
نشيد الجيش وملامح الهوية المصرية
في العروض العسكرية والمناسبات الوطنية يصدح رجال القوات المسلحة بترديد نشيد الجيش الذي يحمل معاني التضحية والفداء والذي كتبه الشاعر الكبير فاروق جويدة ولحنه المبدع كمال الطويل ، وتأتي معاني النشيد لترسم ملامح الهوية المصرية من خلال الكلمات المعبرة عن هذه الروح الأصيلة وأولها ارتباط مصر والمصريين بنهر النيل الخالد الذي هو شريان الحياة ومصدر الخير والنماء ..
وجاء ذكر النيل مرتبطا بتضحيات المصريين في قوله (وتنساب يا نيل حرا طليقا لتحمي ضفافك معنى النضال) في إشارة لتاريخ طويل من الكفاح ثم أعقبها قوله (وسالت مع النيل يوما دمانا) لتؤكد ذلك الارتباط الشديد بين النهر والحياة ، كذلك أيضا جاء في ثنايا وصف البيئة المصرية في قوله (نخيلا ونيلا وشعبا أصيلا) حيث ضفاف النيل وأشجار النخيل المميزة لها والتي ترمز لروح الأصالة ..
وفي أول القصيدة عاطفة قوية في قوله (رسمنا على القلب وجه الوطن) لتؤكد ذلك الارتباط الوجداني بين البشر والأرض وروح الحضارة ، وفي وسط القصيدة تبدو لنا معالم الاعتزاز بالانتماء لمصر في قوله (على كل أرض تركنا علامة قلاعا من النور تحمي الكرامة) ثم أعقبها بوصف طبيعة المصريين عندما ذكر أسباب رفعة الوطن وانتصاره وعزته في قوله (بصدق القلوب وعزم الرجال) ..
وتأتي الكلمات قوية معبرة على لسان الجنود في هتافهم إلى بلادهم قائلين (سلام عيك إذا ما دعانا رسول الجهاد ليوم الفداء) حيث الجيش هو درع الوطن وسيفه وهو الذي حمل راية الجهاد المقدسة ضد أعداء الأمة طوال التاريخ ، وفي نفس السياق تأتي معاني العناية الإلهية لمصر المحروسة في قوله (يد الله يا مصر ترعى سماك) وهي متأثرة بالروح الدينية التي هي من سمات الشخصية المصرية ..
وتظهر بوضوح معاني الانتماء والهوية من خلال مخاطبة الجنود لوطنهم وأمتهم معا قائلين (عروبتنا تفتديك القلوب ويحميك بالدم جيش الكنانة) حيث التأكيد على مركزية دور مصر في الوطن العربي والارتباط بالقومية واللغة ، وجاءت كلمة جيش الكنانة لتعبر عن خير الأجناد حماة الحمى مقتبسا ذلك من الكنانة وهي جعبة السهام والتي جاءت في العبارة المشهورة (مصر كنانة الله في أرضه) ..

من نحن وماذا نريد ؟؟
عندما نتأمل تاريخ مصر عبر العصور المتعاقبة نجد أنها في حال نهضتها تتحول إلى امبراطورية كبرى وهو ما يمكننا ملاحظته في الخرائط التي ترصد عهد كل من تحتمس الثالث (عصر المصريين القدماء) وبطليموس الثاني (عصر البطالمة) وصلاح الدين الأيوبي (العصر الإسلامي) ومحمد علي باشا (العصر الحديث) .. وهذا أمر تفرضه الجغرافيا التاريخية والموقع الجيوسياسي.
وتنقسم دول العالم ذات الثقل إلى مجموعتين .. أولاهما الدول القارية والتي نتجت عن اتحاد عدد من الأقاليم في ظرف زمني سابق مثل الولايات المتحدة والاتحاد الروسي والصين والهند .. والمجموعة الثانية التي تضم دولا ذات ثقل حضاري وسكاني تلعب دورا مركزيا في محيطها الإقليمي مثل البرازيل واليابان وإندونيسيا وأثيوبيا وألمانيا ومصر وتركيا وإيران.
وتسعى الحكومات الوطنية في هذه الدول المركزية لاستعادة دورها القيادي والريادي .. مثلا ألمانيا هي قاطرة الاتحاد الأوروبي بينما لعبت أثيوبيا دورا تاريخيا في الاتحاد الأفريقي ولعبت إندونيسيا الدور الأبرز في إنشاء رابطة آسيان التي تضم دولا مختلفة في الأديان واللغات والثقافات كما تلعب البرازيل دورا هاما في اتحاد سيلاك الذي يضم دول أمريكا اللاتينية والكاريبي.
ولا شك أن هذا الدور الريادي للدول المركزية مرتبط بالإرث الأمبراطوري التاريخي .. مثلا حدود الاتحاد الأوروبي هي نفس حدود دولة شارلمان القديمة والرايخ الثالث .. نفوذ إيران في نفس منطقة دولة السلاجقة الإسلامية وهي أيضا نفس حدود دولة الفرس الأخمينيين القديمة بينما تسعى تركيا لاستعادة الإرث العثماني الذي يشغل نفس حدود الدولة البيزنطية.
ومصر لا تقل مكانة عن مثيلاتها من هذه الدول المركزية فهي ليست دولة هامشية ولا صغيرة لكنها للأسف تخلت طوعا عن دورها القيادي في المنطقة مما أدى إلى فراغ كبير لم تستطع دول أخرى أن تشغله رغم المحاولات المستميتة .. والخطوة الأولى نحو العودة لتلك المكانة هو تغيير النظام السياسي الذي ارتضى الخنوع وتقزيم دور مصر في كل المحافل الدولية.
وليس الأمر مقتصرا على الإرث الامبراطوري وإنما يتعداه إلى حدود الأمن القومي المصري الذي يتجاوز الحدود السياسية التقليدية .. فهو يشمل منابع النيل والبحر الأحمر وباب المندب .. الخليج العربي وحوض البحر المتوسط والصحراء الغربية .. وهنا يجب أن نعيد النظر إلى أنفسنا وفق هذا الطرح الذي يستلهم روح الامبراطورية.. ونجيب على السؤال الأهم .. من نحن وماذا نريد ؟؟
مصر هبة النيل
نهر النيل هو الذي رسم خريطة مصر الجغرافية في الماضي وهو أيضا الذي يرسم خريطتها السكانية في الحاضر ويحدد آفاق التنمية في المستقبل ، وإذا تتبعنا مسار النهر العظيم من بداية دخوله إلى الأراضي المصرية في أقصى الجنوب وحتى مصبه النهائي في البحر المتوسط سوف ندرك فورا التوزيع المثالي للأقاليم المصرية حيث يبدأ إقليم جنوب الوادي محيطا بالنهر على هيئة شريط مستطيل ضيق بين الصحراء الشرقية والصحراء ويضم في طريقه بحيرة ناصر والسد العالي ومنطقة النوبة لينتهي عند أول انحناء للنهر قرب مدينة الأقصر الخالدة ومن الناحية التاريخية فإن هذا الإقليم يمثل المقاطعات السبع الفرعونية الجنوبية والتي لم تخضع لحكم الهكسوس وقادت حرب التحرير والبعث الامبراطوري ، إلى الشمال من ذلك يبدأ إقليم جنوب الصعيد من عند انحناءة النهر عند ثنية قنا يمينا ثم يسارا ثم باتجاه الشمال الغربي حتى اعتدال النهر عند ديروط ليشمل محافظات قنا وسوهاج وأسيوط الحالية على هيئة شريط على جانبي النهر حيث يتوسط بين الصحراء الشرقية حيث إقليم البحر الأحمر شرقا والصحراء الغربية حيث إقليم الوادي الجديد غربا ، وإلى الشمال منه يبدأ إقليم شمال الصعيد من عند تفرع بحر يوسف وحتى مشارف الجيزة ليضم محافظات المنيا وبني سويف والفيوم وجنوب الجيزة حيث ينتشر الإقليم على هيئة دلتا طولي بين النيل شرقا وبحر يوسف غربا والذي يصب في بحيرة قارون.
ينتهي مسار وادي النيل عند نقطة انقسامه إلى فرعين كبيرين حيث يحيط به إقليم القاهرة الكبرى والذي يشكل نقطة الارتكاز الجغرافية والديموغرافية حيث أكبر كثافة سكانية في البلاد وعلى جانبيه من الشرق والغرب نشأت المدن الجديدة وبعده مباشرة يبدأ الدلتا الذي ينقسم جغرافيا إلى شطرين كبيرين متماثلين يفصل بينهما فرع دمياط الذي يشكل الامتداد الفعلي للنهر حيث كان في الماضي يشكل الفرع الرئيسي الأوسط بين فروع النيل السبعة ويتجه إلى الشمال مباشرة من عند المنصورة لتكون دمياط بالكامل عن يمينه والبراري عن يساره بينما تكون فرع رشيد من اتحاد عدد من الترع الكبرى التي خرجت من فرع دمياط لتصب في الغرب بسبب انحدار أرض الدلتا نحو الغرب ، وإذا اتجهت غربا يقابلك مثلث كبير يشكل إقليم غرب الدلتا ويضم حاليا محافظات المنوفية والغربية وكفر الشيخ والبحيرة وحدوده هي النهر والبحر والصحراء وفي نهاية هذا المثلث يقبع إقليم الإسكندرية على هيئة شريط ساحلي طولي يحمل بصمة أشهر ملوك العالم القديم (الإسكندر المقدوني) ومن بعده إقليم الساحل الشمالي حتى نهاية حدود مصر الغربية والذي شهد أعنف معركة فاصلة في الحرب العالمية الثانية ، أما إذا اتجهت شرقا فسوف يقابلك مثلث كبير يشكل إقليم شرق الدلتا ويضم محافظات دمياط والدقهلية والقليوبية والشرقية وحدوده أيضا البحر والنهر والصحراء وفي نهايته يقبع إقليم قناة السويس على هيئة شريط طولي ملاصق للقناة التي تحمل مدنها أسماء أشهر حكام الحقبة الخديوية (سعيد وإسماعيل وتوفيق وفؤاد) ومن خلف القناة يأتي إقليم سيناء الذي يمتد حتى نهاية حدود مصر الشرقية ويشمل الجزيرة المباركة حيث أرض الفيروز التي تجلى فيها الرب الأعلى على جبل طور سينين.

مصر الإمبراطورية
مصر الامبراطورية في العصور القديمة
لا شك أن كل محب لوطنه يتمنى أن يرى وطنه أعظم بلاد الدنيا وأن يتفاخر بأمجاده وانتصاراته وتاريخه العظيم خاصة إذا كان في الأصل من تلك التي تمتلك مقومات التميز الحضاري والتي من أهمها (الثقل السكاني – الموقع الجغرافي – القدرات العسكرية – التاريخ الثقافي) ، وفي الشرق الأوسط هناك ثلاث دول فقط تمتلك هذه المقومات (الجيوسياسية) وهي مصر وتركيا وإيران ، وبالتالي فإن الحديث عن مكانة مصر السياسية وتأثيرها في مجريات الأحداث في الشرق الأوسط يجب أن يكون نابعا من هذه الرؤية ، حيث إن منطقة الشرق الأوسط هي ملتقى قارات العالم القديم آسيا وأوروبا وأفريقيا والدول الثلاث هي نقاط الارتكاز لهذا الالتقاء الجغرافي حيث تقبع مصر على رأس أفريقيا بينما تقف إيران على أول الطريق نحو آسيا وتمتلك تركيا مفاتيح أوروبا ، وكان من الطبيعي أن تخرج من هذه الدول امبراطوريات العالم القديم (الفراعنة – الفرس – الحيثيين) وأن تتنازع فيما بينها السيادة على المنطقة المحصورة بينهما (الهلال الخصيب في أول الأمر ثم بادية العرب في مرحلة تالية) ، وعندما اجتاح الاسكندر العالم نشأت في تلك المناطق ثلاث امبراطوريات هيلينية (بطليموس في مصر وفلسطين وسلوقس في فارس والعراق ولسيماخوس في آسيا الصغرى وتراقيا) وقد تنافست فيما بينها على الأقاليم السورية وجزر البحر المتوسط ودارت بينها الحروب المتواصلة ثم سقط اثنان منهما تحت الاحتلال الروماني (مصر وآسيا الصغرى) بينما صمدت إيران ونجت منه حيث لعبت الجغرافيا التاريخية دورها في قيام الدولة الرومانية الشرقية (البيزنطية) ودولة الفرس الساسانيين واللذان تقاسما السيادة على العالم القديم (في غيبة مصر) ..
مصر الامبراطورية في العصور الوسطى
بعد الفتوحات الإسلامية خضعت للدولة الإسلامية الناشئة كل من مصر وإيران بينما فقدت بيزنطا امبراطوريتها وصمدت عاصمتها القسطنطينية للضربات المتلاحقة ، وقد لعبت الجغرافيا التاريخية دورها مرة أخرى عندما انتقلت مراكز الثقل في العالم الإسلامي لهذه الدول تباعا ، ففي البداية قامت الدعوة العباسية في خراسان تحت حماية الجيوش الفارسية وفقدت الدولة الإسلامية نظامها السياسي ذي الطابع البدوي القبائلي الذي كان موجودا في العهد الأموي وتحول إلى نظام (كسروي) حيث طبقة الوزراء الفرس (البرامكة وغيرهم) حتى إن اسم العاصمة الجديدة (بغداد) فارسي قح ، وعندما ضعفت سطوة الخلفاء صار ملوك إيران (البويهيون الديلم ثم الأتراك السلاجقة) هم المتحكم في الجناح الشرقي للدولة الإسلامية قرابة ثلاثة قرون ، أما الجناح الغربي فقد تمتع بدرجة من الاستقلالية منذ ولاية أحمد بن طولون حيث استعادت مصر مرة أخرى وضعها الطبيعي عندما سيطر الحكام الفاطميون والأيوبيون والمماليك على كل من (النوبة – برقة – اليمن – الحجاز – الشام) وهي الأقاليم التي ظلت تابعة لمصر قرابة ألف عام متصلة (يمكننا أن نطلق عليها دون مبالغة وصف مصر الكبرى) كما لعبت دورا حيويا في التصدي للصليبيين والمغول ثم تمتعت بالسيادة الروحية على العالم الإسلامي عندما انتقل البلاط العباسي إلى القاهرة بعد سقوط بغداد وذلك لمدة ثلاثة قرون دون منافس ، إلا أن موازين القوى في العالم الإسلامي مالت بعد ذلك لصالح الأتراك العثمانيين بعد فتح القسطنطينية والتوغل في البلقان حيث خرجت جيوشها لتطيح بالدولة الصفوية في إيران والمملوكية في مصر وينفرد الباب العالي بالسيادة على العالم الإسلامي قرابة القرون الثلاثة ..
مصر الامبراطورية في العصر الحديث
في العصر الحديث تنافست الدول الثلاث مصر وإيران وتركيا على السيادة الإقليمية ودارت بينها الحروب وأهمها حروب محمد علي التي استعاد بها مكانة مصر الامبراطورية وتحدى الآستانة في عقر دارها حيث استولى على كامل بلاد الشام وأعالي الفرات وبرقة والسودان فضلا عن الجزيرة العربية ثم توغل في الأناضول وصارت جيوشه قاب قوسين أو أدنى من احتلال الباب العالي .. وفي العهد الجمهوري لعبت مصر الدور الأكبر في المنطقة على المستوى السياسي والعسكري بقيادتها حركات التحرر الوطني ودور الفاعل في في مواجهة حلف بغداد (والذي ضم إيران وتركيا) ، ورغم تبدل الأنظمة السياسية في الدول الثلاث على مدار مائتي عام إلا أن التنافس المكتوم والمكايدة السياسية كانت حاضرة بين الدول الثلاث في مواقف مختلفة .. وقد حاولت دول أخرى في المنطقة أن تلعب أدوارا سياسية مثل هذه الدول الثلاث لكنها تفشل في النهاية (مثل إسرائيل) لأنها دولة حديثة النشأة تعتمد على دعم خارجي في الحماية والتسليح ويمكنها أن تنهار وتختفي من على الخريطة وتحل محلها دولة أخرى بمسميات مغايرة .. لكن تظل الدول الكبرى الثلاث قائمة راسخة حيث تتبدل فيها الأنظمة فقط بينما تظل محافظة على حدودها الأولى وأقصى خسارة قد تلحقها هي فقدانها لدائرة تأثيرها السياسي أو تستقطع منها أقاليم خارج أرضها الأصلية كانت تحتلها في يوم ما .. وتسعى كل دولة لبسط نفوذها في دائرة تأثيرها الطبيعية حيث تحاول إيران جمع الشعوب الآرية الشرقية حولها مثل الأفغان والبشتون والطاجيك والأكراد وكذلك تحاول تركيا مع الشعوب الطورانية مثل الآذريين والأوزبك والتركمان والإيغور .. وهو ما يجب أن تفعله مصر في دائرة تأثيرها الطبيعية وأعني بها الوطن العربي ..
مصر الامبراطورية في المستقبل
مكانة مصر الإقليمية قدر حتمي لا مفر منه يفرضه التاريخ والجغرافيا والواقع والسياسة وليست من قبيل أوهام العظمة الكاذبة أو أمنيات التفوق الزائفة ، وفي الفترات القليلة التي نهضت فيها تحولت إلى امبراطورية (في عهد محمد علي وإسماعيل) أو على الأقل كانت من أهم الدول المؤثرة في السياسية الدولية (في عهد عبد الناصر والسادات) ، أما وضعها الحالي فهو استثناء من القاعدة وإن طال مداه الزمني .. ومكانة مصر السياسية والدبلوماسية أيضا يجب أن تصل إلى مرتبة تستحقها البلاد إذ يجب أن تكون على قدم المساواة مع كل من اليابان وألمانيا والهند وهي الدول التي تتطلع إلى نيل العضوية الدائمة في مجلس الأمن حيث يمكن لمصر أن تمثل العرب والأفارقة والعالم الإسلامي ، أما بالنسبة للعرب فهي أكبر الدول العربية سكانا إذ تشكل وحدها ربع الناطقين باللسان العربي وربما تصل إلى نسبة الثلث بعد عقود قليلة وهي بالنسبة للدول العربية واسطة العقد ، وبالنسبة لأفريقيا فهي في منافسة مع ثلاث دول أفريقية هي أثيوبيا ونيجيريا وجنوب أفريقيا بل تتفوق عليهم بامتلاكها دائرة تأثير طبيعية في شمال وشرق أفريقيا وفي دول حوض النيل كما تتفوق عليهم في الإمكانيات والتاريخ والدور النضالي في مساعدة دول القارة في الماضي القريب ، أما في العالم الإسلامي فهي تتميز عن كل من إيران وتركيا وباكستان وإندونيسيا بعروبتها وأزهرها ومذهبها السني المعتدل .. لكن نهضة مصر مرهونة بالتخلص من أزماتها الاقتصادية الناتجة عن الفساد ثم الخروج من دائرة التبعية السياسية للغرب وتحقيق استقلالها الحقيقي لتكون رأسا برأس مع منافسيها التقليديين في الإقليم تركيا وإيران حيث يزداد نفوذهما في المنطقة فقط عندما تغيب مصر ..

اللغة العربية والهوية المصرية
اللغات الخمس الكبرى في العالم
اللغة العربية هي إحدى اللغات الخمس الكبرى من حيث عدد المتكلمين بها كلغة أصلية حيث يأتي ترتيبها بعد كل من الصينية والهندية والإنجليزية والأسبانية (تضعها بعض الإحصائيات السكانية في المركز الرابع بفارق طفيف) ثم يأتي بعدهم جميعا في الترتيب كلا من اللغات الروسية والألمانية والبنغالية والبرتغالية والفرنسية ، واللغات الخمس الكبرى يتحدث بها مئات الملايين من البشر وهو رقم ضخم في عالم متنوع اللغات والأعراق والثقافات وهذا الأمر نابع من ظروف تاريخية محددة هي التي أدت إلى انتشار كل لغة منها في رقعة جغرافية شاسعة بالإضافة إلى تميز اللغة نفسها وقدرتها على التأقلم مع هذه الظروف التاريخية وامتلاكها القدرة الفعلية على تلبية احتياجات الناطقين بها وهو ما يترجم عمليا بظهور اللهجات المتعددة داخل اللغة الواحدة ، ففي أقصى الشرق تطورت الماندرين من اللغة الصينية القديمة وتطورت الهندية من السنسكريتية القديمة وكلاهما يعبر عن حضارات الشرق العريقة والمتصلة ثقافيا من الماضي البعيد وحتى العصر الحديث وإن كانت الصينية حافظت على قدر كبير من العزلة بينما تعرضت الهندية لمؤثرات حضارية متنوعة ظهر أثرها في اللهجة الأوردية التي تضم مفردات عربية وفارسية ، وفي الغرب لعبت الكشوف الجغرافية واستعمار العالم الجديد دورا كبيرا في انتشار الإنجليزية في أمريكا الشمالية وأستراليا وانتشار الأسبانية في أمريكا اللاتينية ، ولم تكن اللغة العربية بمعزل عن هذا المسار حيث كان انتشارها قرين الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي لكنها توقفت على حدود الوطن العربي ولم تتعداه إلى خارجه أي أنها لم ترافق انتشار الدين الإسلامي الذي وصل إلى مشارف الهند والصين وجنوب شرق آسيا وأفريقيا المدارية الغربية فضلا عن وسط آسيا وفارس والأناضول والقوقاز.
اللغة العربية واللغات الأفرو آسيوية
من الملاحظ أن منطقة انتشار اللغة العربية هي نفسها منطقة انتشار اللغات الأفروآسيوية التاريخية وهو ما يعني أن التغيير الذي حدث في أعقاب الفتوحات الإسلامية هو عبارة عن إعادة انتشار داخل منطقة هذه المجموعة اللغوية الكبرى بحيث إن إحدى لغاتها قامت بعملية إحلال بدلا من بقية فروع المجموعة التي اندثرت أو ذابت في هذا الفرع المنطلق بسرعة الصاروخ ، ويؤكد ذلك أن العربية لم تستطع الوصول إلى المناطق المتاخمة للوطن العربي مثل فارس والأناضول وأفريقيا المدارية حيث اصطدمت بحاجز لغوي صلب من لغات لا تمت لها بأدنى صلة مثل الفارسية والكردية في إيران والإغريقية ثم التركية في الأناضول رغم دخول الإسلام فيهما في نفس الوقت الذي دخل فيه إلى مصر والشام كما اصطدمت اللغة العربية بحاجز كبير من اللغات الأفريقية النيلو صحراوية والكونجونيجيرية رغم وجود الإسلام في تلك المناطق في وقت قريب من دخوله إلى شمال أفريقيا ، ومن المؤكد أن نجاح انتشار اللغة العربية كان نابعا من قدرتها الفائقة على تلبية احتياجات المتكلمين بها وقدرتها على التكيف مع متغيرات الزمان والمكان ويرجع ذلك في المقام الأول إلى كونها لغة خليطة تكونت من اندماج عدد من اللهجات الأفروآسيوية وهو الأمر الذي جعلها من أغنى اللغات في المفردات والتي تجعل قوتها التعبيرية فائقة بل إنها تمكنت بسهولة من استيعاب ألفاظ من خارج المجموعة الأفروآسيوية مثل اللغات الهندوأوروبية المجاورة لها في فارس والأناضول ، ولا زالت اللغة العربية تحتوي بالفعل على ألفاظ دخلتها من لغات أقدم منها مثل الفارسية واليونانية والرومانية فضلا عن لغات المنطقة مثل العبرانية والآرامية والقبطية وغيرها كما انتقلت مئات الألفاظ العربية إلى اللغات الأوروبية بفعل الاحتكاك التجاري والحربي لمئات الأعوام.
غزارة اللغة العربية وتنوع مفرداتها
مثل كل اللغات الكبرى فإن اللغة العربية تحوي عددا كبيرا من اللهجات الفرعية تتناسب مع اتساعها الجغرافي حيث كانت هذه اللهجات نتاج تلاقح بين العربية الفصحى وبين اللهجات واللغات المحلية الأقدم منها وهو الأمر الذي صنع هذا التنوع الهائل في المفردات والصيغ التعبيرية واللكنات الصوتية بدرجة تتناسب مع متطلبات الأقاليم المختلفة وطبيعة الحياة فيها ، هذا التنوع في اللهجات الحالية والأصول القديمة جعل اللغة العربية من أكثر اللغات ثراءا في الألفاظ والمترادفات حيث ترى الكلمة الواحدة يعبر عنها بأكثر من لفظ وكذلك تعدد الأسماء لذات المسمى مما جعلها اللغة الأولى على مستوى العالم في الجذور اللغوية وفي الألفاظ والكلمات أيضا (أكثر من 12 مليون كلمة) ، واللغة العربية من أغزر اللغات من حيث المادة اللغوية فعلى سبيل المثال يحوي معجم لسان العرب لابن منظور من القرن الثالث عشر أكثر من 80 ألف مادة بينما في اللغة الإنجليزية فإن قاموس صموئيل جونسون وهو من أوائل من وضع قاموساً إنجليزياً من القرن الثامن عشر يحتوي على 42 ألف كلمة ، وقد كانت العربية الفصحى إحدى لهجات اللغة في وقت ما ثم صارت اللهجة القياسية لأنها منذ القدم كانت متركزة في الحجاز الذي كان متحضرا عن سائر مناطق الجزيرة العربية مما جعله مركزا لريادة الحياة الدينية والأدبية ومقصدا للنشاط التجاري والاقتصادي حيث جاءت هذه اللهجة من اختلاط قبيلة قريش الوافدة مع القبائل المحلية التي تنتمي للسكان الأصليين للحجاز وأهمهم خزاعة وهذيل وثقيف والتي وصفت لهجاتها منذ القدم بأنها أفصح لهجات العرب لهذا صارت هذه اللهجة هي اللهجة القياسية قبل ظهور الإسلام بمئات الأعوام.
اللغة العربية والهوية
اللغة عموما هي إحدى أهم محددات الهوية لأنها تتعدى النطق المجرد باللسان إلى كونها الأداة الأولى للتفكير والشعور الذاتي أي أنني عندما أقول إنني عربي فهذا لا يعني فقط أن لساني ينطق بالعربية وإنما الحقيقة أنني أفكر بالعربية وأحلم في نومي بالعربية وأتكلم مع نفسي بالعربية وأكتب معبرا عن آرائي ومشاعري بالعربية ، ولا يوجد أي تعارض بين الانتماء للقومية المصرية وبين الانتساب للعروبة بل العكس هو الصحيح لأن (الهوية اللغوية) للقومية المصرية هي العربية أي أنني (مصري الانتماء عربي اللسان) واللسان هنا يشمل التفكير والتعبير بل والمزاج العام والوجدان الجمعي أيضا ، واللغة هي وسيلة التواصل الأولى مع العالم من حولنا وعندما أتقابل كمصري مع غيري من العرب في أكثر من 22 دولة تتحدث نفس لغتي وأستطيع فهمهم بسهولة فإن الحياة تصبح سهلة ميسورة ولا يدرك ذلك إلا من جرب المعيشة في دولة عربية وأخرى غير ذلك لأنه عندما تكون اللغة التي أتكلم بها مشتركة مع الملايين من أقطار أخرى فإنه بالطبع أفضل كثيرا من أن تكون لي لغة مقتصرة على بلدي وحدها ولا ينطق بها غيرها فيصبح مصيرنا هو العزلة وهو الأمر الذي حدث مع بلاد عديدة ، وكل اللغات الكبرى في العالم عابرة للدول بل والقارات لأنها بالتأكيد وليدة نهضة حضارية في مرحلة ما من مراحل التاريخ وأيا كانت الظروف الماضية التي تسببت في عروبة مصر فإن ذلك قد أصبح أمرا واقعا بل إنه قد بات من المستحيل الفصل بين العروبة ومصر لأنها صارت قلب العالم العربي ومركز الثقل السكاني والحضاري فيه إذ لا يمكن لشعب يشكل ربع العرب أن ينكر هذا الانتماء أو ينخلع منه فهذا جائز مع الدول العربية الصغيرة أو الطرفية أو ثنائية القومية أو قليلة العدد لكنه غير قابل للحدوث في الحالة المصرية بأي حالة من الأحوال.

الاتحاد الإقليمي
1 / الصين
الاتحاد الإقليمي الاقتصادي أو السياسي بين الدول المتجاورة جغرافيا ليس ترفا فكريا ولا شعارا ثوريا ولكن أمر تحتمه المصلحة وتوجبه الظروف في عالم متسارع الخطوات لاهث الأنفاس يفترس الكبير فيه الصغير ولا يعرف إلا لغة القوة ويباع ويشترى كل شيء فيه بالمال وليس فيه أدنى احترام للأخلاق والقيم وفي ظل هذا الصراع اللانهائي لن يبقى في الوجود إلا الكيانات الكبيرة الموحدة بينما يصبح مصير الدول الصغيرة المتفرقة مجهولا في طي النسيان ، وإذا نظرنا بتمعن إلى خريطة العالم الجغرافية والسكانية فسوف نجد أنه يتكون من عدد من الكتل القارية والسكانية المنفصلة عن بعضها حيث تشكل كل كتلة إقليما قائما بذاته يميل إلى الاتحاد بفعل العوامل الجغرافية والحضارية معا ، ففي أقصى الشرق نجد التنين الصيني حيث أكثر من مليار وربع إنسان يعيشون على ضفاف الأنهار الثلاثة التي نشأت فيها الحضارة الصينية القديمة وغالبيتهم ينتمون إلى عرقية (الهان) وقد توحدت الامبراطورية الصينية بالتدريج عبر مراحل تاريخية متعاقبة وحافظت على الثقافة الكونفوشية في معزل عن العالم الخارجي طبيعيا بفضل الجغرافيا والثقافة وصناعيا بفضل سور الصين العظيم لكنها توسعت في الزمن الحديث حيث احتلت بالقوة العسكرية كلا من منشوريا ومنغوليا الداخلية والتبت وتركستان الشرقية واليوم تحولت الصين الشيوعية من أكبر دولة نامية إلى أحدث قوة عظمى ..
2 / الهند
بالقرب من هذا المستودع البشري السكاني في الصين نجد مستودعا آخر يقاربه في العدد وذلك في شبه القارة الهندية التي تحيط بها المحيطات من الجنوب الشرقي والجنوب الغربي بينما تنتصب كل من جبال الهيمالايا وجبال الهندوكوش في الشمال الشرقي والشمال الغربي على التوالي لتصنع الحدود الطبيعية لتلك الكتلة الضخمة من اليابسة التي كانت قارة منفصلة في الحقب الجيولوجية القديمة ثم اتحدت مع آسيا وكان من نتيجة الاتحاد هذه السلاسل الجبلية المنيعة ، وعلى العكس من الصين فإن شبه القارة الهندية تتكون من أعراق متنوعة نتيجة الغزوات المتعاقبة والامبراطوريات المتتالية التي حكمت هذه المنطقة وهو ما يجعلها حافلة بمختلف اللغات والأديان وقد حاول المهاتما غاندي الحفاظ على وحدة الهند وتوسل إلى السيد محمد علي جناح للحيلولة دون استقلال باكستان حيث كانت الهند الموحدة ستصبح في سنوات معدودة قوة عظمى بالتأكيد لكن النزعة الانفصالية كانت أقوى لاعتبارات تاريخية وطائفية ، وتشغل دولة الهند معظم تلك القارة حيث تتكون من اتحاد أقاليم متباينة إثنيا ومناخيا تحت حكم ديموقراطي حافظ على الوحدة والتنوع معا بل إنه من الطريف أنها تضم حاليا أقلية مسلمة تتجاوز 15 % من سكانها بتعداد يبلغ 150 مليون نسمة أي أنها الدولة الثانية على مستوى العالم في عدد المسلمين وقد تقدمت بالفعل أكثر من مرة للالتحاق بمنظمة التعاون الإسلامي لكن في كل مرة كانت توضع أمامها العراقيل وبفضل هذه الوحدة فإن الهند في طريقها لتكون قوة عظمى جديدة في العالم حيث امتلكت السلاح النووي وحققت طفرة اقتصادية ملموسة وتشكل مركزا يضم حوله كل من بنجلاديش وبوتان ونيبال وسيريلانكا وكشمير.
3 / دول آسيان
إذا ابتعدنا عن هذا الزحام السكاني الملياري في الصين والهند فإن كل كتلة قارية بعد ذلك من الكتل التالية التي يتكون منها العالم تحوي عددا أقل من البشر وأول هذه الكتل قربا منهما هي منطقة جنوب شرق آسيا والتي تتكون من عدد من أشباه الجزر المفصولة عن الصين والهند بحواجز جغرافية طبيعية وعدد كبير من الجزر المنفصلة تماما بالبحار عن البر القاري وتتمثل أشباه الجزر في كل من شبه الجزيرة الكورية وشبه جزيرة الهند الصينية وشبه جزيرة الملايو وأما الجزر فإنها تتكون من سلسلة متجاورة على هيئة أرخبيل كبير يبدأ من الجنوب الغربي عند إندونيسيا ثم القارة الأسترالية مرورا بالفلبين وتايوان حتى اليابان في الشمال الشرقي ، وهي منطقة التمركز الكبرى للديانة البوذية (الهند الصينية واليابان) مع وجود كبير للإسلام (إندونيسيا وماليزيا) والمسيحية (الفلبين وأستراليا ونيوزيلندا) كما أن الأصول الثقافية للمنطقة متعددة حيث هناك وشائج عرقية وحضارية تربط كوريا وفيتنام ولاوس وتايلاند بالصين وتربط كمبوديا بالهند وتربط بورما بالتبت وتربط الملايو بالبلاد العربية وتربط أستراليا بالغرب وإذا حدث المستحيل وانضمت اليابان وأستراليا لمجموعة الآسيان فسوف تتحول هذه البقة الجغرافية إلى (منطقة الين الياباني) وتقفز قفزة اقتصادية هائلة ..
4 / آسيا الإسلامية
على الناحية الأخرى من الصين والهند وفي الشمال الغربي منهما نقابل كتلة جغرافية وسكانية كبيرة تحددها الهضبة الأسيوية التي تمتد من صحراء سيبيريا شمالا إلى المحيط الهندي جنوبا ومن الهيمالايا والهندوكوش شرقا إلى جبال زاجروس وقلقيلية غربا وتضم في جنباتها الهضبة المنغولية وهضبة تركستان والهضبة الإيرانية وهضبة الأناضول وجبال القوقاز وجبال أفغانستان ، وتنتشر في هذه الكتلة العشائر الإيرانية والطورانية مثل الفرس والطاجيك والبشتون والأكراد والأرمن والمغول والترك والإيجور والأوزبك والكازاخ والقيرغيز والتركمان والآذريين والهزارة وكافة عشائر القوقاز الخاضعة للاحتلال الروسي وتركستان الشرقية الخاضعة للصين وهذه المنطقة من العالم كانت تاريخيا تتبع غالبا دولة واحدة حيث خضعت لكل من امبراطوريات الفرس والإسكندر والسلاجقة والمغول وإذا أضفت لهذه الكتلة دولة باكستان لاعتبارات سياسية وثقافية فإنها تشكل قوة إقليمية جبارة في آسيا وفي العصر الحديث ارتبطت كل من باكستان وإيران وتركيا في حلف عسكري ضد الشيوعية وإذا قام بين هذه الدول العشر اتحاد على غرار الآسيان فسوف يتغير مستقبل المنطقة بصورة كبيرة لا سيما وأن هناك صلات عرقية وثقافية بين باكستان وإيران وأفغانستان وطاجيكستان بينما هناك صلات ثقافية ولغوية بين كل من تركيا وأذربيجان وكازخستان وتركمانستان وأوزبكستان وقيرغيزيا فضلا عن اتصالهم جميعا عن طريق البر وقد تأسس بينهم منذ فترة (منظمة التعاون الاقتصادي) التي ضمت هذه الدول جميعا وإذا تم تفعيل هذا التجمع فسوف يتوازن مع كل من روسيا والصين والهند وأوروبا والتي تحيط بهذا التكتل من جهاته الأربع.
5 / الاتحاد الروسي
إذا اتجهنا نحو الشمال والشمال الغربي فسوف نجد كتلة قارية تمتد من المحيط الهادي شرقا مرورا بصحراء سيبيريا إلى جبال الأورال إلى حوض الفولجا إلى أوروبا وساحل الأطلنطي غربا والتي يمكن أن نطلق عليها (شمال أوراسيا) وهذه المساحة المتصلة من اليابسة تقسمها جبال الأورال إلى كتلتين كبيرتين إحداهما شرقية يسكنها عدد قليل من السكان هي سيبيريا والآخرى غربية تتركز فيها الكتلة السكانية الضخمة وهي أوروبا ، وهذه المساحة تخضع من الناحية السياسية إلى كيانين كبيرين يقتسمانها هما الاتحاد الروسي والاتحاد الأوروبي فأما الاتحاد الروسي فهو يسيطر على المساحة التي تنتشر عليها غالبية الشعوب السلافية والتي كانت خاضعة في الماضي القريب للامبراطورية الروسية القيصرية ثم الاتحاد السوفييتي وتشكل روسيا الآن الدولة المركزية في هذه الكتلة وحولها كل من أوكرانيا ومولدافيا وروسيا البيضاء ودول البلطيق وعدد كبير من الجمهوريات الاتحادية الصغيرة ، وتسعى روسيا جاهدة لاستعادة التراث الامبراطوري بربط كل مكونات الكتلة الشرقية القديمة بها مرة أخرى فهي تحافظ على علاقات مع جمهوريات آسيا الوسطى الإسلامية ومع جمهوريات القوقاز المسيحية (أرمينيا وجورجيا) ومع دول أوروبا الشرقية السلافية فضلا عن استمرار احتلالها لكل من المقاطعات الإسلامية في شمال القوقاز وتترستان مما يجعل هذه المنطقة فعليا تحت الهيمنة الروسية ..
6 / الاتحاد الأوروبي
تشكل قارة أوروربا الجزء الغربي من (أوراسيا) على هيئة شبه جزيرة كبيرة حيث تشكل دول الاتحاد الأوروبي نفس حدود الدولة الرومانية الغربية في عهد يوليوس قيصر والمملكة الكارولينجية التي أسسها شارلمان الكبير وامبراطورية نابليون بونابرت الفرنسية والرايخ الثالث الألماني بقيادة هتلر وقد توقف التوسع الروماني عند تخوم القبائل البربرية وتوقف توسع شارلمان عند حدوده مع الفايكنج بينما أخفق كل من نابليون وهتلر عندما قرر كلاهما الخروج من أوروبا وغزو روسيا حيث تحطمت على أعتابها الأحلام الامبراطورية ، وفي أعقاب الحرب العالمية الثانية فقدت أوروبا قوتها الاستعمارية وسقطت في قبضة التبعية لكل من الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي الذين تقاسما السيطرة على القارة العجوز مما دعا دول القارة للتفكير الجدي في التوحد الاقتصادي والذي يسير باتجاه التوحد السياسي بخطوات واثقة جعلت هذا الكيان بمثابة قوة عظمى جديدة حيث تقف بقوة في وجه الأطماع الروسية وتتعامل مع الولايات المتحدة تعامل الند للند والآن قد تحقق أخيرا بالدبلوماسية والعقلانية ما عجزت عن تحقيقه الجيوش والأساطيل في العصور الماضية.
7 / الولايات المتحدة اللأمريكية
إذا عبرنا المحيط الأطلنطي باتجاه الغرب فسوف تقابلنا كتلة جغرافية طبيعية هي القارة الأمريكية التي تحوي مليار نسمة وتنقسم من الناحية الجغرافية إلى شمالية وجنوبية لكنها من الناحية السكانية والحضارية تنقسم إلى قسمين كبيرين أحدهما ناطق بالإنجليزية والفرنسية في كندا والولايات المتحدة بينما الآخر ناطق بالأسبانية والبرتغالية في غالبية أمريكا الوسطى والجنوبية والكاريبي (أمريكا اللاتينية) ، وتتمركز الولايات المتحدة الأمريكية في وسط القارة الشمالية بين كل من كندا شمالا والمكسيك جنوبا حيث تتحد سويا 48 ولاية بالإضافة إلى ألاسكا وهاواي وكل ولاية منها بحجم دولة متوسطة المساحة والسكان أي أننا بصدد اتحاد مكون من خمسين دولة لذلك تكون النتيجة الطبيعية خلق قوة عظمى جبارة بل هي في الواقع أكبر قوة حضارية شهدها التاريخ ، وقد نشأ هذا الكيان العملاق في البداية من استقلال 13 مستعمرة صغيرة على الساحل الشرقي للقارة عن بريطانيا ثم بدأت التوسع التدريجي نحو الغرب وعندما حاولت الولايات الجنوبية الانفصال عن الفيدرالية تمت مواجهة ذلك بكل عنف في الحرب الأهلية الأمريكية ومع التوسع غربا كانت الهيمنة الأنجلوساكسونية قد صارت أمرا واقعا حيث إن الولايات الشرقية لا تزال حتى الآن هي مركز الدولة وعصب الحياة فيها.
8 / أمريكا اللاتينية
أمريكا اللاتينية (وتشمل قارة أمريكا الجنوبية وأمريكا الوسطى وجزر الكاريبي والمكسيك) ويسكنها كتلة بشرية ضخمة متجانسة ثقافيا واقتصاديا لكنها عانت كثيرا من عدم الاستقرار السياسي والاجتماعي وتجتهد دولها في الارتباط سويا سعيا لنوع من الوحدة حيث كانت كل من فنزويلا وبوليفيا وكولومبيا والإكوادور كيانا سياسيا واحدا في وقت ما وكذلك دول أمريكا الوسطى لفترة قصيرة وكذلك دول الكاريبي أما البرازيل والمكسيك وهما أكبر دولتين في عدد السكان والقوة والنفوذ والاقتصاد فهما في الأصل نتاج اتحاد عدد من الولايات الصغيرة وهو ما جعلهما في مركز الثقل بالنسبة للدول المحيطة ، ومشكلة أمريكا اللاتينية الكبرى هي مجاورتها للولايات المتحدة التي دأبت على التدخل في شئون تلك الدول بالمال السياسي ودعم الحركات الانفصالية والانقلابات العسكرية الدموية وفي المقابل فإن أمريكا اللاتينية كانت تاريخيا قلعة النضال اليساري ضد الإمبريالية وشوكة في جنب المعسكر الغربي ومنذ سنوات قليلة تأسس تجمع (سيلاك) الذي ضم جميع الدول الأمريكية ما عدا الولايات المتحدة وكندا لمقاومة الهيمنة الأمريكية.
9 / أفريقا جنوب الصحراء
إذا عبرنا الأطلنطي مرة أخرى باتجاه الشرق فسوف تقابلنا كتلة جغرافية محددة المعالم هي (أفريقيا جنوب الصحراء) والتي تحوي مليار نسمة يشكلون قوام الشعوب السمراء في القارة والتي تفصلها الصحراء الكبرى بمسافة شاسعة عن العالم العربي شمالا بينما تحيط بها المحيطات من شرقها وغربها وتنقسم إلى ثلاث مناطق جغرافية وسكانية هي منطقة هضبة الحبشة والتي تضم دول القرن الأفريقي (وأكبر دولة فيه أثيوبيا) ومنطقة أفريقيا المدارية الغربية (التي تبدأ عند تشاد شرقا وتنتهي عند السنغال وغينيا غربا وأكبر دولة فيه نيجيريا) ومنطقة أفريقيا الوسطى والجنوبية (والتي تبدأ من الكونجو شمالا وحتى جنوب أفريقيا جنوبا) وتضم دول منابع النيل وحوض الكونجو وأكبر دولة فيه الكونجو ثم جنوب أفريقيا) ، وخيار الوحدة الأفريقية هو خيار حياة أوموت في أغنى قارة يعيش فيها أفقر شعب لأن الدول الكبرى لن تسمح لهذا المارد بالقضاء على نفوذهم فيها وتحول أفريقيا إلى (هند) أخرى لأن القارة الأفريقية لا تزال حتى الآن منبعا للثروة الطبيعية لكن المشكلة الكبرى أنه لا توجد دولة مركزية قادرة على ربط هذه المناطق بعضها ببعض بل إن الدول الأربع الكبرى أثيوبيا ونيجيريا والكونجو وجنوب أفريقيا تعاني من مشكلات داخلية بسبب النزاعات العرقية والدينية والطائفية لكن يبقى خيار الوحدة استيراتيجيا للصمود أمام التحديات المعاصرة.
10 / الوطن العربي
في نهاية المطاف نتجه نحو عالمنا العربي الذي يسكنه شعب واحد يتكلم لغة واحدة في بقعة من الأرض ذات ظروف جغرافية ومناخية متقاربة حيث تقطعها الصحراء من شرقها إلى غربها وينتشر فيها السكان حول ضفاف الأنهار وقرب سواحل البحار وقد لعبت الجغرافيا دورها في تحديد معالمه ورسم حدوده حيث يتكون من جزئين أحدهما في أفريقيا لكنه مفصول عن بقيتها بمساحة شاسعة من الصحراء الكبرى وهضبة الحبشة والآخر في آسيا لكنه محاط بجبال وبحار تفصله عن بقية القارة ، ولم يتعرض الوطن العربي لأي أخطار من ناحية أفريقيا وإنما تعرض للغزوات الاستعمارية القادمة عبر البحر المتوسط من القارة الأوروبية حيث قدم منه الرومان والصليبيون قديما والبريطانيون والفرنسيون والصهاينة حديثا أما الطرف الآسيوي فقد كان دوما معرضا للهجوم من الشرق والشمال حيث جاءت عن طريقه جيوش الفرس والمغول قديما والأتراك العثمانيين حديثا لذلك فإن ضمان أمن العالم العربي هي أن يكون قويا وموحدا وقادرا على الدفاع عن نفسه ضد الأخطار المحدقة به.
لذلك فإن الوحدة السياسية أو الاقتصادية تأتي في المرتبة التالية لوجود حلف عسكري عربي خالص غير تابع لأي قوة خارجية قادر على حماية استقلال الدول العربية ثرواتها وسيادتها وكرامة شعوبها ويمنحها حرية اتخاذ قرار الوحدة الجزئية أو الشاملة وفق ما يتراءى لكل دولة على حدة دون تأثيرات إقليمية أو دولية ، ويشبه ذلك ما حدث في أوروبا عندما أنشىء حلف الأطلنطي في البداية ثم السوق الأوروبية المشتركة ثم الاتحاد الأوروبي في النهاية حيث إن أي تهديد لأي جزء من الوطن العربي كفيل بتهديد كل وحداته فقد كان احتلال فرنسا للجزائر وتواجد جيوشها فيها عاملا مساعدا في احتلال تونس والمغرب بعد ذلك كما أن العراق والشام سقطت بيد الاحتلال الغربي بسبب تواجد البريطانيين في الخليج العربي وفي مصر حيث دخلت جيوشهم البرية من جنوب العراق ومن سيناء وكذلك السودان تم احتلاله عن طريق مصر وكذلك دخل الغزو العثماني إلى مصر بعد أن استولى قبلها بعام واحد على الشام ودخل الإيطاليون ليبيا بسهولة عندما كان جميع جيرانها خاضعا للاحتلال البريطاني شرقا والفرنسي غربا ولا يزال أقرب الأمثلة واضحة آثاره أمام أعيننا حيث استولت العصابات الصهيونية على فلسطين في البداية ومنها انطلقت بعد ذلك لتغزو سوريا ولبنان والأردن ومصر.

منابع النيل
شعب البجا
الأمن القومي للدول الكبرى لا يقف عند حدودها السياسية المعروفة وإنما يتعدى ذلك إلى نطاق أوسع يشمل كل مصالحها السياسية والاستراتيجية .. ولا يمكن الحديث عن الأمن القومي المائي للبلاد إلا بعد الفهم الدقيق لطبيعة الصراعات في منطقة حوض النيل والقرن الأفريقي والتي تقوم أساسا على أساس إثني وقبلي حيث يسكن هذه المنطقة عدد من الشعوب المتباينة في الشكل واللون واللغة والدين والعادات والتقاليد بل وطبيعة النشاط الاقتصادي ونمط الحياة وجميع هذه الشعوب لا تزال محتفظة بخصائصها من آلاف السنين وهو ما يعني أننا عند دراسة الواقع الديموغرافي للمنطقة يجب علينا أولا أن نمحو الحدود السياسية بين دول المنطقة ونعيد النظر إليها من منظور مختلف ، وسوف نبدأ رحلتنا الجغرافية من أقصى نقطة في حدود مصر الجنوبية عند حلايب حيث الاتصال الجغرافي لساحل البحر الأحمر مع أراضي شرق السودان حيث نجد شعبا من أقدم شعوب المنطقة وهو شعب (البجا) المعروف منذ أيام الفراعنة والذي يسكن المنطقة الساحلية من أول حلايب داخل الأراضي المصرية وحتى مصوع داخل الحدود الأريترية وهو شعب يتجاوز عدده 3 مليون نسمة يدين بالإسلام ويتحدث اللغة العربية بالإضافة إلى لغات البجا الأصلية والتي تنقسم إلى لغتين أولهما البداويت وتتحدث بها قبائل الهدندوة والأمرار والبشارين والحلنقة في الولايات السودانية الشرقية (البحر الأحمر ـ كسلا ـ القضارف) حيث تنتشر منازلهم بين البحر الأحمر شرقا ونهر عطبرة غربا واللغة الثانية هي لغة التقري التي تتحدث بها قبائل الرشايدة وبني عامر والحباب والحدارب في كل من أريتريا وأثيوبيا حيث يشكل البجا 30 % من سكان أريتريا ويتركزون في المنطقة الشمالية والغربية المتاخمة للحدود السودانية بالإضافة إلى منطقة مصوع الساحلية بالكامل حتى جزر دهلك.
الأحباش والدناكل
إذا سلكنا طريقنا إلى الداخل نحو العاصمة الأريترية أسمرة والأقاليم المركزية والجنوبية من أريتريا فإننا ندخل أرض شعب (التجراي) الذي يتجاوز 8 مليون نسمة إذ يشكل أكثر من نصف سكان أريتريا بالإضافة إلى كامل سكان ولاية تجراي الأثيوبية وهو شعب مسيحي على مذهب الكنيسة التوحيدية الأرثوذكسية المرتبط بالمذهب القبطي ويتحدث اللغة التجرينية المشتقة من اللغة الجعزية المرتبطة بلغات اليمن القديمة وهذه المنطقة كانت في الماضي مقر مملكة أكسوم الحبشية ومستقر النجاشي الذي لجأ إليه المسلمون الأوائل في الهجرة الأولى ، وإلى الجنوب من هذه المنطقة يسكن الشعب الأمهري في كامل ولاية أمهرة الأثيوبية التي تمتد حتى بحيرة تانا وتشكل شمال أثيوبيا وهو شعب مسيحي على نفس المذهب لكنه يتحدث اللغة الأمهرية المشتقة أيضا من الجعزية ويتجاوز تعداده أكثر من 20 مليون نسمة بنسبة تصل إلى ربع سكان أثيوبيا وكان مستقر أباطرة الحبشة في العصور الحديثة حيث قام بغزو الشعوب الكوشية بالتعاون مع الاستعمار حتى توسعت المملكة وصارت دولة أثيوبيا بحدودها الحالية والتي اتخذت من الأمهرية لغة رسمية لكن بانتهاء عصر الامبراطور هيلاسيلاسي خرجت مقاليد الحكم منهم لكن التأثير الثقافي لا يزال مستمرا على بقية الشعوب التي احتلتها أثيوبيا بالقوة ، أما إذا سرنا من أريتريا بمحاذاة الساحل باتجاه ميناء عصب الأريتري فإننا نمر على أول الشعوب الكوشية وهو شعب الساهو الذي يبلغ تعداده ربع مليون نسمة يدينون بالإسلام فإذا تجاوزناه نكون بذلك قد دخلنا فعليا في أرض شعب العفر (الدناكل) والذي يتحدث اللغة العربية بالإضافة إلى العفرية الكوشية ويدين بالإسلام ويبلغ تعداده 2 مليون نسمة يسكنون في إقليم عفر الأثيوبي ويشكلون قرابة 4 % من سكان أثيوبيا وفي النصف الشمالي من جيبوتي حيث يشكلون نصف السكان وفي منطقة جنوب البحر الأحمر الأريترية حيث يشكلون 10 % من السكان وقد كانوا في الماضي سلطنة موحدة تسيطر على بقعة جغرافية كبيرة من القرن الأفريقي.
قبائل الصومال
على امتداد الساحل عند مدينة جيبوتي تبدأ مناطق انتشار الشعب الصومالي والذي يدين بالإسلام ويتحدث العربية بالإضافة إلى الصومالية الكوشية ويصل تعداده إلى 15 مليون نسمة يتوزعون على عدد من القبائل الكبرى أولها قبيلة العيسى التي سيطرت على الصومال الفرنسي (جيبوتي) ودخلت في نزاع مع العفر ثم قبيلة الإسحق في الصومال البريطاني وهي التي استقلت بالمنطقة حاليا وأعلنت قيام دولة صوماليلاند (أرض الصومال) غير المعترف بها دوليا لكنها الوحيدة التي نجت من الحروب الأهلية ، بعد ذلك تأتي قبيلة الدارود التي تنتشر في منطقة (بونت لاند) ووسط الصومال وتنتمي لها قبيلة الأوجادين الموجودة في إقليم أوجادين الذي تحتله أثيوبيا وفي شمال شرق كينيا وكذلك قبيلة مريحان في الجنوب ثم بعد ذلك أكبر القبائل وهي قبيلة الهوية التي تنتشر في جنوب الصومال وبعض مناطق إقليم أوجادين بالتداخل مع قبيلة الرحنوين التي تسكن دلتا جوبا وشبيلي وتكاد تكون الحرب الأهلية الصومالية صراعا قبليا في المقام الأول ، وإذا تركنا الصومال بكل مكوناته واتجهنا عبر الصحراء باتجاه الهضبة الأثيوبية فإننا نقابل أكبر الشعوب الكوشية والمهد الأول الذي انحدرت منه سائر الشعوب الحامية وهو شعب الأرومو الذي يتجاوز تعداده 50 مليون نسمة يشكلون غالبية سكان أثيوبيا الحالية بعد أن قام أباطرة الحبشة في الماضي بغزو أرضهم وضمها لمملكتهم ويناضل شعب الأرومو للانفصال عن أثيوبيا ومقاومة هيمنة الأمهرة والتجراي خاصة وأن غالبيتهم يدينون بالإسلام ويقيمون في إقليم جغرافي يفصله النيل الأزرق عن الأمهرة ويحمل اسم (إقليم أرومو) والذي يسكن فيه الفرعان الكبيران لهذا الشعب وهما البرنتو والبورانا مع وجود امتداد طبيعي لهم في كينيا والصومال ، ويتخلل إقليم أرومو الأثيوبي عدد من القبائل المتنوعة بعضها سامي مثل قبيلة جوارجي وبعضها حامي مثل قبيلة سيداما وبعضها نيلي مثل قبيلة ولاييتا وغيرهم حيث يشكلون نسبة 10 % من سكان أثيوبيا يقطنون في إقليم منفصل يطلق عليه (الأمم الجنوبية).
أعالي النيل
إلى الغرب من هضبة الحبشة تبدأ مناطق أعالي النيل في البقعة الجغرافية التي تقوم فيها الآن دولة جنوب السودان حيث يقطن أكبر تجمع للقبائل النيلية في القارة الأفريقية وهي شعوب مختلفة تماما من الناحية العرقية واللغوية عن كل سكان أفريقيا حيث يحيط بها العرب من الشمال والكوشيون من الشرق والبانتو من الجنوب والفولاني والهوسا من الغرب حيث يتوزعون على عدد من القبائل أكبرها الدينكا التي تشكل 50 % من السكان تليها النوير التي تمتد منازلها داخل إقليم جامبلا الأثيوبي مع قبيلة الأنواك حيث ينتمي هذا الإقليم من الناحية الجغرافية والسكانية إلى أعالي النيل وليس الهضبة الأثيوبية وتسعى قبائله للانفصال عن أثيوبيا ثم بعد ذلك قبيلة الشلك (التي تنتمي إلى شعب اللوو المنتشر في أوغندا وكينيا وتنزانيا) وفي أقصى الجنوب قبيلة الزاندي التي تنتمي إلى شعوب البانتو وفي الجنوب الشرقي تسكن قبائل الباريا والمورالي الحامية وجميعهم على دياناتهم الوثنية مع تأثر بالتبشير المسيحي ، وإلى الشمال الغربي من منطقة أعالي النيل يقابلنا إقليم دارفور الذي ينعزل جغرافيا وسكانيا عن بقية السودان حيث تستقر فيه مجموعة من القبائل الأفريقية التي تنتمي إلى شعوب تشاد والصحراء الكبرى وأفريقيا المدارية الغربية مثل الفور والمساليت والزغاوة والهوسا مع عدد من القبائل العربية الرحل مثل المحاميد والرزيقات وهو ما يشكل قرابة 7 مليون نسمة يدينون بالإسلام بفضل سلطنة دارفور التي كانت تبسط سلطانها في الماضي على المنطقة قبل قدوم الاستعمار وهذا الإقليم تفصله الجبال عن وادي النيل مما يجعله مستقلا من الناحية الاقتصادية بل ويملك بالفعل مقومات الاستقلال التام على العكس من إقليم كردفان المجاور له والملاصق لوادي النيل والذي يسكنه 3 مليون نسمه أغلبهم من القبائل العربية التي تسكن وادي النيل وبالتالي فلا يملك أي مقومات سكانية مستقلة بالرغم من وجود أقلية من القبائل الأفريقية والنوبية في الجنوب.
القبائل السودانية
ينتهي بنا المسير إلى وادي النيل حيث مركز الثقل السكاني في السودان والذي تسكنه أغلبية من القبائل العربية مثل الجعليين والشايقية والبديرية والرباطاب والميرفاب والشكرية والبقارة والكبابيش تنتشر بطول الوادي لكنها في الشمال تختلط مع التجمعات النوبية مثل المحس والدناقلة والسكوت والحلفاويين وهي في الأصل من الشعوب النيلية التي هاجرت منذ وقت مبكر إلى شمال السودان وجنوب مصر ولا زالت تتحدث جميعا اللغة النوبية بلهجاتها المتعددة ، وفي الجنوب اندمجت القبائل العربية مع قبائل الفونج الأفريقية التي حطت رحالها في منطقة النيل الأزرق منذ قرون وأسست مملكة سنار التي كان لها الفضل في نشر الإسلام في ربوع السودان ودخلت في منافسة شرسة مع سلطنة دارفور للسيطرة على كردفان كما اندمج العرب مع قبيلة الانقسنا الأفريقية الموجودة في منطقة الدمازين والتي لا زالت تحتفظ بخصوصياتها الثقافية ، ورغم هذا التعدد إلا أن الترابط الجغرافي أقوى من النزعة القبلية حيث يعيش الجميع في الجزيرة المحصورة بين النيل الأزرق والنيل الأبيض في الولايات السودانية الخمس (سنار والنيل الأبيض والنيل الأزرق والجزيرة والخرطوم) حيث يشكل وادي النيل إقليما اقتصاديا واحدا مثلما هو الحال في مصر بل إن هذا الإقليم يمتد داخل الأراضي الأثيوبية ليشمل ولاية بني شنقول الأثيوبية التي اقتطعها البريطانيون لصالح امبراطور الحبشة مقابل سيطرتهم على أعالي النيل وهي المنطقة التي تضم قبائل البرتا (بني شنقول) والقماز الذين يدينون بالإسلام ويتحدثون اللغة العربية ويعتبرون أنفسهم سودانيين وعرب رغم أصولهم الأفريقية ويسعون جاهدين للانفصال عن أثيوبيا معتبرين ولايتهم جزءا لا يتجزأ من منطقة الجزيرة السودانية خاصة بعد إنشاء سد النهضة في أراضيهم التي يمر بها النيل الأزرق لما أحدثه من تهجير قسري للسكان وتدمير منظم للأراضي رغم أن هذه المنطقة من أغنى المناطق في الثروات الطبيعية والحيوانية.