
هو أستاذ ورئيس قسم التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية اللغة العربية جامعة الأزهر فرع المنصورة وعضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وأمين عام مساعد رابطة الجامعات الإسلامية والمدرس بالمسجد النبوي الشريف سابقا ، وهو من مواليد قرية محلة حسن مركز المحلة الكبرى عام 1938، حفظ القرآن كاملا في سن 11 سنة والتحق بمعهد سمنود الأزهري وحصل على الثانوية الأزهرية والتحق بكلية اللغة العربية في القاهرة وأثناء دراسته الجامعية تقدم للعمل بشهادة الثانوية في وزارة الأوقاف وترقى في العمل الوظيفي حتى تولى موقع سكرتير إدارة الدعوة والثقافة حيث عمل تحت رئاسة كل من الشيخ محمد الغزالي والشيخ سيد سابق ، حصل على شهادة التخرج الجامعي عام 1964 ودبلومة علم النفس عام 1965 وشهادة الماجستير في التاريخ الإسلامي عام 1968 ، عمل مدرسا لمادة الأدب والبلاغة في المعاهد الأزهرية الثانوية من عام 1965 وحتى عام 1969 ، سافر إلى الجزائر في الفترة من عام 1969 وحتى 1973 ضمن البعثة الأزهرية المكلفة بتعريب التعليم في الجزائر تحت قيادة الشيخ محمد متولي الشعراوي ، عمل مدرسا لمادة النحو والصرف في ثانوية الطائف بالمملكة العربية السعودية في الفترة من عام 1974 وحتى 1978 ثم حصل على شهادة العالمية (الدكتوراة) في عام 1978 عن رسالته (الأزهر ومكانته العلمية والدينية في العصر الفاطمي) وقد بذل فيها جهدا كبيرا في البحث وجمع المخطوطات وسافر إلى مكتبات باريس ومراكش وفاس وتونس والدار البيضاء ،
عمل مدرسا للتاريخ الإسلامي في كلية أصول الدين بطنطا في الفترة من عام 1979 وحتى عام 1981 وكان مشرفا على اتحاد الطلاب في الكلية ، وفي الفترة من عام 1981 وحتى 1985عمل في وظيفة أستاذ مساعد في قسم الدعوة والإعلام بالمعهد العالي للدعوة الإسلامية بالمدينة المنورة ومحاضرا مناوبا في إحدى حلقات التدريس في المسجد النبوي الشريف ومقدما لبرنامج ديني في التليفزيون السعودي ، وتقديرا لجهوده كرمه الشيخ عبدالعزيز بن باز حيث استضافه في بيته واحتفى به وأهداه مكتبة قيمة حافلة بأمهات المراجع والكتب ، وفي الفترة من عام 1986 وحتى عام 1992عمل رئيسا لقسم التاريخ والحضارة الإسلامية بكلية اللغة العربية بالمنصورة وعضوا في المجلس الأعلى للشئون الإسلامية وخطيبا للجمعة بمساجد شركة غزل المحلة وعضوا في مجلس إدارة جمعية سيدي جابر الخيرية بالإسكندرية ومقدما لعدد من البرامج الدينية في التليفزيون المصري (الدين المعاملة ـ في بيوت الله ـ حديث الروح) ، وفي عام 1988 تم اختياره ضمن وفد الأزهر المسافر إلى العراق لإقرار المصالحة مع إيران بدعوة من الرئيس صدام حسين ، وفي عام 1990 سافر على رأس وفد أزهري إلى إندونيسيا بدعوة من الرئيس سوهارتو وفي عام 1992 عمل لفترة قصيرة أستاذا زائرا في مكة المكرمة وفي عام 1993 أوفده الشيخ جاد الحق علي جاد الحق للسفر نيابة عنه إلى سويسرا وإيطاليا للإشراف على النشاط الديني للجاليات المسلمة في أوروبا حيث قام بزيارة معسكرات لاجئي البوسنة والهرسك بصحبة الأستاذ يوسف ندا.
عمل في وظيفة أستاذ للسيرة النبوية في قسم العقيدة بكلية أصول الدين بجامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض والمدينة المنورة في الفترة من عام 1993 وحتى عام 2003 حيث أشرف على مئات الأبحاث والرسائل العلمية ، وفي عام 2004 عمل مستشارا لوزير الأوقاف الكويتي لشئون الدعوة والإرشاد حيث قام بالإشراف على المساجد بالاشتراك مع الشيخ سيد نوح ، وفي عام 2005 عمل محاضرا في جامعة الإيمان بمدينة صنعاء اليمنية حيث نزل في ضيافة الشيخ عبد المجيد الزنداني ، وفي الفترة من عام 2005 وحتى 2013 عمل عضوا بمجلس رابطة الجامعات الإسلامية ومقدما للبرامج بإذاعة القرآن الكريم وقناة الرحمة وكاتبا بمجلة الأزهر ومحاضرا في معهد إعداد الدعاة والجمعية الشرعية ، ومن مؤلفاته : (مناهل الصفا في سيرة المصطفى .. العالم الإسلامي بين الماضي والحاضر .. الوحدة الإسلامية في مواجهة التحديات المعاصرة .. محاضرات في تاريخ الحضارة الإسلامية .. الرسول صلى الله عليه وسلم بشيرا ونذيرا .. الخلافة والخلفاء الراشدون .. الأقليات المسلمة في الاتحاد السوفيتي .. الأزهر ومكانته العلمية والدينية في العصر الفاطمي .. الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر وأثره في بناء الإنسان وإرساء قيم الإيمان) ، وكان له نشاط وافر في مجال التعليم والدعوة في كل من السعودية واليمن والأردن والكويت والصومال والعراق وتونس والجزائر والمغرب وفرنسا وسويسرا وأسبانيا وإيطاليا وتركيا وإندونيسيا والسنغال وجامبيا ، وقد توفي إلى رحمة الله عام 2017 بعد حياة حافلة بالعطاء العلمي والدعوي .. رحمه الله رحمة واسعة وأسكنه فسيح جناته.

ولا أخفيكم سرا أنني ساعة كتابة هذه السطور لم أستطع التحكم في مشاعري حيث هاجت علي ذكرياتي مع الوالد الكريم رحمه الله وتذكرت ما أخذت عنه من أدب وعلم ومنها ما حدث عندما صحبته رحمه الله في زيارة إلى المسجد النبوي الشريف ولدى خروجنا من باب السلام ألقيت حذائي على الأرض مثلما أفعل عند الخروج من المساجد فأحدث الحذاء صوتا مرتفعا فنظر لي الوالد نظرة عتاب وقال : (في هذا المسجد عند خروجك ألق حذاءك برفق حتى لا يحدث صوتا .. بعد وفاة الرسول كان الإمام علي بن أبي طالب إذا أراد إصلاح نعله يخرج به من مكان الحجرات بعيدا حتى لا يعلو صوت الدق تأدبا وتلطفا مع المقام الشريف .. ألا ترى الآية المكتوبة فوق قبر النبي صلى الله عليه وسلم والتي تأمر بخفض الصوت في حضرة المصطفى) ، تذكرت الآية فورا وتلوتها بصوت خافت وأنا أستحضر المعنى الجميل والحضور الجليل ” إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى لهم مغفرة وأجر عظيم ” ومن وقتها وأنا لا أرمي حذائي على الأرض في أي مكان طالما سوف يحدث صوتا يتنافى مع الأدب واحترام المساجد فكانت نصيحة الوالد درسا عمليا يغني عن كل موعظة ، وقد تذكرت ساعتها ما قرأته سابقا عن السلف الصالح الذين كانوا يخفضون الصوت عند سماع الأحاديث النبوية إكبار وتعظيما للسنة المطهرة وتأويلا لطيفا لقوله تعالى ” لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ” وهو مقصد يتجاوز ظاهر النص إلى عمق المعنى حيث الاستجابة للتكاليف القرآنية التي تسمو بالنفس وتهذب الخلق وترتقي بالروح.
وقد تعلمت منه دروسا لا تنتهي .. فقد صحبته يوما في أحد مناسبات الزواج حيث كان من المقرر أن يقوم بإشهار عقد القران في المسجد .. وكان من عادة الوالد دائما أنه عند تلاوة صيغة العقد أن يقول لكل من العريس ووالد العروسة العبارة التقليدية (.. على كتاب الله وسنة رسول الله .. وعلى الصداق المسمى بيننا عاجله وآجله .. وعلى مذهب الإمام الأعظم أبي حنيفة النعمان ..) لكن في هذه المرة عندما قالها الوالد رفض العريس أن يكرر عبارة (وعلى مذهب الإمام أبي حنيفة) وإنما استبدلها بعبارة (وعلى مذهب السلف الصالح) ولم يشأ الوالد أن يتسبب في أي حرج فتمم الإجراءات سريعا ثم انصرفنا ، لكنه أثناء عودتنا قال لي عن العريس : (هذا الشاب قليل الفقه) فقلت له : (حضرتك زعلان منه عشان رفض الانتماء المذهبي .. هو حر مش عايز يتجوز على مذهب أبو حنيفة .. غالبا هو سلفي أو متأثر بالسلفية) ، ضحك الوالد وقال : (ولهذا هو قليل الفقه .. من حق كل فرد أن يتبع في الفقه مذهبا معينا أو لا يتبع أي مذهب على الإطلاق .. المذاهب غير متعلقة بالأفراد ولا يهم عوام المسلمين أن يكونوا على هذا المذهب أو ذاك .. لكن عند الاحتكام إلى قوانين الأحوال الشخصية فإن المشرع والقاضي كلاهما ملزم باتباع مذهب محدد حتى تبنى عليه القوانين وتوضع وفقه الأحكام القضائية .. والمذهب الرسمي المعمول به في مصر في الأحوال الشخصية منذ زمن طويل هو المذهب الحنفي .. بل إن المذهب الحنفي معمول به في كل الأمور في غالبية العالم الإسلامي ويتعبد به أكثر من سبعين في المائة من المسلمين خاصة في الهند وباكستان وبنجلاديش وتركيا وآسيا الوسطى والبلقان .. أنا مثلا شافعي المذهب لكني تزوجت على مذهب أبي حنيفة بحكم الأمر الواقع وأنت ليس لديك مذهب محدد لكنك سوف تتزوج أيضا على مذهب أبي حنيفة وهذا العريس قليل الفقة قد يكون سلفيا في مذهبه لكنه بالفعل قد تزوج على مذهب أبي حنيفة سواء قال ذلك بلسانه أو لم يقله لأن شروط عقد الزواج الذي مضى عليه قد صدر عن مأذون تابع لوزارة العدل مصرح له بعقد الزواج وفق قانون مستمد من المذهب الحنفي ولو حدثت أي مشكلة بينه وبين زوجته في المستقبل فسوف يحكم بينهما وفق مذهب أبي حنيفة الذي لا يعجبه لسبب واحد وهو أنه قليل الفقه والعلم .. والأدب كذلك !!).
وتحت عنوان (سيف المعز وذهبه .. التاريخ ليس وجهات نظر) كتبت واحدة من ذكرياتي معه وقلت : ” أثناء الإعداد لتأليف كتابي (هوية مصر الحضارية) عرضت بعض فصوله على والدي رحمه الله وهو أستاذ التاريخ الذي قضى نصف قرن من عمره بين المراجع والمخطوطات فلفت نظره جملة عابرة جاءت في ثنايا الحديث عن الدولة الفاطمية حيث كتبت : ” إن سيف المعز وذهبه قد صنعا أقوى دولة منتسبة إلى الإسلام في العصر الوسيط … إلخ ” فوضع بقلمه علامة على جملة سيف المعز وذهبه وكتب جوارها تعليقا وسألني عن المرجع الذي نقلت منه هذه المعلومة فقلت له في دهشة : ” العبارة مشهورة جدا وذكرها كل المؤرخين حتى أصبحت هذه الجملة مثلا سائرا وأشهر من نار على علم ولا تحتاج إلى ذكر المصدر ” .. وترجع تلك القصة إلى رواية متداولة مفادها أن المعز لدين الله الفاطمي عندما دخل مصر طلب منه بعض الأشراف أن يذكر لهم نسبه فنثر عليهم دنانير ذهبية وقال هذا حسبي ثم رفع سيفه إلى منتصف غمده وقال هذا نسبي فصارت الكلمة مثلا معروفا وردا مسكتا منه على من سأله لأنهم جميعا قالوا قد رضينا بنسب أمير المؤمنين وحسبه .. وهذه الرواية تغازل المخيلة الشعبية عند العوام عن الخلفاء من ذوي الرؤية والحكمة لكنها تحمل في طياتها عجز المعز عن إثبات نسبه وهو ما لا يتفق مع الأسس التي قامت عليها دولة الفاطميين من ادعاء الانتساب إلى البيت العلوي حيث الإمامة ركن من أركان المذهب الشيعي الإسماعيلي .. والحقيقة أنني وضعت نفسي في مأزق لأن رسالة الوالد للدكتوراة كانت حول الدولة الفاطمية وقضى في جمع مخطوطاتها سبع سنوات متنقلا بين فرنسا وتونس والجزائر والمغرب وجمع فيها مئات المخطوطات ولذا فقد تحداني أن أذكر اسم مرجع واحد ذكر هذه الحادثة فعجزت عن ذلك فأخبرني أن هذه الرواية مكذوبة وقد وضعها بعض الكتاب في بغداد للطعن في نسب المعز ونسبت للشريف ابن طباطبا رغم أنه توفي قبل قدوم المعز إلى مصر بثلاث سنوات .. وعندما أصررت على كتابة الجملة عاتبني بالقول : ” معلومات التاريخ تؤخذ من المراجع المعتمدة وهي تختلف عن الرأي الشخصي وإلا صار التاريخ نهبا لكل من هب ودب ” ..

وتحت عنوان (ذكرى ورثاء) كتبت عنه قائلا : ” بعد أيام قليلة تحل الذكرى السنوية الأولى لوفاة الوالد الكريم رحمه الله .. وطوال العام الماضي لم أكتب أي كلمة رثاء أو تأبين له لأنني في الحقيقة كنت غير مصدق أنه رحل عن عالمنا .. وقد كانت ذكرياتنا معا لا تزال ماثلة أمام مخيلتي خاصة تلك الأيام التي كنا نجلس فيها في (البلكونة) ساعة المساء وننطلق في أحاديث طويلة في السياسة والتاريخ والشعر والفقه والفلسفة .. والطب أحيانا ، وقد كانت أجمل هذه الذكريات وأعزها على نفسي هي تلك الزيارة التي قام بها في شهر مايو 2016 إلى السعودية حيث التقينا بعد غياب طويل وقضى الوقت معي في مراجعة كل مؤلفاتي وكتب بخط يده تعليقاته القيمة في الهامش ثم أعطاني قصيدة من تأليفه تصف هذا اللقاء بعد الافتراق وجاء في مطلعها : (عام ونصف لم أره .. والله يرعى من يره .. كم ليلة قد بتها .. سهدا أناجي منظره) ، ومن حق كل إنسان أن يحزن لفقد والديه لكن حزني عليه ليس كأي ابن يرثي والده وإنما هو نابع من معرفة قدره ومكانته العلمية والدعوية قبل أن تكون صادرة عن عاطفة البنوة وشجن الفراق وقد كانت جنازته الحاشدة خير تعبير عن محبة الناس وتأثرها بدوره الذي عرف به في الوعظ والإرشاد والتدريس من فوق منبر المسجد أو من خلال الإذاعة والتليفزيون سنين طويلة أو من خلال مؤلفاته المكتوبة ..
لذلك لن أتحدث عن هذا الجانب الذي يعرفه الجميع وإنما سوف أتكلم عن جوانب خفية في رجل كان يتمتع بالعديد من المواهب والملكات وأهمها المثابرة في البحث العلمي الجاد حيث قضى سنوات يتنقل بين المخطوطات المتعلقة بالدولة الفاطمية في تونس والجزائر وروما وباريس ومراكش وفاس والدار البيضاء رغم أنه وقتها لم يكن قد عمل في الجامعة بعد وإنما كان لا يزال يعمل بالتدريس في المدارس الثانوية ولذا جاءت رسالة الدكتوراة عالية المستوى تحوي الكثير من الخرائط القديمة وصور المخطوطات النادرة وسلاسل الأنساب الموثقة وقد جمعها كلها من مصادرها الأصلية فكانت إسهاما علميا كبيرا وكشفا لكثير من الغوامض التي أحاطت بالدولة الفاطمية في المغرب ومصر لذلك كان الجميع يتعجب من تلك الشدة الأكاديمية التي ظهرت أثناء إشرافه على مناقشة الدكتوراة الخاصة بالشيخ محمد حسان حيث كانت الدقة العلمية طابعه الدائم طوال حياته الدراسية والعلمية ، وقد كان رحمه الله من القلائل الذين يجيدون الكتابة والتحدث باللغة العبرية وكثيرا ما تمت الاستعانة به لترجمة النصوص الدينية القديمة وفي أحد المؤتمرات الدولية كان يقف على المنصة ويتحدث في موضوع متعلق بمخطوطات تم اكتشافها في الأردن بالقرب من البحر الميت وقاطعه أحد المستشرقين الأوروبيين طالبا منه الاستدلال على صحة ما يقول فإذا بالوالد يغير لغته فورا من العربية إلى العبرية وتحدث بها ربع ساعة متواصلة دون الرجوع إلى أي ورقة ناطقا باللغة الأصلية للمخطوطات حتى أنهى كلامه وسط عاصفة من التصفيق ..
إلى جانب ذلك كان شاعرا وأديبا حيث كتب عددا من دواويين الشعر والمسرحيات وذلك في الفترة التي قضاها في القاهرة (عشر سنوات) حظي خلالها بعلاقة قوية مع كل الدوائر المهتمة باللغة العربية والأدب العربي وكذلك احتفظ بصلات قوية مع عدد من الكتاب والفنانين مثل عبد الرحمن الشرقاوي وكرم مطاوع خاصة عندما عهد إليه بالمراجعة التاريخية لعدد من الاعمال الأدبية منها مسرحية (الحسين ثائرا وشهيدا) كما كانت تربطه علاقة الجيرة مع الملحن الشيخ سيد مكاوي وظلت هذه العلاقة قائمة فترة طويلة حيث كان الشيخ سيد كلما جاء إلى العمرة بعد ذلك يحرص على الالتقاء بالوالد وفي آخر لقاء لهما في المدينة المنورة طلب الشيخ سيد من الوالد إحدى قصائده في المدائح النبوية ليقوم بتلحينها وغنائها لكن القدر لم يمهله ، أما المهارة الكبرى للوالد رحمه الله فقد كانت تلك المقدرة الفائقة على نسج العلاقات الاجتماعية مع الجميع رغم اختلاف المشارب والثقافات خاصة في السعودية حيث المئات من زملائه وتلاميذه ومحبيه وذلك على مدار سنوات طويلة تمتع فيها باحترام الدوائر العلمية والحكومية في المملكة ومن المواقف الطريفة في ذلك عندما كان الوالد يوما في المسجد النبوي وسمح له بتجاوز الحراسة المحيطة بسماحة المفتي الشيخ عبد العزيز آل الشيخ فألقى عليه السلام فإذا بالرجل يصيح فرحا : ” الشيخ العدوي .. أهلا وسهلا ” وقد تذكر صوته المميز رغم انقضاء وقت طويل على عملهما المشترك وترك المفتي كل مرافقيه ليقضي الوقت في الترحيب الحار به .. كما كانت علاقته وثيقة بالأمير محمد بن أحمد السديري وأبنائه حيث قام بالتدريس لعدد كبير منهم عندما عمل في الطائف ..
ومن اهتمامات الوالد التي لا يعلمها كثير من الناس كان (المجال السياسي) حيث كان دائم القراءة والاطلاع فيه ربما أكثر من أي مجال آخر بما في ذلك التاريخ الإسلامي واللغة العربية لكن هذا الاهتمام كان مقتصرا على الناحية النظرية ولم يتعداه إلى المشاركة العملية حيث عرض عليه في الستينات أن ينضم إلى الاتحاد الاشتراكي مع وعد بتقلده موقعا قياديا كبيرا لكنه رفض في إصرار كان سببا لمشكلات كبيرة مع النظام وفي فترة لاحقه رفض عرضا بتعيينه وكيلا لوزارة الأوقاف حتى لا يتسبب هذا المنصب في تعطيله عن العمل الجامعي والبحثي وفي الفترة التي أعقبت ثورة يناير قمت بالوساطة بينه وبين عدد من الأحزاب الإسلامية لترشيحه على رأس قائمة انتخابية في مجلس الشعب وذلك للاستفادة من شعبيته الكبيرة في مدينة المحلة لكنه أصر على الاعتذار وقال لي : ” هذا السيرك سوف ينفض قريبا جدا ” وكانت تحليلاته السياسية جميعا صائبة وفي محلها حيث تذكرت معه هذه الكلمات أثناء لقائنا الأخير وضحكنا طويلا واسترجعنا كل الذكريات الجميلة .. إن الله لا ينزع العلم من الأرض انتزاعا ولكن ينزعه بموت العلماء فإذا ماتوا قام في الناس رؤوس جهال افتوا بغير علم فضلوا واضلوا .. رحم الله الشيخ الكبير والعالم الجليل الذي قال كلمة الحق ولم يخش في الله لومة لائم وتحمل في سبيل ذلك العنت والمشقة وأثر الحق على الخلق فبقيت آثاره تدل عليه “.

وبمناسبة إعادة ترتيب مكتبة الوالد كتبت قائلا : ” لا أدري إن كان هناك مرض يسمى (فرط الحنين للأشياء) .. فأنا بالفعل قد أرتبط وجدانيا بأشياء كثيرة مثل غرفتي التي عشت فيها زمنا طويلا أو السيارة التي شهدت معي أحداثا عديدة أو المكتب الذي كتبت عليه كلمات لا تنسى أو العيادة التي عملت فيها زمنا حوى الكثير من ذكرياتي .. ولذلك فإن من أقسى المواقف في حياتي عندما أضطر للانتقال من مسكن إلى آخر أو من عمل إلى غيره لأني أشعر أن جزءا من وجداني قد ارتبط بهذا المكان .. وأعظم مكان ينتابني فيه هذا الشعور هو مكتبة الوالد رحمه الله حيث شهدت بصحبته تكونها وامتلاءها بالكتب عاما بعد عام .. ولا تكاد تمر مناسبة إلا وكان يوصيني بها وبما احتوته من كنوز معرفية لا يقدر قدرها إلا أهل الفكر والثقافة لأنها لم تكن قاصرة على الكتب الإسلامية كما يخيل للناظر من أول وهلة وإنما احتوت كل فروع الأدب واللغة والتاريخ والفلسفة والصحافة والعلوم والجغرافيا بالإضافة إلى عدد كبير من الروايات والكتب الأجنبية المترجمة .. وكثيرا ما كنت أقضي فيها من الوقت متأملا عناوين الكتب وكل واحد منها كان نتاج جهد وعقل إنسان رحل عنا منذ زمن طويل أو موجود بيننا لكن لم أقابله أو أعرفه لكنه ترك لنا جسرا نعبر منه إلى فكره وعلمه .. وكلما قرأت كتابا منها أضفت إلى عقلي ووجداني خلاصة تجربة كاملة تفتح أمامي آفاق المعرفة وتزيد من رصيدي في فهم الحياة .. لذا فإن الحنين إلى هذه المكتبة يفوق لدي كل عاطفة لأنها تشكل جزءا عزيزا غاليا من ذكرياتي .. “.
والوالد الكريم هو أحد منظري منهج الوسطية في الفكر الإسلامي المعاصر حيث بنيت على مذهبه كل آرائي التي كتبتها في كتاب (مقاصد الإسلاميين) حيث الارتباط بين الخيرية والوسطية (كنتم خير أمة أخرجت للناس .. وكذلك جعلناكم أمة وسطا) كما استحضرت روح أفكاره وأنا أتناول تفسير القرآن الكريم في كتابي (نداء الإيمان .. مقالات في بلاغة الذكر الحكيم) ، وقد تأثرت كثيرا بنظرته الثاقبة لآمال النهوض في العالم الإسلامي حيث ذكر ذلك في كتابه (العالم الإسلامي بين الماضي والحاضر) حيث يقول : ” والحق أن أصدق وصف يطلق على الإسلام في هذا المقام هو أنه دين طيار ينتقل من إنسان إلى إنسان ومن أمة إلى أمة في سهولة ويسر كأن له أجنحة قدسية تحمله وتجري به مجرى الريح وإنك لتنظر إلى خارطة الأرض وتتأمل مدى انتشار الإسلام فتتعجب من سعته ويزداد عجبك عندما تتبين أن ثلث هذه المساحة فحسب هي التي فتحتها الدول ودخلتها جيوش المسلمين فاتحة أما الباقي فقد دخلها الإسلام وملأ قلوب أهلها دون جهد منظم أو سياسة مرسومة لذلك إنما هو الإسلام جعله الله خفيفا على القلوب قريبا إلى النفوس فهو دين الفطرة : (فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون) الروم 30 ” .. رضوان الله على إمام التقى وعلم الهدى ونفعنا بعلمه وجمعنا به في مستقر رحمته إنه سبحانه ولي ذلك والقادر عليه .. آمين.
