
الفسطاط
في صيف عام 643 م. تم فتح مصر واستقر الأمر على بناء مدينة جديدة في الموقع الذي عسكر الجيش عنده لحصار حصن بابليون وذلك في الفضاء الصحراوي شمال الحصن بين جبل المقطم شرقا ونهر النيل غربا وقد أطلق عليها اسم (الفسطاط) تيمنا بمقر القيادة حيث إنهم عندما أرادوا نزع الخيمة عند التوجه للإسكندرية وجدوا عليها يمامة قد أفرخت فلم ينزعها عمرو بن العاص وقال : ” لقد تحرمت منا بمتحرم ” وأوصى نائبه خارجة بن حذافة بحفظ الخيمة حتى يرجع ، وقد عهد عمرو إلى أربعة من الرجال بمهمة تنظيم القبائل وهم معاوية بن حديج التجيبي الكندي وشريك بن سمي الغطيفي المرادي وعمرو بن قحزم الخولاني وحيويل بن ناشرة المعافري ففصلوا بين القبائل وأنزلوا الناس منازلهم ..
اختطوا الخطط (الحارات) وبنوا الدور والمساجد وعرفت كل خطة بالقبيلة أو الجماعة التي اختطتها أو بصاحبها الذي اختطها حيث كان اختيار الرجال الأربعة على هذا النحو لأن أكثر الجيش الفاتح كان من قبائل اليمن ، وقد سكنت القبائل اليمانية جنوب الفسطاط بينما سكنت القبائل العدنانية في شمال المدينة واستقرت قريش في الوسط في (خطة أهل الراية) ثم اتسع العمران باتجاه الشمال الشرقي والشرق حيث خطة أهل الظاهر وخطة اللفيف (وهي الأمداد التي عادت بعد فتح الإسكندرية) وقد وقع اختيار المسلمين على تلك المناطق للسكن بسبب قربها من بيئتهم الصحراوية وعدم رغبتهم في مزاحمة السكان الإغريق في المدن اليونانية التي كانت منتشرة في مصر طيلة العهد البطلمي والروماني.
عرف مركز الفسطاط بخطة أهل الراية وهم جماعة من قريش والأنصار وخزاعة وأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وثقيف ودوس وعبس بن بغيض وجرش من بني كنانة وليث بن بكر لم يكن لكل منهم من العدد ما ينفرد به بدعوة من الديوان فجعل لهم عمرو بن العاص راية لم ينسبها إلى أحد وقال يكون وقوفكم تحتها فكانت لهم كالنسب الجامع وكان ديوانهم عليها فعرفوا بأهل الراية وانفردوا بخطة وحدهم كانت من أعظم الخطط وأوسعها ، وكانت عادة العرب أن يتجمعوا وفق التقسيم القبلي لذلك فإن خطة أهل الراية كانت مقسمة إلى (حارات) فرعية بحيث تسكن كل قبيلة في حارة خاصة بها وكانت خطة أهل الراية تحيط بالمسجد (جامع عمرو) من جوانبه كلها ..
ولارتباط القيادة بالمسجد مثلما كان الحال في المدينة المنورة فقد كان يسكن فيها معظم قادة فتح مصر أمثال عمرو بن العاص السهمي وخارجة بن حذافة العدوي و الزبير بن العوام الأسدي وعبادة بن الصامت الأنصاري ومسلمة بن مخلد الأنصاري وعمير بن وهب الجمحي وعقبة بن عامر الجهني وعبد الله بن حذافة السهمي والمقداد بن عمرو الكندي (حليف بني زهرة) ونافع بن عبد القيس الفهري وعبد الله بن سعد بن أبي سرح العامري ، وكانت أرض المسجد في البداية من نصيب قيصبة بن كلثوم التجيبي فلما رجع عمرو من الإسكندرية سأل قيصبة فيه ليجعله مسجدا وذلك لتوسط موقعه فسلمه إليه وقال تصدقت به على المسلمين واختط له خطة مع قومه من بني سوم في تجيب ..


أهل الراية
في حي مصر القديمة بالقاهرة لا يزال الشارع المحيط بمسجد عمرو بن العاص يحمل حتى يومنا هذا اسم (أهل الراية) حيث عرف مركز الفسطاط بخطة أهل الراية ، وكانت خطة أهل الراية مقسمة إلى (حارات) فرعية بحيث تسكن كل قبيلة في حارة خاصة بها.
وأطلق على الحارة الكبرى اسم زقاق الأشراف أو زقاق القناديل (لتلعيق القناديل أمام منزل عمرو بن العاص الذي يقع في أوله) ، ويتفرع منها خطة خارجة بن حذافة العدوي وتضم منزله المعروف باسم (دار القند) وما يليها من دور وفي مقابلها منزل عبد الله بن عمر بن الخطاب (دار البركة).
جاء في الخطط المقريزية : ” اعلم : أنّ الخطط التي كانت بمدينة فسطاط مصر ، بمنزلة الحارات التي هي اليوم بالقاهرة ، فقيل لتلك في مصر : خطة ، وقيل لها في القاهرة : حارة.
قال القضاعيّ : ولما رجع عمرو من الإسكندرية ، ونزل موضع فسطاطه ، انضمت القبائل بعضها إلى بعض ، وتنافسوا في المواضع ، فولى عمرو على الخطط : معاوية بن خديج التجيبيّ ، وشريك بن سميّ الغطيفيّ ، وعمرو بن قحزم الخولانيّ ، وحيويل بن ناشرة المعافريّ ، وكانوا هم الذين أنزلوا الناس ، وفصلوا بين القبائل ، وذلك في سنة إحدى وعشرين.
خطة أهل الراية : أهل الراية جماعة من قريش والأنصار وخزاعة وأسلم وغفار ومزينة وأشجع وجهينة وثقيف ودوس وعبس بن بغيض وجرش من بني كنانة وليث بن بكر، والعتقاء منهم إلا أنّ منزل العتقاء في غير الراية ، وإنما سموا أهل الراية ونسبت الخطة إليهم لأنهم جماعة لم يكن لكل بطن منهم من العدد ما ينفرد بدعوة من الديوان فكره كل بطن منهم أن يدعى باسم قبيلة غير قبيلته ، فجعل لهم عمرو بن العاص راية ولم ينسبها إلى أحد فقال : يكون موقفكم تحتها فكانت لهم كالنسب الجامع وكان ديوانهم عليها.
وكان اجتماع هذه القبائل لما عقده رسول الله صلّى الله عليه وسلّم من الولاية بينهم ، وهذه الخطة محيطة بالجامع من جميع جوانبه ، ابتدأوا من المصف الذي كانوا عليه في حصارهم الحصن ، وهو باب الحصن الذي يقال له : باب الشمع ، ثم مضوا بخطتهم إلى حمام الفار ، وشرعوا بغربيها إلى النيل ، فإذا بلغت إلى النحاسين ، فالجانبان لأهل الراية إلى باب المسجد الجامع المعروف : بباب الوراقين ، ثم يسلك على حمام شمول ، وفي هذه الخطة زقاق القناديل إلى تربة عفان إلى سوق الحمام إلى باب القصر الذي بدأنا بذكره “.
وجاء أيضا : ” وكان إذ ذاك زقاق القناديل أعمر أخطاط مصر ، وإنما قيل له زقاق القناديل من أجل أنه كان سكن الأشراف ، وكانت أبواب الدور يعلق على كلّ باب منها قنديل ، قال القضاعيّ : ويقال أنه كان به مائة قنديل توقد كلّ ليلة على أبواب الأكابر “.
وجاء في كتاب تاريخ بيمارستانات الإسلام : ” بيمارستان زقاق القناديل : قيل إنه كان في الدولة الأموية مارستان في زقاق القناديل دار أبي زبيد. وزقاق القناديل – ويقال له زقاق القنديل – من أزقة الفسطاط. قال القضاعي إنما وسم زقاق القناديل أو القنديل لأنه كان برسم قنديل كان على باب عمرو بن العاص وفي هذا الزقاق ولد الإمام الحافظ ابن سيد الناس صاحب السيرة المتوفى سنة 734هـ “.


القبائل المؤسسة للفسطاط وخططها
جاء في الخطط المقريزية :
” خطة مهرة : بن حيدان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة بن مالك بن حمير : وخطة مهرة هذه قبليّ خطة الراية ، واختطت مهرة أيضا على سفح الجبل الذي يقال له : جبل يشكر مما يلي الخندق إلى شرقيّ العسكر إلى جنان بني مسكين ، ومن جملة خطة مهرة الموضع الذي يعرف اليوم بمساطب الطباخ ، واسمه حمد ، ويقال : إنّ الخطة التي لهم قبليّ الراية كانت حوزا لهم يربطون فيها خيلهم إذا رجعوا إلى الجمعة ، ثم انقطعوا إليها ، وتركوا منازلهم بيشكر.
خطة تجيب : وتجيب هم بنو عديّ ، وسعد ابني الأشرس بن شبيب بن السكن بن الأشرس بن كندة ، فمن كان من ولد عديّ ، وسعد يقال لهم : تجيب ، وتجيب : أمّهم ، وهذه الخطة تلي خطة مهرة ، وفيها درب الممصوصة آخره حائط من الحصن الشرقيّ.
خطط غافق : هو غافق بن الحارث بن عك بن عدنان بن عبد الله بن الأزد ، وهذه الخطة تلي خطة لخم إلى خطة الظاهر ، بجوار درب الأعلام ، خطط الصدف : واسمه مالك بن سهل بن عمرو بن قيس بن حمير ، ودعوتهم مع كندة.
خطط الفارسيين : واستبدّ بخطة خولان من حضر فتح مصر من الفارسيين ، وهم بقايا جند باذان عامل كسرى على اليمن قبل الإسلام ، أسلموا بالشأم ، ورغبوا في الجهاد ، فنفروا مع عمرو بن العاص إلى مصر ، فاختطوا بها ، وأخذوا في سفح الجبل الذي يقال له : جبل باب البون ، وهذا الجبل اليوم شرقيّ من وراء خطة جامع ابن طولون تعرف أرضه بالأرض الصفراء ، وهي من جملة العسكر.
خطة مذحج : بالحاء قبل الجيم ، وهو مالك بن مرّة بن أدد بن زيد بن كهلان ، خطة غطيف : بن مراد ، خطة وعلان : بن قرن بن ناجية بن مراد ، وكلهم من مذحج ، فاختطت وعلان من الزقاق الذي فيه الصنم المعروف بسرية فرعون ، وهذا الزقاق أوّله باب السوق الكبير، واختطت أيضا بخولان ، ثم انفردت وعلان بخططها مقابل المسجد المعروف : بالدينوريّ ، وأسندت إلى خولان ، وهذه الخطة اليوم : كيمان تطلّ على قبر القاضي بكار.
خطة يحصب : بن مالك بن أسلم بن زيد بن غوث ، وهذه الخطة موضعها : كيمان ، وهي تتصل بالشرف الذي يعرف اليوم : بالرصد المطلّ على راشدة.
خطة رعين : بن زيد بن سهل ، خطة ذي الكلاع : بن شرحبيل بن سعد من حمير ، خطة المعافر : بن يعفر بن مرّة بن أدد ، وهذه الخطة من الرصد إلى قاية بن طولون ، وهي القناطر التي تطلّ على عفصة ، وتفصل بين القرافتين والقناطر للمعافر ، ولهم إلى مصلى خولان ، وإلى الكوم المشرف على المصلى.
خطة سبأ وخطة الرحبة : بن زرعة بن كعب ، خطة السلف بن سعد : فيما بين الكوم المطلّ على القاضي بكار ، وبين المعافر ، خطة بني وائل : بن زيد مناة بن أفصى بن إياس بن حرام بن جذام بن عديّ ، وهي من سفح الشرف المعروف بالرصد إلى خطة الخولان.
خطة القبض : بالتحريك ، بن مرثد ، وهي بجانب خطة بني وائل إلى نحو بركة الحبش ، قال : وكان سبب نزول بني وائل ، والقبض ورية وراشدة والفارسيين هذه المواضع أنهم كانوا في طوالع عمرو بن العاص ، فنزلوا في مقدّمة الناس ، وحازوا هذه المواضع قبل الفتح “.


أهل الظاهر ولخم واللفيف
جاء في الخطط المقريزية عن القبائل التي نزلت في ضواحي الفسطاط زمن الفتح :
” وخطط لخم في موضعين : فمنها خطة لخم بن عديّ بن مرّة بن أدد ، ومن خالطها من جذام ، فابتدأت لخم بخطتها من الذي انتهت إليه خطة الراية وأصعدت ذات الشمال ، وفي هذه الخطة سوق بربر ، وشارعه مختلط فيما بين لخم والراية.
ولهم خطتان أخريان ، إحداهما منسوبة إلى بني رية بن عمرو بن الحارث بن وائل بن راشدة من لخم ، وأوّلها شرقيّ الكنيسة المعروفة بمكائيل التي عند خليج بني وائل ، وهذا الموضع اليوم وراقات يعمل فيها الورق بالقرب من باب القنطرة خارج مصر.
والخطة الثانية : خطة راشدة بن أدب بن جزيلة من لخم ، وهي متاخمة للخطة التي قبلها ، وفي هذه الخطة جامع راشدة ، وجنان كهمس بن معمر الذي عرف : بالمادرانيّ ، ثم عرف بجنان الأمير تميم ، وهو اليوم يقال له : المعشوق بجوار الآثار النبوية ، ولهم مواضع مع اللفيف ، وخطط أيضا بالحمراء.
خطط اللفيف : إنما سموا بذلك لالتفات بعضهم ببعض ، وسبب ذلك : أنّ عمرو بن العاص ، لما فتح الإسكندرية أخبر أنّ مراكب الروم قد توجهت إلى الإسكندرية لقتال المسلمين ، فبعث عمرو بعمرو بن جمالة الأزديّ الحجريّ ليأتيه بالخبر ، فمضى وأسرعت هذه القبائل التي تدعى اللفيف ، وتعاقدوا على اللحاق به.
واستأذنوا عمرو بن العاص في ذلك ، فأذن لهم وهم جمع كثير ، فلما رآهم عمرو بن جمالة استكثرهم ، وقال : تالله ما رأيت قوما قد سدّوا الأفق مثلكم ، وإنكم كما قال الله تعالى : فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً فبذلك سموا من يومئذ اللفيف.
وسألوا عمرو بن العاص : أن يفرد لهم دعوة فامتنعت عشائرهم من ذلك ، فقالوا لعمرو : فإنا نجتمع في المنزل حيث كن ا، فأجابهم إلى ذلك ، فكانوا مجتمعين في المنزل متفرّقين في الديوان إذا دعي كل بطن منهم ، انضم إلى بني أبيه ، قال قتادة ومجاهد والضحاك بن مزاحم في قوله : جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً قال : جميعا.
وكان عامتهم من الأزد من الحجر ومن غسان ومن شجاعة ، والتف بهم نفر من جذام ولخم والزحاف وتنوخ من قضاعة ، فهم مجتمعون في المنزل متفرّقون في الديوان ، وهذه الخطة أوّلها مما يلي الراية سالكا ذات الشمال إلى نقاشي البلاط ، وفيها دار ابن عشرات إلى نحو من سوق وردان.
خطط أهل الظاهر : إنما سمي هذا المنزل بالظاهر لأنّ القبائل التي نزلته كانت بالإسكندرية ، ثم قفلت بعد قفول عمرو بن العاص ، وبعد أن اختط الناس خططهم ، فخاصمت إلى عمرو ، فقال لهم معاوية بن حديج : وكان ممن يتولى الخطط يومئذ أرى لكم أن تظهروا على أهل هذه القبائل ، فتتخذوا منزلا فسمي الظاهر بذلك.
وكانت القبائل التي نزلت الظاهر العتقاء ، وهم جماع من القبائل ، كانوا يقطعون على أيام النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، فبعث إليهم ، فأتى بهم أسرى فأعتقهم ، فقيل لهم : العتقاء ، وديوانهم مع أهل الراية ، وخطتهم بالظاهر متوسطة فيه ، وكان فيهم طوائف من الأزد وفهم.
وأوّل هذه الخطة من شرقيّ خطة لخم ، وتتصل بموضع العسكر ، ومن هذه الخطة سويقة العراقيين ، وعرفت بذلك لأنّ زيادا لما ولاه معاوية بن أبي سفيان البصرة ، غرّب جماعة من الأزد إلى مصر، وبها مسلمة بن مخلد في سنة ثلاث وخمسين ، فنزل منهم هنا نحو من مائة وثلاثين ، فقيل لموضعهم من خطة الظاهر : سويقة العراقيين “.


الحمراء القصوى
الحمراء القصوى والدنيا والوسطى هي مكان الضاحية الشمالية من مدينة الفسطاط وتأسست بجوارها كل من مدينة العسكر والقطائع بعد ذلك ، جاء في الخطط المقريزية :
خطط الحمراوات الثلاث : قال الكنديّ : وكانت الحمراء على ثلاثة : بنو نبه وروبيل والأزرق ، وكانوا ممن سار مع عمرو بن العاص من الشام إلى مصر من عجم الشأم ممن كان رغب في الإسلام من قبل اليرموك ، ومن أهل قيسارية وغيرهم.
قال القضاعيّ : وإنما قيل الحمراء لنزول الروم بها ، وهي خطط بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وفهم وعدوان ، وبعض الأزد وهم ثراد ، وبني بحر ، وبني سلامان ويشكر بن لخم وهذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر وبني نبه ، وبني الأزرق ، وهم من الروم ، وبني روبيل ، وكان يهوديا، فأسلم.
أوّل ذلك الحمراء الدنيا خطة بليّ بن عمرو بن الحاف بن قضاعة ، ومنها خطة ثراد من الأزد ، وخطة فهم بن عمرو بن قيس عيلان ، ومنها خطة بني بحر بن سوادة من الأزد.
ومن ذلك الحمراء الوسطى : منها خطة بني نبه ، وهم قوم من الروم حضر الفتح منهم مائة رجل ، ومنها خطة هذيل بن مدركة بن إلياس بن مضر ، ومنها خطة بني سلامان من الأزد ، ومنها خطة عدوان.
ومن ذلك الحمراء القصوى ، وهي خطة بني الأزرق ، وكان روميا حضر الفتح منهم أربعمائة ، وخطة بني روبيل ، وكان يهوديا فأسلم ، وحضر الفتح منهم ألف رجل ، وخطة بني يشكر بن جزيلة بن لخم وكانت منازل يشكر مفرّقة في الجبل ، فدثرت قديما ، وعادت صحراء حتى جاءت المسودّة ، يعني جيوش بني العباس ، فعمروها ، وهي الآن خراب.
وقال ابن المتوّج : الحمراوات ثلاث : أولى ، ووسطى ، وقصوى ، فأمّا الأولى : فتجمع جابر الأور ، وعقبة العدّاسين ، وسوق وردان ، وخطة الزبير إلى نقاشي البلاط طولا وعرضا على قدر ذلك ، وأمّا الوسطى : فمن درب نقاشي البلاط إلى درب معاني طولا وعرضا على قدره ، وأمّا القصوى فمن درب معاني إلى القناطر الظاهرية يعني قناطر السباع ، وهي حدّ ولاية مصر من القاهرة.
وكانت هذه الحمراوات جلّ عمارة مصر في زمن الروم ، فإذا الحمراء الأولى والوسطى هما الآن خراب ، وموضعهما فيما بين سوق المعاريج ، وحمام طن من شرقيهما إلى ما يقابل المراغة في الشرق.
وأما الحمراء الدنيا فهي الآن تعرف بخط قناطر السباع ، وبخط السبع سقايات ، وبحكر الخليليّ ، وحكر أقبغا والكوم ، حيث الأسرى ومنها أيضا خط الكبش ، وخط الجامع الطولونيّ والعسكر ، ومنها حدرة ابن قميحة إلى حيث قنطرة السدّ ، وبستان الطواشي ، وما في شرقيه إلى مشهد الرأس المعروف بزين العابدين ، وسيأتي لذلك مزيد بيان إن شاء الله تعالى عند ذكر العسكر.
وكانت مدينة الفسطاط على قسمين هما : عمل فوق ، وعمل أسفل ، فعمل فوق له طرفان غربيّ وشرقيّ ، فالغربيّ من شاطىء النيل في الجهة القبلية ، وأنت مار في الشرف المعروف اليوم بالرصد إلى القرافة الكبرى ، والشرقيّ من القرافة الكبرى إلى العسكر ، وعمل أسفل ما عدا ذلك إلى حدّ القاهرة.

مدينة العسكر
عندما تقف فوق قلعة الجبل وتنظر يسارا باتجاه الجنوب سوف ترى عددا كبيرا من المساجد والقباب متنوعة الاشكال والاحجام .. لكن واحدا منها سوف يخطف الابصار وهو يظهر مميزا واضحا باللون الذهبي اللامع تحت اشعة الشمس .. ذلك هو مسجد السيدة نفيسة رضي الله عنها ..
وقد اقيم المسجد مكان منزل والي مصر من قبل العباسيين السري بن الحكم والذي استضاف فيه السيدة نفيسة العلم بنت الحسن الانور بن زيد الابلج بن الامام الحسن السبط .. وكانت تستقبل فيه المصريين يومين من كل اسبوع للاستماع الى دروسها فلما توفيت ودفنت بالمنزل تحول الى مدرسة ومزار ..
وتكمن الاهمية التاريخية للمسجد في كونه جزء من مدينة العسكر التاريخية عاصمة العباسيين والتي بناها الوالي صالح بن علي بن عبد الله بن العباس لتكون مقرا لحكمه حيث راى عدم مزاحمة سكان الفسطاط في دورهم فقرر البناء في الصحراء في المنطقة التي عرفت يومها باسم الحمراء القصوى ..
وقد تأسست المدينة عام 750 م وكانت في البداية مقصورة على الجنود العباسيين فاطلق عليها اسم العسكر واستمر ذلك الحال حتى جاء السري بن الحكم واليا على مصر عام 816 م فأذن للناس بالبناء فتهافت الناس على البناء بالقرب من مقر الحكم ونمت المدينة حتى اتصلت بالفسطاط ..
ويجاور المسجد من ناحية القرافة اضرحة عدد من الخلفاء العباسيين الذين استقروا بمصر بعد سقوط بغداد حيث تم تنصيبهم في القاهرة وتمتعوا بسلطة رمزية تشبه النظام الملكي البريطاني بينما المماليك هم الحكام الفعليون .. وقد منحوا وقتها حق الاشراف على المسجد في اشارة رمزية لعاصمتهم القديمة ..
وشهدت مصر قرابة عشرين خليفة عباسي اولهم الامام احمد المستنصر بالله الذي استقبله بيبرس و اكرمه واعلن خلافته في احتفال ضخم واخرهم المستمسك بالله ابو الصبر يعقوب الذي اجبر على التنازل عن الخلافة لصالح سليم الاول العثماني بعد هزيمة المماليك في مرج دابق ..
وكانت المنطقة تحوي مقر اقامة الخلفاء العباسيين طوال عصر المماليك البحرية والشراكسة الذين اقروا بسلطتهم الروحية ولم ينازعوهم فيها .. وكانت منطقة المسجد قديما تعرف باسم درب السباع وتقع على اطراف مدينة العسكر باتجاه القرافة وهي الان جزء من حي الخليفة بمحافظة القاهرة ..

القاهرة المعزية
(والله لو خرج جوهر هذا وحده لفتح مصر وليدخلن مصر بالأردية من غير حرب ولينزلن خرائب ابن طولون ويبني مدينة تسمى القاهرة تقهر الدنيا) .. بهذه الكلمات ودع الخليفة المعز الفاطمي قائد جيوشه جوهر الصقلي أمام شيوخ كتامة معلنا ثقته الشديدة فيه لسابق أعماله في المغرب حيث وصل بجنوده إلى ساحل الأطلسي وأرسل لسيده في تونس أسماك المحيط في قلال الماء علامة على نجاحه في مهمته لذلك أوكل إليه المهمة الكبرى وهي دخول مصر ودعمه بالجنود والأموال والأسطول ..
وقد دخل جوهر البلاد سلما بفضل سياسة المعز في تهيئة الأحوال بواسطة دعاته واستمالته القبائل العربية في الصعيد والدلتا ووافق على إعطاء الأمان لممثل المصريين وقتها وهو الوزير جعفر بن الفرات ثم عسكر بجيشه شمال القطائع في الموضع الذي رسمه له الخليفة ، وفي يوم 6 يوليو 969 م. وضع جوهر أساسات القاهرة والتي يحدها جبل المقطم من الشرق وخليج أمير المؤمنين من الغرب وبنى في وسطها القصر الكبير والجامع الأزهر وأحاطها بسور كبير على الطراز المغربي ويوافق ذلك اليوم العيد القومي لمحافظة القاهرة..
ومنذ اليوم الأول فإن القاهرة لم تكن عاصمة لمصر وحدها لأن مصر كانت تدار من خلال مدينة الفسطاط التي بناها عمرو بن العاص ووسعها صالح بن علي العباسي وأحمد بن طولون وعرفت باسم مدينة مصر ، لكن القاهرة تأسست من البداية بوصفها عاصمة إمبراطورية ضخمة شاسعة الأرجاء تضم المغرب العربي كله من فاس إلى طرابلس بالإضافة إلى مصر والسودان واليمن والحجاز والشام وأعالي الفرات (أي ما يعرف الآن بالوطن العربي باستثناء أجزاء من العراق وساحل الخليج) ..
وعندما أتم جوهر بناء العاصمة ونجح في ضم بلاد الشام والحجاز أرسل إلى سيده ليحضر إلى عاصمته الجديدة فرحل عن المنصورية في جيش ضخم واصطحب معه رفات أجداده ، وفي يونيو 973 م. دخل المعز إلى مصر واستقبل استقبالا حافلا في شهر رمضان وحظي بإعجاب الناس لما تمتع به من مواهب وقدرات حيث وصفه الفقيه النعمان المغربي بقوله (إن المعز قد نظر في كل فن وبرع في كل علم .. أما الطب والهندسة وعلم النجوم والفلك والفلسفة فأهل النفاذ من ذلك عيال عليه) ..

قلعة الجبل
ربما يذكر التاريخ السلطان صلاح الدين الايوبي بانتصاراته العسكرية الباهرة التي خلدت ذكره وربما يراه اخرون من كبار السياسيين الدهاة في عصره وربما يعجب اخرون باصلاحاته الادارية في ربوع دولته الامبراطورية .. لكن الجانب الاهم انه كان واحدا من رواد العمران والبناء وكانت اعماله خطوة نحو تاسيس مدينة القاهرة التي نعرفها اليوم والتي كانت قبله مدنا منفصلة ..
في البداية كانت الفسطاط في تلك المنطقة الصحراوية بين جبل المقطم ونهر النيل وتاسست على يد الصحابي الجليل عمرو بن العاص ثم تاسست مدينة العسكر على يد صالح بن علي العباسي واتصلت بها ثم تاسست مدينة القطائع على يد احمد بن طولون والتحمت المدن الثلاث واطلق عليها العرب اسم مدينة مصر التي تحولت في وقت قياسي الى مركز تجاري هام ..
وفي القرن الرابع الهجري تاسست القاهرة لتكون مقرا للخلفاء الفاطميين وبنيت على الطراز المغربي حيث الاسوار التي تجعلها تشبه الحصن وذلك في المنطقة الصحراوية شمالي مدينة مصر وكانت في اول امرها مدينة ملكية قاصرة على الحاشية والجند وكان مدخلها من ناحية مدينة مصر هو باب زويلة من الجنوب بينما مدخلها من ناحية الصحراء هو باب الفتوح من الشمال ..
واكتمل عمران هذه العواصم الاربع بفضل السلطان صلاح الدين الايوبي الذي قرر بناء قلعة على الطراز الشامي فوق جبل المقطم في منطقة تتوسطهم وتشرف عليهم جميعا ثم احاط العواصم كلها بسور واحد يمتد من ميناء المقس شمالا وحتى ساحل اثر النبي جنوبا واحاط ذلك السور بهم احاطة الام باولادها فصارت العواصم جميعا مدينة واحدة واتصل العمران فيما بينهم ..
ولا شك ان بناء القلعة والسور هو الذي ادى لظهور مدينة القاهرة بطابعها التاريخي لانه كان الخطوة الاكبر في اعمار القاهرة حيث تاسست داخل السور الكبير احياء سكنية جديدة تماما في الفراغات الجغرافية بين العواصم الاربعة .. وهذا الامر هو الذي مهد لظهور اكبر حركة عمران وبناء وتشييد في تاريخ مصر الاسلامية والتي تمت على يد المماليك على مدار ثلاثة قرون ..