1 / السيرة الشعبية والأدب الشفهي

تحتفظ كل الأمم والشعوب بأساطير محلية من تراثها الشعبي تشكل مخزنا هاما للوجدان الجمعي ومستودعا أساسيا لثقافة المجتمع المتراكمة عبر قرون طويلة ، وتأتي مصداقية هذا التراث من كونه نشأ من الناس وإلى الناس بعيدا عن توجيه المؤسسات الرسمية سواء كانت سياسية أو دينية ، وفي مصر لعبت السير الشعبية دورا في رسم معالم الهوية القومية المعبرة عن الإحساس بالانتماء لرابطة قوية تجمع بين التاريخ والجغرافيا ..

وجميع السير الشعبية تستند إلى أحداث حقيقية ووقائع تاريخية محددة ثم جرى تضخيمها على هيئة خيال فني تمت صياغته في قالب أدبي يجمع بين الشعر والنثر ، وخلال هذه العملية تم الجمع بين اللغة الفصحى واللهجات العامية بصورة ترسم لنا تاريخ التحولات اللغوية في مناطق مصر المختلفة من خلال الراوي وهو يقص قصص الأبطال على أنغام الربابة في المقاهي والمجالس والأفراح والحفلات وسائر المناسبات الاجتماعية ..

ويأتي على رأس ذلك السيرة الهلالية والتي دارت أحداثها في تونس وبلاد المغرب العربي لتحكي قصة الصراع بين قبيلة بني هلال العربية وقبيلة زناتة البربرية (أبو زيد الهلالي والزناتي خليفة) ، يليها في ذلك سيرة الملك سيف بن ذي يزن الحميري والتي تحكي قصة ملك اليمن الذي طرد الأحباش من بلاده ثم سيرة عنترة بن شداد العبسي التي تحكي معارك القبائل العربية في نجد وكيف انتصر الفارس الشجاع في الحب والحرب معا ..

ومن بلاد الشام تأتي سيرة الأميرة ذات الهمة (فاطمة بنت مظلوم الكلابي) ودورها في الصراع بين الأمويين والبيزنطيين ، ومن عارض اليمامة تأتي سيرة الزير سالم (المهلهل بن ربيعة التغلبي) الذي أشعل نار حرب البسوس انتقاما لمقتل أخيه كليب ، ومن البادية تأتي سيرة سعد اليتيم الذي يبحث عن الانتقام لأبيه ، ومن العراق تأتي سيرة علي الزيبق زعيم العيارين في بغداد والذي لعب دورا في وأد الفتنة بين السنة والشيعة عام 1052 م. وانتقلت لنا قصته وبطولاته من خلال كتاب ألف ليلة وليلة ..

ومن الحجاز تأتي سيرة الأمير حمزة البهلوان ودوره في فتح بلاد الفرس وتهدف إلى الفخر بالعرب وانتصاراتهم ، وأخيرا سيرة الظاهر بيبرس والتي تدور وقائعها في مصر لتحكي قصة تأسيس دولة المماليك ومعاركهم ضد الصليبيين والمغول حيث تحول بيبرس من حاكم إلى بطل يروى سيرته قصاصون محترفون يعرفون باسم (الظاهرية) في مقاهي القاهرة التي تخصص بعضها في سيرته والتي كانت تعرف باسم (المقاهي الظاهرية) ..

وتحظى السير الشعبية بحضور كثيف للمرأة والتي كانت محركة الأحداث في المواقف المفصلية للأبطال .. هناك سيرة متكاملة بطلتها الأميرة فاطمة بنت مظلوم (ذات الهمة) ، وفي السيرة الهلالية لدينا خضرة الشريفة والجازية الهلالية وعالية العقيلية وعجاجة وعزيزة ، وفي سيرة عنترة كانت عبلة هي المحور الأساسي للأحداث وتكاد تكون مساوية للبطل الرجل ، وفي سيرة سيف بن ذي يزن كانت قصة تحرير منية النفوس من الأسر تعادل تحرير اليمن في رمزيتها ..

وبالإضافة إلى الأبطال من الرجال والنساء دائما ما يظهر صديق مخلص من عامة الناس يكون نصيرا للبطل مثل أحمد الدنف في سيرة علي الزيبق (وهو في الأصل صعلوك متمرد أعدم في العصر المملوكي) وأدمجت قصته في السيرة ، ولدينا جمال الدين شيحة الذي ناصر بيبرس في جهاده والمعروف باستعمال الحيل والخدع التي عرفت باسم (ملاعيب شيحة) وكذلك لدينا أبو محمد البطال المعاون الأول للأميرة ذات الهمة وابنها عبد الوهاب ..

أيضا الحضور القبلي لافت للنظر في كل من السيرة الهلالية التي هي في الحقيقة توثيق وتأريخ شعبي وأدبي لتغريبة بني هلال بينما تحتل سيرة عنترة مكانة لدى العرب القيسية والزير سالم معروف مكانته عند عشائر ربيعة وبالطبع سيرة سيف بن ذي يزن هي فخر للعرب اليمانية ، وكذلك في سيرة ذات الهمة وحمزة البهلوان تأتي صراعات القبائل في قلب الأحداث خاصة علاقتهم بالخلفاء ودورهم في القتال ضد الأعداء وضد بعضهم البعض ..

وهناك تأثيرات دينية في جميع السير الشعبية لكنها مرتبطة بنمط التدين الشعبي المختلط بتراث التصوف حيث تسود فكرة الإلهامات الغيبية للأبطال والنبوءات المستقبلية لما مروا به من أحداث ، ويلاحظ أن ثلاث من السير الكبرى كان أبطالها من العصر الجاهلي وليسوا من أبطال الإسلام وهم عنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن وهو ما يعني أن الروح القبلية كانت أكبر تأثيرا بينما كان العكس في سيرة الظاهر بيبرس بسبب دوره البطولي في الجهاد ..

ومن الملاحظ أن اثنين من أبطال السير الكبرى هم من الشعراء (عنترة والزير سالم) لكنهم في نفس الوقت قادة وأمراء ومن أصحاب الانتصارات وكذلك عرف الملك سيف بن ذي يزن بحبه ورعايته للشعر والشعراء ، وفي كل ملحمة يظهر شاعر مجيد وفارس مغوار مثل دياب بن غانم في السيرة الهلالية والصحصاح بن جندب في سيرة ذات الهمة بالإضافة إلى الأشعار المتبادلة بين حمزة البهلوان ومهردكار ابنة كسرى فارس والتي تشبه رباعيات الخيام ..

وسوف نعرض جانبا من تأثيرات هذه السير على الوجدان الجمعي للمصريين ..

السيرة الهلالية

التراث الشعبي هو القاموس الحي الذي يحوي بين طياته اللهجات العامية المصرية بمفرداتها وتراكيبها وصورها التعبيرية بل إنه  يعكس الثقافة المحلية من خلال امتزاج الخيال النابع من التراث مع تفاصيل الحياة اليومية في البيئة المحلية .. ولعل هذا ما جعل التراث الشعبي وخاصة الملاحم والسير تحظى بذلك الحضور الطاغي في الوجدان الجمعي للمصريين  ..

وتأتي السيرة الهلالية على رأس السير الشعبية التي كان لها انتشار وتأثير في المجتمعات المحلية في ربوع مصر كلها .. وهي مجموعة ضخمة من الشعر العامي تبلغ آلاف الأبيات والتي كان ينشدها المنشدون على الربابة في المقاهي والمنتديات والمناسبات الاجتماعية المختلفة في الماضي القريب .. وحاليا هي جزء محبوب وجذاب  من التراث الشعبي  ..

وطالما جذبت هذه السيرة بأشعارها ولهجاتها اهتمام الكتاب والباحثين في ربوع الوطن العربي حيث تحظى بالشعبية في كافة مناطقه .. لكن الشاعر المصري الكبير عبد الرحمن الأبنودي يتفوق على الجميع إذ قام بجمع هذا الموروث الضخم من أفواه شعراء الربابة وضمنه في خمسة أجزاء ثم أعقب ذلك بروايته صوتيا ليحفظ لنا اللهجات العامية بوضوح .. 

وفي تراثنا الشعبي لم تحظ قبيلة عربية بالحضور والشهرة مثل ما عرفت به قبيلة بني هلال بن عامر بن صعصة الهوازنية القيسية والتي تحكي السيرة الهلالية تاريخها وتراثها ومن ضمنها وقائع التغريبة الهلالية وقصص أبطالها المشهورين وعلى رأسهم أبو زيد الهلالي سلامة وصراعاته المستمرة مع الزناتي خليفة وحكايات خضرة الشريفة ودياب بن غانم  ..

وفي هذه السيرة جزء حقيقي وجزء خيالي .. أما الحقيقي فهو هجرة قبيلة بني هلال من نجد إلى مصر في العصر الفاطمي بتدبير الوزير الفاطمي اليازوري لخدمة أغراضه السياسية ومن ثم انتقال فروع من القبيلة إلى بلاد المغرب العربي واستقرارها هناك ثم عودة بعض فروعها مرة أخرى إلى صعيد مصر وهجرة فروع أخرى جنوبا إلى السودان  ..

أما الجزء الخيالي فهو ذلك السرد الملحمي لقصص الأبطال وما جرى للقبيلة من أهوال أثناء الرحلة الطويلة من أول الصراع مع منافسيهم من بني عقيل وحتى حروبهم في تونس .. وأهم ملمح في السيرة الهلالية هو فكرة الانتماء القبلي وعلاقة الفرد بعشيرته ودفاعه عنها وعن قيم الفروسية والشجاعة والمروءة والنجدة في إطار من الفضائل الخلقية العالية ..

وقد نشرت مجلة الثقافة الشعبية في عددها رقم 38 دراسة قيمة للباحث خالد أبو الليل رصد فيها التلقي الشعبي للسيرة وأشكال الاستجابة الجماهيرية لها حيث يرى أن دليل الثراء هو تعدد الروايات فيها بين الدلتا والصعيد وبين مصر وبقية البلاد العربية والأفريقية وكذلك بين المدون والشفهي حيث تحولت من نص أدبي إلى عرض شعبي جماهيري قائم على التفاعل بين المؤدي (الشاعر) والجهور ويسمح بالتأثير المتبادل لكل منهما على الآخر ..

ومن أسباب بقاء السيرة الهلالية وتفوقها على غيرها يتمثل في كونها بطولة جماعية وليست قائمة على بطل واحد مثل غيرها من السير كما أنها لم تكتف بتمجيد صفات الكرم والشجاعة والفروسية فقط وإنما أيضا رصدت بواقعية حياة القبائل العربية وما يحدث بينها من صراعات وانقسامات وبحث عن الغنائم وتفشي روح الثأر والانتقام كما حفلت بقدر كبير من الغزل الصريح ووصف المرأة ومفاتنها والذي يجذب انتباه الجمهور ..

وحفلت السيرة الهلالية بتنوع رواياتها تبعا للمنطقة الجغرافية .. مثلا في فلسطين يصبح أبو زيد الهلالي هو نفسه شخصية الفدائي الذي يدافع عن وطنه الفلسطيني المغتصب ، وفي داخل مصر تختلف رواية الدلتا عن نظيرتها في الصعيد سواء من حيث الشكل أو المضمون أو طبيعة الأداء ، فمن حيث الشكل يشيع في رواية الوجه البحري القصيد والموال في حين تتميز رواية الوجه القبلي بالمربع (شعر رباعي التفعيلة) ..

أما على مستوى أداء الرواة فإن الهلالية في الدلتا تبدو أقرب ما تكون إلى النص الهلالي المدون حيث يسودها شكل القصيد التقليدي والموال وأحيانا الزجل ، ومن حيث الموضوعات فإن قصص الحب والثنائيات العاطفية هي الأكثر شيوعا فيها مثل قصة عزيزة ويونس وقصة رزق وحسنة ، ولذا فإن الإيقاع فيها بطيء حيث يميل الشعراء إلى استخدام آلات موسيقية تتناسب وطبيعة النص والإيقاع الهادىء فيه مثل العود والناي والكمنجة ..

ويحرص الشعراء في الدلتا على ارتداء زي معين لحظة الأداء مثل القفطان الأبيض والجبة والطربوش الأحمر (مثل شيوخ الأزهر) وذلك بهدف إضفاء نوع من القدسية والاحترام على روايتهم ويتبدى ذلك في اللغة التي يستخدمونها في رواياتهم حيث الاعتماد على تفصيح العامية  ويطلق عليها اسم : ” العامية المفصحة ” أو ” الفصحى المهشمة ” ، أما في الصعيد فهناك العمامة العربية والخاتم واللهجة البدوية ..

وفي الصعيد يشيع المربع بالأساس لأنه يتناسب وطبيعة الموضوعات التي تتعرض لها الرواية الجنوبية مثل قصص الحرب والثأر ، لذا فهناك  ميل إلى استخدام آلات موسيقية معينة لتناسب طبيعة الإيقاع الأكثر سرعة فيها وتعد الربابة أهم هذه الآلات ومعها الطبلة والرِّق (المظهر)  والبندير علما بأن البندير أو الرق قد حلا بدلا عن آلة الطار التي شاع استخدامها في الروايات القديمة في الصعيد.

الملمح الأهم في السيرة الهلالية هو تعدد الروايات لتلبية الانتماء القبلي .. مثلا في قنا حيث  قبيلة الأشراف يكون أبو زيد الهلالي هو البطل لأن أمه هي خضرة الشريفة وأخواله من قريش بينما في مناطق قبائل هوارة والزغابة يصبح دياب بن غانم هو البطل والذي كان في السيرة يقود تحالف قبائل الجنوب واليمانية ، وفي  دندرة ومنطقة القلعة وما يحيطها في مركز قفط يفضلون الزناتي خليفة حيث قبائل الأمارة وحلفائهم من زناتة ..

وفي الصعيد ظل الجمهور هناك يفضل الاستماع إلى قصص اللقاء والحرب والثأر مثل حرب الزناتي مع أبي زيد و قتل دياب للزناتي وقصص الأيتام وأولاد هولة ، أما في الوجه البحري لم يبق منها سوى قصص الحب والرومانسية التي تغذي روح العاطفة والحب وتراجعت من السيرة الهلالية قصص الحروب لصالح قصص العشق والغرام وأهمها قصة عزيزة ويونس التي صارت مصدر إلهام لبقية قصص الحب في الدلتا ..

ويونس هو ابن السلطان حسن الهلالي وخاله هو أبو زيد الهلالي وقد وقع في حب الأميرة عزيزة بنت السلطان معبد حاكم تونس والمعروفة بلقب (السفيرة عزيزة) بالإضافة إلى قصة حب بين أخيه مرعى وسعدى ابنة الزناتي خليفة وأخيه يحيى ومي الهلالية ، ويقول الدكتور شوقي عبد الحكيم إن القصة قد انفصلت في زمن مبكر عن جسم السيرة الهلالية وصارت تحكي قصة الفرسان النجديين الثلاثة ..

ومن المعلوم أن منطقة وسط الدلتا كانت مستقرا لخليط كبير من القبائل العربية والبربرية ولعل هذا هو السبب في انتشار هذه السيرة بشكل مستقل حيث تجاوزت الصراعات التقليدية بين الطرفين وانتصر الحب في النهاية عندما تزوج يونس من عزيزة وصحبته في حروبه وانتقلت معه إلى الأندلس ، وهي دلالة رمزية على فكرة التعايش المشترك والاتحاد بدلا من العداوة مع الإشارة الخفية للأندلس التي كانت تضيع بالتدريج ..

وقد أشار ابن خلدون إلى أن السيرة الهلالية كانت شائعة قبله بعدة عقود حيث أورد أشعارا تنسب إلى أحفاد بني هلال ويرجح إدوارد لين أن تدوينها كان بعد القرن الثالث الهجري وأنها كانت تتكون في زمنه من عشرة أجزاء أو أكثر من الحجم المربع الصغير ، ويقسمها شعراء السيرة (الرواة) إلى أربعة أقسام هي مواليد الأبطال وثانيتها الريادة وثالثها التغريبة وأما الرابعة فهي الأيتام ، ودائما ما يضرب بها المثل فيقال : ” سكة أبو زيد كلها مسالك ” أو يقال : ” كأنك يا أبو زيد ما غزيت ” ..

أبطال من العصر الجاهلي

يقول الكاتب الكبير الأستاذ خيري شلبي في تقديمه لكتاب سيرة فارس اليمن الملك سيف بن ذي يزن : ” ولقد عاشت هذه السير طوال الأزمنة الماضية وحتى الآن لأنها تحمل في مكوناتها إمكانية البقاء إنها ليست مجرد وقائع وأحداث شائعة مثيرة تنجح في تفريغ طاقة الشر عند بعض الناس إنما هي منظومة من القيم الأخلاقية العظيمة تزرع في نفوس الأجيال قيم البطولة والنبل والفروسية وتكرس لارتباطهم بالوطن والقوم فهي إذن تعتبر سجلا للوجدان الثقافي الشعبي مصاغا في أجمل صورة “.

ويقول أيضا في المقدمة إن هذه السيرة هي الأكثر انتشارا في التراث الشعبي للصعيد بعد السيرة الهلالية ويعزو سبب ذلك إلى أن قبائل بني هلال كان لها تغلغل في الصعيد منذ العصر الفاطمي .. ومن وجهة نظري فإن وجود هذه السيرة كان لازما لإحداث التوازن بين الجذرين الكبيرين للعرب وهما عدنان وقحطان حيث كانت الحرب مستعرة طوال العصور الوسطى بين القيسية واليمانية في الحجاز والشام ومصر والمغرب العربي والأندلس وصار لكل منهم موروثه الشعبي الذي يحكي تاريخه  ..

وعندما صار للعرب القيسية ملحمة تحكي رحلة واحدة من أهم قبائلها تحتم على العرب اليمانية وهم الأغلبية في صعيد مصر أن يكون لهم ملحمة تستعيد أمجادا قديمة من خلال قصة الملك معديكرب بن السميفع أشوع الحميري والذي عرف عند العرب باسم سيف بن ذي يزن والذي قاد حركة تحرير اليمن من الاحتلال الحبشي .. وقد دارت وقائع تلك الحرب قبيل ظهور الإسلام وانتهت بانتصار العرب ودخول الملك مظفرا إلى قصر غمدان بصنعاء في يوم مشهود حيث وافته وفود العرب للتهنئة  ..

وغالبية قبائل الصعيد تنحدر من عرب الحجاز ذوي الأصول اليمنية وعلى رأسهم بلي وجهينة القضاعية التي تنسب نفسها إلى حمير .. ولازالت أسماء بعض العشائر والقرى تشير إلى هذا الارتباط ومنهم الصوامعة في كل من طهطا وأخميم بسوهاج وفرشوط ونجع حمادي بقنا .. والصوامعة تحريف عن الصوانعة أي المجاورين لصنعاء حيث يوجد في محافظة البيضاء اليمنية مدينة تحمل نفس الاسم وهو الصومعة وكذلك في منطقة تبوك يطلق على إحدى عشائر البركات البلوية اسم الصوامعة ..

أما سيرة عنترة بن شداد فقد اشتهرت بسبب انتقالها إلى عالم الأدب المقروء والمسموع والمرئي حتى صار الجميع يعرف بطولاته وحبه الكبير لابنة عمه عبلة والتي صارت من أيقونات القصص الغرامية ، لكن السيرة الشعبية الأصلية لا تكتفي بسرد ذلك فقط وإنما هي في الحقيقة مدونة كاملة لتاريخ القبائل العربية وحروبها وأنسابها تقع في ثمانية مجلدات كبيرة يبلغ مجموعها قرابة أربعة آلاف صفحة ..

ولذا تستهل السيرة بعد المقدمة المعهودة بقول الراوي : ” أما بعد .. فاسمع أيها السامع ما كان من أحاديث العربان وما جرى بين يعرب وقحطان وفزارة وذبيان وعبس وغطفان وأولاد معد بن عدنان وما كان لهم في سالف الأزمان وما كان بين أولاد نزار كانوا أربعة وهم مضر وربيعة وإياد وأنمار … إلخ ” ، ثم يستطرد في وصف كل قبيلة وفروعها وراياتها ونسبها والتوزيع الجغرافي لها  ..

والسيرة تحوي العديد من التفاصيل والمعلومات والحكايات الفرعية وتجهد القارىء عند قراءتها لكن في الحقيقة أنها على مدار مئات السنين في مصر وغيرها من البلاد لم تكن معدة للقراءة وإنما ليرويها الرواة والمنشدون على الربابة وتسمع على هيئة مواويل وقصائد تلقى في المقاهي والمنازل والاحتفالات والمناسبات الاجتماعية المختلفة وهي الصورة الفنية التي كانت متاحة في تلك العصور  ..

وكانت سيرة عنترة تحتاج إلى رواة متمكنين لأن السيرة تمزج بين النثر والشعر باللهجة البدوية يتخللها قصائد كاملة باللغة العربية الفصحى وهي تلك التي تحوي قصائد عنترة بن شداد الأصلية حيث لا يمكن للراوي أن يتجاوزها لأن البطل هنا كان واحدا من الشعراء الفحول ، وكذلك كانت فيها فترات توقف عن السرد ليدمج فيها الراوي بعضا من الحكم والمواعظ الأخلاقية والدينية  ..

وارتبطت سيرة عنترة بالعرب القيسية وهي قبائل هوازن وغطفان وسليم وفروعهم والتي منها قبيلة بني عبس وتضم كذلك بني سعد وبني عامر وبني هلال وبني نصر وبني كلاب وفزارة وفهم وعدوان وباهلة ومحارب ، وكان نزولهم مصر في أوائل القرن الثاني الهجري في الحوف الشرقي ومنه إلى الصعيد والبحيرة وليبيا ووسط الدلتا في المحلة والمنطقة المعروفة وقتها باسم جزيرة بني نصر ..  

وثالث الأبطال بعدهم الزير سالم هو اللقب الذي عرف به أبو ليلى المهلهل عدي بن ربيعة بن الحارث التغلبي المتوفي عام 531 م. وأخوه ملك العرب وائل بن ربيعة (كليب) وأخته فاطمة بنت ربيعة والدة امرىء القيس بن حجر الكندي أمير شعراء العصر الجاهلي وابنته ليلى هي والدة الشاعر والفارس عمرو بن كلثوم التغلبي صاحب المعلقة المشهورة والذي قتل ملك الحيرة عمرو بن المنذر ، وقد لقبه أخوه بلقب (الزير) لكثرة مجالسته للنساء وسالم اسم شهرة له كما عرف بلقب المهلهل لبراعته ورقته في الشعر وما أحدث فيه من مبالغات  ..

وقد ارتبطت قبيلة تغلب طوال تاريخها بالشعر والإمارة والفروسية معا فكان منهم الأسود بن عمرو بن كلثوم وهو شاعر مخضرم وحفيده كلثوم بن عمرو العتابي الشاعر والكاتب في بلاط هارون الرشيد والشاعر غياث بن غوث المعروف بلقب الأخطل والشاعر أبو فراس الحارث بن سعيد الحمداني صاحب الروميات والأمير مالك بن طوق العتابي مؤسس مدينة الرحبة والأمير سيف الدولة الحمداني حاكم حلب والأمير ناصر الدولة الحمداني قائد الجيوش المصرية في العصر الفاطمي  ..

وتروي السيرة قصة حرب البسوس بين قبيلتي بكر وتغلب انتقاما لمقتل كليب وتأخذ طابعا ملحميا عبر عدة أجيال وقد ظهرت في بادية الشام في القرون الثلاثة الهجرية الأولى حيث تحولت تلك الحرب المحدودة بين القبيلتين إلى حرب عالمية تبدأ وقائعها في دمشق التي يحكمها كليب وتنتهي بمقتل الزير سالم في صعيد مصر ، وقد نشأت السيرة في بادية الشام وسط القبائل العربية المهاجرة ومنها تغلب التي سكنت أعالي الفرات وحلب والثغور الشامية وأسست عددا من الإمارات  ..

وقد رويت سيرة الزير سالم كلها باللهجة البدوية بسبب طبيعة نشأتها تلك ثم انتقلت إلى مصر مع هجرات قبائل البادية في أعقاب الحروب الصليبية والمغولية حيث صارت السيرة مميزة لقبائل ربيعة التي تنتمي إليها تغلب وبكر وحنيفة وشيبان وضبيعة وأسد وعبد القيس وعنزة ، وقد نزلت على الفروع الأقدم التي سكنت صعيد مصر في القرن الثالث بحثا عن المعادن في منطقة العلاقي بين النيل والبحر الأحمر وتداخلوا مع البجا والنوبيين وأسسوا دولة بني كنز التي استمرت حتى عصر المماليك ..

وقد حظيت سيرة الزير سالم بمكانة عليا بين سائر السير الشعبية حيث نجد أن السيرة الهلالية تبدأ وقائعها بانتهاء سيرة الزير سالم حيث الجد الأكبر لقبيلة بني هلال هو واحد من أحفاد آخر أبطال حرب البسوس وهو بالطبع مخالف للحقيقة ، وتكرر نفس الأمر في سيرة الأميرة ذات الهمة حيث جدها الأكبر حفيد للملك كليب ويصبح اسمها فاطمة الكليبية بدلا من اسمها الأصلي فاطمة الكلابية في إصرار على استحضار صورة أبطال تغلب في المشهد ..

أبناء البادية

تعد سيرة الأميرة ذات الهمة أطول سيرة في التاريخ ، ذلك أن حجم مخطوطاتها المحفوظة بمكتبة المتحف البريطاني ومكتبة الدولة ببرلين في ألمانيا يصل إلى 23 ألف صفحة كما يقول الأستاذ شوقي عبد الحكيم في كتابه (سيرة الأميرة ذات الهمة) ، وتغطي أحداثها لحروب قارية متصلة لأربعة قرون بين العرب المسلمين من جانب والتحالف الأوروبي البيزنطي أو كما تسميه السيرة بالتحالف الرومي ..

وتبدأ أحداث السيرة في أزهى عصور الدولة الأموية من أول عبد الملك بن مروان مرورا بقيام الدولة العباسية وتنتهي أحداثها في عصر الخليفة الواثق برغم أنه يرد ضمن أحداثها وعلى لسان راويها ، وكانت السيرة تروى بتمجيد شديد على الخليفة الواثق وكان كثيرا ما يستوقف راويها مستفسرا عن أبطالها وأحداثها والتي تؤرخ لحياة وبطولات قبيلة عربية حكمت فلسطين والثغور ..

وفي ثنايا السيرة نلمح إشارات لا يمكن إغفالها مثل الانتساب للجد الأكبر كليب بن وائل التغلبي ومقتله على يد جساس وكذلك جاء على لسان البطلة أنها ستواصل الحرب ولن تستسلم للرومان مثل ملكة تدمر زينوبيا (الزباء) ، وذكر تولي أحفادها الإمارة في الشام ومصر والمغرب العربي والأندلس وربما ساهمت الدولة الحمدانية في الترويج لذلك حيث التشابه في الأحداث والشخصيات والجغرافيا ..  

يقول الأستاذ حمدي أبو جليل في دراسة بعنوان (الأميرة ذات الهمة تقود الرجال في معارك الشرف) : ” سيرة الاميرة ذات الهمة اطول ملحمة شعبية عربية جمعت من أفواه الرواة والشعراء الشعبيين على العظام والجلود وأقدم طبعاتها صدرت في ثمانية مجلدات الواحد منها يقرب من الألف صفحة ، وتناقلها الناس شفاهة منذ عهد الخليفة العباسي المعتصم وسمعها الخليفة الواثق كاملة ورويت قرونا في المجالس والمنتديات والمقاهي ..

وهي سيرة الشجاعة والإقدام والدفاع عن الشرف في التراث العربي وبطلتها فاطمة بنت مظلوم بن صحصاح وهي فتاة بدوية أصيلة ، في طفولتها وقعت في أسر قبيلة طيء وفي شبابها استردت ملك أبيها وجدها وخرجت على رأس الجيوش الإسلامية وتصدت للروم وطردتهم من الشام وجاهدت في حماية الخلافة من أعداء الخارج والداخل وواجهت الخيانة والنفاق والدسائس في بلاط هارون الرشيد وشاركت المعتصم في هزيمة الروم وفتح مدينة عمورية “· واشتهر عنها قولها : ” إن سيفي حجلي والغبار كحلي والحصان أهلي “.

وفي القرن الرابع الهجري اكتملت النواة الأساسية التي بنيت عليها سيرة حمزة البهلوان في ظل التنافس بين الثقافتين العربية والفارسية داخل الإطار العام للحضارة الإسلامية وذلك من خلال ملحمة أسطورية تتناول العلاقة بين العرب والفرس قبل وبعد الإسلام وما حدث من تأثيرات متبادلة مع الفتح الإسلامي وظهور عدد من الدويلات الإسلامية الفارسية جنبا إلى جنب مع الإمارات العربية في بادية الشام والعراق  ..

وجمعت السيرة في العصر الأيوبي في ستة مجلدات وتبلغ قرابة ثلاثة آلاف صفحة بعنوان (قصة الأمير حمزة الشهير بحمزة العرب) من تأليف أبي الحسن على بن الأثير الجزري الشيباني صاحب كتاب الكامل في التاريخ ، وابن الأثير ينتسب إلى قبيلة بني شيبان البكرية التي قادت جموع بني بكر بن وائل وعشائر ربيعة للانتصار الساحق على الفرس قبل الإسلام عام 604 م. في معركة ذي قار المشهورة ..

وبطل الملحمة هو حمزة بن إبراهيم وهو ابن أمير مكة الذي يقود الجيوش العربية ويتصف بكل صفات العربي القديم من الشجاعة والإقدام والكرم والمروءة والذي أطلق عليه كسرى أنوشروان لقب بهلوان ويعني في الفارسية البطل لكنه في ثنايا السيرة يعرف باسم حمزة العرب ، ونقلت السيرة إلى اللغة الفارسية وعرفت باسم حمزة نامه أي كتاب حمزة وجعلت منه قائدا فذا وبطلا منقذا للعرش الفارسي  ..

وتبرز في الملحمة شخصيات عدة من أهمها الملك النعمان حاكم إمارة الحيرة العربية والذي كان يلعب دور الوسيط بين العرب والفرس ، وتظهر شخصية عمر العيار المساعد الأهم للبطل وجاء من قلب العامة حيث عرفت طائفة العيارين والشطار في العراق والذين كانوا يسرقون الأغنياء ليطعموا الفقراء ، وشخصية الوزير الفارسي الحكيم بزرجمهر والذي كان يتبنى دوما فكرة التعاون البناء مع العرب  ..

أما البطلة والشخصية الأهم في الملحمة فهي ابنة كسرى الأميرة الجميلة والمثقفة والعاقلة والتي وقعت في حب الفارس العربي حيث تبدأ في مكاتبته وتبوح بحبها له وترغب في دخول الإسلام وتسعى للزواج منه وتعاهده على ذلك ، ويتبادل العاشقان أبيات الشعر الرقيقة التي تشبه رباعيات الخيام حيث ترمز الأميرة للحضارة الفارسية وسميت في الملحمة مهردكار والتي تعني في اللغة العربية شمس النهار ..

وكثير من السير الشعبية تم توظيفها لخدمة أغراض سياسية ومنها ملحمة غنائية بدوية قديمة عرفت في بادية الشام باسم ملحمة الملك فاضل أو سعد اليتيم ومنها انتقلت إلى مصر وبالتحديد في مناطق شمال الصعيد والفيوم والواحات  ، وتدور أحداثها حول صراع قبائلي تقليدي يتم حسمه عندما يرحل البطل سعد بن فاضل إلى مصر ويلتقي بالخليفة المعز لدين الله الفاطمي ويصبح من رجاله المخلصين  ..

وبظهور الخليفة المعز في منتصف الأحداث يتغير حال البطل فيحقق انتصاره وينتقم من أعدائه ويتزوج من حبيبته ويصبح من كبار القوم ، والقصة نفسها متكررة وتدور حول العم الخائن بدران الذي يقتل الأب فاضل ويجحد حق ابنه اليتيم سعد فتقوم أمه الأميرة فوز بإخفائه في الصحراء حتى يشب عن الطوق لكنه يقع في غرام ابنة عمه صبيحة ويبدأ رحلته في الحب والحرب مثل كل الأبطال ..

وقد رويت الملحمة الغنائية باللهجة البدوية وحدها لأنها نشأت بين عشائر الفضل والنعيم التي تتوزع مضاربها بين الجولان والأردن ويقدر عمرها بأكثر من ألف عام حيث ظهرت مع استيلاء جوهر الصقلي على بلاد الشام وضمها لحكم الفاطميين ، وتتميز الأغنية بتوزيع دقيق للكلمات بين المنشد والجوقة المرددة خلفه والتي أتيح لها سرد الحكم والمواعظ في الفواصل بين أبيات الحكاية الأساسية ..

وقد جعلت الأغنية من أبطالها أنفسهم رواة للشعر البدوي حيث جاء في أولها تنويه عن ذلك من خلال قول الراوي : ” كان الملك فاضل وبدران أخوه .. يحكو كلام كل العرب يسمعوه .. بكره نموت ومالنا ينهبوه .. راجل بلا خلفة قليل ذكرته ” ، وفي لحظة القتل يقول فاضل متأثرا  : ” كلام أقولكم عليه يا عرب .. تعا سندوني بس أنا أحدثه .. تعا سندوني بس أنا أكلمه .. أقوللو كلام إياك يسمعو ” ..

وقد انتقلت الأغنية إلى مصر مع العشائر البدوية التي اندفعت إلى مصر هربا من الحروب الأهلية في القرن الخامس الهجري ثم الحروب الصليبية والمغولية في العصور التالية وتكرس لفكرة الأخذ بالثأر بل والترويج لها وتوفير المبرر الأخلاقي لتنفيذها وكذلك تمجد البطل الذي استطاع في النهاية تحقيق هذا الهدف ، وهكذا احتلت الملحمة مكانتها وسط التراث الغنائي الشعبي في الريف المصري ..

بين بغداد والقاهرة

جزء كبير من مخزون القصص الشعبي في ثقافتنا المصرية يرجع إلى التحفة الخالدة كتاب ألف ليلة وليلة مثل حكايات علاء الدين والمصباح السحري وعلي بابا والأربعين حرامي والسندباد البحري ورحلاته السبعة ، وأقدم مخطوطة لها باللغة العربية ترجع إلى القرن الثالث عشر الميلادي حيث تم تجميع مئات القصص والحكايات والتي ترجع في أصولها الأولى للثقافة الفارسية والهندية ..

وبعد قيام الدولة العباسية نشطت حركة الترجمة وتمت إعادة صياغة الحكايات باللغة العربية في إطار الثقافة الإسلامية وإضافة قصص جديدة لم تكن موجودة من قبل حيث صار الخليفة هارون الرشيد ووزراؤه من أبطال القصص وتكونت (المجموعة البغدادية) والتي تشمل أحاديث الغرام ومجالس السمر وفيها حكايات مثل علي بن بكار وشمس النهار وحكاية أنس الوجود والورد في الأكمام  ..

ثم انتقلت إلى مصر في منتصف القرن الخامس الهجري حيث يذكر المَقَّري في كتابه نفح الطيب إلى أن ابن سعيد الأندلسي الغرناطي المتوفى سنة 685 هـ. يذكر في كتابه المحلى بالأشعار ما يدل على أن كتاب ألف ليلة وليلة كان شائعاً ومعروفاً في مصر في القرن السادس الهجري أي في زمن الأيوبيين ، وتضم حكايات جديدة تم تأليفها في بلاد الشام ومصر تميل إلى الخيال بدون حدود  ..

ومن هذه الحكايات : جودر التاجر وإخوته  ـ مسرور التاجر مع معشوقته زين المواصف ـ علي شار مع زمرد الجارية ، وهي جميعا تدور حول فكرة عالم الجن والطلاسم والسحر ، وفي العصر المملوكي تمت إضافة قصص حول الزهاد واللصوص مثل حكايات كل من : معروف الإسكافي  ـ أبو قير وأبو صير ـ مدينة النحاس ـ علي الزيبق ودليلة المحتالة  ـ زينب النصابة ـ  الرجل الصعيدي وامرأته الإفرنجية ..

وتحاول شهرزاد أن تعلم الملك شهريار الرومانسية المفقودة عنده من خلال حكايات الغرام ومنها حكاية الأمير قمر الزمان وحبيبته بدر البدور التي أرسل لها قائلا : ” ولقد ندمت على تفرق شملنا .. دهرا وفاض الدمع من أجفاني .. ونذرت إن عاد الزمان يلمنا .. لا عدت أذكر فرقة بلساني .. هجم السرور علي حتى أنه .. من فرط ما قد سرني أبكاني .. يا عين صار الدمع منك سجية .. تبكين من فرحي ومن أحزاني ” ..

وفي عام 444 هـ / 1052 م. حدثت في بغداد اضطرابات سياسية ومذهبية تسببت في إنهاء حكم البويهيين وبداية حكم السلاجقة ، وأثناء هذه الفوضى حدث انهيار للسلطة في عاصمة الخلافة العباسية لكن واحدا من زعماء العيارين يدعى علي الزيبق تمكن من السيطرة على الأمور وضبط الأسواق لفترة مؤقتة وتمتع بشعبية لافته بين العامة حيث روي عن طائفة العيارين والشطار احترافهم للسرقة لكن من الأغنياء ليعطوها الفقراء ..

وجاءت حكايات العيارين في كتابات المؤرخين حيث يشير المؤرخ عز الدين ابن الأثير في كتابه الكامل في التاريخ إلى أن علي الزيبق قد تمكن من الاستيلاء على السلطة في بغداد وجباية أسواقها فقد ذكر في حوادث سنة 444 هجرية قوله : ” وفيها حدثت فتنة بين السنة والشيعة في بغداد وامتنع الضبط وانتشر العيارون وتسلطوا أي تولوا السلطة وجبوا الأسواق وأخذوا ما كان يأخذه أرباب الأعمال وكان مقدمهم الطقطقي والزيبق  “.

ودونت حكايات علي الزيبق وبطولاته في رواية ألف ليلة وليلة تحت عنوان : ” حكايات علي الزيبق وأبوه حسن راس الغول وما جرى لهما مع دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة ” ،  وكانت الدكتورة سهير القلماوي في دراستها (ألف ليلة وليلة ـ دراسة وتحليل) قد أشارت إلى وجود أبطال السيرة فيها وهم علي الزيبق وحسن راس الغول وفاطمة الشريفة وكذلك المجوس عباد النار دليلة المحتالة وابنتها زينب النصابة وسنقر الكلبي وغيرهم ..

وعندما انتقلت كتابات ألف ليلة وليلة إلى مصر تمت إعادة صياغة القصة لتدور أحداثها بين بغداد والقاهرة وتغيرت أسماء الأبطال حيث صارت والدته هي فاطمة الفيومية وزعيمة المجوس دليلة العراقية المحتالة وصار سنقر الكلبي هو مقدم درك السلطنة ، وأضيف إليها شخصية أحمد الدنف وهو لص له حكايات في فن السرقة يطول شرحها أعدم بأمر قايتباي عام 891 هـ وأقيم له مولد سنوي بالقاهرة كما ذكر ابن إياس وابن تغري بردي .. 

ورويت السيرة شفاهة في العصر العثماني حيث كانت تحمل دلالات سياسية واعتراض مبطن على الأحوال المعيشية والفساد المستشري للأمراء ، وحفلت بالكثير من العبارات العامية والمبتذلة والخادشة للحياء وكلمات السباب الشعبية الدارجة ، وقد جمعت كتابة في القرن التاسع عشر تحت عنوان : (كتاب قصة المقدم علي الزيبق الذي تفرد بالشطارة والعياقة على جميع من تقدم وسبق .. تأليف الكامل الحافظ أحمد بن عبد الله المصري) ..

أما سيرة الظاهر بيبرس فتبدأ أحداثها بسقوط بغداد لكنها تختلف عن بقية السير العربية في كون أحداثها تدور في مصر بالأساس وبأن بطلها هو سلطان ومصر وحاكمها الأشهر الملك الظاهر ركن الدين بيبرس البندقداري وهو شخصية تاريخية وله دور حاسم في تأسيس دولة المماليك وتحقيق الانتصارات الكبرى المعروفة ضد الصليبيين والمغول ، وارتبطت منذ يومها الأول بالقاهرة عكس باقي السير التي نشأت في مضارب القبائل العربية في الدلتا والصعيد ..

وهي من السير التي يعرف كاتبها على وجه التقريب حيث خرجت إلى النور بتدبير أحد المماليك وهو عبد الله بن أيبك الداواداري المتوفي 713 هـ. واستعان فيها براوية محترف من شعراء السير الشعبية وهو ابن الديناري وجمع فيها المعلومات الأساسية من ثلاثة آخرين هم كاتب السر وناظر الجيش والصاحب (الوزير) ، وتكفل بنشرها قصاصون محترفون أطلق عليهم الظاهرية وسميت مجالسهم باسم المقاهي الظاهرية ..

ويبدو أنها كانت محاولة من المماليك لمنافسة القبائل العربية في التغني بأبطالهم القدماء من الفرسان والشعراء وتخليد بطولات المماليك في ظل الصراع الشرس بين العرب والمماليك طوال فترة حكمهم ، ورغم ذلك فإنها ظهرت باللغة العربية وليس بلغات المماليك بل وتم تعريب الشخصيات بحيث أصبح اسم البطل محمود بيبرس وأمه بالتبني هي الملكة فاطمة شجرة الدر ووالده بالتبني هو الملك الصالح نجم الدين ..

وحفلت السيرة الظاهرية في محتواها بالعديد من الأمثال الشعبية الدارجة وكذلك عدد من العوام من أنصار بيبرس منهم جمال الدين شيحة صاحب (ملاعيب شيحة) وبراعته في التنكر وتقمص الشخصيات وسليمان الجاموس وعثمان بن حبلة السايس وإبراهيم الحوراني بطل العدو وأولاد إسماعيل الفداوية ، وذلك في مقابل أعدائه من الصليبيين وهم أبو الشر وسرجويل المهري وعقيرب وظنيط والعايق عكرتر وحبظلم بظاظا ..

وقد نجحت عملية تحويل بيبرس تحديد إلى بطل شعبي دون بقية الحكام في زمنهم بما فيهم صلاح الدين الأيوبي وسيف الدين قطز وغيرهم لأن بطولات بيبرس كلها حدثت وهو فارس مقاتل وقبل أن يكون في سدة الحكم حيث كانت معاركه الأهم وهي المنصورة وعين جالوت قبل توليه السلطنة وكانت له مواقف مشهودة بالجرأة والشجاعة والقوة والمروءة تجذب له البسطاء ويتحاكى بها الناس فكان بطلا من البداية إلى النهاية ..