
الشعور القومي غريزة فطرية لأنها مما يعزز الانتماء الوطني ويبعث على الفخر بالهوية الحضارية .. وتحديد معالم الهوية الوطنية لا تصنعها الأحلام والأماني وليست مشاعا لرغبات البعض وتصوراته .. وإنما تخضع لضابط هام وحاكم ومهيمن ألا وهو الدستور المصري المستفتى عليه من الشعب والذي تم إقراره من أغلبية الناخبين مرتين الاولى عام ٢٠١٤ والثانية في تعديلات ٢٠١٩ .. والدستور هو الوثيقة القانونية الأعلى في البلاد حيث يجب الالتزام به وبجميع مواده طالما هي سارية ولا يجوز الدعوة لمخالفته أو إنكار أي من مواده وإلا كان دعوة لتعطيل الدستور .. وقد نص الدستور في ديباجته (وهي جزء لا يتجزأ منه) على عروبة مصر ومكانتها في الوطن العربي ثم كرر ذلك صراحة في المادة الأولى التي نصت على الالتزام بالتكامل والوحدة العربية .. وجعل الدستور اللغة العربية لغة البلاد الرسمية وتعليمها إلزامي ونص على تعدد الروافد الثقافية والحضارية في تاريخ مصر وأكد على الاعتراف بكل تلك المكونات مجتمعة في نصوصه الدستورية .. كما نص الدستور على احترام كل شعارات الدولة بما فيها العلم الذي يحتوي على شعار الدولة الرسمي وهو النسر الاصفر المأخوذ من نسر السلطان صلاح الدين الأيوبي .. والوطن العربي هو حقيقة تاريخية وجغرافية ..
إذا وقفت عند مدينة السلوم وقررت مواصلة السير باتجاه الغرب برا أو بحرا فإنك بذلك تدخل في نطاق المغرب العربي والذي يضم الساحل الليبي ثم تونس الخضراء ثم الجزائر بلد المليون شهيد ثم الريف المغربي (حيث لا زالت أسبانيا تحتل جزءا منه) ثم جبال أطلس وساحل المحيط حيث تنتهي بك الرحلة في الأراضي الموريتانية عند مصب نهر السنغال ومنها إلى المدينة العربي تمبكتو التي صارت جزءا من مالي .. وإذا وقفت عند مدينة حلايب وقررت مواصلة الاتجاه نحو الجنوب برا أو بحرا فإنك حتما سوف تمر بالأراضي السودانية ثم أريتريا (وهي دولة يشكل العرب فيها غالبية السكان) ثم الساحل الصومالي بأجزائه المختلفة فإذا انتهت الصحراء وبدأت الغابات فسوف تغير اتجاه سيرك إلى هضبة الحبشة حيث تحتل أثيوبيا ثلاثة أقاليم عربية هي أوجادين وعفار وبني شنقول ومنها إلى حوض النيل العظيم في قلب السودان.
وإذا وقفت عند مدينة طابا وقررت الاتجاه شرقا فإنك بذلك تخطو خطواتك نحو البادية العربية حيث تمر على المدينة المصرية (أم الرشراش) التي يحتلها الكيان الصهيوني ويطلق عليها اسم إيلات ثم بعد ذلك مدينة العقبة الأردنية ثم باتجاه ساحل البحر تقابل مدين حيث تأخذك المسيرة برا أو بحرا إلى الأراضي المقدسة في الحجاز ثم اليمن السعيد ثم ساحل عمان والخليج العربي الذي ينتهي عند مصب نهر الفرات .. أما إذا وقفت عند مدينة رفح وقررت الاتجاه شمالا برا أو بحرا فإنك بذلك تدخل الساحل الشامي حيث فلسطين المحتلة ثم جبال الأرز في لبنان ثم سوريا العروبة ثم الأقاليم السورية العربية الشمالية (والتي تحتلها تركيا بما في ذلك لواء الإسكندرونة وأنطاكيا والرها) ثم الجزيرة الفراتية ومنها إلى العراق المجيد الممتد بين النهرين حتى تصل إلى الأحواز العربية (والتي تحتلها إيران) لتجد نفسك من جديد عند حافة الجزيرة العربية.
من الناحية الجغرافية ينقسم العالم بأسره إلى عشر تكتلات كبرى متمايزة سكانيا وجغرافيا وثقافيا وعرقيا هي (الصين ، الهند ، جنوب شرق آسيا ، الهضبة الآسيوية ، روسيا وأوروبا السلافية ، أوروبا الغربية ، أمريكا الشمالية الأنجلوساكسونية ، أمريكا اللاتينية ، أفريقيا جنوب الصحراء ، الوطن العربي) وكل تكتل من هؤلاء له خصائصه التي تحددت وفق الطبيعة الجغرافية حيث كان من نصيب الوطن العربي أن يكون صحراء قاحلة فسكن الناس سواحل البحار وضفاف الأنهار والواحات المتناثرة من الخليج إلى المحيط ، وكل تكتل بشري من هذه التكتلات يميزه توزيع جيني محدد لعدد من السلالات المختلطة يختلف تماما عن بقية التكتلات (وهذا التوزيع ثابت منذ عشرين ألف سنة على الأقل) وهذا يعني أن كلا من الفراعنة والكنعانيين والبابليين والأمازيغ وعرب الجزيرة والأحباش التيجراي ينتمون إلى أصل واحد ، وهذا يسري على أحفادهم بالطبع لأن الأجداد والأحفاد يعيشون في بيئة مغلقة ومحمية من الاختلاط الجيني حيث الصحراء الكبرى والبحار وجبال زاجروس وأرمينيا حيث الاختلاط الجيني موجود في الأطراف فقط.
واللغة العربية التي تسود المنطقة حاليا هي لغة (العرب المستعربة) وهي لغة تكونت من اندماج عدد من اللهجات المتفرعة عن واحدة من اللغات القديمة يطلق عليها (اللغة الأفروآسيوية) والتي كانت تضم العربية الجنوبية والجعزية والحبشية والكوشية والقبطية والأمازيغية والكنعانية والآرامية والبابلية والعبرية ولهذا استطاعت أن تبتلع كل أشقائها بسهولة بينما لم تتمكن من تجاوز الصحراء الكبرى إلى أفريقيا الإسلامية ولا تمكنت من الانتشار في آسيا الإسلامية فلم ترافق الدين الإسلامي الذي تجاوز نطاق الوطن العربي ، والدين هو أحد أهم محددات هوية المنطقة لأنها مهد الرسالات السماوية حيث ظهرت فيها اليهودية (والتي آمن بها اليهود المزراحيم والفلاشا واليمنيم وجميعهم من سكان المنطقة الأصليين) ثم انتشرت في حوض المتوسط (ودخل فيها السفارديم الأسبان والأشكيناز الألمان واليديش السلاف) ثم المسيحية ومنها انتشرت إلى أوروبا والعالم الغربي (مع تميز المذاهب الشرقية عن بقية المسيحيين مثل الأقباط والسريان والكلدان والأحباش) وكذلك الإسلام الذي ظهر فيها وانتشر شرقا وشمالا إلى آسيا وغربا وجنوبا إلى أفريقيا.
والعرب الحاليون ينقسمون إلى خمسة أقسام جغرافية وسكانية .. الجزيرة العربية وتسكنها القبائل العربية من عاربة ومستعربة .. والهلال الخصيب حيث يسكنه خليط من العرب مع أبناء عمومتهم من أحفاد الغساسنة والمناذرة والسريان المستعربين .. والقرن الأفريقي حيث خليط من العرب والأحباش والبجا والنوبيين .. والمغرب العربي حيث خليط من العرب والأمازيغ .. ومصر حيث خليط من كل ذلك مجتمع حيث تجد في مصر ذوي الأصول الأفريقية والمغاربية والشامية والحجازية ويندر العكس ، لذا فإن القومية المصرية هي إطار جامع لسكان وادي النيل من الناحية الاجتماعية فقط لأنه لا يوجد في مصر لغة خاصة بها وحدها (العامية المصرية هي إحدى لهجات العربية وليست لغة منفصلة) ولا مقتصرة على دين خاص بها مثل الهند مثلا وإنما مرتبطة بغيرها وليست هناك فوارق جينية أو عرقية تفصلها عن جيرانها بل إن جزءا كبيرا من سكانها يرجع لأصول عربية صريحة في سيناء وجذور ليبية قريبة في مطروح وقبائل البجا الكوشية في ساحل البحر الأحمر وعدد كبير من النوبيين القادمين من أعالي النيل في الزمن القديم.
والوطن العربي لم يعرف التفرق طوال تاريخه فقد كانت مصر والسودان والشام وأعالي الفرات وليبيا خاضعة قرونا طويلة لحكم الفراعنة ثم حكم الإغريق في عهد البطالمة والسلوقيين ثم أضيف إليها المغرب العربي في عهد الرومان ثم أضيفت إليها الجزيرة العربية والعراق في العصور الإسلامية خاصة في العهد الفاطمي والأيوبي حيث نشأت ممالك من قلبه وفي النهاية خضع الوطن العربي كله للغزو العثماني القادم من خارجه والذي عجز عن الدفاع عنه ضد الاستعمار الذي استولى عليه تدريجيا ثم قسمه دويلات ، وكل التكتلات البشرية الكبرى تسعى للتوحد حيث البقاء للكيانات الكبرى مثل الهند والصين وروسيا الاتحادية والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأمريكية .. ولذا فإن الدول اللاتينية خطت خطوات واسعة في اتجاه الوحدة بينها وكذلك دول جنوب شرق آسيا (الآسيان) رغم تعدد ثقاقاتها ما بين إسلامية ومسيحية وبوذية وشيوعية وكذلك دول الهضبة الآسيوية حيث تحاول كل من إيران وتركيا تجميع الشوب الآرية والطورانية حولهما وكذلك الحال في أفريقيا السمراء حيث السعي للوحدة وبالمثل فلا بقاء للعرب إلا إذا توحد الوطن العربي ..

وإذا نظرت إلى خريطة جوجل الفضائية سوف تلاحظ على الفور أن اللون الأبيض المميز للثلوج موجود في القطبين وأن اللون الأخضر المميز للزراعة والغابات والأحراش والسافانا يغطي كلا من الأمريكتين وأوروبا وسيبيريا وأفريقيا جنوب الصحراء والصين والهند وجنوب شرق آسيا .. وستجد اللون الرمادي المائل للبني المميز للمرتفعات والجبال موجود في الهضبة الآسيوية من منغوليا والتبت شرقا وحتى الأناضول والقوقاز غربا وموجود أيضا في قارة أستراليا وفي غربي الأمريكتين .. أما اللون الأصفر الفاقع المميز للصحراء فهو يوجد بصفة أساسية في تلك البقعة المعروفة باسم (الوطن العربي) ، وسوف نطلق على هذه البقعة الجغرافية اسم (المنطقة الصفراء) لأن مصطلح (الوطن العربي) مكروه لدى الكثيرين لأسباب متنوعة حيث يرى البعض أن الانتماء للعروبة هي دعوى جاهلية قصد بها منافسة الانتماء للعالم الإسلامي ويرى آخرون أن مصر فرعونية وأنها لا تنتمي لجيرانها ويرون قطع كل صلة بينها وبين العرب كما أن المصطلح بالطبع يسبب (أرتكاريا حادة) لدى الأقليات الدينية واللغوية التي تخشى من الذوبان في هذا العالم الكبير مما يهدد بفقد الخصوصية الطائفية من جوانبها الثقافية والاجتماعية ولتجاوز ذلك صك بعضهم تلك المصطلحات المضحكة (الشرق الأوسط وشمال أفريقيا).
وتتكون (المنطقة الصفراء) من خمسة أقسام جغرافية هي : (الجزيرة العربية / الهلال الخصيب / وادي النيل / القرن الأفريقي / المغرب الكبير) حيث ينتشر فيها السكان حول ضفاف الأنهار وقرب السواحل وفي الواحات والمرتفعات .. نحن أبناء الصحراء منذ القدم بما في ذلك الحضارات القديمة حيث جاء الفراعنة والبابليون قطعا من الصحراء ليستوطنوا ضفاف النيل والفرات عندما صارت صالحة للسكنى وكذلك فعل الفينيقيون والكوشيون والأمازيغ عندما غادروا الصحراء إلى السواحل بعد أن صارت آمنة من تقلب المناخ .. وقد كان أكبر الآلهة الفرعونية (رع) يحمل هذه الدلالة لأنه يعني حرفيا (الراعي) في تذكرة بحياتهم الأولى ، ويتبنى البعض وجهة النظر القائلة بأن الجزيرة العربية فقط هي التي ينطبق عليها وصف العروبة بينما البقية مجرد (دول ناطقة بالعربية) أي أنهم (مستعربون) .. لكن في الحقيقة فإن هذا الوصف ينطبق أيضا على الجزيرة العربية لأن أكثر من 80 % من سكانها من (العرب المستعربة) والقادمين إلى الجزيرة من العراق والشام ومصر بعد انهيار الحضارات القديمة وغزو المنطقة من قبل الحيثيين والإغريق والفرس والرومان .. ولا يوجد حاليا من يتحدث اللغة العربية القديمة (الحميرية) إلا أقلية في أطراف اليمن وهي لغة لا يمكننا فهمها وهي تنحدر من اللغة الجعزية التي يتكلم بها الأحباش (الأمهرية والتجرينية).
وقد انتشرت اللغة العربية فقط في (المنطقة الصفراء) ولم تتعد حدودها فلم ترافق انتشار الدين الإسلامي إلى آسيا والهند والملايو وأفريقيا وأوروبا .. ولم تتمكن من غزو فارس والقوقاز والأناضول رغم دخول الإسلام فيها في وقت مبكر ربما قبل بقية البلاد العربية .. والسبب في ذلك هو أن اللغة العربية الحديثة (لغة العرب المستعربة) انتشرت في منطقة كان سكانها يتحدثون لغات وثيقة الصلة بالعربية القديمة وهي اللغات الآرامية والقبطية والكوشية والأمازيغية (مجموعة اللغات الأفرو آسيوية) بينما عجزت عن الانتشار وسط لغات متنافرة معها مثل الفارسية والتركية في آسيا ولغات البانتو والهوسا في أفريقيا ، واللغة العربية هي خامس لغة على مستوى العالم في عدد المتحدثين بها كلغة أولى بعد لغة المندرين الصينية والأوردوهندية في الهند (وهما لغات مليارية) ثم الإنجليزية والأسبانية (بسبب الغزو الأوروبي للأمريكتين) .. ويتحدث بالعربية قرابة نصف مليار إنسان في (المنطقة الصفراء) وأجوارها من الأقاليم العربية التي تحتلها تركيا وإيران وأثيوبيا وأسبانيا فضلا عن الملايين من المسلمين يتكلمون بها كلغة ثانية في آسيا وأفريقيا وأوروبا والهند .. واللغة العربية ذات تراث عريق في الماضي وتملك آليات البقاء لأنها حية متجددة .. وهي من اللغات التي تصلح قطعا لتشكل إطارا قوميا جامعا للناطقين بها الآن وغدا وفي كل حين.
ورغم أن اللغة عموما من أهم محددات الانتماء القومي لانها وسيلة التفكير والشعور قبل أن تكون وسيلة التكلم والكتابة لكن لا يمكنها فعل ذلك إلا إذا كانت الجغرافيا تدعم ذلك لأن الموقع الجغرافي هو من يحدد طبيعة النشاط الاقتصادي ويرسم معالم الحياة الاجتماعية بل ويصنع التاريخ المشترك للمنطقة كلها في الماضي والحاضر والمستقبل .. وعندما تعيد النظر في الخريطة يتبين لك أن اللون الأخضر لا يوجد إلا في مساحة ضيقة جدا ترى بالكاد على الخريطة بل إن مجموع المساحة المزروعة في (المنطقة الصفراء) كلها هي أقل مما يوجد في أسبانيا وحدها على سبيل المثال .. نحن أبناء الصحراء بحكم الأمر الواقع ، وقد شهدت (المنطقة الصفراء) في الماضي حضارات نابعة من أرضها قامت بمحاولات لتوحيد أجزائها مثلما فعل البابليون والفراعنة ثم سقطت بيد غزاة أجانب من خارجها بعد انهيار حضاراتها القديمة قرابة ألف عام (من 525 ق.م. وحتى 635 م.) ثم تحررت بفعل قوة من داخلها حيث تأسست فيها جميعا دول إسلامية قوية حفظت للمنطقة استقلاليتها وثرواتها ثم سقطت كلها بيد الاحتلال العثماني الذي عجز عن حمايتها من الاستعمار الأوروبي الذي جاء لنهب ثرواتها وتقسيمها ..
نعم إننا نعتز بالقومية المصرية التي هي من خصائص هذا البلد العريق وكذلك نعتز بالهوية الحضارية التي تربطنا بالعالم الإسلامي .. لكن في الحقيقة لا يمكن لأرض الكنانة أن تكون منفصلة عن محيطها الجغرافي الثابت منذ أبد الدهر ولا خلفيتها التاريخية التي ترجع لآلاف السنين .. وفي زمننا لا بقاء للكيانات الصغيرة وهذا ما أدركته دول جنوب شرق آسيا عندما أسست اتحاد الآسيان الذي ضم دولا مسلمة ومسيحية وبوذية وشيوعية بعد أن أحست بأهمية الجوار المشترك وهو ما فعلته باكستان وإيران وتركيا وجمهوريات آسيا الإسلامية (منظمة التعاون الاقتصادي) وهو أيضا ما تحاول دول جنوب وغرب أفريقيا صنعه بحكم الجوار الجغرافي وهو أيضا ما فعلته دول أمريكا الجنوبية والوسطى والكاريبي عندما أسست تجمع دول (سيلاك) ، لا تنس أن الصين والهند والاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي كلها كيانات اتحادية عملاقة بل إن الولايات المتحدة هي عبارة اتحاد فيدرالي يضم 50 دولة ، وكانت جامعة الدول العربية أول كيان معبر عن هذه الآمال في (المنطقة الصفراء) حيث يجب أن تتبعها خطوات أكبر نحو الوحدة الشاملة والتي يعقبها تحرير الأرض العربية المغتصبة في فلسطين التاريخية والأحواز والإسكندرونة والحبشة وسبتة ومليلة لأنها جميعا في النهاية جزء من (المنطقة الصفراء) التي أحب أن أسميها بمسماها الحقيقي .. (الوطن العربي).