ مصر الاسلامية والتي تمت على يد المماليك على مدار ثلاثة قرون ..

القصر الشرقي

تسمية الحوارى بأسماء القبائل التى سكنتها : ويفهم من كلام المقريزى أن قصبة القاهرة كانت فى منتصف المسافة بين السورين الشرقى والغربى وتمر بين باب الفتوح وباب زويلة وقصر الخلفاء كان فى وسط القصبة وينظر منه إلى بستان الإخشيد ، وأن قبائل العرب التى حضرت مع جوهر اختطت أغلب خططها فى جميع جهاتها ما عدا الجهة التى تقابل الخليج وإلى اليوم يطلق على بعض حارات القاهرة أسماء من اختطها فحارة زويلة لم تزل معروفة بهذا الاسم الذى أخذته من قبيلة زويلة من بلاد القيروان وحارة البرقية من قبيلة البرقية.

وللروم الذين هم جموع من نصارى الأروام حارتان : إحداهما داخل البلد بحرى قصر الخليفة بقرب السور والأخرى خارج البلد من قبليها بقرب باب زويلة ، وكذا العطوفية وحارة الباطنية حيث السور الشرقى والجودرية حيث السور القبلى ، وجعل لطائفتين من العساكر وهما الريحانية والوزيرية حارتان يفصل بينهما شارع فى الجهة البحرية خارج القاهرة من جهة باب الفتوح وقد صارتا – فيما بعد الدولة الفاطمية – حارة واحدة سميت بحارة بهاء الدين فى زمن الدولة الأيوبية وتعرف الآن بحارة بين السيارج ، وجعل لطائفتى المرتاحية والفرحية حارة من داخل باب القنطرة لحيث السور البحرى وهى الآن الشارع المشهور بخط مرجوش الذى يسلك منه إلى باب القنطرة.

بناء الأزهر والمقابر المعزية :  ثم إن جوهرا بنى الجامع الأزهر قبلى القصر الكبير الشرقى وجعل بين الجامع والقصر اصطبل القصر المسمى باصطبل الطارمة وكان به الخيل الخاصة للخليفة فى جهته القبلية وكان مفصولا عن الجامع برحبة واليوم محل هذا الإصطبل شارع الشنوانى وما عليه من المبانى والأزقة ، وجعل أمام الجامع من الجهة الغربية رحبة متسعة وكان يشرف على الاصطبل أحد القصور المسمى بقصر الشوك.

وجعل من جملة القصر الكبير التربة المعزية وفيها دفن المعز لدين الله آباءه الذين أحضر معه أجسادهم فى توابيت من بلاد المغرب واستقرت مدفنا للخلفاء وأولادهم ونسائهم وكانت تعرف بتربة الزعفران وهى مكان كبير من جملتها الخط الذى كان يعرف قديما بخط الزراكشة العتيق ويعرف اليوم بخان الخليلى ، وكانت هذه التربة تمتد إلى المدرسة البديرية خلف المدارس الصالحية النجمية وبها إلى اليوم بقايا من قبورهم.

وكان القصر الكبير يشغل محل خان سرور والمدارس الصالحية والمدرسة الظاهرية وأرض الدكاكين والمنازل الكائنة فى صفّها إلى رحبة العيد وأرض الحارات والأزقة والأماكن الموجودة خلف جميع ذلك إلى حارة البرقية ، وكان فى الجهة القبلية من القصر رحبة تعرف برحبة قصر الشوك كبيرة المقدار أولها من الباب الأخضر الحسينى إلى باب حارة القزازين من شارع قصر الشوك وكان حائلا بينها وبين رحبة باب العيد خزانة البنود والسقيفة ورحبة اصطبل الطارمة وكان فى مقابلة قصر الشوك وكانت هذه الرحبة فضاء ذا سعة عظيمة.

وكان القصر الكبير منعزلا عن مساكن العسكر يحيط به الرحاب الواسعة فكان فى غربيّه بين القصرين فضاء عظيم يقف فيه من العساكر نحو عشرة آلاف ، ورحبة باب العيد كذلك – كان أولها من جامع الجمالى إلى دار الأمير أحمد باشا رشيد – كانت تقف بها العساكر فارسها وراجلها فى أيام مواكب الأعياد ينتظرون ركوب الخليفة وخروجه من باب العيد ولم يبتدأ بالبناء فيها إلا بعد سنة ستمائة من الهجرة ، وكان بحذاء هذه الرحبة دار الضيافة المعروفة بدار سعيد السعداء ويقابلها دار الوزارة الكبرى – التى محلها اليوم المكتب الأهلى بالجمالية وما فى صفّه إلى باب الجوّانية – وخلفها بحذاء السور المناخ السعيد ويجاوره حارة العطوفية.

ثم إن المعز لدين الله أنشأ أيضا سبع حجر لتعليم الغلمان الحجرية الذين يخدمون منصب الخلافة بالقصر وكانت هذه الحجر بعد دار الوزارة المقدّم ذكرها فيما بين باب النصر القديم إلى باب الجوّانية وأنشأ لهم تجاه هذه الحجر اصطبلا بجوار باب الفتوح بينه وبين رأس مرجوش ، وكان ما بين الاصطبل والحجر فضاء متسعا من باب النصر إلى الدرب الأصفر ومحله الآن الوكائل والحارات التى بين الشارعين.

واختط المعز أيضا حارة كتامة للأمراء الكتاميين فيما بين حارة الباطنية وحارة البرقية وتعرف اليوم بحارة الدويدارى وهم كانوا أكابر من قدم معه من الغرب فى سنة اثنتين وستين وثلثمائة ولم تنحط درجتهم إلى زمن العزيز بالله نزار فلما اصطنع الديلم والأتراك وقدّمهم وجعلهم خاصته صار بينهم وبين كتامة تحاسد وتنافس ، وكانت الديلم فى زمن العزيز بالله نزار كثيرة المبانى بالقاهرة فاختطت حارة بجوار باب زويلة القديم وتعرف بهذا الاسم فى حجج الأملاك إلى الآن وتارة تسمى بحارة الأمراء وبحارة خوشقدم وكان من جملتها حارة درب الأتراك لهفتكين التركى أحد أمراء العزيز ثم انفصلت عنها كما هى اليوم.

نقلا عن الخطط المقريزية والخطط التوفيقية

القصر الغربي

قصر البحر : واختط نادر الصقلبى سيف الدولة غلام العزيز بالله دربا كان يعرف قديما بدرب نادر وبدرب سيف الدولة والآن يعرف بحارة الفراخة من خط قصر الشوك ، وأنشأ العزيز بالله نزار بن المعز قصرا صغيرا تجاه القصر الكبير من جهته الغربية وكان يعرف بقصر البحر بناه لسكنى ابنته «ست الملك» أخت الحاكم بأمر الله وجعل به قاعة كبيرة لم يبن مثلها ، وكان حدّ هذا القصر من تجاه الجامع الأقمر إلى الصاغة وكان مطبخ القصر فى موضع الصاغة إلى درب السلسلة وهو موضع وكالة الجوهرية الآن.

وكان ذلك القصر الصغير مطلا من شرقيه على القصر الكبير ومن غربية على البستان الكافورى وصار هذا البستان من عمائر القصر الصغير فكان من أحسن ما بنى فى تلك الأيام ، وابتدئ فى عمارته سنة خمسين وأربعمائة وتمّ فى زمن الخليفة المستنصر بالله سنة سبع وخمسين وأربعمائة فكانت مدة البناء فيه سبع سنين متوالية وصرف عليه ألفا ألف دينار عبارة عن ألف ألف جنيه وشئ لأن الدينار يزيد عن نصف الجنيه قليلا.

وكان قصد الخليفة المستنصر بالله أن يجعله منزلا للخليفة القائم الله العباسى صاحب بغداد ويجمع إليه بنى العباس فلم يتيسر له ذلك فجعله لسكناه ، وكان من أبوابه باب الساباط الذى فى موضعه الآن باب سر المارستان المنصورى المسلوك منه إلى الخرنفش ، وبجواره من الجهة البحرية باب التبانين وموضعه مكان باب حارة الخرنفش الآن.

ويظهر من كلام صاحب الخطط أنه لما قويت شوكة الإفرنج فى آخر دولة الفاطميين اعدت هذه الدار أو بعضها – وهو ما صار فيما بعد الدار البيسرية – لمن يجلس فيها من قصاد الإفرنج عند ما تقرر الأمر معهم على أن يكون نصف ما يحصّل من مال البلد للإفرنج فصار يجلس فى هذه الدار قاصد معتبر للإفرنج يقبض المال.

فلما زالت الدولة الفاطمية وملك مصر الأيوبيون أخذها الملك المفضل قطب الدين أحمد ابن الملك العادل أبى بكر بن أيوب وعمل بها الإصطبلات والمبانى الفخيمة فعرفت بالدار القطبية ، ولما مات الملك المفضل صارت إلى ابنته «مؤنسة خاتون» وكان بها قاعة كبيرة لم يكن بمصر مثلها.

فلما آلت السلطنة إلى الملك المنصور قلاوون اشترى هذه الدار وعمل فى محل القاعة المارستان وفى باقيها المبانى التى استجدها بهذا الخط ، وأما الدار البيسرية المتقدم ذكرها فشرع فى عمارتها الأمير ركن الدين بيسرى الشمسى الصالحى النجمى فى سنة تسع وخمسين وستمائة فى زمن الملك الظاهر بيبرس البندقدارى وكان من أعظم الأمراء وله عدة مماليك راتب كل واحد منهم مائة رطل لحم ومنهم من له عليه فى اليوم ستون عليقة لخيله وبلغ عليق خيله وخيل مماليكه فى كل يوم ثلاثة آلاف عليقة سوى عليق الجمال … إلى آخر ما قال فى الخطط فانظره.

ومن زمن مديد إلى الآن بطل جعله مارستانا ونقلت منه المرضى غير أن به محلا يجتمع فيه كل يوم المصابون بوجع العين للكشف عليهم ومداواتهم من طبيب العيون المعيّن لذلك ، وبعض محلاته اتخذه باعة النحاس حواصل لنحاسهم ، وبعضها جعل مدرسة أهلية.

وهذا القصر وإن سمى القصر الصغير كان فى غاية السعة ، فإنّ حدّه الشرقى النهاية الغربية للميدان الذى كان بين القصرين المشرف عليه الآن المارستان وما اتصل به من المدرسة المنصورية والظاهرية والكاملية والخرنفش إلى تجاه الجامع الأقمر، وكان حدّه الغربى – بما فيه من البستان الكافورى – سور القاهرة المطل على الخليج ويتصل به من جهته القبلية مطبخه وهو موضع الصاغة فالنهاية القبلية الصاغة هى حده القبلى.

وكان الحمام الذى بين الصاغة والمارستان من حمامات القصر وحده البحرى ميدان كبير يتصل به كان يعرف بميدان الخرشتف ومحله الشارع المعروف الآن بشارع الخرنفش وما يتصل به من الأزقة والدور وغيرها من المبانى وكان هذا الميدان يمتد إلى نهاية البستان الكافورى عند الخليج ، وإنما عرف بالخرشتف لأن المعز أول من بنى فيه الاصطبلات بالخرشتف وهو ما يتحجر مما يوقد به على مياه الحمامات من الزبل وغيره كما نبه عليه المقريزى ، ويؤخذ من هذا أن استعمال الزبل فى وقود الحمامات قديم العهد ولم يزل جاريا إلى اليوم.

وقد بقى هذا الميدان فضاء إلى سنة ستمائة من الهجرة وبنيت بعد ذلك فيه الدور والأماكن والحارات ، والآن هو من أعظم أخطاط القاهرة وقد بقى له اسمه القديم مع بعض تحريف قليل فتحول لفظ الخرشتف إلى الخرنفش ، وكان قبلى البستان الكافورى اصطبل الجميزة وكان معدا لعساكر الفاطميين وكان له الساقية العظيمة المسماة ببئر زويلة وقد تكلمنا على ذلك فى موضعه ، والاصطبل المذكور كان ابتداؤه بالقرب من موضع سر المارستان ويشمل خط البندقانيين وجزءا كبيرا من حارات اليهود المجاورة للسّكة الحديدة وكان يشرف من الجهة القبلية على ميدان الإخشيد.

نقلا عن الخطط المقريزية والخطط التوفيقية

خان الخليلي

في عام 784 هـ / 1382 م قرر الأمير المملوكي جهاركس الخليلي إزالة تربة الزعفران التي تحوي رفات الخلفاء الفاطميين وأبنائهم ليبني في موضعها الخان الذي نسب إليه من وقتها وعرف باسم خان الخليلي ، واستفتى في ذلك أحد الفقهاء وهو شمس الدين محمد بن أحمد القليجي ثم نبش القبور وأخرج العظام والجثث وألقاها على كيمان البرقية شرقي القاهرة (حديقة الأزهر حاليا) ، وكان مبنى الخان يحوي فنادق ومخازن ووكالات ودكاكين وأسبلة وكافة ما يحتاجه التجار وقام الأمير بوقف الخان على أعمال الخير.  

وفي عام 917 هـ / 1511 م قام السلطان قانصوه الغوري بإعادة بناء الخان بأسلوب معماري جديد حيث أنشأ وكالات تجارية وربوعًا وحوانيت تتوزع حول أزقة ضيقة وساحات داخلية كما أضاف للخان ثلاث بوابات ضخمة اثنتان منها متقابلتان والثالثة في الجهة الغربية للطريق الممتد من المشهد الحسيني إلى داخل سوق خان الخليلي ، ولا تزال النقوش الكتابية محفوظة على البوابة الرئيسية حيث نُقش عليها: أمر بإنشاء هذا المكان المبارك السلطان الملك الأشرف أبو النصر قانصوه الغوري عز نصره.

وقد جاء في الخطط المقريزية أوصاف تربة الزعفران وما حدث فيها من تغيير حيث يقول المقريزي : التربة المعزية : كان من جملة القصر الكبير التربة المعزية وفيها دفن المعز لدين الله، آباءه الذين أحضرهم في توابيت معه من بلاد المغرب وهم الإمام المهدي عبيد الله وابنه القائم بأمر الله محمد وابنه الإمام المنصور بنصر الله إسماعيل واستقرّت مدفنا يدفن فيه الخلفاء وأولادهم ونساءهم وكانت تعرف بتربة الزعفران وهو مكان كبير من جملتها الموضع الذي يعرف اليوم بخط الزراكشة العتيق ومن هناك بابها.

ولما انشأ الأمير جهاركس الخليليّ خانه المعروف به في الخط المذكور أخرج ما شاء الله من عظامهم فألقيت في المزابل على كيمان البرقية ويمتدّ من هناك من حيث المدرسة البديرية خلف المدارس الصالحية النجمية وبها إلى اليوم بقايا من قبورهم ، وكان لهذه التربة عوايد ورسوم منها أن الخليفة كلما ركب بمظلة وعاد إلى القصر لا بدّ أن يدخل إلى زيارة آبائه بهذه التربة وكذلك لا بدّ أن يدخل في يوم الجمعة دائما وفي عيدي الفطر والأضحى مع صدقات ورسوم تفرّق.

باب تربة الزعفران : مكانه الآن بجوار خان الخليلي من بحريه مقابل فندق المهمندار الذي يدق فيه ورق الذهب وقد بني بأعلاه طبقة ورواق ولا يكاد يعرفه كثير من الناس وعليه كتابة بالقلم الكوفيّ وهذا الباب كان يتوصل منه إلى تربة القصر المذكورة فيما تقدّم.

خان الخليلي : هذا الخان بخط الزراكشة العتيق كان موضعه تربة القصر التي فيها قبور الخلفاء الفاطميين المعروفة بتربة الزعفران وقد تقدّم ذكرها عند ذكر القصر من هذا الكتاب ، أنشأه الأمير جهاركس الخليليّ أميراخور الملك الظاهر برقوق ، وأخرج منها عظام الأموات في المزابل على الحمير وألقاها بكيمان البرقية هوانا بها فإنه كان يلوذ به شمس الدين محمد بن أحمد القليجي الذي تقدّم ذكره في ذكر الدور من هذا الكتاب وقال له : إن هذه عظام الفاطميين وكانوا كفارا رفضة.

فاتفق للخليليّ في موته أمر فيه عبرة لأولي الألباب وهو أنه لما ورد الخبر بخروج الأمير بلبغا الناصريّ نائب حلب ومجيء الأمير منطاش نائب ملطية إليه ومسيرهما بالعساكر إلى دمشق أخرج الملك الظاهر برقوق خمسمائة من المماليك وتقدّم لعدّة من الأمراء بالمسير بهم ، فخرج الأمير الكبير ايتمش الناصريّ والأمير جهاركس الخليل هذا والأمير يونس الدوادار والأمير أحمد بن بلبغا الخاصكيّ والأمير ندكار الحاجب وساروا إلى دمشق فلقيهم الناصري ظاهر دمشق فانكسر عسكر السلطان لمخامرة ابن بلبغا وندكار وفرّ أيتمش إلى قلعة دمشق.

وقتل الخليليّ في يوم الاثنين حادي عشر شهر ربيع الآخر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة وترك على الأرض عاريا وسوءته مكشوفة وقد انتفخ وكان طويلا عريضا إلى أن تمزق وبلي عقوبة من الله تعالى بما هتك من رمم الأئمة وأبنائهم ، ولقد كان عفا الله عنه عارفا خبيرا بأمر دنياه كثير الصدقة ووقف هذا الخان وغيره على عمل خبز يفرّق بمكة على كل فقير منه في اليوم رغيفان فعمل ذلك مدّة سنين ثم لما عظمت الأسعار بمصر وتغيرت نقودها من سنة ست وثمانمائة صار يحمل إلى مكة مال ويفرّق بها على الفقراء.

المشهد الحسينيّ

جاء في الخطط المقريزية : قال الفاضل محمد بن عليّ بن يوسف بن ميسر : وفي شعبان سنة إحدى وتسعين وأربعمائة خرج الأفضل بن أمير الجيوش بعساكر جمة إلى بيت المقدس وبه سكان وايلغازي ابنا ارتق في جماعة من أقاربهما ورجالهما وعساكر كثيرة من الأتراك فراسلهما الأفضل يلتمس منهما تسليم القدس إليه بغير حرب فلم يجيباه لذلك فقاتل البلد ونصب عليها المجانيق وهدم منها جانبا فلم يجدا بدّا من الإذعان له وسلّماه إليه فخلع عليهما وأطلقهما وعاد في عساكره وقد ملك القدس فدخل عسقلان.

وكان بها مكان دارس فيه رأس الحسين بن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنهما فأخرجه وعطره وحمله في سفط إلى أجلّ دار بها وعمّر المشهد فلما تكامل حمل الأفضل الرأس الشريف على صدره وسعى به ماشيا إلى أن أحله في مقرّه ، وقيل إنّ المشهد بعسقلان بناه أمير الجيوش بدر الجماليّ، وكمله ابنه الأفضل ، وكان حمل الرأس إلى القاهرة من عسقلان ووصوله إليها في يوم الأحد ثامن جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين وخمسمائة ، وكان الذي وصل بالرأس من عسقلان الأمير سيف المملكة تميم واليها كان والقاضي المؤتمن بن مسكين مشارفها وحصل في القصر يوم الثلاثاء العاشر من جمادى الآخرة المذكور.

ويذكر أنّ هذا الرأس الشريف لما أخرج من المشهد بعسقلان وجد دمه لم يجف وله ريح كريح المسك فقدم به الأستاذ مكنون في عشاري من عشاريات الخدمة وأنزل به إلى الكافوري ثم حمل في السرداب إلى قصر الزمرّذ ثم دفن عند قبة الديلم بباب دهليز الخدمة ، فكان كل من يدخل الخدمة يقبل الأرض أمام القبر وكانوا ينحرون في يوم عاشوراء عند القبر الإبل والبقر والغنم ويكثرون النوح والبكاء ويسبون من قتل الحسين ولم يزالوا على ذلك حتى زالت دولتهم.

وقال ابن عبد الظاهر : مشهد الإمام الحسين صلوات الله عليه قد ذكرنا أن طلائع بن رزيك المنعوت بالصالح كان قد قصد نقل الرأس الشريف من عسقلان لما خاف عليها من الفرنج وبنى جامعه خارج باب زويلة ليدفنه به ويفوز بهذا الفخار فغلبه أهل القصر على ذلك وقالوا : لا يكون ذلك إلّا عندنا فعمدوا إلى هذا المكان وبنوه له، ونقلوا الرخام إليه وذلك في خلافة الفائز على يد طلائع في سنة تسع وأربعين وخمسمائة.

ولما ملك السلطان الملك الناصر جعل به حلقة تدريس وفقهاء وفوّضها للفقيه البهاء الدمشقيّ وكان يجلس للتدريس عند المحراب الذي الضريح خلفه فلما وزر معين الدين حسين بن شيخ الشيوخ بن حمويه وردّ إليه أمر هذا المشهد بعد إخوته جمع من أوقاته ما بنى به إيوان التدريس الآن وبيوت الفقهاء العلوية خاصة ، واحترق هذا المشهد في الأيام الصالحية في سنة بضع وأربعين وستمائة وكان الأمير جمال الدين بن يغمور نائبا عن الملك الصالح في القاهرة وسببه أن أحد خزان الشمع دخل ليأخذ شيئا فسقطت منه شعلة فوقف الأمير جمال الدين المذكور بنفسه حتى طفىء.

وأنشدته حينئذ فقلت : قالوا تعصب للحسين ولم يزل … بالنفس للهول المخوف معرّضا .. حتى انضوى ضوء الحرق وأصبح ال … مسودّ من تلك المخاوف أبيضا .. أرضى الإله بما أتى فكأنه … بين الأنام بفعله موسى الرضى ، قال : ولحفظة الآثار وأصحاب الحديث ونقلة الأخبار ما إذا طولع وقف منه على المسطور وعلم منه ما هو غير المشهور وإنما هذه البركات مشاهدة مرئية وهي بصحة الدعوى ملية والعمل بالنية.

وقال في كتاب الدر النظيم في أوصاف القاضي الفاضل عبد الرحيم : ومن جملة مبانيه الميضأة قريب مشهد الإمام الحسين بالقاهرة والمسجد والساقية ووقف عليها أراضي قريب الخندق في ظاهر القاهرة ووقفها دارّ جار والانتفاع بهذه المثوبة عظيم ، ولما هدم المكان الذي بنى موضعه مئذنة وجد فيه شيء من طلسم لم يعلم لأيّ شيء هو فيه اسم الظاهر بن الحاكم واسم أمّه رصد.

باب الديلم : وكان يدخل منه إلى المشهد الحسينيّ وموضعه الآن درج ينزل منها إلى المشهد تجاه الفندق الذي كان دار الفطرة ولم يبق لهذا الباب أثر البتة.

ذكر حدّ القاهرة

قال ابن عبد الظاهر في كتاب الروضة البهية الزاهرة في خطط المعزية القاهرة الذي استقرّ عليه الحال أنّ حدّ القاهرة من مصر من السبع سقايات ، وكان قبل ذلك من المجنونة إلى مشهد السيدة رقية عرضا، اهـ.

والآن تطلق القاهرة على ما حازه السور الحجر الذي طوله من باب زويلة الكبير إلى باب الفتوح وباب النصر ، وعرضه من باب سعادة وباب الخوخة إلى باب البرقية والباب المحروق ، ثم لما توسع الناس في العمارة بظاهر القاهرة وبنوا خارج باب زويلة حتى اتصلت العمائر بمدينة فسطاط مصر ، وبنوا خارج باب الفتوح وباب النصر إلى أن انتهت العمائر إلى الريدانية.

وبنوا خارج باب القنطرة إلى حيث الموضع الذي يقال له بولاق حيث شاطىء النيل ، وامتدّوا بالعمارة من بولاق على الشاطئ إلى أن اتصلت بمنشأة المهرانيّ ، وبنوا خارج باب البرقية والباب المحروق إلى سفح الجبل بطول السور ، فصار حينئذ العامر بالسكنى على قسمين : أحدهما يقال له : القاهرة ، والآخر يقال له: مصر.

فأما مصر : فإنّ حدّها على ما وقع عليه الاصطلاح في زمننا هذا الذي نحن فيه من حدّ أوّل قناطر السباع إلى طرف بركة الحبش القبليّ مما يلي بساتين الوزير ، وهذا هو طول حدّ مصر ، وحدّها في العرض من شاطىء النيل الذي يعرف قديما بالساحل الجديد حيث فم الخليج الكبير وقنطرة السدّ إلى أوّل القرافة الكبرى.

وأما حدّ القاهرة فإنّ طولها من قناطر السباع إلى الريدانية ، وعرضه من شاطىء النيل ببولاق إلى الجبل الأحمر ، ويطلق على ذلك كله مصر والقاهرة ، وفي الحقيقة قاهرة المعز التي أنشأها القائد جوهر عند قدومه من حضرة مولاه المعز لدين الله أبي تميم معدّ إلى مصر في شعبان سنة ثمان وخمسين وثلثمائة إنما هي ما دار عليه السور فقط غير أن السور المذكور الذي أداره القائد جوهر تغير، وعمل منذ بنيت إلى زمننا هذا ثلاث مرّات.

ثم حدثت العمائر فيما وراء السور من القاهرة ، فصار يقال لداخل السور : القاهرة ، ولما خرج عن السور ظاهر القاهرة ، وظاهر القاهرة أربع جهات : الجهة القبلية وفيها الآن معظم العمارة ، وحدّ هذه الجهة طولا من عتبة باب زويلة إلى الجامع الطولونيّ ، وما بعد الجامع الطولونيّ فإنه من حدّ مصر.

وحدّها عرضا من الجامع الطيبرسيّ بشاطئ النيل غربيّ المريس إلى قلعة الجبل ، وفي الاصطلاح الآن أن القلعة من حكم مصر ، والجهة البحرية وكانت قبل السبعمائة من سني الهجرة وبعدها إلى قبيل الوباء الكبير فيها أكثر العمائر والمساكن ، ثم تلاشت من بعد ذلك ، وطول هذه الجهة من باب الفتوح وباب النصر إلى الريدانية وعرضها من منية الأمراء المعروفة في زمننا الذي نحن فيه بمنية الشيرج  إلى الجبل الأحمر ، ويدخل في هذا الحدّ مسجد تبر والريدانية.

والجهة الشرقية فإنها حيث ترب أهل القاهرة ، ولم تحدث بها العمر من التربة إلا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، وحدّ هذه الجهة طولا من باب القلعة المعروف بباب السلسلة إلى ما يحاذي مسجد تبر في سفح الجبل ، وحدّها عرضا فيما بين سور القاهرة والجبل والجهة الغربية ، فأكثر العمائر بها لم يحدث أيضا إلّا بعد سنة اثنتي عشرة وسبعمائة ، وإنما كانت بساتين وبحرا ، وحدّ هذه الجهة طولا من منية الشيرج إلى منشأة المهرانيّ بحافة بحر النيل ، وحدّها عرضا من باب القنطرة وباب الخوخة وباب سعادة إلى ساحل النيل ، وهذه الأربع جهات من خارج السور يطلق عليها : ظاهر القاهرة.

وتحوي مصر والقاهرة من الجوامع والمساجد والربط والمدارس والزوايا والدور العظيمة والمساكن الجليلة والمناظر البهجة والقصور الشامخة والبساتين النضرة والحمامات الفاخرة والقياسر المعمورة بأصناف الأنواع ، والأسواق المملوءة مما تشتهي الأنفس والخانات المشحونة بالواردين والفنادق الكاظة بالسكان والترب التي تحكي القصور ما لا يمكن حصره ، ولا يعرف ما هو قدره إلا أن قدر ذلك بالتقريب الذي يصدّقه الاختبار طولا بريدا وما يزيد عليه.

وهو من مسجد تبر إلى بساتين الوزير قبليّ بركة الحبش ، وعرضا يكون نصف بريد فما فوقه وهو من ساحل النيل إلى الجبل ، ويدخل في هذا الطول والعرض بركة الحبش وما دار بها ، وسطح الجرف المسمى : بالرصد ، ومدينة الفسطاط التي يقال لها : مدينة مصر ، والقرافة الكبرى والصغرى ، وجزيرة الحصن المعروف اليوم : بالروضة ، ومنشأة المهرانيّ ، وقطائع ابن طولون التي تعرف الآن بحدرة ابن قميحة ، وخط جامع ابن طولون والرميلة تحت القلعة ، والقبيبات وقلعة الجبل والميدان الأسود الذي هو اليوم مقابر أهل القاهرة خارج باب البرقية إلى قبة النصر.

والقاهرة المعزية ، وهو ما دار عليه السور الحجر ، والحسينية والريدانية ، والخندق وكوم الريش ، وجزيرة الفيل ، وبولاق ، والجزيرة الوسطى المعروفة بجزيرة أروى ، وزريبة قوصون ، وحكر ابن الأثير ، ومنشأة الكاتب ، والأحكار التي فيما بين القاهرة ، وساحل النيل ، وأراضي اللوق ، والخليج الكبير الذي تسميه العامّة بالخليج الحاكميّ ، والحبانية والصليبة والتبانة ، ومشهد السيدة نفيسة ، وباب القرافة ، وأرض الطبالة، والخليج الناصريّ ، والمقس والدكة ، وغير ذلك مما يأتي ذكره إن شاء الله تعالى.

وقد أدركنا هذه المواضع وهي عامرة ، والمشيخة تقول : هي خراب بالنسبة لما كانت عليه قبل حدوث طاعون سنة تسع وأربعين وسبعمائة الذي يسميه أهل مصر : الفناء الكبير ، وقد تلاشت هذه الأماكن ، وعمها الخراب منذ كانت الحوادث بعد سنة ست وثمانمائة ، ولله عاقبة الأمور.

نقلا عن الخطط المقريزية