المغرب

فاس .. مدينة مولاي إدريس

في عام 172 هـ / 789 م. قرر مولاي إدريس بن عبد الله الهاشمي مؤسس دولة الأدارسة بالمغرب إنشاء عاصمة لدولته الناشئة بالقرب من منازل قبيلة أوربه البربرية التي دعمته في دعوته فأنشأ على الضفة الشرقية لنهر فاس عدوة للقبائل العربية التي لحقت به من المشرق ، وكانت الأرض ملك قوم من زواغة يعرفون ببني خير فقال المولى ادريس : «هذا فأل حسن !» ثم اشتراها منهم بستة آلاف درهم وبنى فيها مسجد الأشياخ وقصرا أطلق عليه دار القيطون ثم جامع الأشراف على الضفة الأخرى ..

وبعد سنوات قليلة نشأت على الضفة الغربية عدوة لإيواء الأندلسيين الهاربين من بطش الأمويين وأطلق عليها عدوة الأندلسيين .. ومن العدوتين تكونت مدينة فاس العريقة بعد اتحادهما في عهد المرابطين بواسطة يوسف بن تاشفين ، ثم توسعت المدينة في عهد الموحدين ونشأت فيها أحياء سكنية جديدة عرفت باسم فاس الجديدة لكن العصر الذهبي للمدينة كان في عصر حكام بني مرين الذين اتخذوها عاصمة لدولتهم بدلا من مراكش وأنشأوا فيها مدينة ملكية ضخمة عرفت باسم المدينة البيضاء ..

واشتهرت المدينة بجامعة القرويين التي أسستها السيدة أم البنين فاطمة بنت محمد بن عبد الله الفهري وهي حفيدة القائد عقبة بن نافع ، ولدت في مدينة القيروان بتونس عام 800 م. وتوفيت في مدينة فاس بالمغرب عام 878 م. ، رحلت إلى المغرب مع أبيها وأسرتها لمناصرة دعوة الأدارسة حيث نزلت مع قومها في المنطقة التي عرفت باسم عدوة القيروانيين ثم حرف الاسم مع الوقت للتخفيف وتحول إلى عدوة القرويين واستغرق بناء الجامعة ثمانية عشر عاما تحت إشراف السيدة فاطمة التي أوقفت عليها كل ميراثها ..

وكانت تدرس فيه العلوم الدينية إلى جانب الرياضيات والفلك والأدب والجغرافيا والفلسفة والطب ومن أشهر من درسوا فيها ابن خلدون وابن رشد والإدريسي وموسى بن ميمون والبابا سلفستر الثاني ، وهي أول جامعة في العالم تعطي إجازة مكتوبة لممارسة مهنة الطب وذلك في عام 1207 عندما منحت عبد الله بن صالح الكتامي تصريحا بمزاولة المهنة في عهد الموحدين ، وتحوي الجامعة أكثر من أربعة آلاف مخطوطة وبفضلها تحولت مدينة فاس إلى مصدر إشعاع للعلوم والثقافة في العصور الوسطى ..

مراكش .. مدينة يوسف بن تاشفين

مراكش هي ثالث أكبر مدينة في المغرب اليوم وأشهر عاصمة في تاريخه حيث كانت مقرا لأهم وأكبر دولتين في المغرب العربي وهما دول المرابطين والموحدين وارتبط اسمها بالمغرب في كثير من اللغات فعرفت بلاد المغرب حتى مطلع العصر الحديث باسم مراكش أو مملكة مراكش ، ويعود تاريخ إنشائها إلى عام 454 هـ. / 1062 م. عندما قرر أمير المرابطين أبو بكر بن عمر اللمتوني الصنهاجي تكليف ابن عمه وخليفته من بعده يوسف بن تاشفين بحكم المغرب ليتفرغ هو للصحراء الموريتانية ..

وكان يوسف بن تاشفين قبل ذلك قد وحد القبائل البربرية المتنازعة وأتم السيطرة على المدن القديمة أغمات وسجلماسة وتادلا وتامسنا ورأى أن يبني عاصمة جديدة لتكون مقرا خاصا للمرابطين فاختار بقعة من الأرض تقع على مقربة من نهر تانسفيت فأسس فيها المدينة وبنى مسجدها الجامع الذي عرف باسم (جامع ومدرسة ابن يوسف) ، ومنها انطلق ليستكمل توحيد بلاد المغرب فاستولى على فاس حاضرة الشمال ثم الريف ومكناس وسبتة وطنجة ووصلت قواته إلى وجدة وتلمسان ووهران والجزائر شرقا ..

ومن مراكش انطلق المرابطون إلى الأندلس بعد استنجاد ملوك الطوائف حيث حقق ابن تاشفين انتصارا ساحقا على ألفونسو القشتالي في معركة الزلاقة ثم بعد سنوات ضم الأندلس إلى حوزته وصارت إقليما تابعا تتم إدارته من عاصمة المرابطين في المغرب فأمد في عمر الإسلام بالأندلس أربعة قرون أخرى ، وفي عهد ابنه علي بن يوسف استكمل بناء المسجد الجامع على الطراز الأندلسي في العمارة وبنى الجدران الحمراء للمدينة والتي أعطتها طابعها المعماري المميز فأطلق عليها اسم المدينة الحمراء ..

وفي عهد الموحدين توسعت المدينة وعمرت بالأبنية التي تشكل معالمها التاريخية مثل الأسوار الحجرية والأبواب الضخمة وصومعة الكتيبة ومساجدها وقنطرة وادي تانسفيت وتحولت المدينة إلى المركز الاقتصادي والسياسي في المغرب العربي في زمانها ، وفي عهد الأشراف السعديين توسع البناء وشمل قصر البديع وعدد من السقايات وقبور السعديين ومجمع المواسين وتأسست فيها أحياء سكنية جديدة وأسواق وتمت توسعة وعمارة مدرسة ابن يوسف حتى صارت منارة ثقافية فريدة في بلاد المغرب العربي ..

الرباط .. مدينة عبد المؤمن بن علي

اشتقت العاصمة المغربية الرباط اسمها من مواضع مرابطة الجند للعبادة والتعلم والجهاد في سبيل الله معا والتي كانت علامة مميزة لدولة المرابطين حيث نشأ أول رباط لهم على مصب نهر السنغال في أقصى الجنوب الموريتاني ومنها انطلقوا لتأسيس دولتهم في بلاد المغرب كلها ، ثم تعددت مواضع رباطهم في ربوع دولتهم لأغراض شتى ومنها موضع مدينة الرباط والتي تأسست لتكون مقرا دفاعيا لصد هجمات قبائل برغواطة ..

وعندما قامت دولة الموحدين قرر عبد المؤمن بن علي الكومي تحويل هذا الحصن إلى قاعدة عسكرية كبيرة تشرف على حركة جيوشه الذاهبة إلى الأندلس وأطلق عليها اسم (رباط الفتح) ، وفي عهد حفيده يعقوب المنصور تمت توسعة المدينة لتكون عاصمة تبادلية مع مراكش إذا اقتضت الضرورة الحربية ذلك فأحيطت بسور كبير حصين وبنيت فيها البنايات المختلفة ومن أهمها مسجد حسان وكان أكبر مسجد بالمغرب في زمنه ..

وفي عهد بني مرين توسعت المدينة باتجاه الضفة الأخرى لنهر أبي الرقراق حيث أنشأوا مجمعا ضخما ضم مساجد وحمامات ومدارس وأضرحة شكلت صروحا معمارية فريدة على الطراز المغربي في البناء والعمارة والفنون ومنها المقبرة المرينية المعروفة بالخلوة وقبة السلطان أبي الحسن المريني وزوجته شمس الضحى ومدرسة السلطان أبي عنان المريني وقبة السيدة أم العز زوجة السلطان أبي يوسف المريني ..

وفي عهد الأشراف السعديين سمح لآلاف المهاجرين من مسلمي الأندلس (الموريسكيين) بالاستقرار في ضاحية قصبة الأوداية حيث توسع الحيز العمراني للمدينة وتأسست أحياء جديدة للسكن وتم بناء السور الأندلسي ليحيط بأجزائها التاريخية المختلفة ومنها انطلق الجهاد ضد البرتغاليين ، وفي عهد الأشراف العلويين نقلت عاصمتهم من مكناس إلى الرباط لتصبح رابعة العواصم الكبرى بعد كل من مكناس وفاس ومراكش ..

الدار البيضاء .. مدينة صالح بن طريف

في عام 768 م. قام صالح بن طريف المطغري زعيم قبيلة مطغرة الزناتية البربرية بتأسيس مقر له في منطقة تامسنا الساحلية (وتعني الأرض المستوية) وأطلق على هذه المدينة الوليدة اسم آنفا ويعني قمة التل ، وكانت قبيلة مطغرة قد اعتنقت أفكار الخوارج الصفرية وشكلت حلفا من القبائل الزناتية والمصمودية وغيرها ورحلوا من منطقة طنجة باتجاه الجنوب وأسسوا الإمارة التي عرفت في زمنها باسم (برغواطة) نسبة إلى التحالف القبلي المشكل لها وخاضوا حروبا شرسة مع الأدارسة والفاطميين والأمويين والمرابطين طوال ثلاثة قرون ..

وانتهت الإمارة في عهد الموحدين عندما سقطت آنفا في يدهم حيث برزت مكانتها كميناء هام وأطلق عليه اسم تادرات بمعنى الدار ، ثم في عهد بني مرين كان لها دور كبير في إعداد الأسطول الذي فك الحصار عن الجزيرة الخضراء بالأندلس في عام 1279 م. في عهد السلطان يعقوب بن عبد الحق المريني ، وكانت دولة بني مرين قد تحملت العبء الأكبر في مواجهة القشتاليين حيث كانت الحليف الأهم لإمارة غرناطة وحولت معظم مدنها الساحلية للمهام الحربية واستقبال الأندلسيين بالإضافة إلى موقع المدينة التجاري الهام ..

وعرفت المدينة منذ وقت مبكر بوجود أضرحة لعدد كبير جدا من الأولياء والصالحين (مثل الإسكندرية) فسكنها كل من سيدي أبي حفص المديوني وسيدي عبد الرحمن بن الجيلالي وسيدي محمد مرس السلطان وسيدي مسعود وسيدي محمد مول وسيدي معروف وغيرهم ، وفي عهد السلطان أبي الحسن المريني سكنها السيد علال القيرواني في عام 1350 م. وهو صاحب الضريح المشهور على الساحل له ولزوجته السيدة للا بيضاء والذي كان علامة على المدينة من بعيد وأطلق عليه البحارة الأسبان اسم كازا بلانكا أي البناء الأبيض ..

وفي عام 1486 هاجمها البرتغاليون ودمروها ولم يتبق منها إلا الأضرحة وحاولوا احتلال الساحل لكنهم تعرضوا لهزيمة كبيرة من دولة بني مرين الذين أعادوا بناءها ، ثم تعرضت المدينة لزلزال كبير عام 1755 م. أطلق عليه زلزال لشبونة لأنه دمر العاصمة البرتغالية أيضا فقام السلطان مولاي محمد الثالث بن عبد الله العلوي بإعادة بنائها في عام 1757 م. وبنى جوارها قلعة محصنة لحماية القبائل وأطلق على المدينة الاسم الذي عرفت به بين البحارة الأسبان والبرتغاليين والذي استمر حتى يومنا هذا وهو الدار البيضاء ..

وجدة .. مدينة زيري بن عطية المغراوي

في القرن العاشر الميلادي دارت وقائع حرب شرسة في شمال أفريقيا بين قبيلتي صنهاجة وزناتة وانتهت بانتصار صنهاجة مدعومة من الدولة الفاطمية وتمت إزاحة زناتة الموالية للأمويين في الأندلس باتجاه الغرب ، وفي عام 381 هـ قام المنصور بن أبي عامر حاجب الخليفة الأموي بتولية زعيم قبيلة مغراوة الزناتية زيري بن عطية المغراوي على المغرب الأقصى واستقبله بالحفاوة والإكرم في قرطبة ودعمه بالمال والسلاح ليتمكن من السيطرة على كافة القبائل في المنطقة ..

وفي عام 384 هـ / 994 م. قرر زيري بن عطية تأسيس مدينة وجدة والتي تقع بين المغرب الأوسط (الجزائر حاليا) والمغرب الأقصى (المملكة المغربية حاليا) واتخذ منها عاصمة لدولته الناشئة وقام بتحصينها عبر إحاطتها بالأسوار العالية والأبواب التي كان يتحكم الحراس في فتحها وإغلاقها ، ثم أعلن الاستقلال ودخل في مناوشات مع الصنهاجيين ومع المنصور بن أبي عامر اعتراضا منه على حجب الخليفة هشام المؤيد واستولى على تاهرت وتلمسان ثم تصالح معه على شروط ..

وفي عام 1079 م. دخلها المرابطون بزعامة يوسف بن تاشفين وتوسعت المدينة لكن نتيجة لموقعها الجغرافي ظلت موضعا للصراع بعد ذلك بين بني مرين في الغرب والزيانيين في الشرق ، قال عنها ابن أبي زرع الفاسي في كتاب (الأنيس المطرب) : (بنى زيري بن عطية المغراوي مدينة وجدة وشيد أسوارها وقصبتها وركب أبوابها وسكنها بأهله وحشمه ونقل إليها أمواله وذخائره وجعلها قاعدته ودار ملكه لكونها واسطة بلاده و كان اختطاط زيري بن عطية لمدينة وجدة في شهر رجب الفرد سنة 384 هجرية) ..

وقال البكري الأندلسي في كتاب (المسالك والممالك) : (وجدة مدينتان مسورتان يسكن في المحدثة التجار وفيها الأسواق والجامع خارج المدينتين على نهر أحدقت به البساتين وهي كثيرة الأشجار والفواكه طيبة الغداء جيدة الهواء) ، وقال ابن عبد ربه الأندلسي الحفيد في كتاب (الاستبصار) : (وجدة كثيرة البساتين والجنات والمزدرعات كثيرة المياه والعيون طيبة الهواء جيدة التربة ويمتاز أهلها من غيرها بنضارة ألوانهم وتنعم أجسامهم ومراعيها أنجع المراعي وأصلحها للماشية وعلى مدينة وجدة طريق المار والصادر من بلاد المشرق إلى المغرب وسجلماسة) ..