
ورفعنا لك ذكرك
الناس في العادة يقيسون عظمة الأشخاص بما لهم من أموال ونفوذ وليس بما يملكون من فكر وخلق وينظرون بالإعجاب لمن يحقق في حياته النجاحات المادية والمعنوية مثل الانتصار في المعارك أو تقلد الزعامة أو تحقيق الإنجازات أو الشهرة الطاغية .. لكن العظمة الحقيقية تكمن في خلود ذكر الإنسان بعد موته بما ترك من فكر وعلم تتوارثه الأجيال قرنا بعد قرن .. وهو الأمر الذي حاز فيه النبي صلى الله عليه وسلم المقامات العلى مصداقا لوعد الله له في قوله : ” ورفعنا لك ذكرك ” ..
وقد وصفت آيات القرآن نظرة الناس القاصرة في كل العصور عندما اعترض البعض على شخص النبي وذلك في قوله تعالى : ” وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم ” حيث كانوا يقولون لو كان هذا القرآن حقا من السماء لنزل على واحد من عظماء القوم سيد مكة الوليد بن المغيرة المخزومي أو سيد الطائف عروة بن مسعود الثقفي ، والحقيقة أن طرحهم هذا بالغ التهافت لأنه قائم على تصور مادي ظاهري قاصر لا يقيم وزنا لباطن الإنسان الروحاني ..
أما العظمة الحقيقية فهي تلك الكامنة في الترفع عن الدنيا وزينتها والتحنث بعيدا عن زخرف الدنيا والبحث عن الحقيقة المطلقة والسعي الحثيث لإنفاذ الرؤيا العلوية ولذا فإن النبي محمد (ص) كان أعظم منهم جميعا وهو لا يزال بعد إنسانا بسيطا يتعبد في غار حراء قبل أن يأتيه هاتف الحق ، فلما نزل عليه الكتاب زادت عظمته وارتفع قدره بالاستجابة لداعي السماء وقيامه بدعوة الحق فنال المنزلة الكبرى والعظمة الخالدة حيث بذل من الجهد ما يوازي فيض العطاء الرباني ..
وحتى لو كانوا يريدون قياس العظمة بما حققه الفرد من إنجازات على الأرض فإن محمدا (ص) قد فاقهم جميعا لأن ذكره في التاريخ قد سبقهم جميعا بلا مقارنة ويؤمن بتعاليمه ربع البشر في عالمنا هذا فضلا عن الملايين في أربعة عشر قرنا مضت والكتاب الذي نطق به قد صار يتلى إلى يومنا هذا في كل بقاع الأرض بالإضافة إلى أنه حقق انتصارات مادية ملموسة في حياته ولم تمض على وفاته بضعة أعوام إلا وكانت الدولة التي أنشأها قد صارت من أكبر امبراطوريات التاريخ.

المراهقة السياسية بين المبادئ والمصالح
إن من آفات العمل السياسي في مصر (المراهقة السياسية) وهي التي أودت بنا إلى الهاوية حيث تجد الجميع يهاجم الجميع في وسائل الإعلام متهمين بعضهم البعض بالخيانة والعمالة والتربح من العمل السياسي أو تحقيق مكاسب شخصية بل حتى الأفراد داخل التنظيم الواحد يفضحون بعضهم البعض ويتشنج أحدهم لمجرد أن الآخر قد اتخذ موقفا سياسيا مغايرا لموقفه ويتشدق الجميع بالمبادئ في سبيل اشتعال المعارك الإعلامية وتصيد الأخطاء ، وهو ما يجب ألا يكون له وجود في حالة النضج السياسي إذ يجب أن يتحلى الجميع بالوعي الذي يمكنهم من تغليب العقل على العاطفة (وهو ليس بالأمر السهل لدى المصريين) وعندها يجب أن يدرك الناس أن المعركة إذا دارت بين أصحاب المبادئ وأصحاب المصالح فإنها ستحسم تلقائيا لأصحاب المصالح ، ويحضرني في هذا الصدد قصة الصراع الذي دار بين الإمام علي بن أبي طالب ومعاوية بن أبي سفيان لأنه يجسد هذا المعنى تجسيدا حقيقيا ، فقد كان الإمام علي رجل مبادئ من الطراز الأول لا يعرف المداهنة ولا ألاعيب السياسة فهو في الأصل فارس شجاع ومقاتل مقدام.
وقد كانت له الغلبة أول الأمر حتى كادت جند الشام أن تنكشف فتفتق ذهن معاوية وعمرو بن العاص (وهما من دهاة العرب) عن فكرة رفع المصاحف على أسنة الرماح داعين إلى تحكيم كتاب الله وقد أتت هذه الفكرة أكلها في جيش علي فقد أحدثت شرخا كبيرا ونقاشا مستفيضا حيث انقسم الناس فيها إلى (شيعة وخوارج) وذلك لأن قسما كبيرا من جيش علي كان يقاتل دفاعا عن الحق في براءة ومثالية وجلهم من قبائل البادية في شرق الجزيرة العربية حيث حدة الطباع وخشونة العيش وقلة الفقه وكانوا حديثي عهد بسكنى الأمصار (الكوفة والبصرة) فأحدث هذا الأمر البلبلة المطلوبة بصورة فاقت توقعات أصحاب الفكرة ولأن الإمام علي رجل صاحب مبادئ فقد انشغل في المقام الأول بمحاربة الخوارج وأفكارهم مما أعطى لمعاوية فرصة لالتقاط الأنفاس وإعادة ترتيب أوضاعه حيث أكمل ما بدأه من قبل في شراء ولاء عرب الشام بالمال وعقد تحالفات مع القبائل المختلفة وأهمها قبيلة كلب الذين كانوا أصهاره بحيث جعل مصالح الناس جميعا مرتبطة ببقائه في موقع الإمارة.
وكانت أكبر عقبة أمامه هي ولاية مصر التي كانت تابعة للإمام علي وكانت تعد أقوى وأغنى ولايات الدولة الإسلامية الناشئة وهي تقبع خلف قواته فراح يراسل القبائل العربية في مصر والتي كان يقودها معاوية بن حديج حيث خرجوا من الفسطاط بعد مقتل عثمان ، لكن ابن حديج رد عليه بأنه لا يستطيع فعل أي شئ طالما ظل الوالي على مصر قيس بن سعد بن عبادة وهو من سادة الأنصار وكلمته مسموعة في الولاية ومحبوب من كافة الناس وله من الدهاء والكياسة ما أسكت به الفتن الكامنة في الصدور فلم يغضب معاوية من ابن حديج ورضي منه بأنصاف الولاء وظل يراسله ويبقيه على عهده ، ثم بدأ في إرسال الرسالة تلو الأخرى إلى قيس بن سعد يدعوه فيها إلى الانحياز له ويمنيه بالمطامع ، وكان قيس رجلا ذكيا يدرك أن هدف معاوية هي تحييده في الصراع فراح يرد عليه برسائل دبلوماسية لا توافق ولا ترفض عروضه وذلك حتى يجعله في حيرة من أمره لكن معاوية بدأ في تسريب هذه الرسائل إلى الإمام علي ليضرب ثقته في قيس ولما كان الإمام علي لا يرضى بأنصاف الولاء فقد اعتبر أن هذه الردود من قيس تمثل خروجا عن المبادئ فأصدر قرارا بعزله واستدعائه وولى على مصر محمد بن أبي بكر الصديق.
وفي الطريق تقابل علي مع قيس وفهم منه حقيقة الموقف وهم بإعادته إلى ولايته إلا أن قيسا رفض وأدرك أنه لن يستقيم أمر الإمام بعد اليوم ، أما محمد بن أبي بكر فقد كان شابا صغير السن دخل مصر وهو يريد أن يفتك بأنصار عثمان وقد كان مكروها منهم لأنه شارك في قتل الخليفة وهنا أرسل معاوية جيشا إلى مصر بقيادة عمرو بن العاص الذي يعرفها جيدا فالتقى مع ابن حديج وانتصرا سويا على محمد بن أبي بكر الذي قتل في النهاية وصارت مصر تابعة للشام حيث قلبت كفة الميزان لصالح معاوية بما وفرته له من أموال أحسن استغلالها ، وفي النهاية قتل الإمام علي شهيدا بيد الخوارج وتنازل الإمام الحسن عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين ووصل معاوية إلى هدفه النهائي حيث حكم الدولة الإسلامية عشرين سنة وهو خليفة بعد أن حكم الشام واليا عشرين سنة قبلها ، ولما استتب له الأمر ودخل بيت عثمان في المدينة سمع صياح عائشة بنت عثمان بن عفان تندب أباها وتحرض على ثأره فقال لها : ” ﻳﺎ ﺑﻨﺖ ﺃﺧﻲ ﺇﻥ ﺍﻟﻨﺎﺱ ﺃﻋﻄﻮﻧﺎ ﻃﺎﻋﺔ ﻭﺃﻋﻄﻴﻨﺎﻫﻢ ﺃﻣﺎﻧﺎ ، ﻭﺃﻇﻬﺮﻧﺎ ﻟﻬﻢ ﺣﻠﻤﺎ ﺗﺤﺘﻪ ﻏﻀﺐ ، ﻭﺃﻇﻬﺮﻭﺍ ﻟﻨﺎ ﻃﺎﻋﺔ ﺗﺤﺘﻬﺎ ﺣﻘﺪ ، ﻭﻣﻊ ﻛﻞ ﺇﻧﺴﺎﻥ ﺳﻴﻔﻪ ، ﻭﻫﻮ ﻳﺮﻯ ﻣﻜﺎﻥ ﻭﻣﻮﺿﻊ ﺃﺻﺤﺎﺑﻪ ﻭﺃﻧﺼﺎﺭﻩ ، ﻓﺈﻥ ﻧﻜﺜﻨﺎ ﺑﻬﻢ ﻧﻜﺜﻮﺍ ﺑﻨﺎ ، ﻭﻻ ﻧﺪﺭﻱ ﺃﻋﻠﻴﻨﺎ ﺗﻜﻮﻥ ﺃﻡ ﻟﻨﺎ ، ﻭﻷﻥ ﺗﻜﻮﻧﻲ ﺃﺑﻨﺔ ﻋﻢ ﺃﻣﻴﺮ ﺍﻟﻤﺆﻣﻨﻴﻦ ﺧﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻥ ﺗﻜﻮﻧﻲ ﺍﻣﺮﺃﺓ ﻣﻦ ﻋﺮﺽ ﺍﻟﻤﺴﻠﻤﻴﻦ ، ﻭﻧﻌﻢ ﺍﻟﺨﻠﻒ ﺃﻧﺎ ﻟﻚ ﺑﻌﺪ ﺃﺑﻴﻚ “.
ومما يروى عن معاوية أنه كان يملك بستانا في المدينة المنورة يجاور أرضا يملكها عبد الله بن الزبير فحدث مشادة بين العبيد الذين يعملون في بستان معاوية وعمال ابن الزبير حيث تعدوا عليهم بالضرب وطاردوهم في أرضهم ، فغضب ابن الزبير وكتب كتابا شديد اللهجة إلى معاوية جاء فيه : ” من عبد الله بن الزبير إلى معاوية ابن هند (آكلة الأكباد) أما بعد أبسلطان القوة نافرتمونا في أرضنا فلوشئنا لرددناها عليكم وملأناها خيلا وسلاحا .. ” يهدد فيها بالخروج عليه .. فلما وصل الخطاب إلى معاوية استدعى ابنه يزيد ليستطلع رأيه فقال له : ” أرى أن ترسل إليه جيشا أوله عنده وآخره عندك فيأتيك برأسه ” فقال معاوية : ” لا .. بل أبر من ذلك وأرحم ” ثم كتب إلى ابن الزبير كتابا جاء فيه : ” من معاوية بن أبي سفيان إلى عبد الله بن الزبير ابن (أسماء ذات النطاقين) ..أما بعد فلو كانت الدنيا بيني وبينك لخليتها لك ولو نازعتني أرضا من المدينة إلى دمشق لدفعتها إليك فإذا جاءك كتابي هذا فخذ أرضي إلى أرضك وعبيدي إلى عبيدك والسلام ” ، فلما وصلت الرسالة إلى ابن الزبير بكى حتى بللت دموعه الرسالة وكتب إلى معاوية : ” إلى أمير المؤمنين سلام عليك أما بعد فلا أعدمك الله حلما أحلك في قريش هذا المنزل ” ، وهنا كرر معاوية على مسامع يزيد قولته المشهورة : ” إنّي لا أضع سيفي حيث يكفيني سوطي ولا أضع سوطي حيث يكفيني لساني ، ولو أن بيني وبين الناس شعرة ما انقطعت ، إذا مدّوها أرخيتها ، وإذا أرخوها مددتها “.

الكتب
كل الشكر والتقدير للأستاذ فارس خضر مدير دار الأدهم للطباعة والنشر والتوزيع على الرعاية التي أولى بها مؤلفاتي المتواضعة والتي جاءت معبرة عن تجربة شخصية في العمل العام وقراءات متواصلة في مختلف المجالات يرجع الفضل فيها إلى مكتبة الوالد القيمة والتي أمدتني بمراجع لا حصر لها في كل فروع المعرفة ، وقد جاءت هذه الكتب متضمنة عددا من الموضوعات أولها رؤيتي في قراءة التاريخ متتبعا نشأة الحضارة الإنسانية وانتشار السلالات البشرية ودور الأديان في صياغة الفكر خاصة في مصر القديمة وذلك من خلال كتاب (بداية التاريخ ونهاية الفلسفة) ، وثانيا اندماج الثقافات المتنوعة التي تعاقبت على وادي النيل عبر تاريخه الطويل وتفاعل ذلك مع الحضارة الغربية الحديثة وتبلور القومية المصرية التي تستوعب في داخلها كل هذه المكونات وذلك في كتاب (هوية مصر الحضارية).
أما ما يتعلق بتطور الفكر الإسلامي ونشأة المذاهب الاعتقادية والفقهية وأثر ذلك في تجديد الخطاب الديني ومعنى الوسطية في حياتنا المعاصرة فقد ضمنتها في دراسة مبسطة بعنوان (مقاصد الإسلاميين) ، وفيما يتعلق برصد مشكلات مصر السياسية والاقتصادية والاجتماعية والدينية فقد طرحت عددا من الحلول لتشخيص الحالة المصرية خاصة ما يتعلق بمكانة مصر ودورها وحاجتنا إلى صناعة ثقافة قومية جديدة وذلك في كتاب (الطريق إلى أرض الكنانة) ، وفي النهاية جمعت مختلف الحلول العملية المقترحة لدعم التنمية المجتمعية وأهمها تطوير الحكم المحلي بصورة تدعم التنمية الاقتصادية والبشرية في الأقاليم المصرية عن طريق إعادة هيكلة المؤسسات الحكومية المختلفة وذلك في كتاب (الطليعة المصرية) ، وإذا كانت القراءة والكتابة قد شغلتني عن الكثير من الواجبات الاجتماعية والمناسبات العائلية فإنني أرجو أن تشفع لي هذه الإصدارات تلك الفترة التي قضيتها في عزلة بين الأوراق والكتب وأن تكون نافعة ومفيدة وأن تشكل إسهاما متواضعا في الحياة الثقافية والله من وراء القصد.
قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون .. عام ٢٠١٨ هو عام مميز جدا في حياتي لأنه شهد نشر ستة كتب تعبر عن خلاصة أفكاري والتي كتبتها في سنوات سابقة .. أما الكتاب السابع (نداء الايمان) والذي استغرق مني الكتابة في هذا العام من أوله إلى آخره فاني ارجو أن أوفق في نشره في عام ٢٠١٩ ان شاء الله .. و هو اكبر وأعظم ما كتبت في حياتي لأنه كان خلاصة تجربة طويلة في صحبة ايات القران الكريم .. وما كتبته الا ابتغاء مرضاة الله وسعيا للانس بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد

المجد لله في الأعالي .. وعلى الأرض السلام .. وبالناس المسرة
بعد الانتصار النهائي لقيصر أغسطس على كليوباترا دخل الرومان مصر وقضوا على آخر ما تبقى من الحضارات القديمة التي كانت لها فلسفتها الروحية وثقافتها العريقة ليحل بدلا منها قانون القوة المنطلق من النظرة المادية البحتة .. وفي هذا التوقيت ولد المسيح الذي وصفه القرآن بأنه كلمة الله وروح منه وأنه وجيه في الدنيا والآخرة .. جاء ليحمل للدنيا السلام .. ليحمل شعلة المقاومة ضد النزعة المادية ويقود العالم للعودة إلى الإيمان من جديد .. ولد في الأرض المقدسة التي باركها الله للعالمين ثم رحل إلى مصر حيث الأمان .. وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ..
صوت صارخ في البرية ضد الظلم والطغيان الذي تتبناه أقوى وأقسى مملكة في التاريخ .. صوت روحاني مصلح ضد سلوك اليهود الذين تخلوا عن دورهم في ريادة الأممين نحو الحق والعدل .. لم تذهب صيحاته أدراج الرياح ولا ذهبت مواعظه سدى لأن الفكر الذي جاء به تمكن بعد ثلاثة قرون من هزيمة الرومان بكل جبروتهم وحول هذه الامبراطورية الأسطورية من الوثنية إلى الإيمان وهذا من أعظم الانتصارات .. وعندما نحتفل بذكرى ميلاده فإننا في الحقيقة نهنىء كل المؤمنين بالرسالات السماوية لأن هذا اليوم حمل إلى الأرض السلام .. فسلام عليه يوم ولد ويوم يموت ويوم يبعث حيا.

فيها يفرق كل امر حكيم
في كل مجموعة من السور المترابطة تأتي تلك السورة ذات الإيقاع السريع والفواصل القصيرة مثل سورة الشعراء في (الطواسين) وسورة الحجر في (ألراءات) وسورة السجدة في (ألميمات) لكن في (الحواميم) جاءت سورتان على هذا النمط هما الزخرف والدخان وكلاهما بدأ بالقسم بالكتاب المبين ثم قال في الأولى ” إنا جعلناه قرآنا عربيا ” بينما قال في الثانية ” إنا أنزلناه في ليلة مباركة ” ، وقد بدا في هذا السورة احتفاء غير عادي بليلة القدر التي هي أعظم ليلة في تاريخ الإسلام عندما حدث التماس بين عالم السماء النوراني وعالم الأرض البشري لتخرج كلمات الوحي الإلهي إلى حيز الوجود ومن ثم تنطلق آيات الكتاب بالعلم والحكمة من لدن رب العالمين لتفتح باب الرحمة فجاء وصفها في جمال وعظمة في قوله تعالى ” حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنا كنا منذرين فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ” ،
وتستفيض الآيات في تمجيد القدرة الإلهية التي لا يجب أن تكون موضع شك وغفلة ” بل هم في شك يلعبون ” والأولى لمن كانت لديه الشكوك أن يكون في أقصى حالات الجدية للبحث عن الحقيقة وأن يكون مهموما بمصيره لكن أن يكون في لعب ولهو لذلك يأتي التحذير من وقوع كارثة ” دخان مبين يغشى الناس ” طالما كانت هذه هي وسيلة التيقن الوحيدة عند البشر رغم أن الإنسان العاقل لا يحتاج إلى كارثة حتى يؤمن وإنما تكفيه الآيات المنزلة ولا ينتظر ” البطشة الكبرى ” التي هي آتية لا محالة عند قيام الساعة. وتسرد السورة سريعا هلاك قوم فرعون ونجاة موسى ومن معه في درس بليغ لانتصار الحق على الباطل رغم استحالة تخيل حدوث ذلك لأن الصراع غير متكافىء على الإطلاق ما بين قبيلة مستضعفة تفر خائفة مذعورة في جنح الليل وبين جيش جرار يقودهم أشهر ملوك التاريخ وأكثرهم جبروتا وعتوا ويجلس على عرش دولة شديدة الغنى والقوة ،
لكن واقع الأحداث يخبرنا أن انهيارا قد حدث لهذه المنظومة القائمة على الظلم حيث الهلاك المحقق وفقدان الحياة وما كان فيها من نعيم ومتاع عبرت عنه الآيات بالقول ” كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين كذلك وأورثناها قوما آخرين ” وهو تعبير يدل على التحسر على ما حاق بالقوم الذين أصبحوا أثرا بعد عين ، وفي تعقيب على هذا الزوال من الوجود تشير الآيات إلى أنهم قد ذهبوا غير مأسوف عليهم لأنه ساعة هلاكهم لم يحزن عليهم أحد وبعد وقت قصير صاروا في طي النسيان ولم يبق منهم إلا قصص تروى للعظة والاعتبار فتقول الآيات ” فما بكت عليهم السماء والأرض وما كانوا منظرين ” ، أما الطرف الآخر فلم يكن محظوظا بالنجاة إلا بسبب الاستجابة لدعوة الله والاستعداد للتضحية من أجل رسالة السماء حيث إن التكليف بتحمل مسئولية الرسالة الدينية هو بمثابة اختبار وابتلاء وليس من باب التشريف أو التكريم وإن كان الشرف كله والكرامة كلها في السير على الصراط المستقيم ،
وقد بينت الآيات أن نتيجة هذا الامتحان كان النجاح والفلاح لأنه وضع بني إسرائيل على طريق الاختيار الإلهي في قوله ” ولقد اخترناهم على علم على العالمين ” وفي ذلك إشارة إلى اتخاذهم قدوة في ذلك من قبل الجماعة المؤمنة بالرسالة المحمدية تمهيدا لإعلان وراثتها لهذا الاختيار والاصطفاء الذي سيحل عليهم مثلما حل على بني إسرائيل من قبل. وفي مناقشة مبسطة لإنكار المكذبين للبعث تخبرنا السورة أن نتدبر في هذا الكون بصدق ونسأل أنفسنا عن ماهيته التي لا يمكن أن تكون عبثا أو لهوا وذلك في قوله ” وما خلقنا السماوات والأرض وما بينهما لاعبين ما خلقناهما إلا بالحق ولكن أكثر الناس لا يعلمون ” وهو رد يصلح في كل زمان ومكان لمن يريد إنكار البعث ويرى استحالة حدوثه بينما يقبل تماما مسألة الخلق من العدم وبث الحياة من لا شيء ، ويبدو أن الاقتناع النهائي بذلك لن يحدث لكثير من الناس إلا عندما يبعثون فعلا في اليوم الآخر ويرون ما كانوا يستريبون فيه وقد صار حقيقة واقعة أمام أعينهم حيث العذاب الأليم لمن صد عن سبيل الله والنعيم المقيم لمن صار على الصراط المستقيم حيث قدمت السورة مشهدا شديد القسوة من مشاهد القيامة عندما يذل المتكبر ويتلقى التقريع على استكباره ” ذق إنك أنت العزيز الكريم ” ،
أما أهل التقوى والإيمان فقد نالوا أعظم جزاء وأرفع وسام ألا وهو الأمان في حضرة الملك العلام وفي النعيم الذي لا ينفذ وفي الحياة المتجددة المستمرة التي لا يقطعها الموت مرة أخرى مثل الحياة الدنيا وهذا هو الفضل الكبير والفوز العظيم حيث جاء التعبير بكلمة (الفوز) دائما فيما يختص بالشأن الأخروي لأنه أعلى درجات المثوبة بينما وصفت الإنجازات الدنيوية في مواضع أخرى عديدة بكلمات (النصر ـ الفتح) ، وفي ختام السورة يأتي التذكير بدقة التعبير القرآني وفصاحة اللسان النبوي إذ جاءهم بلغتهم ووفق ما تعارفوا عليه من أساليب البيان والمعاني وهو تكرار لما سبق في ختام سورة مريم عندما يقول ” فإنما يسرناه بلسانك لعلهم يتذكرون ” فكان صوت النذير هادرا ليتركهم في ترقب وخوف يستشعرون هذا التهديد المستمر بالهلاك ردعا لهم عما يحيكوه من مؤامرات ضد دعوة الحق وإذا كان الأمر الإلهي في سورة الزخرف قد جاء بقوله ” فاصفح عنهم ” من باب الترغيب فإنه هنا قد جاء موازنا له من باب الترهيب بقوله ” فارتقب إنهم مرتقبون “.

عمرو بن كلثوم .. فارس لا يقبل الضيم
يأتي في مقدمة شعراء المعلقات بلا منازع عمرو بن كلثوم التغلبي من ربيعة لما حملته معلقته من معاني الفخر والعزة والأنفة والمجد حيث ارتجز معلقته بعد الحادثة المشهورة مع ملك الحيرة عمرو بن المنذر المعروف بلقب مضرط الحجارة ، وتبدأ المعلقة بقوله : (ألا هبي بصحبك فاصبحينا .. ولا تبقي خمور الأندرينا) وجاء فيها : (ورثنا المجد قد علمت معد .. نطاعن دونه حتى يبينا .. ونشرب إن وردنا الماء صفوا .. ويشرب غيرنا كدرا وطينا .. ألا لا يجهلن أحد علينا .. فنجهل فوق جهل الجاهلينا .. ونحن الحاكمون إذا أطعنا .. ونحن العازمون إذا عصينا .. وأنا المانعون لما أردنا .. وأنا النازلون بحيث شينا .. إذا بلغ الفطام لنا صبي .. تخر له الجبابر ساجدينا) ، وقد افتخرت القبيلة بهذه المعلقة حتى قيل : (ألهى بني تغلب عن كل مكرمة .. قصيدة قالها عمرو بن كلثوم) ، وقد روي أن النبي (ص) سمع الشاعر يلقيها في سوق عكاظ.
والقصة يرويها أبو عبيدة التيمي في كتابه (أيام العرب قبل الإسلام) فذكر أن عمرو ابن هند (وأمه هند بنت الحارث بن حجر بن آكل المرار الكندي وأبوه المنذر بن ماء السماء اللخمي) قال ذات يوم لجلسائه : (هل تعلمون أن أحداً من أهل مملكتي يأنف أن تخدم أمه أمي؟) فقالوا : (لا ما خلا عمرو بن كلثوم فإن أمه ليلى بنت المهلهل أخي الملك كليب وعمها الملك كليب وهو وائل بن ربيعة وزوجها كلثوم بن مالك) ، فسكت عمرو على ما في نفسه ثم بعث إلى عمرو بن كلثوم يستزيره وأن تزور ليلى هنداً فقدم عمرو من البحرين في فرسان تغلب ومعه أمه ليلى فنزل شاطئ الفرات وبلغ عمرو ابن هند قدومه فأمر بخيمة فضربت بين الحيرة والفرات وأرسل إلى وجوه مملكته فصنع لهم طعاماً ثم دعا الناس إليه فقرب إليهم الطعام على باب السرادق وهو وعمرو بن كلثوم وخواص من الناس في السرادق ولأمه هند في جانب السرادق قبة وأم عمرو بن كلثوم معها في القبة.
وقال عمرو ابن هند لأمه : (إذا فرغ الناس من الطعام فلم يبق إلا الطُرَف فنحّي خدمك عنك فإذا دعوت بالطرف فاستخدمي ليلى ومريها فلتناولك الشيء بعد الشيء يريد طرف الفواكه وغير ذلك من الطعام) ، ففعلت هند ما أمرها ابنها حتى إذا دعا بالطرف قالت هند لـليلى : (ناوليني ذلك الطبق) ، قالت: (لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها) فقالت : (ناوليني) وألحت عليها فقالت ليلى : (واذلاه .. يا لتغلب) ، فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه والقوم يشربون ونظر إلى سيف عمرو ابن هند وهو معلق بالسُّرادق ولم يكن بالسرادق سيفٍ غيره فثار إلى السيف مصلتاً فضرب به رأس عمرو ابن هند فقتله ثم خرج فنادى : (يا لتغلب) فانتهبوا ماله وخيله وسبوا النساء ولحقوا بالجزيرة ، وفي ثنايا القصيدة يذكر الشاعر أمه أنها تجاوزته يوما في تقديم الشراب وهو جالس مع أبيه كلثوم وجده المهلهل لحداثة سنه وأنه أقل الثلاثة شرفا فلما كانت هذه الحادثة قالت له أمه : (بأبي أنت وأمي .. أنت والله خير الثلاثة اليوم).

العلم أساس الحياة
أرسل لي أحد الأصدقاء ليسألني ما إذا كنت قد تحولت عن الكتابة في الشؤون السياسية والاجتماعية إلى الكتابة في العلم والطب فأجبته أن ذلك لم يحدث وإنما السياسة التي أعرفها تعني وجود رؤية لنهضة الأوطان ولا يمكن أن يحدث ذلك إلا إذا كان البحث العلمي الجاد والحقيقي والإنفاق عليه هو أول خطوة في هذا الطريق .. نحن نعيش في عصر العلم التقني والحضارة الحديثة ونلمس كل منتجاتها في كل نواحي الحياة من أول وسائل النقل والمواصلات وحتى وسائط التواصل الاجتماعي مرورا بكل أساسيات وكماليات المعيشة والإنتاج وإذا لم نلحق بركب العلم فإننا سوف نظل في العصور الوسطى سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا ..
تنظيم الحياة السياسية وفهمها والتعمق فيها لن يكون إلا بالعلوم السياسية وليس الفهلوة .. إدارة الاقتصاد والصناعة والإنتاج تعتمد على العلم في كل شيء وليست متروكة للاجتهاد الشخصي .. دراسة أحوال المجتمعات وعاداتها وتقاليدها وتغيراتها تخضع للدراسات العلمية الإحصائية وضوابطها وليست نظريات جوفاء .. بل إن فهم الدين الحق يؤدي بنا تلقائيا إلى السير في اتجاه العلم ونبذ الخرافة حيث جاءت كلمات القرآن الأولى بوصف المولى عز وجل في قوله ” الذي علم بالقلم ” وذلك بعد الأمر الرباني العظيم للنبي (ص) والذي افتتح به الوحي في قوله ” اقرأ “.

الملعب السياسي
كان لي صديق مغرم بكرة القدم يقضي حياته كلها في تشجيع ناديه المفضل بحماس يصل لدرجة التعصب والهوس والعنف أحيانا .. وفي إحدى المباريات هزم فريقه فانقض هو وسائر المشجعين على المدرجات فكسروا أسوارها وحطموا مقاعدها وكان يوما من أسوأ الأيام .. وفي المساء صحبته إلى النادي لأحاول إخراجه من حالته النفسية السيئة لكن الصدمة الكبرى كانت في انتظارنا عندما شاهد الجهاز الفني واللاعبين وهم يجلسون في كافيتريا النادي وهم في حالة مزاجية جيدة وبعضهم يتحدث عن المستحقات المالية للمباراة وآخر يتحدث عن عقد الاحتراف الذي تلقاه اليوم بل كانوا يتحدثون عن مباراة اليوم بكثير من السخرية وكأنها حدث عابر .. وهنا حل الذهول على وجه صديقي وهو لا يكاد يصدق ما يراه.
هكذا عالم السياسة أيضا .. هناك فئة اللاعبين الذين يعرفون قواعد اللعبة السياسية وأبعادها ومكتسباتها ومراميها البعيدة .. وهناك الجمهور المتحمس الذي يسير مثل القطيع لا يرى أبعد من أنفه .. وفي بلادنا فريقان كبيران هما طرفا المنافسة السياسية منذ زمن بعيد وحولهما عدد من الفرق الصغيرة التي تحاول أن تحل محل من يقع منهما .. ويدرك اللاعبون أن المسار النهائي للمباراة هو العودة للاتزان الطبيعي الذي استمر من قبل لثلاثة عقود لأن ما بعدها يظل وضعا استثنائيا .. الملعب لا يتحمل حرية لدرجة الفوضى ولا قمعا لدرجة الكبت .. لكن المشكلة في الجمهور الثائر من الطرفين والذي سار وراء اللاعبين واعتبر أنه في معركة مقدسة ولا يريد أن يفهم أنها لعبة لها قواعدها التي تخفى عليه.
واللاعبون يدركون تماما وضعية الجمهور .. إنه شديد الأهمية لهم لأنه الداعم الأكبر ساعة المباراة لكنه أيضا غير مستوعب لحقيقة الأمور .. ولذا فهناك في عالم السياسة خطابان .. أحدهما علني حماسي ثوري يستنفر الجمهور من الطرفين للاصطفاف في المعركة الفاصلة .. وخطاب آخر عقلاني هادىء يتم بلغة الصفقات وفق قواعد اللعبة المتعارف عليها بعيدا عن الجمهور الغوغائي حتى لا يصاب بالصدمة وينفض من حول اللاعبين .. وسوف تسير الأمور وفقا لقواعد اللعبة لأنه لا يمكن أن يحدث غير ذلك وكل ما في الأمر أن الفريق الفائز في الجولة الأخيرة ينتظر حتى يقر الفريق المهزوم بنتيجة المباراة الأخيرة بينهما .. وبعد ذلك سوف تستأنف المباريات وفق الواقع الجديد حتى لو غضب الجمهور وحطم المدرجات !!

صديقي
ليس من حقك أن تفرض علي رؤيتك الأحادية للحياة باسم الدين أو الوطنية أو العرف أو الحداثة .. لأن لي عقلا مثلك يفكر ويستوعب ويختار ما يناسبني وليس بالضرورة أن يناسبك ولا من الحكمة أن نصير جميعا على شاكلة واحدة أو مذهب واحد أو نتشابه في اللون أو نعتنق نفس الفكر ..
وطالما أنني احترمت الدستور والقانون وتعايشت مع الجميع بسلام ولم أتدخل في شأن أحد أو أتسبب في إيذاء إنسان وقمت بالتعبير عن رأيي بصورة مهذبة فإن من حقي عليك أن تحترم حق الاختلاف الذي هو أمر فطري في كل البشر مهما بدت أفكاري غريبة لأنني أيضا أراك من نفس المرآة ..

صوت الناي الحزين
عندما أستمع إلى صوت الناي أجده حزينا مفعما بالشجن دونا عن عزف أية آلة موسيقية أخرى .. وهو في صفيره المليء بالأسى يخرج نتاج أنفاس متلاحقة وكأنه كائن لاهث يبحث عن الحياة ويخشى الصمت .. ولعل هذا الحزن الدفين جاء مع إحساس الناي بالغربة لأنه في الحقيقة فرع شجرة قطع من جذره وانفصل عن أصله .. وما هذا الصوت الشجي إلا فرط الحنين للعودة إلى حالته الأولى فرعا مثمرا غدقا في دوحة عامرة مزهرة .. وما تأثر الإنسان بذاك الصوت الندي إلا تجاوبا مع نفس المشاعر لأن الإنسان أيضا غريب في أرض غريبة تسعى روحه إلى العودة إلى المحل الأول الذي خرجت منه وتشتاق إلى التحليق في المنازل العلى .. وكما نزع الناي من فرعه الرطيب فإن النفس قد نزعت من موردها الصافي في أعالي الجنان ساعة النفخة الأولى لتحل في هذا الجسد الفاني .. وهي حزينة على ما حل بها وتتوق حنينا للعودة مرة أخرى إلى موئلها الأول ومستقرها الأبدي لذا فهي تتجاوب مع همسات عزف الناي الحزين ..

الان نرجوكم الصمت
كورونا وباء عالمي وليس مؤامرة ولا يصلح أن يكون موضوعا للمزايدة بين المتدينين والعلمانيين ولا بين المعارضين للحكومات والمؤيدين لها ولن ينفع اليوم ان يلقي أحدهم تبعة الفشل على الآخرين .. هي كارثة عالمية سوف تنجو منها الدول التي أنفقت من قبل ولا زالت تنفق على الصحة والتعليم الطبي ولها نصيب في البحث العلمي الجاد المنتج وكذلك التصنيع الحقيقي الخادم للاحتياجات .. أما الدول النامية فلا يمكن توقع ما سوف يلحقها من آثار اقتصادية وسياسية ناجمة عن الوباء حيث عجزت عن إجراء العدد الكافي من تحليل الفيروس (ولذلك عدد المرضى فيها قليل) ولم تتخذ إجراءات جادة لمنع الانتشار (كلها إجراءات شكلية) ..
الكارثة يمكن أن تطال الجميع والامل الكاذب خيانة ولا يوجد علاج معتمد حتى الآن لذا لا يجب الاستماع لانصار نظرية (كل شيء تمام) ولا أن يعيش بعضهم في دور (عبد المهم) ليتصدر المشهد بنظريات كاذبة .. فلنستمع لتعليمات الأطباء ونوفر لهم كل ما يلزمهم وعلى رأس ذلك زيادة الإنفاق في مجال الصحة بما يحقق الهدف دون شعارات ولا تطبيل فلن ينفع اليوم سوى قول الحقيقة وحدها ولذلك الان نرجوكم الصمت.

ثلاثة أيام قاسية
اليوم ظهرت نتيجة تحليل فيروس كورونا الخاص بي وكانت سلبية ولله الحمد والمنة لكن الأيام الثلاثة التي فصلت بين عمل المسحة وظهور النتيجة كانت من أقسى أيام حياتي بل تكاد تفوق في صعوبتها كل ما سبق من تجارب حياتية بسبب الهواجس التي سيطرت على العقل برغم محاولة تصنع الشجاعة والثبات الانفعالي ..
في اليوم الأول كنت شديد الخوف أن تكون الإصابة بسبب إهمال شخصي في اتخاذ الاحتياطات اللازمة أثناء التعامل مع المرضى وهو ما يعني احتمالية أن أتسبب في نشر العدوى بين أهلي وبين المرضى الذين يترددون علي بل مع كل شخص تعاملت معه في الحياة العادية وهو شعور صعب أن تكون سببا للمرض بدل الشفاء ..
في اليوم الثاني كان الترقب والقلق من المرض الذي من الممكن أن يقعد الإنسان عن العمل ومعه احتمالية فقدان الوظيفة وذلك وأنا أتابع الجدل الدائر حول أيهما أولى الصحة أم الاقتصاد في مزايدات عقيمة وذلك في اللحظة التي يمكن للمرء فيها أن يفقد الاثنين معا فأتعجب من هؤلاء الذين لم يدركوا بعد خطورة الحدث ..
وفي اليوم الثالث كانت الفكرة المسيطرة هي الخوف من شبح الموت الذي أطاح بالحياة في دول العالم على اختلافها وفي القلب منهم العاملون في المجال الطبي وتأملت فإذا كل الآمال والتطلعات والأحلام والطموحات والمشروعات المستقبلية التي كنت أخطط على وشك الفقد لأن الحياة نفسها قد توشك على المغيب ..
أثق في العلم ثقة مطلقة وهو ما يدفع باتجاه مزيد من الخوف والترقب لأنه لا علاج ولا لقاح حتى هذه الساعة وسوف تتكرر تجربة عمل التحليل وانتظار النتيجة بهذه المشاعر كل أسبوعين طالما كان هناك تعامل مع المرضى فلم يبق لنا إلا التعلق بأهداب الرحمة العلوية عسى أن تدركنا الألطاف الإلهية بالعافية والنجاة ..