ذاكرة الأيام

1 / العلم والإيمان ..

نجلس متحفزين مساء كل يوم إثنين لنتابع هذا البرنامج المميز في زمن لم يكن فيه ناشيونال جيوجرافيك ولا ديسكفري ولا القنوات الوثائقية .. وبعد التتر المميز بصوت الناي الحزين يظهر الوجه البشوش لمقدم البرنامج الدكتور مصطفى محمود وهو يطل إطلالة محببة ويبتسم ابتسامة لطيفة ويبدأ قوله بعبارته الشهيرة : (أهلا بيكو) .. بعدها يبدأ في مقدمة مشوقة للموضوع يعقبها فيلم علمي وثائقي يعلق عليه بصوته ثم يختم الحلقة بملخص مبسط يحمل الرسالة التي يريد إيصالها للناس والتي تتنوع ما بين العلم والدين والأخلاق والسياسة والفلسفة ..

ومثل كل رجالات عصره تعددت فيه الآراء فمنهم من يرى أنه كان مفكرا عظيما لم يجد الزمان بمثله ومنهم من يضعه في مرمى النقد والهجوم ويتهمه بالتضليل .. وبين هذا وذاك تبقى حقيقة هامة وهي أن الرجل كان صاحب تجربة حياتية فريدة امتدت مع عمره كله الذي بدأ مع ولادته في عشرينيات القرن الماضي وانتهى مع وفاته في العقد الأول من الألفية وهو ما يعني أنه عاصر كل الأحداث الكبيرة في تاريخ مصر الحديث اشتبك فيها مع الواقع السياسي والثقافي والمتغيرات الاقتصادية والاجتماعية التي تلاحقت مع تعاقب أنظمة الحكم المختلفة ..

وقد اشتهر الرجل بالطبع بسبب هذا البرنامج لكنه لم يكن مجرد مقدم برامج وإنما هو مفكر يملك عالما متكاملا يمكن لمن يريد العيش فيه أن يجد مبتغاه .. فهو كاتب من الطراز الأول وله عدد من الكتب التي صاغها بأسلوب سلس جذاب يناسب المتلقي كما أنه طرق موضوعات متعددة كان فيها سابقا لعصره .. فهو من أوائل من بسط النظريات العلمية وشرحها بحيادية وإتقان مثلما فعل في كتابه القيم (أينشتين والنسبية) كما كان له إسهام جيد في كتابة الرواية والمسرحية وأدب الرحلات والقصص القصيرة وعدد كبير من المقالات في الصحف الكبرى ..

ولدى الرجل نزعة صوفية واضحة تجعله في مصاف الفلاسفة الذين يحبون العزلة ويشتغلون بالتنظير .. لكنه لم يكتف بذلك وإنما سعى للإسهام بشكل عملي في خدمة المجتمع من خلال جمعية مصطفى محمود والتي أنشأت مجمعا كبيرا يضم مسجدا ومستشفى وعددا من الأنشطة الاجتماعية في حي المهندسين بمحافظة الجيزة .. وقد أشرك معه في هذا العمل عددا كبيرا من الفنانين في مبادرة إيجابية ذاع صيتها حتى طغت على المنطقة وسمي الشارع والميدان باسمه اعترافا بهذه الصدقة الجارية التي عاشت حتى يومنا هذا ووضعت اسمه في سجل الخالدين ..

2 / فارس الدراما ..

قبل ثورة الاتصالات وانتشار وسائل التواصل الاجتماعي كان يعيش في بلادنا جيل يمكن أن نطلق عليه اسم (جيل التليفزيون) وهم هؤلاء البشر الذين أبهرتهم الشاشة الصغيرة وصارت عندهم بديلا عن ملاعب الكرة وشاشات السينما وبرامج الإذاعة والصحف اليومية .. كنا نجلس حول العشاء نستمع إلى نشرة الأخبار بمقدمتها الموسيقية المميزة ونتابع اليوم المفتوح والانتقال إلى إذاعة خارجية لاستاد القاهرة أو نتابع نادي السينما وأوسكار واخترنا لك والعالم يغني وجولة الكاميرا وخمسة سياحة أو برنامج حياتي أو الأفلام القديمة التي لا يعدلها أي جديد ..

لكن السحر الأكبر لهذه الشاشة كان من خلال المسلسلات الدرامية التي كنا نتابعها على القناة الأولى في السابعة والربع مساءا أو القناة الثانية في السادسة مساءا .. وهناك مئات الأعمال التي عاشت في وجداننا وحفرت في ذاكرتنا وفق مزاج كل منا لأنها كانت متنوعة ومخاطبة لأكثر من شريحة فيجد كل منا مبتغاه .. ويتربع على قمة مؤلفي الدراما المصرية المرحوم أسامة أنور عكاشة من خلال عدد من الأعمال الرائعة والمميزة لأنه لم يكتف بمتعة الأحداث وحبكة السيناريو وإنما كان يعبر من خلال أعماله عن مجموعة من الأفكار شديدة العمق ..

كانت أشد رموزه وضوحا في (النوة) حيث الإخوة المتنازعين الذين يستعين كل منهم بقوة عظمى ضد أخيه بينما كان رصده دقيقا لمشكلاتنا الاجتماعية في (وما زال النيل يجري) .. وفي (زيزينيا) يرصد تنوع المكونات الاجتماعية في البلاد بينما في (أرابيسك) يحدد معالم التنوع الثقافي في تاريخ مصر وفنونها .. أما في (ليالي الحلمية) فهو يحكي لنا باستفاضة تاريخ الصراع بين الباشا والعمدة في ملحمة خالدة بينما في (الشهد والدموع) يحاول أن يصنع جسرا بين عالمين من خلال وحيد العم غير الشقيق لكل من العائلتين المتخاصمتين (الشرق والغرب) ..

ولا يمكننا أن ننسى مديرة المدرسة المثالية في (ضمير أبلة حكمت) وهي تحارب انهيار التعليم وكذلك المصلح الاجتماعي الحالم الذي يشبه دون كيشوت في (رحلة السيد أبو العلا البشري) .. أما في (عصفور النار) تنتهي الأحداث بالثورة على عمدة قرية الحلوانية بينما في مسلسل أخر هو (أنا وإنت وبابا في المشمش) يستمر الفساد في ديوان محافظة البحراوية وينتصر على الشرفاء .. وفي (الراية البيضا) يستسلم أستاذ الجامعة في النهاية للمعلمة فضة المعداوي التي تريد شراء الفيللا التاريخية (مصر) لهدمها وبناء برج تجاري على أنقاضها ..

3 / رجل المستحيل ..

من أجل نعم الله على الإنسان أن يكون قارئا ومن أجمل العطايا لهذا القارىء أن يملك القدرة على الخيال ليتمكن من العيش في تلك العوالم الساحرة التي تأخذه بعيدا عن الواقع وتصعد به في دروب لا يبلغها من حرم هذا الأمر .. وقد كان جيلنا محظوظا بلا شك عندما بدأت رحلة القراءة والخيال معه منذ الطفولة والصبا حيث القصص المصورة مثل ميكي وسوبرمان ومجلات سمير وماجد ثم ألغاز المغامرين الخمسة ودورهم في حل الجرائم البوليسية ومغامرات الشياطين ال 13 ومهمتهم في حماية الوطن العربي تحت قيادة الزعيم رقم (صفر) ..

ثم جاء دكتور نبيل فاروق .. مثل الشمس التي تبدد ظلام الليل .. عالم متكامل من الخيال والمغامرة .. ملف المستقبل حيث أبطال المخابرات العلمية في المستقبل (نور الدين وسلوى ورمزي ومحمود) في مغامرات تخطت حاجز الزمان والمكان .. مغامرات (ع 2X ) حيث عماد وعلا وحل القضايا البوليسية المحيرة مع الصحفي عصام كامل .. سلسلة زهور حيث الرومانسية الراقية .. كوكتيل 2000 حيث التنوع ما بين القصص الإنسانية والتأملات الفلسفية .. فارس الأندلس وعودة إلى التاريخ المجيد .. زووم حيث دائرة معارف متكاملة ..

أما على رأس هذه الأعمال فإن سلسلة (رجل المستحيل) تتربع على رأس كافة المؤلفات في هذا المجال انتشارا وتوزيعا .. رجل المخابرات المصري المقدم (أدهم صبري) والمعروف بلقب (ن – 1) والذي يعني أنه الأول من فئة نادرة .. ذلك الرجل الذي يملك مهارات لا يملكها بشري آخر والذي يخوض صراعات شرسة مع الموساد والمافيا وأجهزة المخابرات العالمية وعصابات الجريمة المنظمة وينتصر عليهم جميعا .. هذه الشخصية عاشت في وجداننا فترة طويلة من الزمن وساهمت بشكل كبير في غرس الروح الوطنية في جيل كامل ..

ورغم مرور السنين إلا أن رجل المستحيل لا زال يحتل جزءا كبيرا من وجداني لأنني كنت أعيش مع روايات السلسلة بكياني كله طيلة سنوات طويلة ولا وزلت حتى اليوم أمتلك جميع أعداد السلسلة وأفتخر بذلك .. وعندما ظهرت أعمال دكتور أحمد خالد توفيق جذبتني بأسلوبها وعمق أفكارها وأحببتها لكنها لم تتمكن يوما ما من إزاحة رجل المستحيل من الصدارة عندي لأنه أصبح جزءا من تاريخي الشخصي وذكرياتي الأثيرة لدي .. ولا يعيبها أنها كانت مفرطة في الخيال لأن ذلك هو ما جعلها ممتعة في زمن قراءتها كأنها من نزلت من عالم آخر ..

4 / السينما .. ذاكرة العصر الحديث ..

في السينما المصرية كثيرا ما ترمز القرية المصرية للوطن كله حيث جدلية العلاقة بين الفلاح والسلطة والمواطن والحكومة .. ولا شك أن الأفلام القديمة التي أبدعتها قريحة المؤلفين والمخرجين خلال العقود الماضية قد تقاطعت مع الأحداث السياسية الجارية والتوجهات الفكرية السائدة ورصدت كل ذلك بمهارة وحرفية .. وقد يحمل الفيلم طابعا رمزيا يرسل من خلاله الرسالة التي يريدها أو ربما ذكر ما يريد تصريحا لا تلميحا وذلك حسب ما تمليه الظروف وتقتضيه الأحوال ..

ومن الأعمال الخالدة التي صرحت بذلك فيلم الأرض من تـأليف عبد الرحمن الشرقاوي وإخراج يوسف شاهين حيث بطل الفيلم محمود المليجي (محمد أبو سويلم) الفلاح المتمسك بأرضه ضد تآمر الأعيان وظلم السلطة وكلمته المشهورة لأهل قريته : ” عشان كنا رجالة ووقفنا وقفة رجالة ” .. ويعد المشهد الأخير للفيلم من أجمل مشاهد السنما المصرية على الإطلاق عندما تم ربطه من قدميه بالحبل إلى حصان المأمور ليسحل ويده متمسكة بالنبات الأخضر المتجذر في الأرض ..

وفي فيلم المواطن مصري تتضح الصورة أكثر حيث الفيلم مأخوذ عن رواية يوسف القعيد (الحرب في بر مصر) وإخراج صلاح أبو سيف .. في الفيلم يدخل الشاب (مصري) ابن الغفير إلى الخدمة العسكرية بدلا من ابن العمدة (عمر الشريف) والذي أبدع وهو يمثل على الناس أنه والد الشهيد وذلك في مقابل مشهد الأب الحقيقي المكلوم (عزت العلايلي) وهو ينظر لجثمان ولده في تعبير عن القهر والحزن وانعدام الحيلة وفي النهاية يعطيه العمده جنيهات قليلة تطير في الهواء ..

أما في فيلم الزوجة الثانية فقد كانت الرمزية هي العنصر الحاضر من خلال سيناريو سعد الدين وهبة وإخراج صلاح أبو سيف .. ولعلنا جميعا نعرف كافة أبطال العمل .. العمدة عثمان وزوجته حفيظة وأبو العلا وفاطمة وعلوان ونظيرة وفهيمة والغفير حسان والشيخ مبروك والمأمور .. وبالطبع كان أهم مشهد في الفيلم ساعة إجبار العمدة (صلاح منصور) للفلاح (شكري سرحان) على تطليق امرأته ليتزوجها هو مع عبارته الشهيرة الكاشفة : ” الورق ورقنا والدفاتر دفاترنا ” ..

ونصل إلى قمة الرمزية في فيلم شيء من الخوف من تأليف ثروت أباظة وإخراج حسين كمال حيث عتريس (محمود مرسي) البلطجي الذي سيطر على القرية بالقوة والدم وخطف فؤادة (شادية) ليتزوجها عنوة في إطار خلفية غنائية من تأليف عبد الرحمن الأبنودي وتلحين بليغ حمدي وكأنها تنوح قائلة : ” يا عيني على الولد .. يا عيني على البلد ” .. وتنتهي الأحداث بالثورة العارمة لأهل القرية والتي قادها الشيخ إبراهيم (يحيى شاهين) هاتفا في قوة : ” جواز عتريس من فؤادة باطل ” ..

5 / الحرافيش .. عالم نجيب محفوظ ..

الرواية عالم ساحر لا يشعر به إلا من غاص في بحره العميق .. وكل روائي له عالم خاص به لا تدركه إلا بعد أن يفتح لك الباب وتتجول في صفحات كتاباته وتتنقل بين شخوصه وأحداثه .. وعندما تقرع باب نجيب محفوظ فإنك على الفور تدخل بقدمك مباشرة إلى الحارة المصرية وإن شئت الدقة القاهرة القديمة في القرون الثلاثة الأخيرة .. سوف تجد نفسك تسير في شارع بين القصرين حيث منزل السيد أحمد عبد الجواد ووكالات التجار وليالي الأنس والطرب وأحداث ثورة 19 ضد الانجليز ..

وربما يأخذك المسير إلى زقاق المدق حيث المقهى الشعبي والجيران الفضوليين والفتاة الساذجة البريئة حميدة وتقلب الزمن بها .. وسوف يكون عليك أن تحذر تلك المعارك الشرسة بين الفتوات خاصة المعلم الديناري والمعلم الشبلي والتي ضاع فيها الفتى (شطا) في إحدى قصص مجموعة (الشيطان يعظ) .. وقد يسعدك الحظ بالجلوس أمام المتصوف الجليل ذي الماضي الغامض في (حكاية بلا بداية ولا نهاية) حيث تجد هناك خليطا من الفلسفة والدين وأحداث الماضي والمستقبل ..

وإذا أخذك المسير إلى آخر الحارة فسوف تشاهد بيت الجبلاوي في (أولاد حارتنا) حيث الصراع بين أبناء أدهم وأبناء إدريس والأبطال الثلاثة جبل ورافع وقاسم (وهي رموز الديانات الثلاث التي أثارت الجدل حول الرواية) .. أما (حكايات حارتنا) فهي ترصد جزءا من السيرة الذاتية للمؤلف عندما يجعل الراوي طفلا صغيرا حيث التكية محور الأحداث .. أما في (حديث الصباح والمساء) فسوف تر الأبطال وهم يولدون ثم يموتون كأنهم لم يلبثوا في الدنيا إلا عشية أو ضحاها ..

ربما مررت على مقهى (قشتمر) حيث الأصدقاء الأربعة الذين فرقتهم الأحداث وتقدم بهم العمر لكن تربطهم جلسة المقهى .. وسوف تجد تناقضات الحياة أمام عينك حيث هناك محجوب عبد الدايم الموظف الذي لديه استعداد لعمل أي شيء في (القاهرة الجديدة) وهناك أيضا محمد حامد المحامي الذي يدخل المعتقل بسبب انتمائه للإخوان في (الباقي من الزمن ساعة) وهناك أيضا عثمان بيومي الموظف المثالي الكادح الذي يسعى للترقي في قسم المحفوظات في رواية (حضرة المحترم) ..

لكن كل ما مضى من أعمال لا تعدل أهم رواية في عالم نجيب محفوظ وهي (ملحمة الحرافيش) حيث عشرة أجيال من عائلة عاشور الناجي تقلبت فيها أحوالهم ما بين العز والذل حيث امتلاك الفتونة ثم ضياعها وعودتها في صراع بين أولاد الأصول والغوغاء .. حكايات شمس الدين الناجي وسليمان وسماحة ووحيد وعزيز وزهيرة وجلال صاحب الجلالة وفتح الباب وأخيرا الإخوة فايز وضياء وعاشور الذي يستعيد تاريخ جده الكبير ويهتف له الحرافيش : (اسم الله عليه .. اسم الله عليه) ..

6 / كوكب الشرق ..

الفنون أذواق .. وما يعجبني من غناء أو شعر قد لا يناسبك وما يطرب له فلان قد لا يقبله آخر .. لكن تخيل معي أن جمهورا عريضا في بلادنا في يوم ما كان يجلس منصتا في احترام وإجلال إلى أغنية تقول كلماتها : (معللتي بالوصل والموت دونه .. إذا مت ظمآنا فلا نزل القطر) .. وذلك في أغنية (أراك عصي الدمع) التي غنتها السيدة أم كثوم من كلمات الشاعر العربي القديم (أبو فراس الحمداني) وألحان رياض السنباطي والتي تقول في مطلعها : (أراك عصي الدمع شيمتك الصبر .. أما للهوى نهي عليك ولا أمر .. نعم أنا مشتاق وعندي لوعة .. ولكن مثلي لا يذاع له سر .. إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى .. وأذللت دمعا من خلائقه الكبر) ..

وقد تعمد السنباطي أن يستعمل في العزف آلات التخت القديم فقط وذلك في كل الأغاني المكتوبة باللغة العربية الفصحى ليضفي على الأجواء روح الطرب الشرقي .. ومنها رباعيات الخيام المترجمة عن الشاعر الفيلسوف عمر الخيام والتي تقول في مطلعها : (سمعت صوتا هاتفا في السحر .. نادى من الغيب غفاة البشر ..هبوا املأوا كأس المنى قبل .. أن تملأ كأس العمر كف القدر) .. وفي هذه القصيدة تقول : (إن تفصل القطرة من بحرها .. ففي مداه منتهى أمرها .. تقاربت يارب ما بيننا .. مسافة البعد على قدرها .. إن لم أكن أخلصت في طاعتك .. فإنني أطمع في رحمتك .. وإنما يشفع لي أنني .. قد عشت لا أشرك في وحدتك) ..

وفي أغنية سلوا قلبي تغني من روائع أمير الشعراء أحمد شوقي قائلة : (سلوا قلبي غداة سلا وتابا .. لعل على الجمال له عتابا .. ويسأل في الحوادث ذو صواب .. فهل ترك الجمال له صوابا .. وكنت إذا سألت القلب يوما .. تولى الدمع عن قلبى الجوابا .. ولى بين الضلوع دم ولحم .. هما الواهي الذى ثكل الشبابا) .. وفي قصيدة الأطلال من كلمات إبراهيم ناجي تقول : (يا فؤادي لا تسل أين الهوى .. كان صرحا من خيال فهوى .. اسقني واشرب على أطلاله .. وارو عني طالما الدمع روى ) .. والتي تقول فيها أيضا : (أيـهـا السـاهـر تغـفـو تذكـر العهـد وتصـحـو .. وإذا مـا الـتـأم جــرحٌ جــدّ بالتـذكـار جــرحُ .. فتعـلـم كـيـف تنـسـى وتعـلـم كـيـف تمـحـو) ..

أما أجمل التعبيرات الشعرية فجاءت في شعر أحمد رامي ومنها قصيدته الرائعة (أغار من نسمة الجنوب) والتي أبدع فيها في وصف الطبيعة وكأنه ينقلها لنا رأي العين فيقول : (أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبي .. وأحسد الشمس في ضحاها وأحسد الشمس في الغروب .. وأغبط الطير حين يشدو على ذرى فرعه الرطيب .. فقد ترى فيهما جمالا يروق عينيك يا حبيبي .. يا ليتنا زهرتان نهفو على شفا جدول لعوب .. وذاك أني أراك ترنو للزهر في غصنه الرطيب .. وتعشق النهر حين يجري مرجع اللحن والضروب .. وأنني من هيام قلبي وشدة الوجد واللهيب .. أغار من نسمة الجنوب على محياك يا حبيبي) ..

7 / جريدة الِأهرام .. ذكريات لا تنسى ..

في وقت ما من الماضي القريب كانت قراءة جريدة الأهرام في بيت العائلة بمثابة طقس يومي أقرب للعادات والتقاليد لأنها بالفعل في ذلك الزمن لم تكن جريدة عادية وإنما موسوعة متنقلة في عالم لم يكن يعرف بعد برامج التوك شو في الفضائيات ولا وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة .. وكانت الصفحة الأولى عبارة عن مختصر للأحداث السياسية والمحلية تحمل وجهة النظر الرسمية للدولة ..

وكانت الصفحة الثانية شديدة الأهمية لأن فيها خريطة برامج التليفزيون بينما الصفحة الثالثة تحمل مقال إبراهيم نافع والذي يشرح فيه خطاب الرئيس أو يرسم معالم التوجهات السياسية في المرحلة القادمة .. وفي يوم السبت كانت الصفحة مخصصة للتحقيقات المتميزة التي يكتبها عزت السعدني بأسلوب أدبي مشوق يتناول فيها موضوعات مختلفة حيث يمزج فيها بين الخيال والحقيقة ..

وعندما نقفز إلى الصفحات الداخلية نلتقي مع مقالات الرأي حيث أدركت وقتا كان يكتب فيه كل من توفيق الحكيم ويوسف إدريس وإحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ .. وفي صفحة الأدب والفكر نقرأ لكل من فاروق جويدة ورجاء النقاش وأحمد عبد المعطي حجازي وعلي السمان .. وأحيانا كانت تنشر قصائد للشاعر محمد الفيتوري وبالطبع لا نغادر الجريدة قبل قراءة مقال فهمي هويدي ..

بعد ذلك نطالع صفحات الأخبار الدولية خاصة المراسلين الأشهر حمدي فؤاد من أمريكا وأنور عبد الملك من الاتحاد السوفييتي ثم صفحة الاقتصاد وكذلك مقالات مركز الأهرام للدراسات السياسية والاستيراتيجية .. بعد ذلك بالطبع نقرأ أخبار الحوادث وهي التسلية الأولى لأفراد الأسرة الصغار بينما الكبار يطالعون صفحة الوفيات التي كانت وسيلة الترابط بين العائلات الكبرى ..

ولا يمكن أبدا أن نتجاوز كاريكاتير صلاح جاهين وماهر وكذلك حظك اليوم وحدث في مثل هذا اليوم وحكايات أعجبتني التي كان يكتبها يعقوب الشاروني ويرسمها عادل البطراوي في الصفحة قبل الأخيرة بالإضافة إلى التحدي الأكبر في حل الكلمات المتقاطعة .. وفي الصفحة الأخيرة كان يكتب كمال الملاخ عن الحضارة المصرية القديمة تحت كلمات أنيس منصور ويوميات أحمد بهاء الدين ..

أما درة التاج في الأهرام فكان بريد الجمعة الذي يحرره عبد الوهاب مطاوع حيث يتلقى رسائل القراء ليبحث مشكلاتهم ويرد عليها في أسلوب سهل وبسيط .. ولا بد أننا عشنا جميعا مع هذه الحكايات التي ترصد مشكلات المجتمع وتسبر أغوار النفس الإنسانية ومعاناتها .. ولعل قراء بريد الأهرام قد اكتسبوا الكثير من مهارات كتابة الرواية والقصة من وحي تلك الحكايات ..

8 / الفن الشعبي ..

الفن الشعبي هو مرآة الحياة الاجتماعية خاصة في البيئة المحلية لأنه نابع من وجدان الناس ومرتبط بالموروث الثقافي والعادات والتقاليد .. وفي طول البلاد وعرضها سوف نلحظ أن كل منطقة صنعت لها الفن الخاص بها من أول النوبة والصعيد جنوبا إلى الإسكندرية والدلتا شمالا ومن سيناء والقناة شرقا إلى الواحات ومطروح غربا .. ما بين السامر السيناوي والأغاني النوبية وزفة العروسين في أفراح الفلاحين وموسيقى السمسمية وشاعر الربابة والإنشاد الصوفي ورقصة التحطيب والحجالة والبمبوطية والبورمية السيوية والتنورة..

ويعد زكريا الحجاوي من أهم رواد البحث في هذا الفرع من الفنون من خلال مؤلفه الكبير (موسوعة التراث الشعبي) وكذلك دوره في تقديم ذلك التراث من خلال الصحافة والتليفزيون وذلك بعد أن قام بعمل مسح شامل للقطر المصري لجمع الفنون الشعبية من مصادرها .. وقد سار على دربه عدد كبير من المبدعين مثل فاروق خورشيد الذي كتب سيرة سيف بن ذي يزن وعلي الزيبق والأميرة ذات الهمة وكذلك الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودي الذي كتب السيرة الهلالية بعد أن قام بجمعها من أفواه شعراء الربابة ..

والسير الشعبية هي انعكاس للوجدان الجمعي للبسطاء الذين أضفوا هالات من البطولة على شخصيات تشبههم في نمط الحياة والمعيشة .. ولا بد أننا جميعا سمعنا بعضا من حكايات أيوب وناعسة وشفيقة ومتولي وياسين وبهية وحسن ونعيمة وأدهم الشرقاوي وخضرة الشريفة .. أو ربما صادفتنا في الإذاعة أو على اليوتيوب بعض أغاني محمد طه وأبو دراع وخضرة محمد خضر وجمالات شيحة .. لكن من المؤكد أننا سمعنا جميعا فاطمة عيد وهي تغني (سلمولي عليه) وكذلك الريس متقال وهو يغني على الربابة أغنيته الشهيرة (الفراولة) ..

وهذا التراث الشعبي كنز من كنوز مصر الثقافية والمعرفية لأنه يحكي جزءا غير مدون في تاريخ البلاد بعيدا عن السجلات الرسمية والتأثيرات الفوقية فهو من الناس وللناس ولهذا فهو ينال الحظوة وينعم بالشعبية وينتقل من جيل إلى جيل .. وأهم من ذلك كله أنه علامة دالة على التعددية الثقافية والاجتماعية في ربوع البلاد حيث إنه مرتبط بالبيئة المحلية وتراثها الحي وطقوسها اليومية ولهجاتها الدارجة .. أما التأثير الوجداني فهو يفوق أي شيء آخر لأنه يتمتع بالبساطة في التعبير والبلاغة في الأداء ولأنه أصدق عاطفة وأقوم قيلا ..

9 / زوجة رجل مهم

في أحد أيام الشتاء الباردة قررت ارتداء كل الملابس الثقيلة وأنا ذاهب إلى عملي .. البدلة الكاملة وفوقها بالطو أسود صوف طويل وكوفية حمراء وأمسكت مظلة كبيرة وحقيبتي الجلدية ووقفت على طريق مصر اسكندرية الزراعي أنتظر ظهور أي وسيلة مواصلات في تلك الساعة من الصباح الباكر حيث الشبورة تملأ الأجواء ، وبعد فترة طويلة من الانتظار فوجئت بسيارة ميكروباص تقف بمحاذاتي والسائق يناديني : ” اتفضل يا محمد بيه ” اندهشت من مناداته باسمي رغم أن أحدا لا يناديني إطلاقا بلقب بيه لكني قلت في نفسي ربما كان أحد المرضى الذين تعاملت معهم في وقت سابق فاقتربت منه وسألته : ” انت رايح فين ” فأجاب : ” انت سعادتك رايح فين ” فقلت له كفر الزيات فقال والسعادة تغمر وجهه ” خلاص حاوصل معاليك كفر الزيات ” ،

انتبهت أن السياة خالية من الركاب وعرفت منه أثناء الطريق أنه كان في طريقه أصلا إلى قطور حيث يعمل على هذا الخط لكنه عندما رآني قرر أن (يوصلني مخصوص) وسألني سعادتك رايح في شغل قلت له نعم ، وبطبيعتي كنت أقلل في الكلام مع السائقين عموما ولما لاحظ هو ذلك توقف عن الكلام حتى وصلنا إلى مشارف البلدة فقلت له : ” أشكرك على التوصيل ” فقال في حرارة : ” لا شكر على واجب يا سعادة البيه .. ما هو أنا مش معقول أشوف محمد بيه هاشم رئيس نيابة المرور واسيبه واقف في الطريق دي حتى تبقى عيبة في حقنا ” ، وعند سماعي ذلك تسمرت في مكاني .. هذا السائق يظنني رئيس نيابة المرور ولهذا قام بتوصيلي .. لا يوجد أمامي مفر .. يجب أن أكمل المسألة للنهاية وإلا تعرضت إلى ما لا تحمد عقباه ..

سار هو بتلقائية حتى وصلنا قرب محكمة كفر الزيات بجوار الموقف فأشرت له أن يقف فنزلت مسرعا وهو يقول : ” بألف سلامة يا محمد بيه .. بألف سلامة ” ، أشرت له مودعا حتى إذا غاب عن ناظري وليت ظهري للمحكمة وبدأت السير باتجاه عملي .. وطوال الطريق لاحت أمامي صورة ضابط المباحث الذي قام بدوره الفنان المبدع أحمد زكي في فيلم زوجة رجل مهم عندما كان يتطلع لنفسه في المرآة وهو يهذب شاربه الكث في لقطة تجمع بين الغرور والعنجهية والاستعلاء على الآخرين لمجرد موقعه الوظيفي.

10 / طائرة السيد الرئيس

تلعب السينما دورا كبيرا في تغذية المشاعر القومية وإبراز عظمة الدولة .. و من أجمل الأفلام الأمريكية التي فعلت ذلك فيلم AIR FORCE ONE (طائرة السيد الرئيس) حيث يقوم الممثل (هاريسون فورد) بدور الرئيس الأمريكي الذي يدعو إلى السلام العالمي لكنه يمر بتجربة مريرة حيث تتعرض الطائرة الرئاسية لاختطاف من قبل مجموعة إرهابية تطالب بالإفراج عن أحد الزعماء الشيوعيين السابقين ويرفض الرئيس مغادرة الطائرة ليبدأ في مناوشة الإرهابيين من موقعه في منطقة الحقائب حتى يتمكن من القضاء عليهم ويتولى بنفسه قيادة الطائرة التي أصابها العطب وتطاردها طائرات معادية في سماء كازخستان.

وعلى الفور تقوم نائبة الرئيس بالاطلاع على خريطة العالم وتسأل وزير الدفاع عن أقرب قاعدة جوية أمريكية فتضيء الشاشة على الفور بالضوء الأحمر في موقع قاعدة (انجرليك) الجوية في تركيا لتصدر الأوامر للمقاتلات الأمريكية بمطاردة الطائرات المعادية وعندما تصل في الوقت المناسب يهتف الرئيس في فخر وفرح : ” ها قد جاء الأخيار ” وعندما تنجح في مهمتها يسير قائد السرب بطائرته محاذيا لطائرة الرئيس بحيث يستطيع مشاهدته من كابينة القيادة وبعد حوار قصير يؤدي له التحية العسكرية في حب وتقدير لبطولته فيرد عليه الرئيس التحية.

وفي البيت الأبيض تقرر نائبة الرئيس مواجهة الشعب بالحقيقة وتدعو الناس للالتفاف حول قيادتهم والصلاة من أجل نجاة الرئيس وتنجح طائرة نقل الجنود من إنقاذ الرئيس أخيرا قبل انفجار طائرته بواسطة حبل معقود حول خاصرته يسبح به في الجو لدقائق قبل أن يتم سحبه إلى داخل الطائرة حيث وجد الجنود والطيارين جميعا يؤدون له التحية العسكرية مرحبين به فيرد عليهم بيد مرتعشة بينما يسأل وزير الدفاع عبر أجهزة الاتصال في قلق إذا كان تم إنقاذ الرئيس أم لا حيث احتبست أنفاس المتابعين في البيت الأبيض من مسئولين في داخله ومواطنين يوقدون الشموع في خارجه وبعد فترة من الصمت يجيبهم قائد الطائرة ” يبدو أن طائرتنا الآن أصبحت طائرة السيد الرئيس ” لتنطلق صيحات الفرح ودموع التأثر ويسدل الستار على المشهد الختامي للفيلم حيث الطائرة التي تقل الرئيس عائدة إلى الوطن في حماية سرب من المقاتلات الأمريكية في دلالة على عظمة وقوة الولايات المتحدة الأمريكية.