
كونفوشيوس
ابتداءا من القرن السابع قبل الميلاد كان العالم كله يشهد تغيرات سياسية وثقافية عظيمة التأثير تنبىء عن ذهاب حقبة تاريخية وبداية حقبة جديدة تماما نمت فيها مجموعة من الأفكار الدينية والفلسفية على يد مجموعة من الأشخاص عاشوا جميعا في زمن متقارب رغم بعد المسافات فيما بينهم وهو ما يثير الدهشة لأن أفكارهم جميعا قدر لها أن تسود العالم كله وتلعب الدور الأكبر في تطوره الثقافي والحضاري وتسهم في قيام الامبراطوريات العالمية العابرة للقوميات.. وهؤلاء الأشخاص هم : كونفوشيوش وفياسا وزرادشت وبوذا وعزرا وفيثاغورس .. وسوف نتناول آثارهم تباعا :
كونفوشيوس : (كونغ فوتسو / الملك الفيلسوف) وهو مصلح اجتماعي وحكيم صيني دعا إلى استلهام الفضائل الخلقية من تراث الأجداد فصاغ مذهبا صهر فيه كل التقاليد الاجتماعية المشتركة في عموم الممالك الصينية المختلفة وقد قضى جزءا من حياته موظفا حكوميا وجزءا آخر تجول فيه في أنحاء البلاد داعيا إلى مذهبه حيث التف حوله الكثير من الناس الذين وجدوا فيه ضالتهم بينما تباين موقف الحكام ما بين التوجس والترحيب وفي النهاية استقر في المدرسة التي أنشأها وأخذ يعلم فيها ، وفي مكان آخر في الصين وبعده بفترة قصيرة كان حكيم آخر (لاو تسي) يصوغ المعتقدات الدينية الصينية القديمة على هيئة فلسفة متكاملة عرفت باسم الطاوية حاولت أن توجد تفسيرات لماهية الحياة والموت ومعاني الوجود والخلود ثم ظهر عدد من الحكماء جمع بين مذهب الكونفوشية العملي وفلسفة الطاو الروحانية مثل الحكيم (شون تسي) ، وفي القرن الثالث قبل الميلاد توحدت الصين تحت سلطان رجل جبار هو (شي هوانج تي) الذي بنى سور الصين العظيم ولقب نفسه بلقب الامبراطور فتبنى الطاوية وأحرق كتب كونفوشيوس مما زاد في انتشارها وانتهى حكم أسرته سريعا لأنه لم يتنبه لقوة انتشار الأفكار مما دعا أسرة (هان) التي خلفت أسرته إلى تبني المبادىء الكونفوشية طوال أربعة قرون كاملة صحبها تطور هائل على الصعيد الحضاري والتقني في البلاد (وأهمها اختراع الورق) إلى جانب التوسع العسكري في كوريا ومنشوريا والتبت والهند الصينية وازدهار التجارة مع العالم كله مما ربط العصر الذهبي للأمة الصينية بالمبادىء الكونفوشية التي ساعدت على الرقي الأخلاقي وتقديس الحياة العائلية والانضباط الوظيفي في أجهزة الحكم المختلفة والأهم من ذلك كله توحيد الأمة الصينية ثقافيا واجتماعيا وأعطاها هويتها المميزة.
فياسا
وهو أحد كبار المعلمين الهندوس ويطلق عليه (فيدا فياسا) لأنه قام بتجميع ونسخ كتاب (الفيدا) الهندوسي القديم وقسمه إلى أربع أقسام مضافا إليها النصوص التكميلية التي وضعها حكماء الهندوس مثل (الأوبانيشاد) وهي تعليقات متعمقة في جوهر الديانة الهندوسة ذات بعد فلسفي رفيع وكذلك (البوراناس) وهو تبسيط لهذه الأفكار بأسلوبه هو على شكل قصص وأشعار ، وكان لدى الهنود الآريين بجانب كتاب (الفيدا) المقدس القديم ملحمتان تاريخيتان باللغة السنسكريتية تماثلان الإلياذة والأوديسا وهما (الرامايانا) التي تحكي قصة الإله رام وتنسب لشاعر يدعى (فالميكي) والثانية وهي الأكبر عرفت باسم (مها بهارتا) والتي تحكي عن ملوك أسرة بهارتا القديمة الذين قادوا الحروب ضد السكان الأصليين من الدرافيد وقد قام (فياسا) بتجميعها ثم استخلص أحد فصولها الهامة (700 بيت على لسان الإله كريشنا) لتصير (البهاجفاد جيتا) والتي صارت الكتاب المقدس لدى الهندوس والذي تم فيه عرض التصور النهائي للديانة ، كانت هذه الكتابات كلها ضرورية لمواكبة التطور الحادث بتراجع الآلهة الآرية القديمة وصعود آلهة جديدة تجمع بين ديانة الغزاة ومعتقدات السكان الأصليين حيث صعود (التريمورتي / الثالوث) المكون من كل من (براهما ـ فيشنو ـ شيفا) ليكون على رأس مجمع الآلهة الجديد كذلك ترسيخ التنظيم الاجتماعي القائم على الطبقات الأربعة وأفكار تناسخ الأرواح والطقوس الهندوسية العديدة ، وقد تمت هذه التغيرات في عهد الممالك العظمى (16 دويلة مستقلة) أعقبها الغزوات الفارسية واليونانية ثم قيام امبراطورية موريا التي ضمت الجزء الأكبر من شمال الهند وتبنت الديانة البوذية ثم حدث انقسام مرة أخرى قبل أن تقوم مملكة جوبتا بإعادة توحيد الهند طيلة ثلاثة قرون شهدت تبني الثقافة الهندوسية متزامنة مع طفرة هائلة في العلوم والثقافة والآداب والاقتصاد.

بوذا :
وهو لقب يعني (المستنير) أطلق على الناسك الهندي (سدهارتا جوتاما) الذي كان في الأصل أميرا في إحدى المقاطعات الشمالية التي تقع بين الهند والتبت لكنه قرر في شبابه مغادرة حياة الترف ليعيش في البرية حياة الزهد والتأمل ملزما نفسه بالتقشف الشديد وخشونة العيش في محاولة لترويض نفسه والتخلص من الشهوات حيث قضى فترة طويلة في تجارب عديدة حتى جاءت اللحظة الفاصلة عندما كان يجلس تحت شجرة التين فأشرقت عليه شمس المعرفة وسمع نداء الحقيقة ووصل إلى حالة (النرفانا) والتي تعني الاستنارة الكاملة ، بدأ بعدها في التجول مع أتباعه للتبشير بمذهبه الجديد الذي كان في البداية حركة رهبانية داخل التقاليد الهندوسية لكن بمرور الوقت تحول إلى طائفة دينية جديدة تعتمد في أساسها على تعاليم بوذا حيث شرعت في دعوة عامة الناس إلى الانضمام لها وبعد وفاته عقد أول مجمع للطائفة لتوحيد الأفكار ومعالجة الخلافات وعهد إلى ثلاثة من الكهنة بتدوين تعاليم بوذا كتابة وهم (كاشيابا ـ أويالي ـ أناندا) ، ويعزو السبب في بقاء البوذية ومن ثم انتشارها إلى الملك (أشوكا) أهم ملوك أسرة موريا التي كانت تحكم شمال الهندوستان حيث دعمها بقوة لتكون سبيلا لتوحيد أول امبراطورية كبيرة في تاريخ الهند وأشرف بنفسه على عقد المجمع الثالث الذي تم فيه كتابة (التريبتاكا / السلات الثلاث) والتي تحوي التعاليم الخلقية والعقدية في صورتها النهائية (أبيردارما) كما تم في هذا المجمع الموافقة على إرسال المبشرين إلى خارج الهند فبدأت البوذية في الانتشار إلى سيلان وكشمير والبنغال ثم الصين والهند الصينية حيث وجدت قبولا ونجاحا فاق ما كان في الهند لكنها انقسمت بسبب ذلك إلى مذاهب عدة بسبب المؤثرات الخارجية ، ولم تكن البوذية هي حركة الاحتجاج الوحيدة ضد الكهنوت الهندوسي وإنما عاش في نفس الوقت حكيم آخر يدعى (ماهافيرا) الذي أسس الديانة الجاينية التي تقوم على وحدة الوجود والمساواة التامة ومبدأ اللاعنف وحياة التقشف حيث انتشر هذا المذهب في شمال الهند في حقبة الممالك الوسطى التي أعقبت سقوط دولة موريا لكنه لم ينتشر خارج موطنه لعدم وجود الدعم السياسي الكافي مثل البوذية.
زرادشت :
وهو مصلح ديني عاش في منطقة أذربيجان حيث تخوم الممالك الآرية والقبائل الطورانية في منطقة شهدت النزاعات الدائمة بينهما حيث دعا إلى إبطال كل الآلهة القديمة ودعا إلى عبادة إله واحد هو (أهورا مزدا) رب النور الذي كلفه بهذه المهمة عن طريق كبير الملائكة المسمى (فاهومانا) وذلك بعد فترة طويلة قضاها في عزلة وتأمل ، وقد لاقى مقاومة كبيرة من قومه طيلة عشر سنوات حيث طردوه بعدها فراح يتنقل بين الأقاليم المختلفة حتى وجد ضالته في حماية أحد الأمراء المحليين ، وهناك بدأ مذهبه في الانتشار والتحول إلى دين وتم تجميع أقواله وتعاليمه كلها في كتاب عرف باسم (افيستا) حيث تقوم الأفكار الأساسية على وجوب مقاومة قوى الشر الشيطانية (أهريمن) والطهارة الدائمة معنويا وحسيا وتقديس عناصر الطبيعة وأهمها النار والإيمان بالحياة الآخرة حيث الجنة ومضيفاتها من الحور بالإضافة إلى التأكيد الدائم على أهمية الفضائل الخلقية الشخصية والاجتماعية والاهتمام الكبير بدور الأسرة في التربية ، الانتشار الكبير للزرادشتية كان في عهد دولة الفرس الأخمينيين التي كانت تبحث عن مذهب يوحد تلك الامبراطورية شاسعة الأنحاء حيث بدأت أولا في منطقة فارس بعد أن استقلت عن العيلاميين ثم قامت بثورة على مملكة الميديين ومن ثم وحدت الشعوب الآرية ثم استولت على بلاد الرافدين والأناضول والقوقاز وخراسان وامتدت من أول نهر السند وحتى نهر النيل ومن وسط آسيا حتى بلاد اليونان فكانت أول وأكبر امبراطورية عالمية ، ورغم التقلبات الحادثة بعد غزوات الاسكندر إلا أن الزرادشتية ظلت قائمة في عهد دولة البارثيين ثم ازدهرت في عهد الأسرة الساسانية التي ينحدر ملوكها من أحد كبار الكهنة الزرادشتيين فتحولت إلى دين وقومية معا حيث تمت كتابة الأفستا باللغة البهلوية وإنشاء معابد النار في كل أرجاء الامبراطورية التي دامت أربعة قرون.

عزرا :
وهو آخر أنبياء اليهود وأهمهم جميعا لأنه هو الذي قام بتجميع الكتاب المقدس على هيئته النهائية (تنخ = توراة + نبيئيم + ختوبيم) وتعني (الشريعة والأنبياء والكتب) ولذا يعرف باسم (عزرا الكاتب) واسمه في الأصل (عزرياهو) ومعناه (الذي يساعده الرب) وقد ولد في بابل أثناء فترة السبي لأسرة تنحدر من سلالة الكهنة وكان عالما باللغتين الآرامية والعبرانية (الكنعانية) ، وبإذن من ملوك فارس قام بقيادة جماعة من المنفيين للعودة إلى فلسطين حيث صار ما يؤمن به هؤلاء هو الدين اليهودي الصحيح فأسس مجلس (السنهدرين) الذي يتكون من سبعين عضوا تحت قيادة كبير الكهنة ليشرف على الشئون الدينية والدنيوية للطائفة وأعلن أن هذا الكتاب هو الذي يحوي شريعة الرب الأصلية التي كانت منذ القدم تدعو لعبادة إله واحد هو (يهوه) الذي تحول من معبود محلي لإحدى القبائل البدوية مثل بقية الآلهة إلى إله واحد لا يمكن أن يكون معه آلهة أخرى لأنه فقط المستحق للعبادة والقرابين ،
والكتاب المقدس في صورته النهائية يحمل قدرا كبيرا من التأثر بالزرادشتية حيث تمت كتابة أجزاء كثيرة منه في بابل ثم أضيف إليها التراث الشفوي للعبرانيين وقصص المملكة الشمالية الكنعانية مع اقتباسات مختلفة من التراث السومري (مثل ملاحم الخلق والطوفان) ونصوص كاملة من حكم الفراعنة (أناشيد أخناتون وحكم أمنيوبي) ونسبت لكل من داوود وسليمان ، خلال الحكم الفارسي والإغريقي نشطت عملية تهويد الشعوب المجاورة للطائفة اليهودية خاصة بعد استقلال اليهود سياسيا تحت سلطة أسرة المكابيين المنحدرة من الكهنة والتي تبنت نشر اليهودية بالقوة في سوريا وفينيقيا وشرق الأردن ثم انطلق المبشرون في حوض المتوسط لنشر الدين الذي لاقى قبولا من قطاعات كبيرة لا سيما المستعمرات الفينيقية في أسبانيا وشمال أفريقيا والمستعمرات اليونانية في جنوب أوروبا وآسيا الصغرى حيث انتشرت الجاليات المتهودة في بقاع كثيرة لكن أكثرها من ناحية العدد كانت في الاسكندرية تحت حكم البطالمة وهناك تمت الترجمة السبعينية للكتاب المقدس إلى اللغة اليونانية ليسهل على اليهود اليونانيين معرفة دينهم الجديد ،
وفي العهد الروماني فقد اليهود استقلالهم السياسي وتعرضوا للاضطهاد من جانب الرومان فنشطت حركة التبشير في جزيرة العرب والحبشة وفارس وأعالي الفرات حيث نشأت مملكة (حديب) التي تبنت نشر الدين في القوقاز وأرمينيا وكذلك مملكة (حمير) التي تبنت نشر الدين في اليمن لكن المد اليهودي سرعان ما توقف بسبب انشقاق داخلي حيث تعرض لمنافسة شديدة من أتباع المسيحية التي كانت أيسر وأقرب لثقافة حوض المتوسط.

فيثاغورس :
وهو صاحب مصطلح (فلسفة / حب الحكمة) حيث كان من أوائل الفلاسفة اليونانيين الذين حاولوا الخروج من تأثير مجمع آلهة الأوليمب وملاحم هوميروس الأسطورية لكنه لم يكتف بالبحث العقلي ودراسة الطبيعة فقط كما فعل غيره وإنما أضاف لها قدرا كبيرا من التأمل والاستبطان وذلك بعد رحلة طويلة قام بها للبحث عن الحكمة خاصة في مصر حيث تتلمذ على يد الكهنة المصريين في العصر الصاوي ، وهو أول من صاغ أفكاره الفلسفية على هيئة مدرسة لها تلاميذ في أحد المستعمرات اليونانية بجنوب إيطاليا حيث كان يتوجب عليهم ارتداء الملابس البيضاء وقضاء أوقات محددة في التأمل والامتناع عن بعض الأطعمة والاهتمام بالرياضيات والموسيقى والبحث في العلاقة بين الروح والجسد حيث أثرت هذه الأفكار في المدارس الفلسفية التالية جميعا وعلى رأسها الرواقية التي تزامن انتشارها مع فتوحات الاسكندر وسيادة الثقافة الهلنستية في ربوع المتوسط ،
كانت الفلسفة اليونانية تشهد عصرها الذهبي بظهور كل من سقراط (نبي الفلاسفة) وأفلاطون مؤسس (الأكاديمية) وأرسطو (مؤسس الليسيوم) وغيرهم إلى جانب الفنون الإغريقية (المنبع الأول للمسرح والدراما) لكن الفلسفة الرواقية كانت الأكثر قدرة على تلبية احتياجات المنطقة بدعوتها إلى التنسك الشخصي والفضائل الخلقية والإخاء العالمي ووحدة الوجود حيث استطاع مؤسسها (زينون الرواقي) أن يمزج بين روحانية الشرق وعقلانية الغرب لأنه كان فينيقيا يعيش في أثينا ويشرح مذهبه في (رواق) ، وقد حظيت الرواقية بدعم الأباطرة الرومان طيلة ثلاثة قرون حيث استوعبت داخلها أفكار عدد من الفلاسفة مثل فيلون اليهودي اليوناني الذي عاش في مصر وحاول التوفيق بين الكتاب المقدس والفلسفة وكذلك أفلوطين اليوناني الأصل المصري المولد (مؤسس الأفلاطونية الحديثة التي تقوم على فلسفة الكلمة) وهذه الأفكار جميعا هي التي سهلت انتشار المسيحية التي تعد في حقيقتها تلاقحا بين التوحيد اليهودي والفلسفة الرواقية ،
ومع تبني الامبراطورية الرومانية للمسيحية في القرن الرابع الميلادي كان حوض المتوسط قد وجد ضالته في ديانة تدعو للتوحيد بعد انهيار الوثنية وفي نفس الوقت تحتوي في داخلها تراث المنطقة القديم بالتزامن مع رؤية فلسفية متكاملة للحياة والموت مما جعل للدولة الرومانية هوية جديد تمكنها من توحيد مكوناتها العديدة تحت راية واحدة ، لكن الجغرافيا التاريخية لعبت دورا كبيرا في انقسام الدين الوليد إلى مذاهب عدة وذلك بسبب جوهره الفلسفي حيث راح المبشرون من كل مذهب يتنافسون منافسة شرسة لتوصيل المسيحية للعالم كله فوصلت في وقت قياسي إلى فارس والهند والحبشة وجزيرة العرب وأرمينيا وفرنسا لكن المراكز الدينية الكبرى كانت ممثلة في المدن الخمس الرومانية الكبرى وهي (روما والقسطنطينية وأنطاكيا والقدس والإسكندرية) والتي صارت مراكز (الكرازة / البشارة).

ماركوس اورليوس
بعد زوال حكم الأسرة اليوليانية أعلنت الاسكندرية قائد حامية الشرق العجوز الحكيم (فاسباسيان) امبراطورا والذي دخل المدينة على هيئة النساك يشفي المرضى ويصنع المعجزات متمثلا روح سيرابيس ، وفي القرن التالي له تولى عرش الامبراطورية (الأباطرة الحكماء والبنائين العظماء : نيرفا ، تراجان ، هادريان ، بيوس ، ماركوس أورليوس) والذين تركوا آثارهم العظيمة في دندرة وهابو وأسوان والاسكندرية ، كان ماركوس أورليوس هو التجسيد الحقيقي لما حلم به أفلاطون من قبل في جمهوريته الفاضلة وهو أن يلي العرش فيلسوف تنصلح بحكمته أحوال الخليقة بيد أن أورليوس نفسه كان يرى أن الحاكم الفيلسوف ليس باستطاعته أن يغير وجه الدنيا نحو حياة أفضل وإنما كل ما يستطيعه أن يبذل أقصى جهده لتحقيق أكبر نصيب من الخير للمواطنين ،
لبس الامبراطور رداء الفلسفة الرواقية منذ صباه وأخذ ينام على فراش من القش وتلقى العلم على يد مختلف الفلاسفة والعلماء في شتى فروع المعرفة كالمنطق والفلسفة واللغة والبيان والخطابة والقانون والرياضيات ومن أقواله التي تدلل على عقيدته : ” إن الأشياء جميعا متشابكة بعضها ببعض والرابطة التي بينها رابطة مقدسة وفي الأشياء العاقلة كلها (عقل مشترك) ، وثمة إله واحد يسري في كل شئ .. مادة واحدة وقانون واحد وحقيقة واحدة .. هل يمكن أن يكون فيك أنت (نظام واضح) ويكون الكون كله اضطرابا وفوضى ” ،
ويتبين رأيه في وحدة الوجود عندما يقول : ” فكما أن تبدل الأجسام وانحلالها يفسحان المجال لأجسام أخرى فكذلك تتبدل الأرواح التي تنتقل إلى الهواء وتتبدد وتتوزع في عقل العالم الأصلي وتخلي مكانها لأرواح جديدة .. لقد وجدت أنت بوصفك جزءا من كل وسوف تفنى في ذلك الذي أخرجك وهذا هو ما تريده الطبيعة ، فاجتز هذه الفترة القصيرة من الزمن حتى تصل هادئا إلى الطبيعة واختم رحلتك وأنت راض ، وليكن مثلك كمثل حبة الزيتون تسقط حين تنضج وتبارك الطبيعة التي أخرجتها وتثني على الشجرة التي حملتها “.

الفلسفة الرواقية
ظلت المدارس الفلسفية قاصرة على طلاب الفلسفة في المدارس لأنها اكتفت بطرح الأسئلة ولم تقدم إجابات شافية .. كانت الجماهير في الامبراطورية الرومانية تعيش في عالم الطقوس والأسرار المصرية التي اندمجت مع العبادات المحلية بسهولة .. الحياة وسط نبوءات العرافين وخرافات المشعوذين ، فلسفة واحدة فقط استوعبت كل ذلك هي الفلسفة الرواقية لأنها تجمع بين خصائص الروحانية الشرقية وفضائل الحكمة اليونانية والتي دعا إليها زينون الرواقي وهو فينيقي كان يعيش في أثينا (سميت بهذا الاسم لأنهم كانوا يعلمون تلاميذهم في رواق Stoe) وهي تدعو إلى بساطة العيش مع القليل من الزهد والتنسك ورياضة النفس .. تؤمن بالوحدة العالمية والإخاء الإنساني .. تؤكد دوما أن أن الإنسان هو قبس من الإله وتدعو إلى سيادة المحبة بين الناس .. لأن الحقيقة واحدة لكنها متجلية في صور عدة ، يقول الفيلسوف سنيكا : ” أتسميه بالقدر .. لن تكون مخطئا .. أتسميه العناية الإلهية .. ستكون على صواب .. أتسميه الطبيعة .. لن تكون تسميتك كاذبة .. أتسميه الكون .. لن تكون قد انخدعت ” ،
اعتنق الأباطرة الرومان هذه الفلسفة ذات الطابع الجبري في عصر ساد فيه السلام الروماني (Paxa Romana) .. انصهرت كل المعارف الإنسانية والعقائد ابتداءا من عبادة الحيوان التي غدت مضحكة وسخيفة عند البعض إلى عبادة سيرابيس المزيج المصري اليوناني وعبادة إيزيس التي عمت أرجاء الامبراطورية ، عبادة الامبراطور بوصفه الشمس القاهرة (وهي إحدى تجليات العقائد الشمسية القديمة في حوض المتوسط والتي آمنت بها شعوب تلك المنطقة منذ القدم) ، اليهود فقط كانوا يتعصبون للإله يهوه أشد التعصب وقد جر ذلك عليهم ويلات متعاقبة ، فيلسوف الاسكندرية يهودي الأصل فيلون جعل هدف حياته أن يوفق بين فلسفة أفلاطون والكتاب المقدس .. كان يرى أن الإله هو الكائن الجوهري في العالم وهو غير مجسد أزلي سرمدي في وسع العقل أن يدرك وجوده ولكنه لا يستطيع أن يخلع عليه صفة ما لأن كل صفة تعني التحديد ، والذين يتصورونه في في صورة بشرية إنما يفعلون ذلك ليقربوه من خيال البشر وكان يقول إن أول ما (ولد / خلق) الإله العقل الإلهي أو (الكلمة = Logos) ، فالكلمة هي ابن الإله من (الحكمة العذراء) وعن طريق هذه الكلمة كشف الإله عن نفسه للإنسان وبالتالي هي سر الوجود.

الأفلاطونية الحديثة
أعمق أفكار الفلسفة الرواقية جاءت على يد آخر الفلاسفة العظماء وهو أفلوطين اليوناني الأصل المصري المولد (ولد في إحدى المدن اليونانية بالصعيد) الذي مزج روحانية الرواقيين مع فلسفة أفلاطون ليصير بذلك منظر (الأفلاطونية الحديثة) ، ويتركز فكره حول (الواحد = The One) الذي يعلو على الشخصية ويجاوز الواقع والفكر والتعريف والفهم وتتطلع جميع الأشياء إليه .. العالم كله جاء فيضا وصدورا من ذاته ..لأنه هو العقل الأول والمسبب الأعظم الذي يشرف على الأفلاك ، وأعلى مراتب الحياة هي صعود الروح إليه بواسطة الاشتياق المسمى (الحب = Eros) ليصل في النهاية إلى أن الإله هو(الحب / أغابي = Agapi) ، والغاية الحقة للروح هي الاتحاد الصوفي مع الواحد في نشوة الوجد أو تحليق المتوحد إلى المتوحد ، وهو يقول في كتابه (الإنباوات) : ” الأصل في الوجود هو الفكر وليس المادة ، والمادة لا تعرف إلا عن طريق الفكر ، وليس ما نسميه مادة إلا مجموعة من الأفكار .. والإنسان مؤلف من ثالوث بشري هو الجسم والنفس والعقل ، فأما الجسد فهو عضو النفس وسجنها معا والنفس تدرك أنها في الحقيقة أرقى من الجسد وتشعر بما لها من صلة بنفس أكبر منها وأوسع وهي حين تعمل لتبلغ بالفكر إلى حد الكمال تأمل أن تتصل مرة أخرى بتلك الحقيقة الروحية العليا ، أما بالنسبة للإله فهو ثالوث مكون من الوحدة والفكر والنفس ومن وراء الكائن المثلث يوجد الواحد ونحن لا نعرف عن هذا الواحد إلا أنه موجود وكل صفة موجبة نصفه بها تحديد له غير لائق به ، وكل ما نستطيع أن نصفه به هو أنه أول وواحد وخير وأنه هدف رغبتنا العليا لينشأ من هذا التوحد العقل العالي “.