ماذا يحدث في العالم ؟

1 / الحرب الاقتصادية

في الماضي شهد العالم ذلك النمط التقليدي من الحروب التي تدور بين جيوش الدول في ساحات القتال ثم شهد نوعا آخر أثناء الحرب الباردة حيث المنافسة في مجالات التجسس وغزو الفضاء .. وربما تكون الحرب القادمة في مجال الاقتصاد أو في مجال التقنية .. وقديما كانت الغلبة لمن يملك الفرسان ثم صارت لمن يملك الأساطيل البحرية ثم الطيران ثم السلاح النووي ..

أما في الحروب الاقتصادية المتوقعة فإن الغلبة فيها ليست لمن يملك الجيوش الجرارة أو يحسن تنظيم العروض العسكرية .. وإنما سوف يكون الفوز فيها من نصيب صاحب الاقتصاد القوي ولذا يسعى الجميع للانخراط في تحالفات تقوي جبهة المواجهة في عالم المال والأعمال والتجارة الدولية حيث السعي إلى زيادة الناتج القومي والذي سوف يصبح السلاح الفعال في هذه الحرب ..

وتمثل مجموعة دول العشرين أكبر اللاعبين في هذا المجال حيث يملكون 90 % من حجم الناتج العالمي وكذلك 80 % من حجم التجارة الدولية .. وتضم هذه المجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى وهي الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان .. يليها القوى الاتحادية الكبرى وهي روسيا والصين والهند والاتحاد الأوروبي (وهو ممثل بصفته) ..

ويضاف إليهم من أمريكا اللاتينية كل من المكسيك والبرازيل والأرجنتين .. ومن القارة السمراء دولة واحدة هي جنوب أفريقيا .. ومن الوطن العربي دولة واحدة هي السعودية .. ومن آسيا الإسلامية دولة واحدة هي تركيا .. ومن آسيان دولة واحدة هي إندونيسيا ومن النمور الآسيوية في الشرق دولة واحدة هي كوريا الجنوبية ومن الأوقيانوسيا دولة واحدة هي أستراليا ..

وتحتل هذه الدول جميعا ترتيبا متقدما في الناتج المحلي وفي معدلات النمو وفق تقديرات كل من الأمم المتحدة والبنك الدولي وصندوق النقد .. وهذه الدول هي المتحكم الفعلي في منظمة التجارة العالمية وكذلك هي صاحبة القرار في إمداد الدول الفقيرة بالقروض أو إعفائها من الديون أي أنها تتحكم في اقتصاد بقية دول العالم ولا شك أن ذلك يضيف لها ثقلا في المجال السياسي ..

2 / العلاقات المصرية السعودية

العلاقات المصرية السعودية هي واحدة من أهم مفاتيح فهم السياسة الإقليمية في المنطقة العربية خلال نصف قرن كامل حيث كانت رؤية الدولتين متقاربة في كثير من قضايا الأمن القومي العربي وفي توجيه دفة الجامعة العربية .. ولا تتوقف العلاقة بين الدولتين على المستوى السياسي فقط وإنما يتعدى ذلك إلى علاقات اجتماعية واقتصادية وثقافية واضحة وملموسة جعلت العلاقة بين الدولتين فريدة ومتميزة ..

السعودية واحدة من أكبر المستثمرين في الاقتصاد المصري سواء من ناحية عدد الشركات العاملة أو حجم رأس المال أو التنوع في النشاط (طبقا لإحصائيات هيئة الاستثمار المصرية) وكذلك تأتي السعودية في مرتبة متقدمة في حجم السياحة (قرابة مليون ونصف سائح سعودي سنويا في مصر وهو رقم جيد مقارنة ببقية دول العالم) كما أن السائح السعودي هو الأعلى إنفاقا في مصر من بين كافة السياح ..

ويعيش في السعودية جالية مصرية تقدر بثلاثة ملايين مواطن (وهي أكبر جالية للمصريين في الخارج من حيث العدد) وتشكل وحدها قرابة 60 % من تحويلات المصريين العاملين في الخارج حيث تشكل المصدر الأول للعملة الصعبة في مصر وتتسم بالديمومة والانتظام .. ويشكل الأطباء المصريون قرابة نصف عدد الأطباء العاملين في المملكة في القطاعين الحكومي والأهلي ويتوزعون في كافة المناطق ..

يضاف إلى ذلك العدد الكبير للحجاج والمعتمرين والزوار والذي ينعش شركات السياحة والطيران المصرية والسعودية معا بشكل منتظم وكذلك الزيارات العائلية الدورية للمقيمين في المملكة .. وهذه الأمور مجتمعة تجعل السعودية هي الوجهة الأولى للمصريين في السفر طبقا للإحصائيات الرسمية ولا شك أن هذا الأمر صنع قدر كبيرا من التواصل الشعبي الطبيعي بين مواطني البلدين ..

ويبلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين قرابة 7 مليار دولار سنويا حيث تشكل كل منهما للأخرى واحدة من أكبر الشركاء الاقتصاديين في مجال الصادرات والواردات .. من أجل ذلك فإن البعثات الدبلوماسية والقنصلية والتعليمية والتجارية بين البلدين هي الأكبر في العدد والخدمات .. ولا يمكن فصل كل هذه الاعتبارات عن المسار السياسي الذي سوف يتأثر حتما بالاقتصاد والعمالة البشرية ..

3 / مصادر الدخل القومي

تتنوع مصادر الدخل القومي من دولة لأخرى .. منها ما يعتمد على الصناعة مثل الدول الصناعية السبع الكبرى .. ومنها ما يعتمد على الصناعات الصغيرة وغزو الأسواق .. ومنها ما يعتمد على صناعة التقنية والبرمجيات .. ومنها ما يعتمد على الثروات المعدنية مثل الدول المصدرة للبترول أو التي تملك مخزونا هائلا من المعادن أو الثروة المحجرية ..

ومنها ما يعتمد على الإنتاج الزراعي فيملك سلعة استيراتيجية لا غنى للعالم عنها مثل التوابل والشاي والبن والكاكاو .. ومنها ما يعتمد على موقعه الذي يسمح بجذب الاستثمار والتبادل التجاري .. ومنها ما يعتمد على السياحة وصناعة الترفيه ومنها ما يعتمد على الإنتاج الفني والدرامي والثقافي .. ومنها ما يعتمد على تقديم الخدمات المتنوعة واللوجستيات ..

كل منطقة من العالم عرفت نقطة تميزها وأدركت أن عليها الاستثمار في المجال الذي يدعم الناتج القومي لها ويضمن تحقيق النجاح الاقتصادي للدولة والوصول بشعبها إلى مستوى الرفاه أو على الأقل زيادة نصيبه من الناتج المحلي .. ومؤخرا بدأت دول منابع الأنهار تتحدث عن المياه بوصفها سلعة قابلة للبيع مثل الثروات المعدنية وأنها لن تكون مجانا في المستقبل ..

وقد يكون من الجيد أن تتعدد مصادر الدخل وألا تكون أي دولة معتمدة على مجال واحد بل من الأفضل وجود قدر من التنوع .. وربما ظهرت في المستقبل مصادر جديدة للدخل القومي مثل الطاقة الشمسية التي يمكن للبلاد الصحراوية في النطاق شبه المداري أن تحقق فيه نجاحا ملحوظا بسبب موقعها الجغرافي ومناخها الحار ومساحات أرضها الشاسعة ..

لكن مع كل ما سبق يظل العنصر البشري هو أساس كل ذلك لأنه لا يمكن لأي نشاط اقتصادي أن يتم بمعزل عن الإنسان المتعلم المدرب .. والاستثمار في الثروة البشرية ليس ترفا أو مسألة اختيارية وإنما أمر تحتمه متطلبات النهضة الحديثة .. وفي هذا العالم تستمد أي دولة قوتها الاقتصادية ومن ثم تأثيرها السياسي من نقطة تميزها التي يجب أن تكون معروفة ..

4 / العلوم التقنية وسوق العمل

كل مجالات البحث العلمي هامة سواء الطب أو الهندسة أو البيولوجيا أو العلوم الطبيعية أو العلوم الإنسانية حيث يتنافس العالم أجمع في هذا المضمار الذي هو أساس نهضة الأمم .. لكن في الدول النامية يجب أن تكون أولوية الإنفاق في مجال البحث العلمي موجهة إلى الجانب التطبيقي من العلم وذلك بهدف دعم الإنتاج وتحسين الخدمات والتنمية المستدامة ..

وهناك حاجة ملحة للاستفادة من تطبيقات البحث العلمي الجاد في مجال خلق الوظائف (الإنتاجية والخدمية) ثم في مجال دعم الصناعة وزيادة التصدير .. وليست العبرة بكثرة حاملي الشهادات المتخصصة (الماجستير والدكتوراه) والتي تحولت إلى مجرد مسوغات للتعيين والترقي في المؤسسات المختلفة لكن على أرض الواقع لا يوجد إسهام علمي تطبيقي ملموس ..

ومن المفترض أن تلعب الجامعات دورا حيويا في مجال البحث العلمي لكنها منفصلة عن الجانب التطبيقي العملي ويغلب عليها الأداء الروتيني والإنجازات الوهمية .. أما دور الجامعات في إعداد الخريج لسوق العمل فهو أيضا يحتاج إلى إعادة نظر من ناحية الكم والكيف .. بمعنى هل يوجد في سوق العمل احتياج لكل هؤلاء الجامعيين خاصة خريجي الكليات النظرية ..

هذا من ناحية الكم .. أما الكيف فهو يحتاج أيضا إلى الإجابة على تساؤل هام وهو مدى نجاح الجامعات في إعداد الخريج لوظيفته المستقبلية بفرض وجود فرص عمل متوافقة مع الدراسة .. وهناك مجالات عديدة أصبحت تتطلب إجادة اللغات الأجنبية وعدد من المهارات اللازمة للانخراط في سوق العمل وإلا صار التعليم الجامعي غير ذي جدوى ولا منفعة ..

وربما احتاج الأمر إلى نظرة موضوعية شاملة في منظومة التعليم الجامعي لتحديد الهدف منها بدقة ومعرفة المخرجات المطلوبة منها سواء في البحث العلمي أو إعداد الخريجين .. ولا بد أن تشمل هذه الرؤية إعادة النظر في منظومة التعليم الفني والارتقاء بها من ناحية الدراسة والتدريب لأنها مكملة لاحتياجات السوق الفعلية وأقرب إلى الأهداف الواقعية ..

5 / فشل فرنسا

عندما تبحث في جوجل عن كلمة (فشل فرنسا) سوف تخرج لك قائمة تتضمن جميع إخفاقاتها في السنوات الماضية .. ولم تكن خسارتها في صفقة الغواصات مع أستراليا إلا نهاية لسياساتها الخاطئة حيث تصر على العزف المنفرد والتغريد خارج السرب الأمريكي محاولة لعب دور الدولة العظمى في الوقت الضائع ..

ومنذ أيام شهد العالم انقلابا عسكريا في غينيا كوناكري والذي أطاح بالرئيس ألفا كوندي الموالي لفرنسا وسبقه عدد من الانقلابات في دولة مالي ضد الرئيس أبو بكر كيتا نتيجة العبث المستمر لفرنسا في المنطقة بحجة محاربة الإرهاب رغم أن الصراع هناك قومي ضد الانفصاليين العرب والطوارق في إقليم آزواد ..

أما في تشاد فقد أدت التدخلات الفرنسية إلى إشعال التوتر الداخلي بين الحكومة والمعارضة المسلحة مما أسفر عن مصرع الرئيس إدريس ديبي بعد إصراره على الترشح لفترة رئاسية سادسة بدعم من فرنسا .. وبعد ذلك أصرت فرنسا على تعيين ابنه في منصب الرئاسة خلفا له لتستمر الحرب في البلاد ..

وفي جمهورية أفريقيا الوسطى منيت فرنسا بهزيمة قاسية عندما قامت روسيا بدعم انقلاب الجنرال جويتا لتفقد نفوذها هناك وهو ما أزعج الغرب بشدة .. وفي كل من النيجر وبوركينا فاسو تتعرض الجيوش الفرنسية لخسائر في حربها المزعومة على الإرهاب بينما هي في الحقيقة تقتل العزل وتنهب الثروات ..

وفي ليبيا دعمت فرنسا الهجوم الفاشل على العاصمة طرابلس خلافا لموقف أمريكا وعدد من دول أوروبا التي تريد إنهاء الأزمة الليبية لضمان تدفق النفط بانتظام إلى أوروبا .. وفي سوريا صرحت فرنسا أنها سوف تتعامل مع الأسد بينما الموقف الأمريكي قاطع حيث يرى أنه لن يكون له دور في المستقبل ..

وربما كان المشهد الأكثر دراماتيكية المعبر عن الفشل المستمر عندما ذهب ماكرون إلى لبنان وراح يهاجم الأحزاب اللبنانية ويهدد السياسيين ويتوعدهم بسبب التأخر في تشكيل الحكومة مسببا أزمة تدراكتها الخارجية الأمريكية بإعلان التبرؤ من كلمات الرجل الذي كان يتقمص شخصية نابليون بونابرت الفاشل دائما ..

6 / كوكب واحد

ماذا لو قررت البرازيل إزالة الأشجار في الغابات المطيرة في حوض نهر الأمازون والاستفادة منها في تجارة الأخشاب .. يرى بعض العلماء أن هذا الأمر شديد الخطورة لأن هذه الغابات تمد كوكب الأرض بنسبة 16 % من الأوكسجين بينما يرى علماء آخرون أنها نسبة مبالغ فيها وأنها لا تتعدى 8 % فقط لكنهم يحذرون من أن تحذو دول أخرى مثل الكونغو وإندونيسيا نفس النهج مما يعني أن يفقد كوكب الأرض (رئة) هامة يتنفس بها ..

وفي أعقاب قمة الأرض في ريو دي جانيرو ألزمت الأمم المتحدة الدول الصناعية بخفض انبعاثات الغازات الضارة والبحث عن مصادر نظيفة للطاقة لأنها أدت إلى ارتفاع درجة حرارة الكوكب .. وتم إقرار ذلك بشكل عملي من خلال بروتوكول كيوتو ثم اتفاقية باريس للمناخ وتبع ذلك تعهد الدول الكبرى بمساعدة الدول النامية في مجال دعم تقنيات الحد من التلوث ومكافحة الأضرار البيئية وهو ما يعرف باسم (آلية التنمية النظيفة) ..

ويسعى العالم سعيا جادا للبحث عن الطاقة النظيفة ومنها الطاقة الشمسية وهو ما سيجعل الدول الصحراوية في النطاق شبه المداري ذات موقع استيراتيجي في المستقبل بسبب مناخها الملائم .. ولم تعد المسألة ترفا بل ضرورة ملحة للحفاظ على سلامة الكوكب لأن حجم التلوث تجاوز حد الأمان وأصبح الضرر في كل مكان .. عوادم السيارات وأبخرة المصانع والنفايات الكيماوية وهي تلحق الضرر بالإنسان والغلاف الجوي معا ..

وقد تسببت حادثة واحدة في الإضرار بالعديد من البلدان عندما انفجر مفاعل تشيرنوبل النووي في أوكرانيا السوفيتية حيث تسببت الإشعاعات النووية في إلحاق الضرر المباشر بالإنسان والحيوان والنبات وتلوث الغذاء والمياه حيث مات ثمانية آلاف شخص وتعرض مئات الآلاف لآثار لاحقة منها الإصابة بالسرطان .. وقامت الوكالة الدولية للطاقة الذرية إثر ذلك بعمل برامج إلزامية للإنذار المبكر والمساعدة في مجال السلامة النووية ..

وخلال أزمة كورونا تبين بوضوح أهمية التكاتف العالمي لأن مشكلة صغيرة في بلدة نائية في أقصى الشرق يمكنها أن تتسبب في موت مئات الآلاف في الغرب ولم يعد من الممكن أن تعيش دولة ما في عزلة عن الآخرين وإلا أدى ذلك إلى انهيار الاقتصاد القائم أساسا على التجارة المتبادلة وتدفق حركة السلع والخدمات .. ولهذا قامت الدول الغنية بإمداد الدول الفقيرة باللقاحات اللازمة بعد أن روج إعلام العالم الثالث أن كورونا مجرد دور برد ..

7 / نبوءات هنتنجتون

في كتابه صدام الحضارات يضع هنتنجتون قواعد أساسية لمعرفة ماهية الصراعات الموجودة على خطوط التماس الثقافية والقومية .. وهذه القواعد تساعد على التنبؤ بالمستقبل وفق أساس علمي ومنطقي وليس رجما بالغيب أو تنجيما بالباطل .. فهو مثلا توقع استئناف الحرب بين أرمينيا وأذربيجان (وهو ما حدث بالفعل بعد صدور الكتاب بثلاثين عاما وبعد وفاة الرجل نفسه) ..

وهذا التوقع مبني على دراسة أسباب الصراع ومعرفة الظروف الضاغطة التي أوقفت الحرب في الماضي .. وعندما تتغير هذه الظروف تصبح الحرب أكيدة وهكذا .. ونفس الأمر ينطبق على نقاط التماس الساخنة في العالم مثل فلسطين والبلقان وكشمير وسيريلانكا وتايوان وغيرها .. وهو يتوقع أيضا أن ينشأ توتر بين الصين وأمريكا بسبب الصراع على النفوذ في بحر الصين ..

ويطرح في نهاية الكتاب سيناريو تخيلي لهذه الحرب التي لا يتمنى حدوثها لكنه يحلل مواقف الدول المختلفة منها .. الهند مثلا سوف تكون تلقائيا ضد الصين وسوف تهاجم باكستان بينما سوف تكون إيران قطعا ضد أمريكا .. صربيا وكرواتيا سوف تهاجمان البوسنة لتحدث اضطرابات في البلقان ينتج عنها تعرض تركيا للغزو من اليونان وبلغاريا لتجد نفسها في المعسكر الصيني ..

ربما تتخوف روسيا من تصاعد هيمنة الصين فتنحاز للمعسكر الغربي بينما تجد اليابان نفسها مضطرة للانحياز ظاهريا للصين .. إندونيسيا سوف تصبح مهيمنة في منطقتها .. أوروبا سوف تنحاز لأمريكا بالطبع وتتعرض للقصف الصاروخي .. سوف تتعرض إسرائيل لخطر بالغ يهدد وجودها بسبب انشغال الغرب بينما الناخب الأمريكي يبدأ في التساؤل عن جدوى الحرب ..

ويتوقع هنتنجتون أن حكومات الدول العربية سوف تنهار تباعا كما تسقط أحجار الدومينو لأن بعضها شديد الضعف وبعضها شديد الفقر.. وإذا لم تتغير الأحوال بمرور الزمن فسوف تتهاوى تلك التي تحتاج دوما إلى حماية خارجية أو تلك التي تعيش على المعونات والمنح والقروض .. ويرى هنتنجتون أن تيارات راديكالية متطرفة سوف تستولي على الحكم وتنحاز للصين ..

8 / القوة الديموغرافية

دولتان فقط في العالم تشكلان معا قرابة 36 % من السكان على الكوكب حيث وصل تعداد الصين إلى قرابة 1.44 مليار نسمة ووصل تعداد الهند إلى قرابة 1.39 مليار نسمة .. وإذا كانت الصين تلتزم بصرامة بسياسة الطفل الواحد فإن معدل نموها قليل مقارنة بالهند التي لا يوجد فيها تحديد صارم للنسل وسوف تتخطى الصين وتحتل المركز الأول على العالم بعد سنوات معدودة ..

ولا شك أن هناك عوامل عديدة ساعدت على ذلك .. منها مثلا وفرة المياه في الصين حيث تملك ثلاثة أنهار كبرى من منبعها إلى مصبها لا تشاركها فيها دولة أخرى .. ومنها مثلا وفرة الأرض الزراعية في الهند حيث إن نصف مساحتها الضخمة صالح للزراعة الدائمة .. وتملك الدولتان معا نصف الإنتاج العالمي من محصول الأرز وثلث الإنتاج العالمي من محصول القمح ..

وكل من الدولتين عبارة عن كيان اتحادي عملاق مكون من عدد من الوحدات السياسية والإدارية الأصغر والتي اتحدت معا عبر مراحل التاريخ المتعاقبة (أسرة تشين ودولة موريا) .. وكلاهما موطن للحضارات القديمة حيث ديانات الشرق الكلاسيكية (الهندوسية والبوذية والكونفوشية والطاوية) وجميعها ثقافات حية لم تندثر بل متداخلة في الحياة الاجتماعية للسكان حتى اليوم ..

وكلاهما صعد بقوة من مرحلة الدولة النامية إلى مرحلة النهضة الاقتصادية حيث تحتل الصين المرتبة الثانية على العالم في إجمالي الناتج المحلي بينما تحتل الهند المركز الخامس وفقا لإحصائيات صندوق النقد الدولي .. وكلاهما يملك قوة نووية بالإضافة إلى جيش تقليدي كبير العدد قوي التسليح .. وكلاهما لاعب أساسي على المسرح السياسي الدولي قديما وحديثا ..

وبينما يحكم الصين نظام شيوعي فإن الهند تملك ديموقراطية على النهج الغربي .. ولا يمكن تخيل وجود صراع دولي تدخل فيه الصين إلا وستدخل الهند فيه بقوة نتيجة خلافات سياسية متجذرة بين الدولتين (التبت وكشمير والحدود المشتركة) .. ولا يزال التاريخ يذكر الحرب التي انتصرت فيها الصين على الهند عام 1962 حيث المنافسة مستمرة بينهما على النفوذ في الشرق ..

9 / عودة اليابان

منذ شهور قليلة أعلنت اليابان أنها سوف تتصدى للصين إذا حاولت غزو تايوان .. وبالرغم من أن الإنفاق العسكري في اليابان أقل من نظيره في دول عدة إلا أنها في السنوات الأخيرة قد طورت من قدراتها العسكرية بشكل ملحوظ حيث امتلكت طائرات (اف ـ 35) وحولت السفن الحربية إلى حاملات طائرات كما قامت ببناء مدمرات وغواصات وامتلكت منظومات صواريخ حديثة ..

ومنذ إلقاء القنبلة الذرية على هيروشيما وناجازاكي ظلت اليابان تدعو إلى حظر انتشار السلاح النووي .. لكن بعد امتلاك كوريا الشمالية للسلاح النووي عام 2006 وتجاربها الصاروخية المثيرة بدأت اليابان في إعادة التفكير بالأمر حيث تملك اليابان بنية أساسية جيدة في المجال النووي للأغراض السلمية وتوليد الطاقة ويمكنها تحويلها إلى الأغراض العسكرية في وقت قصير ..

ومنذ الحرب العالمية الثانية وهناك تعهد من الولايات المتحدة الأمريكية بحماية اليابان والدفاع عنها ضد أي خطر إقليمي لكن السياسات الأمريكية في الفترة الأخيرة كانت موضع شكوك بعد أن رفع ترامب شعار (أمريكا أولا) وتحدث عن تكاليف الدفاع عن شرق آسيا .. وبعده في عهد بايدن جاء الانسحاب الأمريكي من أفغانستان ليضع مزيدا من التساؤلات حول قدرات أمريكا الفعلية ..

وقد تدفع الظروف الحالية إلى وجود تعاون وثيق بين اليابان وكوريا الجنوبية في هذا المضمار حيث يتجاوز كلاهما الخلافات التاريخية والقضايا العالقة لمواجهة الواقع الجديد الذي يهدد المنطقة كلها خاصة وكوريا الجنوبية متقدمة في التقنية وتملك قاعدة صناعية متطورة يمكنها في وقت قصير من إنتاج الأسلحة والمعدات الثقيلة خاصة في مجال الأسطول وذلك بالتعاون مع اليابان ..

وكوريا الجنوبية هي واحدة من النمور الآسيوية الأربعة التي حققت نهضة اقتصادية في وقت قصير كما أنها تملك جيشا قويا يحتل المرتبة الثانية عشرة في ترتيب جيوش العالم متقدما بفارق كبير على جيش كوريا الشمالية من ناحية التسليح التقليدي .. ومع ازدياد حدة التوترات في المنطقة يبدو في الأفق تعاون وثيق بين الدولتين على غرار تعاونهما عام 2002 في تنظيم كأس العالم ..

10 / الرقص مع الذئاب

” من ليس مع أمريكا بحربها فهو ضدنا ” .. كانت هذه كلمات جورج بوش في أعقاب أحداث 11/9 حيث لا مجال في وقت المواجهة لأنصاف الحلول أو المواقف المائعة أو اللعب على كل الحبال أو الأكل على كل الموائد .. وعندما يدرك العالم أن استقطابا حادا يوشك على الظهور بين كل من الصين وأمريكا يصبح لزاما على جميع الدول أن تحدد موقفها بوضوح ..

في أثيوبيا على سبيل المثال .. أمريكا هي المصدر الأول للمساعدات الدورية للبلاد بينما الصين هي من تستحوذ على النسبة الأكبر من الاستثمارات .. ومنذ أسابيع أعلنت الصين أنها تدعم جهود أثيوبيا في حماية سيادتها الوطنية وتقف معها ضد أي تدخل خارجي وذلك ردا على موقف الغرب المتحفظ على ما يجري في إقليم تجراي من حرب أهلية ومذابح ..

وفوق ذلك كان موقف أثيوبيا متصلبا في موضوع سد النهضة كما كان تعاملها سيئا مع الوساطة الأمريكية .. ويلوح في الأفق بوادر أزمة مالية سوف تعانيها أثيوبيا في القريب العاجل بدأت آثارها بغلق سفارات وقنصليات لها بالخارج تقليلا للنفقات (منها سفارتها في مصر والتي كان من المفترض أن تظل في الخدمة بسبب السد) لكن وجدتها فرصة لقطع العلاقة ..

ويبدو أن الولايات المتحدة قررت التعامل بحزم مع كل من يسمح بتمدد النفوذ الروسي أو الصيني سواء في قلب القارة الأفريقية من خلال الاستثمارات المباشرة والاستعانة بالمرتزقة الروس أو في الدول الساحلية المطلة على البحر الأحمر والتي حولت موانئها إلى (شقق مفروشة) تؤجرها لمن يدفع حتى امتلأت المنطقة بعدد كبير من القواعد العسكرية المتنوعة ..

وسوف ينعكس هذا السلوك على طريقة التعامل مع القضايا الساخنة في القارة الأفريقية وعلى رأسها ملف ليبيا حيث الإصرار الأمريكي على إنهاء الأزمة الحالية والمضي قدما باتجاه الانتخابات ومن ثم إجبار جميع الفاعلين في الأزمة على تبني وجهة نظرها وتهديد كل من يحاول العبث من خلف الستار وعرقلة ذلك لأن الحرب الباردة على الأبواب ..

11 / الخمير الحمر

الهند الصينية من أكثر مناطق العالم توترا من الناحية السياسية طوال تاريخها حيث كانت دائما بؤرة للصراعات العرقية وشهدت عددا من الحروب المتعاقبة من أشهرها حرب فيتنام الشهيرة التي صمد فيها الشيوعيون الفيتناميون ضد أكبر دولة في العالم وهي الولايات المتحدة الأمريكية وأجبروها على التراجع والخروج من بلادهم في هزيمة مذلة بقيت ذكراها إلى الآن ..

وفي أعقابها مباشرة وقعت إحدى أهم الحروب في المنطقة والتي بدأت في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين عندما استولت الميليشيات الشيوعية المعروفة باسم الخمير الحمر على الحكم في كمبوديا وسط أجواء من العنف والاقتتال الداخلي ونزوح اللاجئين مما هدد بزعزعة الاستقرار في المنطقة كلها وأقلق حكومة فيتنام التي كانت لا تزال منتشية بانتصارها الكبير ..

وخوفا من تدخل فيتنام في الشئون الداخلية لجارتها أقدم الخمير الحمر على مهاجمة الحدود الفيتنامية خاصة وقد كانت هناك نزعة وحدوية لدى الكثير من الكمبوديين تهدف إلى إقامة اتحاد مع الشقيقة الكبرى فيتنام حيث يرجع الشعبان لجذور واحدة كما تربطهما صلة وثيقة من الناحية اللغوية والثقافية وهو الأمر الذي كانت فيتنام تدعمه بينما يرفضه الخمير الحمر ..

واندلعت الحرب بين الدولتين ودخلت كل من الصين والاتحاد السوفييتي على الخط حيث كانت الصين تدعم الخمير الحمر في كمبوديا بينما حظيت فيتنام بدعم من الاتحاد السوفييتي .. ورغم أن الأنظمة الأربعة للدول المتحاربة كانت شيوعية تحكم وفق مبادىء واحدة إلا أن البعد القومي كان حاضرا في خلفية المشهد كما ساعد على ذلك الخلاف السوفييتي الصيني المعروف ..

وهكذا قامت فيتنام باجتياح كمبوديا وسيطرت على غالبية أراضيها بما فيها العاصمة بنوم بنه فردت الصين بالتحرك العسكري وغزو شمال فيتنام .. وبعد بضع سنوات فشلت الصين في التقدم بينما استمر احتلال فيتنام لكمبوديا وهزمت ميليشيات الخمير الحمر وأقامت نظاما مواليا لها .. ثم أسفرت الأحداث في النهاية عن سقوط الشيوعية في كمبوديا وعودة النظام الملكي ..

12 / طبول الحرب

بينما نحن في انشغال بأغاني المهرجانات وتصريحات لاعبي الكرة تدور في العالم أحداث قد تقلب المنطقة كلها رأسا على عقب بل ربما تعيد صياغة التاريخ .. روسيا تحشد مائة ألف جندي على الحدود الأوكرانية والرئيس الأوكراني يعلن حالة الاستعداد والعواصم الغربية في قلق وهناك قمة مرتقبة بين بايدن وبوتين .. بوتين يصرح أن انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو خط أحمر وبايدن يرد بأن لا يوجد أي خطوط حمراء في هذا الملف ..

والملاحظ أن روسيا منذ فترة قامت بتثبيت الأوضاع العسكرية في سوريا بالاتفاق مع تركيا وكذلك رضيت بالتوافق الحاصل في الملف الليبي بل إنها لم تنجرف لدعم أرمينيا في حربها مع أذربيجان وتركتها تواجه مصيرها ثم أوعزت إلى حليفتها روسيا البيضاء بإثارة ملف اللاجئين على حدود أوروبا .. والآن يبدو أنها تهدف إلى شيء واحد وهو إزالة النظام الأوكراني الحاكم الموالي للغرب واستبداله بنظام موال لها بالسلم أو بالقوة ..

ولا زالت روسيا تحلم بالإرث الامبراطوري القريب عندما كان الكريملين يحكم نصف العالم بما في ذلك دول أوروبا الشرقية كلها وكانت جميع الشعوب السلافية منضوية تحت رايته .. والآن بعد زوال الشيوعية عادت الفكرة القومية للصدارة حيث ترى روسيا أن الشعوب السلافية الشرقية وهم الروس والبيلاروس والأوكرانيون على الأقل يجب أن يجمعهم حلف واحد خاصة وأن قضية المياه الدافئة إحدى محددات الأمن القومي الروسي ..

وقد كانت روسيا دائما دولة توسعية في كل مراحل تاريخها سواء القيصرية أو الشيوعية أو القومية حاليا .. وهي تعتبر أوكرانيا حديقتها الخلفية التي ظلت تدور في فلكها حتى قامت الثورة البرتقالية ومن بعدها قررت روسيا التدخل فحاولت تغيير أنظمة الحكم أكثر من مرة وعندما فشلت تدخلت بالقوة المسلحة واحتلت شبه جزيرة القرم وضمتها إلى الدولة الروسية ودعمت الانفصاليين في الأقاليم الشرقية والذين أعلنوا الاستقلال ..

أصبحت المنطقة كلها فوق صفيح ساخن وروسيا تدفع بالأمر إلى حافة الهاوية لكن ربما تتراجع في اللحظة الأخيرة بعد أن تفرض شروطها على أوروبا التي تعلمت من الدرس الأمريكي في أفغانستان وبدأت في التفكير بجدية لحماية نفسها بجيش أوروبي مشترك .. ولا شك أن روسيا تشكل التهديد الأكبر للقارة الأوروبية من الناحية العسكرية وأيضا هي أحد أهم مصادر الطاقة لها ولا أحد يريد أن يكون تحت رحمة عدوه أبدا ..