
1 / الطلاب في مدرسة السياسة
عندما تغيب المعلومات تبدأ التحليلات السياسية الساذجة ونظريات المؤامرة في الظهور .. ويبدو أن ما حدث في أفغانستان كان مفاجأة كبيرة لمن لا يتابع الأخبار العادية منذ سنوات .. نعم هناك تحول كبير حدث في مسار الأحداث عندما طرأ تغيير هام على حركة طالبان بإنشاء (المكتب السياسي) ليدخل الطلاب أخيرا مدرسة السياسة من بابها الواسع ويتعلموا على يد أستاذ قدير أدار المشهد بذكاء واقتدار ..
تواصل المكتب السياسي مع الجميع .. مع روسيا حيث قبلت بوساطتها ورضيت بوجود دور لها في الأزمة .. ومع الصين حيث التعهد بضبط الحدود وألا تكون الحركة مصدر إزعاج لها بالوكالة .. مع إيران حيث التعهد بضمان حرية الأقليات الشيعية من الهزارة وغيرهم .. مع تركمانستان حيث ضمان سلامة خط الغاز الحيوي الذي يصل بين الهند وجمهوريات آسيا الوسطى ..
وبالطبع كانت محادثات الدوحة مع الجانب الأميركي قد بدأت مبكرا بعد أن أدركت الإدارة الأمريكية أن نوعية السلاح في المعركة قد تطور وبات مع الطلاب مضادات الدروع والطائرات ومدافع الميدان .. ويبدو أن الإدارة الأمريكية قد عرفت أن جهة ما قررت استنزاف الجيش الأمريكي هناك على غرار ما حدث للاتحاد السوفييتي سابقا فقررت الخروج من المستنقع بأقل الخسائر ..
ومنذ سنوات والحركة تتمدد في نطاق قبائل البشتون (وهي الحاضنة الطبيعية لها والتي تشكل أكثر من نصف سكان البلاد) ولذا جاء التحرك الميداني الأخير مستندا إلى قاعدة شعبية ولم يعد هناك إلا مناطق الشمال التي يسكنها الطاجيك والأقليات التركمانية والأوزبكية والتي سقطت دون إراقة الدماء حيث فضل قادة الأقليات مغادرة البلاد ورضي قادة الجيش بنفحات مالية من الملا برادر ..
والحقيقة إن (العيال كبرت) فعلا فلم يدخلوا كابول مثل دخولهم الدموي العنيف أول مرة منذ ربع قرن وإنما كان دخولا سينمائيا ترصده عدسات الفضائيات خاصة مشهد طي العلم .. ومع قرارات العفو الشاملة والتواصل مع تركيا لتأمين المطار يسدل الستار مؤقتا على المشهد الأول الذي تم بنجاح .. وربما يجلس شخص ما في إسلام آباد في مكتب لاعب الكريكيت السابق يبتسم سعيدا بكل ما حدث ..

2 / حكومة من العالم الثالث
عشرون عاما كاملة مرت منذ سقوط حكم طالبان وعودتها مرة أخرى .. وهي فترة زمنية كافية جدا لإعادة بناء أي دولة وانتشالها من هوة الفقر والجهل والمرض والظلم .. لكن الحكومة الأفغانية المدعومة من الغرب لم تفعل ذلك وإنما فعلت مثلما تفعل كل حكومات العالم الثالث ..
عشرون عاما أنفقت فيها أفغانستان على التسليح وزيادة القدرات العسكرية فقط حتى صار تعداد الجيش الأفغاني ثلاثمائة ألف مقاتل مسلحين بأحدث الأسلحة الأميركية وأفضل التقنيات الغربية .. وبالطبع كان متخصصا في العروض العسكرية وفشل عند أول اختبار حقيقي على أرض الواقع ..
عشرون عاما كانت كافية لعمل نهضة تعليمية جبارة في البلاد حيث تبني جيلا جديدا بأفكار بناءة .. كانت كافية لبناء جامعة جديدة في كل مدينة أفغانية ومئات المدارس في القرى والبلدات الصغيرة .. كانت كافية لعمل منظومة صحية متكاملة ومخطط شامل للرعاية الاجتماعية والتوعية والتأهيل ..
عشرون عاما كانت كافية لإنشاء مؤسسات خدمية وإنتاجية جديدة وبنية تحتية ومرافق في كل البلاد بما يحقق الرضا الشعبي عن الحكومة وتبعيتها للغرب .. لكن الحكومة الأفغانية لم تفعل ذلك وإنما سارت في نفس طريق حكومات العالم الثالث حيث الفساد والمحسوبية واحتكار الثروات وسوء التخطيط ..
عشرون عاما كانت تكفي لبناء نظام سياسي حداثي مستقر ومنظومة قضائية عادلة ونهضة اقتصادية شاملة على مستوى الإنتاج وتوفير وظائف العمل للشعب الفقير خاصة وقد كانت تلك الحكومة مدعومة من كل دول العالم الكبرى وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأمريكية ..
عشرون عاما كانت تكفي لبناء منظومات إعلامية متطورة .. كانت كافية للإصلاح الاجتماعي والارتقاء الثقافي والوقوف على أول الطريق الصحيح .. لكن بدلا من ذلك اكتفت الحكومة الأفغانية بتجنيد العملاء للاحتلال ثم تركتهم يتعلقون في إطارات الطائرات الأمريكية ساعة الفرار المحتوم ..

3 / القوة والسياسة
مشهد دخول القصر الرئاسي في كابول سوف يظل ماثلا للعيان فترة طويلة بما له من رمزية تجمع بين القوة والسياسة .. فقد شهدت أفغانستان تطورا مثيرا للأحداث لعبت فيه الدوائر السياسية دورا واضحا لكنه بالطبع جاء بعد أن فرض المقاتلون قرارهم على أرض الواقع بالقوة المسلحة .. وأصبح منتهى أمل صناع القرار في العالم أن تنشأ في البلاد حكومة تشاركية تستوعب كافة المكونات الاجتماعية والسياسية وألا تكون قاصرة على الطرف صاحب القوة ..
ولا شك أن هذا المشهد سوف يلقي بظلاله على الوطن العربي الذي مرت فيه المعارضة السياسية خاصة الإسلاميين بتجربة مختلفة كانت مدفوعة فيه بمسارات العمل السياسي والمشاركة في الانتخابات والاندماج في الدولة الحديثة والقبول بالإطار الديموقراطي وهو الأمر الذي نادت به مراكز الأبحاث الواعية في نظرة واقعية مجردة .. لكن هذه التجربة قدر لها أن تصل إلى طريق مسدود وأن تنتهي إلى الخروج من المعادلة بإجراءات غير ديموقراطية ..
وفي أعقاب الربيع العربي وما تبعه من أحداث بدأت الدوائر الثقافية ونشطاء وسائل التواصل الاجتماعي في الترويج لفكرة أن الديموقراطية لا تصلح لشعوبنا لأن المواطنين في نظرهم كتلة من السذاجة والبلاهة لا يحسنون الاختيار وسوف تنتهي أي انتخابات بتقدم الإسلاميين ويرون في ذلك تعارضا مع قيم المدنية والحداثة وليس اختيارا حرا من الناس مبنيا على حقهم في التمثيل النيابي العادل مقابل الضرائب التي تشكل النسبة الأكبر من موارد الميزانية ..
ولا شك أن تلك الآراء تصب في صالح الأنظمة السياسية التقليدية التي تروج لفكرة الاستقرار وشمولية الحكم على حساب الحقوق والحريات وتحول بعض المثقفين إلى أبواق تهاجم معتقدات الأغلبية .. وتماهيا مع ذلك رأى بعضهم ضرورة الإبعاد الكامل للإسلاميين من الحياة السياسية وتمادى بعضهم فطالب بإقصائهم من الحياة وحرمانهم من أي حقوق بل وتعدى ذلك إلى خلط المتطرفين بالمعتدلين بالمتدينين عموما ووضع الجميع في كفة واحدة ..
ويظن المثقفون خطأ أنهم يسيرون في طريق القضاء على الرجعية بينما هم في الحقيقة يبثون في الوجدان الجمعي فكرة تعتمد على التكريس للشمولية والقمع .. وخطورة هذا الأمر تتمثل في شيطنة فكرة التغيير السلمي عند قطاعات واسعة من الناس خاصة الأجيال التي لم تشهد الربيع العربي وما قبله من أحداث وتفاعلات وهو ما يكرس تلقائيا لفكرة حسم الصراعات بالقوة في الوقت الذي تتطلع فيه العيون المشدوهة إلى مشهد القصر الرئاسي في كابول ..

4 / منظمة التعاون الاقتصادي
عانت أفغانستان كثيرا من تدخلات القوى العظمى في شأنها الداخلي على مدار سنوات طويلة وكأنها في معزل عن محيطها الإقليمي .. ويبدو أن دول المنطقة قد أصابها عناء من تلك التدخلات التي تضر بأمنها القومي وتعرض الإقليم كله للخطر .. ولا يمكن قراءة الأحداث الأخيرة بعيدا عن إرادة كل من باكستان وإيران وتركيا ودول آسيا الوسطى حيث تعاونت جميعا لأول مرة منذ زمن طويل لإعادة رسم المشهد السياسي بما يوافق إرادتها وسياستها ..
في عام 1985 م. نشأت منظمة التعاون الاقتصادي (ECO) من ثلاث دول هي باكستان وإيران وتركيا ثم انضمت إليهم أفغانستان وأذربيجان وجمهوريات آسيا الوسطى الخمس (أوزبكستان وكازخستان وتركمانستان وطاجيكستان وقرغيزستان) .. وكان الهدف الأول من المنظمة هو التعاون في المجال التجاري والاقتصادي .. وتوجد الأمانة العامة والقسم الثقافي لها في العاصمة الإيرانية طهران ويوجد المكتب الاقتصادي في تركيا بينما المكتب العلمي في باكستان ..
وجميع هذه الدول متصلة مع بعضها جغرافيا حيث تشغل جميعا مساحة مرتفعة من الأرض تضم هضبة الأناضول والهضبة الإيرانية والهضبة الآسيوية وجبال الهندوكوش .. وتمتد من حوض نهر السند وجبال الهيمالايا شرقا وحتى بحر إيجة وجبال زاجروس غربا ومن سهوب سيبيريا والقوقاز شمالا وحتى الخليج العربي والمحيط الهندي جنوبا .. ويسكنها نصف مليار نسمة من الشعوب التركية والإيرانية والتي توحدت قديما تحت حكم الفرس ثم المسلمين ثم المغول ..
وتحيط بهذا التجمع من الناحية السياسية كل من الصين في الشرق والهند في الجنوب وروسيا في الشمال وأوروبا والوطن العربي في الغرب .. ورغم أن الرابطة كان هدفها اقتصاديا بحتا في أول الأمر إلا أن هدفا مشتركا ظهر بعد ذلك وهو تحرير هذه المنطقة من أي تأثيرات خارجية سلبية والتوجه تدريجيا نحو الاتحاد على غرار الاتحاد الأوروبي ورابطة الآسيان وذلك بعد تصفية الخلافات الحدودية والمشكلات العرقية بين الدول العشر الأعضاء ..
ورغم العقبات التي اعترضت طريق المنظمة في العقود الماضية إلا أن رغبة ملحة عند الدول الكبرى الثلاث فيها (باكستان وإيران وتركيا) بدا واضحا للعيان من خلال الأداء السياسي الحالي الذي بات يعتبر هذه المنطقة وحدة واحدة ويسعى لحل مشكلاتها والنهوض بها على المستوى السياسي والثقافي والاقتصادي والأهم من ذلك كله القضاء على أي نفوذ من خارج المنطقة أو أي تهديدات لأي دولة من الدول الأعضاء في تلك الرابطة الواعدة ..

5 / الإرث الامبراطوري
في عام 1994 م. وأثناء احتدام المعارك في البوسنة والهرسك عزف كثير من زعماء الدول الإسلامية عن إجابة دعوة الرئيس بيجوفيتش لزيارة سراييفو دعما لقضيته بسبب عدم القدرة على تأمين أي زيارة رسمية تحت القصف المتواصل .. وجبن الرجال من أصحاب الشوارب التي تقف عليها الطيور الجوارح وجلهم من الجنرالات أصحاب النياشين والأوسمة التي تزين صدورهم في المناسبات ..
فقط امرأتان امتلكتا وقتها الشجاعة والجرأة وقاما معا بزيارة مشتركة للبلاد وهما السيدة بي نظير بوتو رئيسة وزراء باكستان والسيدة تانسو تشيللر رئيسة وزراء تركيا .. ولم يكن الدافع لذلك قوميا حيث لا يوجد رابط بينهما وبين البوشناق السلاف في البوسنة ولا هو أيضا دافع ديني لأن نظام الدولتين آنذاك كان علمانيا بعيدا عن الأفكار الإسلامية لكنه كان ذلك الشعور العام بالإرث الامبراطوري ..
وقد رفضت أوروبا أن يلحق بهم وفد من إيران حيث كانت الدول الثلاث (باكستان وإيران وتركيا) تسعى للتواجد على المسرح العالمي وكل منهم يحمل في داخله فكرة العودة الامبراطورية فقد كانت الدول الثلاث جزءا من دول تاريخية لها ثقل سياسي وعسكري وهم دولة المغول في الهندوستان والدولة الصفوية في إيران والقوقاز والدولة العثمانية في الأناضول والبلقان والوطن العربي ..
ومنذ عام 1985 م. أدركت الدول الثلاث أنه يجب عليهم العمل معا لاستعادة المجال الحيوي لكل منهم ولذا رأينا تدخل باكستان في أفغانستان ودور تركيا الداعم مع أذربيجان ضد أرمينيا والروابط بين إيران وطاجيكستان بسبب الانتماء العرقي .. ثم بذل الجميع جهودا في مد جسور التواصل الاقتصادي والثقافي مع جمهوريات آسيا الوسطى بعد تحررها من قبضة الاتحاد السوفييتي ..
وتلعب أوزبكستان دورا مركزيا في محيطها حيث مركز الثقل السكاني والسياسي ولها أيضا إرث امبراطوري من زمن خانات طشقند وخوارزم وبخارى وسمرقند .. ولا شك أن دولا كثيرة تعيش على إرث الماضي منها فرنسا التي تحكم أفريقيا فعليا وكذلك انجلترا التي تحكم اسميا أقاليم عدة في الكومنولث .. وليس من العجيب أن تسعى تلك الدول لإحياء أمجادها بالدخول إلى النادي النووي ..

6 / الدول العظمى
الدول العظمى هي تلك الدول التي تملك قوة عسكرية واقتصادا قويا وموارد للصناعة وتقنية حديثة معا (وتنحصر في أمريكا وروسيا الصين وبعض دول أوروبا الغربية) .. وهذه الدول تتعامل مع باقي دول العالم باعتبارها جزء من مجالها الحيوي خاضعة لتقاسم النفوذ ..
الدول العظمى لا تملك قدرات إلهية ولا تقول للشيء كن فيكون كما يظن البعض ويمكنها أن تتعرض لهزائم قاسية أو مناوشات مستمرة من دول مشاغبة .. ولدينا نماذج معروفة مثل كوبا وفيتنام مع أمريكا والشيشان مع روسيا وتايوان مع الصين وأخيرا أفغانستان ..
الدول العظمى تملك استخبارات محترفة لكنها لا تملك مهارات أسطورية والحقيقة أن معظمها يعتمد على وسيلة واحدة للحصول على المعلومات وهي التعذيب الجسدي بشتى الوسائل وليس مثلما يروج الإعلام على طريقة جيمس بوند وأدهم صبري ورامبو وهوليوود ..
الدول العظمى لا تهتم كثيرا بالحقوق والحريات ولا حتى حياة الناس في الدول الصغيرة وكل ما يهمها هو المصالح وموازين القوة .. ربما الصين وروسيا نظم شمولية واضحة التوجه لكن أيضا أمريكا وأوروبا تفتح ملف حقوق الإنسان لابتزاز الحكومات فقط ..
الدول العظمى تحترم القوة فقط وتخشاها ومثال ذلك تعاملهم مع كوريا الشمالية التي تمتلك السلاح النووي .. ولا يعني ذلك أن القوة المسلحة وحدها هي العامل الراجح بل يجب أن يكون معها السياسة والذكاء أيضا .. وأحيانا تكون السياسة في اللعب على المصالح المتناقضة ..
الدول العظمى هي دول اتحادية عملاقة أساسا لكنها تفضل أن تكون باقي دول العالم مفتتة ومقسمة وأن تظل المنظمات الإقليمية الوحدوية هامشية وصورية (مثل آسيان في جنوب شرق آسيا وسيلاك في أمريكا اللاتينية وجامعة الدول العربية والاتحاد الأفريقي وغيرها) ..
الدول العظمى تحتكر القوة والثروة لكن ليس للأبد .. ولعل نجاح الهند وباكستان في الحصول على السلاح النووي يفسر كثيرا من الأحداث التي لم تكن محتملة في الماضي .. الجميع يسعى للقوة والاتحاد ولن يبقى في فلك التبعية إلا من يصر على البقاء ضعيفا ومعزولا ..

7 / اللعب مع الكبار
واهم من يظن أن مجموعة طلاب من ميليشيات قبلية قامت وحدها بالتصدي لجيش نظامي تدعمه قوة عظمى بكل ما لها من جيوش وأموال .. وإنما الحقيقة أنهم فقط مخلب القط الظاهر في العلن بينما الصراع أكبر وأعقد من هذا بكثير .. ولا شك أن (حبايب أمريكا) في كل مكان قد امتدت أصابعهم إلى الأماكن الملتهبة لتزيدها اشتعالا .. وهذه هي طبيعة المنافسات بين القوى الكبرى ..
وطوال عشرين عاما كانت الهند تدعم الحكومة الأفغانية العميلة بالمليارات نكاية في جارتها اللدودة باكستان حتى تجعل من أفغانستان شوكة في خاصرتها وهو ما رأت فيه باكستان تجاوزا لكل الخطوط الحمراء والخضراء وبقية الألوان لذا قررت الدفاع عن أمنها القومي بكل الوسائل والسبل وأن ترسل رسالة للجميع أن الحياة بعد امتلاك النووي ليست كما كانت في زمن التبعية ..
وربما كانت كلمة السر تكمن في قبائل البشتون وهي عشائر إيرانية عريقة في القدم تقطن أساسا حوض نهر السند (وتشكل إحدى العرقيات الأربع المكونة لدولة باكستان بالإضافة إلى البنجاب والسند والبلوش) وتمتد لتشغل الجزء الجنوبي من أفغانستان .. وتعدادها في باكستان ثلاثة أضعاف أفغانستان لكنهم في الأولى أقلية وفي الثانية أغلبية بسبب فارق عدد السكان الكبير بين البلدين ..
ولا يمكن أن يتحقق تغيير في موازين القوى على الأرض إلا بتكاتف مجموعة من العوامل منها تعاون دول الجوار وحسن الإدارة السياسية والاتفاق الضمني مع قوى كبرى أخرى دولية أو إقليمية لتمهيد الطريق أمام تلك القبائل لصناعة ذلك المشهد الذي نقلته عدسات الفضائيات .. وسوف يقترن نجاح طالبان بعد ذلك في الاستمرار على مدى التزامهم بتعليمات إسلام آباد ..
ولا شك أن الحكومات المتعاقبة في باكستان على اختلاف أنواعها ما بين عسكرية وديموقراطية اتفقت جميعا على شيء واحد وهو مكانة بلادهم الإقليمية وقوتها المتصاعدة ومجالها الحيوي وموقعها القيادي في السياسة الدولية .. وعندما فاز لاعب الكريكيت السابق عمران خان برئاسة الوزراء وصفته الصحف الغربية بأنه سياسي خامل الذكر فكان رده على ذلك بالأفعال لا بالأقوال ..

8 / محمد علي جناح
يتجاوز سكان باكستان مائتي مليون نسمة بقليل مما يجعلها الدولة السادسة على مستوى العالم في عدد السكان وثاني أكبر دولة إسلامية بعد إندونيسيا والثانية أيضا في عدد المسلمين الشيعة (حوالي خمس السكان) .. ورغم الاختلافات المذهبية والعرقية والسياسية إلا أنهم يجمعون على شيء واحد ألا وهو الاحترام لدرجة التقديس لشخص السيد محمد علي جناح مؤسس باكستان ..
ولد جناح في كراتشي لعائلة تنتمي لطائفة البهرة (وهم من الشيعة الإسماعيلية) لكنه على المستوى الشخصي والفكري كان علمانيا حيث قضى شطرا من حياته في بريطانيا يعمل بالمحاماة ثم انتقل للعمل بالسياسة من خلال حزب المؤتمر الهندي لمقاومة الاستعمار البريطاني ثم انشق عنه بعد ذلك ليقود (رابطة مسلمي الهند) وترأس الحركة الداعية لاستقلال المسلمين عن الهند ..
كان جناح سياسيا بارعا ومثقفا واسع الاطلاع وشديد التأثر بالشاعر الكبير محمد إقبال وربما كان الوحيد من زعماء المقاومة الهندية الذي كان يعرف بالتحديد ما يريده بل وبتفاصيله الدقيقة .. وهو الذي نجح في إقناع الناخبين بفكرة الدولة الجديدة في الأقاليم التي صارت بعد ذلك باكستان حيث كانت منذ القدم توصف مستقلة في الأدبيات الفارسية والأوروبية فكان يقال : (بلاد الهند والسند) ..
وفي إطار سعيه لصنع خصوصية قومية تميز مسلمي باكستان عن سائر الهنود استحضر جناح شخصية القائد المسلم الذي فتح السند وهو محمد بن القاسم الثقفي وجعل منه الرمز التاريخي للدولة ووصفه بأنه الباكستاني الأول وأطلق اسمه على ميناء كراتشي (ميناء قاسم) .. ورغم تلك الصبغة إلا أن الدولة الناشئة كانت علمانية من ناحية النظام السياسي والتشريعي والقضائي ..
وبذل جناح جهدا كبيرا لتكون اللغة الأوردية لغة رسمية تجمع تحت طياتها المكونات العرقية الأربعة وهي البنجاب والسند والبشتون والبلوش (وهي عرقيات موجودة في وادي السند فقط ما عدا البنجاب السيخ في الهند) .. وبعد عام واحد من إعلان الاستقلال وتأسيس الدولة الجديدة أسلم الزعيم الروح بعد أن نجح في تحقيق حلم حياته ورأى العلم الأخضر يرفرف في ربوع البلاد ..

9 / القرار الصحيح وأسباب القلق
قرار انسحاب الولايات المتحدة من أفغانستان قرار صائب تماما من وجهة نظر المصالح الأمريكية وأمنها القومي .. وهو قرار أجمعت عليه الإدارتان الجمهورية والديموقراطية معا حيث كان ترامب قد أصدر في عامه الأخير أمرا بتقليص عدد القوات هناك بشكل كبير .. وكل ما يتردد من مناقشات دارت فقط حول تقصير بايدن في تنظيم عملية الانسحاب وتوقيتها ..
والقرار في الدول الديموقراطية يصدر من المؤسسات وليس من شخص فرد مثل النظم الشمولية التي يرتبط القرار السياسي فيها بأمر الزعيم الملهم ورؤياه الثاقبة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .. والقرار في الدول الديموقراطية مرتبط في النهاية برأي جمهور الناخبين حتى لو خالف ذلك رأي النخبة مثل قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي ..
ولا شك أن مشهد الانسحاب مثير للقلق رغم أنه لم يكن مفاجئا لمتابعي الأخبار لأن المفاوضات تجري منذ عام ونصف على قدم وساق وتحت سمع وبصر وسائل الإعلام والصحافة العالمية .. وليس سبب القلق هو حرص الدول الغربية على حقوق الإنسان ومعاناة الشعب الأفغاني المتوقعة في المستقبل بل تحدث الجميع عن خصوصيات المجتمعات المحلية والقبول بالأمر الواقع ..
سبب القلق الحقيقي خاصة في الدول الأوروبية أكثر أهمية من ذلك بكثير ويتلخص في الإجابة على سؤال مصيري وهو : ماذا لو قررت أمريكا تكرار الأمر في مناطق أخرى من العالم تعهدت فيما سبق بحمايتها ؟؟ .. يعني ماذا سوف يحدث إذا قررت مؤسسات الإدارة الأمريكية تبعا لمصالحها أن تنسحب من أوروبا التي تتربص بها روسيا أو من شرق آسيا التي تهددها الصين ؟؟ ..
ماذا لو قررت أمريكا وقف خمسين مليار دولار هي معوناتها المالية لعدد كبير من دول العالم سنويا .. ماذا لو انسحبت أمريكا من المؤسسات الدولية مثلما فعل ترامب عندما انسحب من منظمة الصحة العالمية وخفض مساهماته في حلف الناتو .. ماذا لو رفعت أمريكا يدها عن صندوق النقد والبنك الدولي أو منعت تمويل الأمم المتحدة التي يشعر الأمين العام فيها دائما بالقلق !!

10 / روسيا الإمبراطورية
منذ فترة قليلة صرح بعض المسئولين الروس أن هناك أخطاء حدثت عند ترسيم الحدود بين روسيا وجيرانها وأن مساحة من الأراضي في شمال كازخستان كانت في الماضي أرضا خالية من السكان وقامت روسيا بإعمارها أثناء الحكم السوفييتي وأهدتها إلى جارتها كازخستان وأنه ربما حان الوقت لاسترداد تلك الهدية .. وعلى الفور جاء الرد حاسما من الخارجية الكازاخية حيث أعلنت أن أرض بلادها التاريخية ليست هدية من أحد أو منحة ترد ..
وعقب ذلك صرح وزير الدفاع الروسي أن العلاقات طيبة بين البلدين وأنه لا توجد نية لتغيير ذلك .. لكن بالطبع كانت تجربة روسيا مع أوكرانيا لا زالت ماثلة للعيان وذلك عندما سقطت الحكومة الأوكرانية الموالية لموسكو فقامت روسيا على الفور باحتلال الجزء الشرقي من أوكرانيا وأعلنت قيام جمهورية دونيتسك ذاتية الحكم ثم توسعت جنوبا واستولت بالقوة العسكرية على شبه جزيرة القرم الأوكرانية وأعلنت أنها المنطقة الفيدرالية الروسية التاسعة ..
وروسيا دولة توسعية في كل مراحل تاريخها القيصرية أو الشيوعية أو القومية حيث خاضت عددا من الحروب مع دول أوروبا ابتلعت فيها أراضي شاسعة من السويد وفنلندا وليتوانيا وبولندا ثم اتجهت شرقا واستولت على سيبيريا كلها وفي النهاية خاضت حروبا شرسة للاستيلاء على منطقة شمال القوقاز حيث المياه الدافئة وصحب ذلك إجراءات تهجير للسكان المحليين وإحلال مجموعات كبيرة من الروس محلهم سعيا لتغيير الطبيعة الديموغرافية للمنطقة ..
وفي الحقبة السوفييتية تم ابتلاع آسيا الوسطى كلها وجنوب القوقاز ودول البلطيق وشرق أوروبا .. وعقب انهيار الشيوعية احتفظت روسيا بعدد من الجمهوريات متعددة القوميات داخل الاتحاد الروسي منها تتارستان وبشكيرستان وكالميكيا وتشوفيشيا في منطقة الفولجا وتسكنها الشعوب التركية والمغولية وكذلك في الجنوب حيث داغستان والشيشان وأنجوشيا وبلقاريا وشركيسيا وأديغا وأوسيتيا ويسكنها مزيج من الشعوب التركية والإيرانية والقوقازية ..
في نفس الوقت حاولت روسيا بسط نفوذها على الجمهوريات الشيوعية السابقة بالاتفاقيات العسكرية والاقتصادية والتدخل في شئونها الداخلية والحرص على أن تظل دائرة في فلكها وأن تظل هذه الدول مقسمة وغير متحدة وفي خلافات دائمة مع إضعاف الروح القومية فيها حتى لا تكون دافعا للوقوف في وجه الدب المفترس لأن نهضة منطقة آسيا الوسطى كفيل بإثارة النزعة الاستقلالية في القوقاز وحوض الفولجا وهو ما يهدد كيان الاتحاد الروسي من الأساس ..

11 / سكان آسيا الوسطى
آسيا الوسطى هي تلك المنطقة من العالم التي تحدها كل من الهند والصين وروسيا وأوروبا والوطن العربي والتي تنتهي أسماء معظم الدول والأقاليم فيها بكلمة (ستان) وتعني باللغة الفارسية أرض أو بلاد .. باكستان الأرض الطاهرة وأفغانستان أرض الأفغان وتتارستان في روسيا أرض التتار وداغستان في القوقاز أرض الجبال وكردستان وعربستان وهي أقاليم إيرانية وتركستان الشرقية في الصين بل وحتى أرمينيا تسمى باللغة الأرمينية هاياستان ..
وترجع أصول السكان فيها إلى أربع مجموعات عرقية أساسية .. أولها الشعوب الهندوإيرانية في وادي السند وتضم البنجابيين والسنديين والكشميريين .. وثانيهما العشائر الإيرانية الموزعة من حوض السند وحتى هضبة الأناضول والقوقاز وهم البشتون والطاجيك والبلوش والفرس والأكراد واللور والمازندرانيين والأوسيتيين والارمن .. وثالثهم الشعوب القوقازية وهم الآفار والشيشان والأنجوش والشركس والأديغا والأبخازيين والأوغول والجورجيين ..
أما المجموعة الرابعة فهي الشعوب التركية وتنقسم إلى كل من الأوغوز (في تركيا والبلقان وتركمانستان والآذريين في إيران وأذربيجان) .. والقفجاق (الكازاخ والقيرغيز في تركستان والتتار والبشكيريين في حوض الفولجا والبلقار في القوقاز) .. القارلوك (وتضم الأوزبك والإيغور) .. وأخيرا السيبيريين (وتضم أتراك سيبيريا والتشوفاش والياقوتيين والساخا والهزاره) .. وجميعها وثيق الصلة بالشعوب المغولية في منغوليا وسيبيريا ومنطقة جبال الأورال ..
وتجمع ثقافتهم بين الفارسية والتركية حيث التداخل الكبير في مناطق الانتشار الجغرافي ومعظمها عابر للحدود السياسية ويبلغ تعدادهم قرابة نصف مليار نسمة معظمهم يدين بالإسلام بمذاهبه المختلفة (ما عدا بعض مناطق القوقاز وسيبيريا) .. وغالبيتهم شعوب قبلية تسكن الجبال والهضاب والمرتفعات مما أكسبهم قوة بدنية وشراسة في الطباع فكانوا طوال تاريخهم مقاتلين أشداء معروفين بشدة البأس وقوة التحمل والشجاعة في ميدان القتال ..
وقد أقامت هذه الشعوب عددا من الإمبراطوريات أهمها في الزمن القديم دولة الفرس الأخمينيين وفي العصور الوسطى دولة الغزنويين والسلاجقة ثم الدولة المغولية بأقسامها العديدة في الصين والهند وروسيا وتركستان ثم الصفويين في إيران والعثمانيين في الأناضول .. وأخيرا المملكة الأفغانية في أفغانستان والسند والتي انتصرت على بريطانيا عند قرية غاندماك عام 1842 حيث أبيد ستة عشر ألف جندي بريطاني ولم يبق منهم إلا طبيب الحملة الذي عاد إلى قيادته بالخبر ..

12 / معركة غاندماك
في القرن التاسع عشر كانت بريطانيا إمبراطورية عظمى لا تغيب عنها الشمس بسبب اتساع رقعة أملاكها في قارات العالم .. وكانت أكبر مستعمراتها آنذاك في الهند حيث كانت تدار من خلال أعمال شركة الهند الشرقية أولا ثم الحاكم العام بعد ضم الهند رسميا للتاج البريطاني .. وكانت المنافسة في قارة آسيا بينها وبين روسيا التي بدأت تتمدد في منطقة تركستان وهدفها الوصول إلى فارس والهند فيما عرف وقتها بين القوى العظمى باسم (اللعبة الكبرى) ..
ورأت بريطانيا أن تستبق الأحداث وتدفع بقواتها العسكرية من نهر السند باتجاه مملكة أفغانستان والتي تتاخم خانات (إمارات) طشقند وبخارى وسمرقند التي كانت روسيا على وشك غزوها وضمها إلى أملاكها .. وهكذا قام الجيش البريطاني في عام 1838 بالتحرك صوب جبال الهندوكوش واتخذ من مدينة جلال آباد مقرا لمعسكره بالتعاون مع أحد الأمراء الأفغان وهو شاه شجاع دراني .. وفي عام 1839 وصلت القوات إلى كابول وانتصرت على الأمير دوست محمد بركزاي ..
ولم تستقر الأحوال للبريطانيين حيث اندلعت الثورة المسلحة في العاصمة وأجوارها في 2 نوفمبر عام 1841 بزعامة الأمير أكبر خان وتم حصار المفوض السياسي البريطاني السير ألكسندر بيرنز في بيته ثم قتله .. واضطر قائد الجيش البريطاني الجنرال السير وليام إلفنستون لمفاوضة الأفغان على الانسحاب الذي بدأ بالفعل لكنه أضمر التباطؤ حتى تصله الإمدادات من الهند فقرر أكبر خان أن يلقن البريطانيين درسا لا ينسى وقرر مهاجمة الجيش بكل قواته ..
ورغم الخسائر الفادحة التي لاحت للبريطانيين مع دخول فصل الشتاء إلا أن الأمل كان يحدو القيادة العسكرية بقدوم الإمدادات .. وفي يوم 13 يناير 1842 أحاطت القوات الأفغانية بالجيش البريطاني عند قرية غاندماك التي تقع عند منتصف الطريق بين كابول وبيشاور بالقرب من مدينة جلال آباد ونجحت في يوم واحد في إبادة الجيش البريطاني عن بكرة أبيه حيث لقي ستة عشر ألف جندي وضابط مصرعهم وعلى رأسهم الجنرال إلفنستون ..
ولم يبق من الجيش إلا مساعد الجراح الدكتور وليام برايدون الذي تركه الأفغان حيا حتى يعود جريحا على حصانه ليحكي هول المذبحة التي عصفت بكرامة شركة الهند الشرقية والجيش البريطاني .. وعندما وصل الخبر إلى الحاكم العام البريطاني في الهند اللورد أوكلاند أصيب بالسكتة الدماغية .. وظلت هذه الهزيمة المذلة نقطة سوداء في سجل الإمبراطورية البريطانية التي اكتفت بجعل أفغانستان دولة حاجزة بينها وبين روسيا وانسحبت من أراضيها ..