
يمتد عصر السلطنة المصرية ثلاثة قرون ونصف وذلك تحت حكم كل من الأيوبيين والمماليك البحرية والمماليك البرجية ، وشهدت تلك الحقبة الانتصارات التاريخية الكبرى على الصليبيين والمغول في كل من حطين وعين جالوت والمنصورة ومرج الصفر حتى صارت مصر دولة قوية مرهوبة الجانب وانتقلت إليها دار الخلافة ، وقد بلغت فيها مصر أوج توسعها الإمبراطوري في تاريخها كله حيث ضمت كلا من ليبيا والسودان واليمن والحجاز وبلاد الشام كلها وأعالي الفرات وأجزاء من العراق وجنوب شرق تركيا.
واشتهرت السلطنة المصرية بحكامها الذين جمعوا بين النجاح العسكري والدهاء السياسي وحسن الإدارة وعظمة العمران مثل الناصر صلاح الدين الأيوبي والملك العادل والملك الكامل والصالح نجم الدين أيوب وسيف الدين قطز والظاهر بيبرس والمنصور قلاوون والأشرف خليل بن قلاوون والناصر محمد بن قلاوون والظاهر برقوق والمؤيد شيخ والأشرف برسباي والظاهر جقمق والأشرف قايتباي ، كما تولت المرأة السلطنة لأول مرة حيث تولت شجر الدر في وقت عصيب فأدارت المعارك والمفاوضات بكفاءة واقتدار.
وقد تميزت السلطنة المصرية بوجود عدد كبير من الأدباء والشعراء في موقع الوزارة وإدارة شئون الدولة مثل القاضي الفاضل والعماد الكاتب وابن سناء الملك والأسعد بن مماتي والبهاء زهير وجمال الدين ابن مطروح وابن لقمان وابن عبد الظاهر ومحيي الدين ابن فضل الله والمقر بن الجيعان ، ومنهم أصحاب المؤلفات الموسوعية مثل ابن منظور مؤلف لسان العرب والقلقشندي مؤلف صبح الأعشى في صناعة الإنشا والنويري مؤلف نهاية الأرب في فنون الأدب وشهاب الدين ابن فضل الله مؤلف مسالك الأبصار في ممالك الأمصار.
وشهدت السلطنة المصرية نهضة كبرى في مجال الطب حيث تولى رئاسة الأطباء فيها ابن النفيس وموسى بن ميمون وابن أبي أصيبعة الخزرجي وشمس الدين ابن العفيف وابن الديري ومهذب الدين الدخوار ، وجعل السلطان البيمارستان للجندي والأمير والكبير والصغير والحر والعبد والذكور والإناث ورتب فيه الأطباء والأدوية وجعل فيه عدداً من الرجال والنساء لخدمة المرضى وقسمها قاعة لأمراض الجلد وقاعة للحميات وقاعة لأمراض المعدة وجعل المياه تجري فيه وأفرد مكاناً لخزن الأدوية ومكاناً لرئيس الأطباء لإلقاء دروس الطب.
وشهدت السلطنة المصرية ظهور أعلام التصوف المشهورين في البلاد ومنهم أبو الحسن الشاذلي وأبو العباس المرسي وابن عطاء الله السكندري وشرف الدين البوصيري وابن الفارض والسيد أحمد البدوي وإبراهيم الدسوقي وعبد الرحيم القنائي وأبو الحجاج الأقصري وأبو الفتح الواسطي والحنفي وابن عنان وأبو العباس الغمري وطلحة بن مدين التلمساني ، وحفلت البلاد بالخانقاوات الكبرى مثل خانقاه سعيد السعداء وفرج بن برقوق وبيبرس الجاشنكير والبندقداري والشيخونية وخانقاه الناصر محمد بن قلاوون (مدينة الخانكة الحالية).
وفي مجال التاريخ شهدت إسهامات كل من المقريزي وابن تغري بردي وبدر الدين العيني وابن إياس والصفدي وشمس الدين الذهبي وابن خلكان والسخاوي وابن الأثير وابن كثير ، ومن أبرز القضاة والشيوخ في وقتها كل من العز بن عبد السلام وتاج الدين ابن بنت الأعز وابن دقيق العيد وابن تيمية وتقي الدين السبكي وابن حجر العسقلاني وسراج الدين البلقيني والإمام جلال الدين المحلي وشيخ الإسلام زكريا الأنصاري وجلال الدين السيوطي وابن عقيل وابن سيد الناس وبدر الدين بن جماعة والحافظ المنذري وابن الملقن وابن خلدون.
وشهدت السلطنة المصرية نهضة معمارية ضمت مئات المساجد والمدارس والخانقاوات والأضرحة والأسبلة والبيمارستانات وتمتعت الدولة وقتها بازدهار اقتصادي كبير جعلها أغنى إمبراطورية في العصور الوسطى وأكثرها تأثيرا في حركة التجارة العالمية بين الشرق والغرب ، وقد وصفها ابن خلدون بقوله : ” حضرة الدنيا وبستان العالم ومحشر الأمم ومدرج الذر من البشر وإيوان الإسلام وكرسى الملك تلوح القصور والأواوين فى حجره وتزهر الخوانك والمدارس آفاقه وتضيء البدور والكواكب من علمائه “.
ووصفها ابن بطوطة بقوله : ” ثم وصلت إلى مدينة مصر هى أم البلاد وقرارة فرعون ذى الأوتاد ذات الأقاليم العريضة والبلاد الأريضة المتناهية فى كثرة العمارة المتباهية بالحسن والنضارة .. تموج موج البحر بسكانها وتكاد تضيق بهم على سعة مكانها وإمكانها شبابها يجد على طول العهد وكوكب تعديلها لا يبرح عن منزلها السعد قهرت قاهرتها الأمم وتمكنت ملوكها نواصى العرب والعجم ولها خصوصية النيل الذى أجل خطرها وأغناها عن أن يستمد القطر قطرها وأرضها مسيرة شهر لمجد السير كريمة التربة مؤنسة لذوى الغربة “.
وقال القاضي أبو القاسم البرجي عندما سُئل عن القاهرة : أقول فى العبارة عنها على سبيل الاختصار إن الذى يتخيله الإنسان فإنما يراه دون الصورة التى تخيلها لاتساع الخيال عن كل محسوس إلا القاهرة فإنها أوسع من كل ما يتخيل فيها ، ويستطرد ابن خلدون قائلا : وما زلنا نحَدِّث عن هذا البلد وبُعد مداه في العمران واتساع الأحوال ولقد اختلفت عبارات من لقيناه من شيوخنا وأصحابنا حاجّهم وتاجرهم بالحديث عنه ، سألت صاحبنا قاضي الجماعة بفاس وكبير العلماء بالمغرب أبا عبد الله المقرمي فقلت له كيف هذه القاهرة ؟ فقال من لم يرها لم يعرف عز الإسلام.