
تحتوي اللهجات العامية المصرية على الكثير من التعبيرات التي ترتبط بالتدين الشعبي سواء في الامثال الدارجة أو في ثنايا الكلام العادي فيقال مثلا لمن خسر ده طلع من المولد بلا حمص ويقال لمن يضخم الأمور ده بيعمل من الحبة قبة ويقال لشرح الفروق بين الأشياء كل شيخ وله طريقة .. وفي الدعوة إلى التواضع والألفة يقال خللي البساط أحمدي ولمن سلمت عينه بعد إصابة يقال له العين عليها حارس وللتعجب من قدرة وهمية يقال ده فاكر تحت القبة شيخ ..
ويقال للرجل العارف ده مكشوف عنه الحجاب و يقال له على سبيل التبرك خدنا على جناحك يا مولانا .. ولوصف الهرج والزحام يقال مولد وصاحبه غايب ولمن نجا من مشكلة صعبة يقال ده زعق له ولي .. ولوصف المبالغة في الزينة عند المرأة يقال لها عاملة زي عروسة المولد .. وللدهشة والاستنكار يقال آه ما هو الشيخ البعيد سره باتع ويقال أيضا عند ظهور الخفيات يا ما في الجراب يا حاوي .. ومن وحي المولد أيضا تأتي عبارة أول الرقص حنجلة لمن يبدأ في عمل صغير ثم يكبر ..
وإلى جانب ذلك هناك عدد من الأمثلة الشعبية المستوحاة من هذه الأجواء للدلالة على معنى معين صار مفهوما ومألوفا للقائل والسامع معا مثل قولهم من جاور السعيد يسعد والخير على قدوم الواردين .. وقولهم أحمد زي الحاج أحمد وما خفي كان أعظم ولكل مقام مقال ومن ذاق عرف .. وكذلك قولهم اللي تحسبه موسى يطلع فرعون واللي يزمر ميخبيش دقنه ويا بخت من بات مظلوم ولا باتش ظالم واللي مكتوب على الجبين لازم تشوفه العين ومن بره هالله هالله ومن جوه يعلم الله ..
ومن التعبيرات المرتبطة بذلك أيضا ما يتعلق بالتسول مثل قولهم من مال الله يا محسنين حسنة قليلة تمنع بلاوي كتيرة وهنيالك يا فاعل الخير والثواب ومن قدم شيء بيداه التقاه .. وكذلك عبارات دارجة في مواقف معينة مثل قولهم اسم النبي حارسه وصاينه أو قولهم خليك على وش الفتة أو قولهم علمناهم الشحاتة سبقونا على الأبواب أو قولهم إذا حضرت الملائكة ذهبت الشياطين وأدعي على ابني وأكره اللي يقول آمين .. وقولهم في بعض المناسبات : وسع وصلي على النبي ..
ولا شك أن هناك عدد من مفردات الكلام في اللهجات العامية مرتبط بالتصوف مثل : الأولياء والطريقة وشيخ السجادة والمريد والمجذوب والنفحة والحضرة والمولد والضريح والمقام وحلقة الذكر وأهل الخطوة والأحوال والأقطاب والأبدال والأحجبة والأسياد والتجليات والإشارات والوجد والفيوضات والأشاير والختمة الشريفة .. وكذلك ذكر الله حي وهز الهلال يا سيد بالإضافة إلى الأشياء المرتبطة بالموالد وطقوسها ..
وقد ظلت مدرسة التصوف هي المهيمنة وحدها على الساحة الشعبية طوال سبعة قرون تشمل عصور الأيوبيين والمماليك والعثمانيين ثم تراجعت في العصر الحديث لكن لا يزال تأثيرها موجودا في أرياف الدلتا والصعيد .. وقد ارتبط التصوف الشعبي بالخرافة لكن في نفس الوقت كان الأكثر تسامحا مع سائر الطوائف الإسلامية ومع غير المسلمين وكان الأقدر على التعايش المشترك في سلام ووئام ..
ويرجع وجود التصوف المنظم في مصر إلى عصر السلطان صلاح الدين الأيوبي الذي كان يسعى جاهدا لمحو المذهب الشيعي للفاطميين وكان يعلم أن هذا الأمر لا يتم بقرار سياسي فوقي وإنما بمزاحمة الفكر بالفكر فأنشأ عددا من المدارس السنية مثل المدرسة الصلاحية والقمحية والسيوفية ثم قرر دعم التصوف وفتح الباب لاستضافة عدد كبير من المتصوفة ودعمهم في نشر مذهبهم في مصر ..
وأول مقر للصوفية في القاهرة كان بجوار دار الوزارة في المكان الذي عرف وقتها باسم خانقاه سعيد السعداء وكانت في الأصل دار سكن الوزراء الفاطميين فحولها صلاح الدين إلى مبنى يجمع بين المسجد والمدرسة ويحوي أماكن تعبد الصوفية التي تعرف باسم الخلاوي وصار هذا البناء المجمع يعرف باسم خانقاه وهي كلمة فارسية تعني مكان العبادة والخلوة ثم انتشرت في ربوع القاهرة والأقاليم ومنها مدينة الخانكة وأصلها خانقاه.
وخلال العصر المملوكي وفد على مصر من المشرق والمغرب أساطين التصوف حيث استقروا بها ومن أشهرهم أبو الفتح الواسطي وأبو الحسن الشاذلي وعبد الرحيم القنائي وأبو العباس المرسي وإبراهيم الدسوقي وشيخ العرب السيد أحمد البدوي وسلطان العاشقين عمر بن الفارض حتى أطلق العوام على البلاد وصف مصر المحروسة بسبب وجودهم ومنهم يستمدون المدد والعون والغوث ..

الحضرة الصوفية والمديح النبوي
الحضرة هو مجلس الذكر الجماعي الأشهر عند الصوفية في الوطن العربي كله واسمها مشتق من الحضور والذي يحمل معنى ظاهريا وهو حضور الجسد في المجلس ومعنى آخر باطنيا هو حضور القلب في الذكر ، وهي تطور عن حلقات الذكر العادية حيث تعقد في مكان خاص ولها آداب وترتيبات محددة وقد تكون في المنازل أو في تكية الصوفية أو الخانقاه وأحيانا تكون في مناسبات معروفة مثل الموالد أو ليلة الجمعة ..
ويتم فيها توزيع المهام حيث يرأسها شيخ الحضرة يعاونه الخادم وهو المختص بتقديم الطعام والشراب (النفحة) وترتيب المكان ونقيب الحضرة وهو الذى يفتتح المجلس والدعوة له ويعتبر نائب الشيخ وصاحب سره ، ومعهم المنشد الذي يقود الذكر لكنه لا ينتظم مع الذاكرين في حركاتهم ويساعده الساند وقد يكون شخص أو اثنان ثم ماسك الجلسة أو صاحب الدقة والذي يقف في مركز الدائرة لتحديد شكل الحركة التى يؤديها الجميع.
كل هؤلاء لخدمة الذاكرين أو السالكين الذين تقوم عليهم أعمال الحضرة المتمثلة في الذكر المتواصل والذي ينتهي بحركات إيقاعية للرأس والجسد ومنها التفقير أي الالتفات التبادلي يمينا ويسارا ، وتختلف طبيعة الذكر بحسب الطريقة لكنها تشمل ثلاثة أجزاء أساسية وهي الوظيفة وهي أوراد وأدعية معينة خاصة بالطريقة ثم الذكر الجماعي ثم السماع وقوفا أو جلوسا وفيها قصائد معينة تضفي على الحضرة الأجواء الروحانية.
وقد بدأت الحضرة في زوايا متصوفة المغرب ومنهم الشيخ عبد السلام الأسمر بن سليم الفيتوري الإدريسي الطرابلسي شيخ الطريقة العروسية في القرن العاشر الهجري والمتوفي عام 981 هـ في زليتن بليبيا ، وتميزت في مصر بظهور الطريقة الخلوتية على يد السيد كريم الدين محمد بن أحمد الخلوتي القادم من بلاد الفرس والمتوفي في مصر عام 986 هـ وصاحب المسجد المعروف في منطقة الدرب الأحمر بالقاهرة.
ومن المرجح أن فكرة الحضرة قد نشأت من الأندلسيين المهاجرين إلى شمال أفريقيا بعد سقوط المدائن العربية تباعا فكانوا يحرصون على جلسات ذكر جماعية تتخلّلها خطبة وتلاوة للقرآن مع أدعية وأوراد بجانب الأشعار والأناشيد الدينية والمدائح النبويّة ثمّ الدعاء وذكر أسماء الله الحسنى على تواتر إيقاعي وبنغم موسيقي رتيب يحقق الطرب ، وفي بلاد المغرب كان يقال عن المسلمين النازحين من الأندلس وصف ” حضرة “.
وتعد قصيدة البردة للبوصيري درة المدائح النبوية والتي اشتهرت عند جمهور المتصوفة ومحبي الانشاد الديني بالبيت المعروف : ” مولاي صل وسلم دائما أبدا .. على حبيبك خير الخلق كلهم ” ؛ ولا يعرف قصيدة نالت من الحفظ والحضور مثل ما حققت قصيدة البردة ومطلعها الذي يقول : ” أمن تذكر جيران بذي سلم .. مزجت دمعا جرى من مقلة بدم .. أم هبت الريح من تلقاء كاظمة .. وأومض البرق في الظلماء من إضم “.
واسم القصيدة الرسمي : ” الكواكب الدرية في مدح خير البرية ” ، وهي من نظم وتأليف الشاعر والفقيه والمتصوف الإمام شرف الدين أبي عبد الله محمد بن سعيد بن حماد الصنهاجي البوصيري المتوفي عام 1295 م. ، ولد في قرية النويرة بالقرب من دلاص مركز بني سويف لأسرة تنحدر من قبيلة صنهاجة البربرية وعاش في قرية بوصير المجاورة فنسب إليها ثم انتقل إلى القاهرة للدراسة ..
اشتغل البوصيري بدراسة السيرة النبوية وتتلمذ على يد أثير الدين أبي حيان الغرناطي وفتح الدين اليعمري الأشبيلي المعروف بلقب ابن سيد الناس وكتب عددا من المؤلفات منها كتاب تهذيب الألفاظ العامية وغيره لكنه اشتهر بقصائد المديح النبوي ، وتوفي في الاسكندرية عن 87 عاما ودفن بجوار شيخه في الطريقة الصوفية الشاذلية السيد أبي العباس المرسي وله مسجد ومشهد معروف ..
ويروي المتصوفة أن البوصيري كان مريضا لا يتحرك فأراد أن يكتب قصيدة في مدح النبي سماها البرأة طلبا للشفاء ، فلما وصل في نظمه إلى قوله : ” فمبلغ العلم فيه أنه بشر ” أرتج عليه ولم يتمكن من إكمال الشطر الثاني ثم نام ورأى في منامه أنه يلقي القصيدة بين يدي النبي فلما سكت عن البيت السابق اكمل له النبي الشطر الثاني وهو ” وأنه خير خلق الله كلهم ” ثم خلع بردته وألقاها عليه فقام من نومه وقد شفي من مرضه ..
وقال بعدها : ” وكل آي أتى الرسل الكرام بها .. فإنما اتصلت من نوره بهم .. وأنه شمس فضل هم كواكبها .. يظهرن نورها للناس في الظلم ” ، فعرفت القصيدة لذلك باسم البردة وذلك تيمنا بالشاعر كعب بن زهير صاحب قصيدة بانت سعاد عندما خلع النبي صلى الله عليه وسلم بردته وأعطاها له مكافأة على المديح ، وتبلغ أبياتها 160 بيتا وهي مصدر إلهام للشعراء على مر التاريخ ومن أبرز معارضاتها نهج البردة لأمير الشعراء أحمد شوقي ولامية عبد المولى البغدادي..

التنورة والزار .. الثقافات الوافدة
ترجع جذور رقصة التنورة إلى الفكر الصوفي وهي رقصة تركية الأصل بدأت في التكايا حيث كان كل أمير أو شيخ طريقة ينشئ تكية وهي مكان يعتبر مضيفة لأبناء السبيل والفقراء والغرباء والدراويش وداخلها كانت تقام حلقات الذكر وقد تميزت واحدة منها وهي تكية المتصوف الكبير مولانا جلال الدين الرومي المتوفي عام 1273 م. في قونية بالأناضول حيث كان يبدأ الذكر بعمل حلقة لا تقل عن أربعين دوريشاً ..
وكانت ملابسهم تتنوع في الألوان ما بين الأخضر والأحمر والأبيض والأسود لكن عندما دخلت الرقصة إلى مصر استبدلت التنورة بألوان شعارات الطرق الصوفية الكبرى وقتها ، وفي البداية كان الدراويش يرددون لفظ الجلالة ومع كل ترديدة يقومون بإحناء رؤوسهم وأجسادهم ويخطون في اتجاه اليمين فتلف الحلقة كلها بسرعة وبعد فترة قصيرة يبدأ أحد الدراويش بالدوران حول نفسه وسط الحلقة وهو يعمل برجليه معا ويداه ممدودتان ..
وعندما يسرع في حركته تنتشر ملابسه (تنورته) على شكل مظلة أو شمسية ويظل يدور عشر دقائق ثم ينحني أمام شيخه الجالس داخل الحلقة ثم ينضم إلى الدراويش الذين يذكرون اسم الله بقوة تتزايد درجة درجة لعشر دقائق أخرى ثم يجلسون للراحة وبعد ربع ساعة ينهضون للذكر ثانية وينضم هذه المرة شخصان يرقصان بالدفوف حيث كانت الطريقة المولوية هي أول من بدع تقاليد خاصة في الملبس وحركة اليد والرقص على الموسيقى ..
وتقوم فكرة التنورة على فلسفة اللفيف أو الدوران حول النفس كأن الراقص يحتفي بالكون وبدورة الحياة وكأنما يهمس من أعماقه : ” أنت كهبة الأرواح فلأقم بالطوف حولك فأنا كالفلك عملي ليل نهار هو الطواف ولا ترتعد في جوار الجسد وترجل سريعا فالله يهب جناحا لمن لا يمتطي الجسد ” ، ويفسر ذلك جلال الدين الرومي بقوله : ” لقد سما الجسد الترابي من العشق حتي الأفلاك وحتي الجبل بدأ في الرقص وخف “.
ويروى أن الإلهام بهذه الفلسفة قد حدث في واقعة شهيرة لجلال الدين الرومي عندما كان يدرس علوم الشريعة والفقه وكان يسير في أحد مواكبه فاعترضه تلميذه شمس الدين التبريزي وهمس في أذنه ومنذ ذلك صارا صديقين فأنشد جلال الدين قائلا : ” يا أيتها الشمس هذا هو فلكي تعلمته من هذا القمري الوجه وأنا ذرة للشمس تعلمت منها هذا الرقص ” ، وعرف عنه قوله وهو يتأمل : ” يرقص الصوفي كأنه الذرة في شمس البقاء “.
أما الزار فهو كلمة أمهرية الأصل تعني الزائر وكانت تستعمل في الحبشة قديما للدلالة على القوى العلوية الخفية الشريرة حيث كانت تقام طقوس أفريقية المنشأ لعلاج المريض من تأثير تلك القوى ، وفي مصر تحول إلى طقس اجتماعي يجمع بين الرقص والغناء والشعوذة والدجل لطرد العفاريت وإرضاء الأسياد وفق المعتقدات الشعبية التي تؤمن بتلبس الجن والاعتقاد في عالم الأرواح ..
وقد غلبت على الزار في بداياته في إثيوبيا ممارسات وثنية مثل تقديم الأضاحي (دجاج في الغالب) لتلافي غضب الأرواح الشريرة المتلبسة جسم المريض من خلال رقصات تكرارية تأخذ طابعا تسارعيًا ، وتقوم الشيخة (الريسة ، كوديا) التي تدير جلسة الزار بذبح الأضحية لتصبح حلقة وصل بين عالمي البشر والجن وعن طريق صوتها وموسيقى الرقصة تنادي هذه الأرواح كلَّا باسمه وصفاته ومحاولة مغازلته وطلب السماح والعفو ..
وانتقلت تلك الطقوس والممارسات تدريجيًا من وسط إفريقيا إلى مصر عن طريق الجواري الإثيوبيات وعملهن لدى العائلات المصرية الثرية في القرن الـثامن عشر لتقدم وسيلة لعلاج الأمراض التي فشل الطب التقليدي في علاجها مثل الاكتئاب والقلق والصرع والميول الانتحارية وغيرها حيث كانت تلك الأمراض غير مدرجة وقتها في الطب التقليدي ولم يكن لها توصيف وعلاج علمي وإنما اعتُبرت نوعًا من المس وتلبُّس الجن ..
والأسياد (بحسب التسمية المصرية) هو إعادة صياغة للمفاهيم الوثنية لكن في إطار الثقافة الدينية السائدة حيث تعتقد فئات من المجتمع أن لهذا المس قدرة على إلحاق الأذى بالبشر عقليًا وجسديًا ، وتتطابق طقوس الزار في إثيوبيا والسودان ومصر إلا أنها أخذت في مصر صورة روحانية لتنتقل من أصلها الوثني الذي يخاطب آلهة أو أرواح الأجداد لتقتصر على طقوس وموسيقى ورقص يقبله الوعي الشعبي في مصر..
وينقسم الزار إلى نوعين : الأول هو ما يُعرف بـاسم الحضرة التي تقام في الجمعة من كل أسبوع ما عدا شهر رمضان وفيه تُعزف الموسيقى وتُدق الدفوف في بيت الشيخ أو الشيخة ، أما النوع الثاني فيُعرف باسم فرح الزار وهو مُناسبة خاصة لا يحضرها عوام الناس مثل الحضرة وتُقام في بيت المرأة أو الرجل الممسوس وفيها تتم تهيئة الأجواء من خلال وضع طاولة في منتصف الغرفة مفروش عليها قطعة من القماش الأبيض يحيط بها الشمع وفي مركزها الأضحية..
وتبدأ جلسة الزار بدق الدفوف والرقص التكراري العنيف والغناء على أساس إيمان المريض بأن الأرواح سوف تقوم بالتجسُّد من خلاله وتعلن عن هويتها لتحقيق طلباتها في المستقبل ومن ثم تحقيق التصالح بين المريض والأسياد ، وهناك ثلاثة أنواع من الزار هي الزار الصعيدي وتقوم به الغجريات والطنبورة السودانية ودخلت مصر مع السودانيين المهاجرين زمن الاحتلال البريطاني وزار أبو الغيط نسبة لأحد الأولياء بالقليوبية (المرجع : دراسة عن الزار للباحث مصطفى هشام مجلة تعارف).

جذور الثقافة الشعبية في مصر
” وقفت وما في الموت شك لواقف .. كأنك في جفن الردى وهو نائم .. تمر بك الأبطال كلمى هزيمة .. ووجهك وضاح وثغرك باسم ” .. هذه الأبيات الشعرية للمتنبي في وصف انتصار سيف الدولة الحمداني على الجيش البيزنطي والتغني ببطولاته ، ورغم أن الدولة الحمدانية كانت صغيرة الحجم قصيرة العمر إلا أنها حازت شهرة أكبر من حجمها لم تصل إليه دولة أخرى مماثلة من الدويلات العديدة التي قامت في العصر العباسي الثاني وذلك بسبب ارتباطها بالشعر والشعراء حيث ذكرها أبو الطيب المتنبي في ثنايا شعره الذي خلد مع الزمن.
ويظهر جليا صدق مقولة : ” الشعر ديوان العرب ” حيث مكانة الشعر في التراث الشعبي المصري حيث الأدب الشفهي مثل السير وأيضا في الفنون الشعبية سواء الاجتماعية أو الدينية كلها عبارة عن تنويعات منبثقة من الشعر العربي التقليدي ، ولعل التغني بسير الأبطال في البادية كان من نتاج البيئة السياسية للدويلات العربية التي خلفت الحمدانيين في بادية العراق والشام مثل المرداسيين والعقيليين والمزيديين والخفاجيين وآل الجراح الطائيين.
وترجع أصول الدولة الحمدانية إلى قبيلة تغلب العربية المعروفة التي كانت تسكن في تخوم الفرات قبل الإسلام ثم انتقلت بعده إلى أعالي الفرات في المنطقة التي عرفت باسم ديار ربيعة بجوار ديار بكر في الأراضي التركية حاليا وديار مضر التي سكنتها قبيلة بني تميم في الجزيرة الفراتية .. ومن هذا الموقع أسس الحمدانيون دولتهم في كل من الموصل وحلب واستمرت حتى قيام الدولة الفاطمية ..
وبعد زوال حكم الدولة الحمدانية على يد الفاطميين انتقل الحمدانيون إلى القاهرة حيث عملوا في خدمة الخلفاء الفاطميين وظهر منهم الأمير ناصر الدولة بن حمدان الذي كان له دور كبير في أحداث الشدة المستنصرية حيث قاد القبائل العربية للاستقرار في وسط الدلتا بعد صراعات عنيفة مع الحرس السوداني والأتراك حيث شهدت القاهرة إسدال الستار على مغامرة الحمدانيين في المنطقة .
ومن خلال استعراض أوجه الثقافة الشعبية في مصر والتي تمت باختصار في هذه الدراسة يمكننا أن نصل إلى عدد من الملاحظات وهي :
أولا / الموروث الصوفي : وهو حاضر تقريبا في خلفية المشهد في كل السير الشعبية التي كانت مليئة بالحكم الفلسفية والمواعظ الأخلاقية ، ويرجع السبب في ذلك أن مدرسة التصوف كانت هي المهيمنة فكريا وشعائريا على الحياة الدينية والاجتماعية في مصر قرابة سبعة قرون وحدث تداخل بينها وبين القصص الشعبي بحيث صار للأولياء سير شعبية تحكي قصة حياتهم بينما تمتع أبطال السير الشعبية التقليدية بقدرات روحية ومعاونات من عالم غير منظور حتى بدا لوهلة أنهم قد سلكوا مسلك الأولياء وأهل الخطوة ..
ثانيا / الموروث القبلي : وهو حاضر بقوة في السير الشعبية الكبرى حيث ارتباط السيرة الهلالية بقبائل هلال وزناتة وسيرة سيف بن ذي يزن بالعرب اليمانية والزير سالم بقبائل ربيعة وفروعها وعنترة بن شداد بالعرب القيسية بينما كانت سيرة الأميرة ذات الهمة مدونة مطولة في بطولات العرب ضد أعدائهم من الروم فتجاوزت البعد القبلي إلى تأسيس لمفهوم القومية بمعناها المتوافق مع العصور الوسطى وكذلك سيرة حمزة البهلوان ورصد علاقة العرب بالفرس في ظل انتماء الثقافتين للحضارة الإسلامية ..
ثالثا / تأثير الجغرافيا : وهو ظاهر في التنوع الكبير في الفنون الشعبية تبعا للمنطقة الجغرافية من مصر فنجد فن القصيد في سيناء والمجرودة والشتيوة في الصحراء الغربية وفن الواو في جنوب الصعيد والنميم في الصحراء الشرقية والبمبوطية في منطقة القناة وشعر الملالاه في سيوة والتحطيب في الصعيد والتنورة في مراكز الصوفية المعروفة بالقاهرة والوجه البحري ، وهذا التنوع هو ما أثرى التراث الشعبي المصري بحيث إن البقعة الجغرافية وثقافتها المحلية هي التي رسمت معالم التراث تبعا للتكوين السكاني فيها ..
رابعا / تأثير التاريخ : وهو الأمر الظاهر في السير الشعبية والتي هي في حقيقتها محاولة لصناعة تاريخ محلي موازي تختلط مع الآداب والفنون التي عرفها الناس في أزمانهم ، والسير كلها تستند إلى وقائع محددة حدثت في التاريخ القديم لكن تم تضخيمها وإضفاء هالة البطولة عليها مع ملاحظة أن ثلاث من السير الكبرى ترجع لأبطال من العصر الجاهلي وهم عنترة والزير سالم وسيف بن ذي يزن كما أن سيرة عنترة تحكي تاريخ القبائل العربية الحقيقي ومعاركهم وصراعاتهم من خلال آلاف الصفحات ..
خامسا / التواصل الثقافي : وهو ملحوظ عندما نرى التأثيرات المتبادلة بين مصر وجيرانها حيث انتقال السمسمية من منطقة القناة إلى دول حوض البحر الأحمر وانتقال رقصة التنورة من المولوية التركية إلى طرقنا الصوفية وكذلك عادات الزار الوافدة من الحبشة ، وهناك ارتباط واضح بين الدحية السيناوية ومثيلاتها في النقب والأردن وبادية الشام (تشبه الدبكة) وكذلك الحجالة التي تجمع بين بدو الصحراء الغربية وامتدادهم الطبيعي في ليبيا ودول المغرب العربي وتطابق رقصات النوبيين والبجا والعبابدة في مصر والسودان ..
سادسا / موروث الفروسية : وهو كامن في ثنايا السير الشعبية من خلال كل أبطالها الذين هم فرسان وشعراء يجمعون بين الذائقة الأدبية والحضور الفني وفي نفس الوقت يخوضون المعارك ويحققون الانتصارات وفي صفاتهم الشهامة والمروءة والكرم والشجاعة مثل أجدادهم من العرب الأقدمين ، ومن اللافت أن ثلاث من الرقصات الشعبية هي الدحية والتربالا والهوسيت يستعمل فيها السيف واستبدل في الحجالة والتحطيب بالعصا وهو ما يحمل دلالة رمزية على فكرة القتال والحرب والصراع ومكانتها لديهم ..
سابعا / الحضور الفني : وهو ما تمثل في تنويعات الموسيقى والرقصات وإيقاعاتها والأزياء التقليدية لكل منطقة بالإضافة إلى الشعر العربي مع خلفية البيئة الجغرافية حيث رسم كل ذلك لوحة فنية تظل قابعة في الوجدان الجمعي للمصريين جميعا حيث تلبية الاحتياجات النفسية والعاطفية للمتلقي ، بل إن السيرة الهلالية نفسها قد تألفت من نسختين إحداهما للقبائل العربية تحكي انتصار بني هلال والثانية للقبائل المغربية تحكي انتصار زناتة وذلك ليتفق مع المزاج العام للجمهور المستمع وتحقيق هدفه من المتعة والتسلية ..
ثامنا / الحضور الاجتماعي : وهو ما ظهر جليا في كافة صور الفنون الشعبية لأنها في الأصل مناسبات اجتماعية أو تجمعات للسمر والتنزه أو لقاءات دينية أو احتفالات قبلية ومحلية وعائلية خاصة حفلات الزواج حيث الحضور الكبير للمرأة ومشاركتها في الفعاليات الفنية المختلفة ، والمرأة هي البطلة المطلقة في أكبر سيرة شعبية عربية (الأميرة ذات الهمة) والتي تتجاوز عشرين ألف صفحة ترصد فيها معالم الحياة الاجتماعية والتغيرات الثقافية في تاريخ الأمة التي قدر لها أن تسود وتحكم هذه البقعة من العالم ..
تاسعا / فكرة البداوة : والتي تحتل موضعا مركزيا في السير الشعبية والفنون المحلية بل وفي الموروث الصوفي ، كل أبطال السير الشعبية هم من أبناء البادية وأشهر الأولياء الصالحين يدعى السيد البدوي أوشيخ العرب وليس ذلك بسبب إعجاب الفلاحين بالبدو وإنما لسبب أهم وهو ارتباط البداوة بمواطنهم الأولى قبل غزوهم البلاد واستقرارهم فيها وتحولهم إلى مزارعين فهناك حنين جارف تجاه الذكريات المخزونة في الوجدان الجمعي والتي تشتاق إلى الصحراء والفروسية وحياة الأبطال ..
عاشرا / الذاكرة الشفوية : وأول من تحدث فيها هو الجاحظ حيث أبرز أهمية الأدب الشفهي جنبا إلى جنب مع الأدب المكتوب بل أحيانا يحتفظ التراث الشعبي بالذاكرة الحقيقة لتاريخ الآباء والأجداد ، وليس ذلك مقتصرا على مصر وحدها بل هو أمر موجود لدى كل الأمم والشعوب وبخاصة في الوطن العربي حيث كان انتشار نفس السير الشعبية في كل البلاد علامة على الوحدة الثقافية للمنطقة كلها ومؤشرا هاما على حركة القبائل العربية باتجاه الهلال الخصيب ووادي النيل والمغرب العربي ..
وفي الختام يرسم لنا التراث الشعبي ذلك التنوع الفني والاجتماعي وجذوره الكامنة في الوجدان الجمعي حيث التعددية الثقافية المحمودة تحت مظلة الهوية الوطنية الجامعة .
