
كتاب جورج فريدمان
الاعوام المائة القادمة
ليس حتميا ان تتحقق توقعات مراكز الابحاث لكن من المهم قراءة منهجية الدراسة لانها تفتح العقول على كثير من المسائل السياسية المتشابكة ..
وهذا الكتاب من الكتب الهامة التي صدرت منذ اكثر من عشر سنوات وفيه الكثير مما تحقق خاصة في مجال الصراعات الدولية وصعود وهبوط الدول ..
التوقعات الخاصة بالمنطقة العربية ربما لا تعجب الكثيرين لكن على الاقل يجب ان نكون مستعدين لها حيث لا مكان في العالم للدول الضعيفة او الفقيرة ..
والسؤال هو ماذا يمكننا ان نفعل لتجنب المصير المحتمل للصراعات الجيوسياسية .. هل يمكن ان ننتقل من خانة المفعول به الى خانة الفاعل ؟؟؟

1 / لمن يهمه الأمر
هل يمكن التنبؤ بالمستقبل في عالم السياسة .. الإجابة نعم يمكن ذلك من خلال استقراء التاريخ لكن بشرط الموضوعية والحيادية وهو الأمر الذي تجتهد فيه مراكز بحثية متخصصة تستفيد منها فقط المؤسسات والكيانات السياسية التي تسعى للتأثير والتغيير ، أما الفرد مهما بلغت درجة ثقافته فلن يستفيد شيئا إذا عرف أن الصين سوف تحتل تايوان بعد خمس سنوات أو أن الحرب سوف تتجدد بين أرمينيا وأذربيجان ..
لكن المشكلة هي في المؤسسات التي غابت عنها الدقة والاحترافية وتسربت إليها عيوب الأفراد العاديين مثل تزييف التاريخ وصناعة ماضي متخيل وإنكار الكثير من الأحداث الكبرى أو إعادة تأويلها وتقييفها وفق القناعات المسبقة أو إهمال فترة زمنية معينة والتركيز على فترة أخرى انتصارا للهوى أو بحثا عن هوية مفقودة ، وهذا يحدث منهم مع الماضي الذي حدث بالفعل فما بالك بالمستقبل الذي لم يولد بعد ..
ومن ذلك أيضا الإيمان بنظريات المؤامرة وتضخيم حجمنا أكبر من اللازم ورفع شعارات (احنا جدعان قوي وبلدنا محروسة ومذكورة في القرآن يا ولاد الـ …) ، أو الترويج لأفكار آخر الزمان وثقافة الفتن والملاحم والتعزي بالبكاء على الأطلال وانتظار البطل المخلص الذي سوف يملأ الأرض عدلا كما ملئت جورا رغم أن كل أبطال وقادة التاريخ نجحوا بسبب واقعيتهم الشديدة وامتلاكهم للقوة وأسبابها ..
وربما يحدث العكس وهو أن يتم التقليل دوما من شأن شعوبنا مقارنة بغيرها مع نظرة إلى التاريخ والسياسة بمنظور طوباوي مثالي (صراع الخير والشر والحق والباطل) أو بمقاييس الصوابية السياسية والقيم الإنسانية ، وفي ذلك مخالفة لمنهج التفكير العلمي لأن القيم التي تحكم علاقات الأفراد داخل الدولة الواحدة تختلف تماما عن محددات العلاقة بين الدول وبعضها والتي يغلب عليها الصراع والتنافس والحدة ..
وربما كان ذلك بسبب التأثر بوسائل التواصل الاجتماعي وإعطائها أكبر من حجمها والتي صنعت انفصالا عن الواقع الجغرافي والسياسي لأن كل منطقة من العالم لها توقيتها الخاص بها تبعا لمسار الأحداث ، والتاريخ باختصار هو قصة صراع الشعوب والدول على الأرض والموارد باستعمال القوة المسلحة والهيمنة الثقافية ، والمنتصر قطعا من يمكنه استشراف المستقبل ويملك قدرا من (الخيال السياسي) ..

2 / لعبة الأمم
(مرتبة اقتصادية متقدمة وثقل سكاني مؤثر وقوة عسكرية فعالة وقدرة على قيادة محيطها الجغرافي) .. هي الصفات اللازمة لأي دولة تسعى للتواجد على المسرح العالمي والمشاركة في إدارة كوكب الأرض وسط عالم متغير ومتسارع الأحداث ، ومسألة تعدد الأقطاب في العالم سوف تحدث بسبب الصراع الحتمي بين الكبار وما سوف ينتج عن ذلك من خلخلة في موازين القوى الدولية اقتصاديا وسياسيا ..
ربما يكون القرن الحادي والعشرون هو قرن أمريكي بلا منازع حيث تشهد الأمة الأمريكية ذروة منحنى التطور التاريخي لها لكن أيضا سوف يبدأ بعده التراجع ، سوف تنشغل أمريكا في أوائل القرن بالتحدي الذي فرضته كل من روسيا والصين وأعوانهم وسوف تحقق انتصارا عليهم لكن سوف يؤدي ذلك إلى ظهور قوى أخرى لم تكن في الحسبان لتعويض الفراغ الناتج عن ذلك وهو ما ينبىء بجولة جديدة من الصراع ..
ولذا سوف تدخل أمريكا صراعا جديدا لتحجيم تلك القوى بواسطة امتلاكها للتكنولوجيا المتقدمة والتحكم في نقل الطاقة لكن عندما تنجح في ذلك قرب نهاية القرن سوف تكون منهكة مستنزفة القوى على وشك فقدان تأثيرها السياسي على العالم ثم تسير ببطء نحو (المصير البريطاني) أي فقدان الإمبراطورية والاحتفاظ بالحيوية وهو ما يعني أن قيادة العالم سوف تنتقل حتما إلى قائد جديد وحقبة زمنية أخرى غير متوقعة ..
ويرى جورج فريدمان في كتابه الأعوام المائة القادمة أن هذا المسار يتفق مع المعطيات التاريخية والجغرافية وطبيعة الصراع وكذلك التطور التقني المتسارع والذي سوف يحدد المنتصر في المعركة الكبرى ، يقول عن ذلك (لا تحتاج الولايات المتحدة إلى الانتصار في الحروب ، ما تحتاجه بكل بساطة هو إغراق الآخرين في الفوضى بحيث لا يمكن لهم إعادة إنتاج ما يكفي من القوة بحيث تشكل تحديا لها ..
سوف يشهد القرن الحادي والعشرون في أحد مستوياته سلسلة من المواجهات تخوضها قوى أقل شأنا وذلك في معرض محاولتها تشكيل ائتلاف يهدف إلى احتواء السلوك الأمريكي وعمليات الولايات المتحدة الأمريكية العسكرية الهادفة إلى التشويش عليها ، سوف يشهد القرن الحادي والعشرون حروبا أكثر ما شهده القرن العشرون إلا أن هذه الحروب سوف تكون أقل كارثية وذلك بسبب المتغيرات التكنولوجية وأيضا بسبب طبيعة التحديات الجيوسياسية).

3 / بولندا .. وحلف وارسو الجديد
يخبرنا التاريخ أن احتلال بولندا كان السبب المباشر في اندلاع الحرب العالمية الثانية وأنها صارت بعد ذلك مقر الحلف العسكري للكتلة الشرقية وسمي على اسم عاصمتها وارسو ، وفي الوقت الحالي تتحمل بولندا العبء الأكبر للحرب الدائرة في أوكرانيا سواء من ناحية الإمداد العسكري أو استقبال اللاجئين أو قيادة المجهود السياسي وهو ما سيدفع بها لتكون في موضع حائط الصد أمام روسيا وحلفائها ..
ويرى جورج فريدمان أن عددا من الدول الصغيرة في القرن الحادي والعشرين سوف تسعى جاهدة للصعود السياسي لتحل محل الصين وروسيا بعد انتهاء المعارك وانتصار المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية ، ورشح أربع دول سوف تنجح في ذلك وهي اليابان وتركيا والمكسيك وبولندا حيث يوجد ثلاثة منهم في مجموعة دول العشرين والرابعة وهي بولندا على وشك اللحاق بهم قريبا ..
ومن الطبيعي أن تخرج بولندا من الحرب وقد امتلكت ترسانة عسكرية قوية كما أنها سوف تشعر أنها أحد صناع النصر على روسيا وسوف ينشأ عن ذلك كتلة سلافية متجانسة قوميا ولغويا وجغرافيا تضم بولندا والتشيك وسلوفاكيا وأوكرانيا وروسيا البيضاء وجزء من أراضي روسيا وبعض دول البلقان السلافية ، وربما تضم معهم من غير السلاف المجر ورومانيا وليتوانيا وجميعم حلفاء لها من الآن ..
هذا الكيان العملاق سوف يثير مخاوف أوروبا الغربية وسيشكل نفس التهديد الذي كانت تمثله روسيا الاتحادية وذلك لأن دول أوروبا الغربية لا تريد أن تتحد اتحادا حقيقيا ولا تريد للآخرين من حولها أن يتحدوا وإنما أن يصير جوارهم دوما مفككا مثلهم ، ودائما ما كانت هناك مسافة بين بولندا ودول أوروبا الغربية فهي معهم لحماية أمنها القومي لكنها على سبيل المثال لم تدخل منطقة اليورو حتى اليوم ..
سوف تجد بولندا الكبرى نفسها كيانا كبيرا قويا يتجاوز سكانه مائة مليون نسمة لتكون أكبر دولة في القارة وعن يمينها بقايا الاتحاد الروسي المفكك وعن يسارها أوروبا الغربية المهلهلة وسوف تصبح مصدر قلاقل لألمانيا كما أنها سوف تطالب بالمقعد الدائم في مجلس الأمن بدلا من فرنسا التي ستتراجع سياسيا ، وبينما أمريكا مشغولة بتحركات اليابان وتركيا سوف تفاجىء بظهور حلف وارسو الجديد ..

4 / خطوط الصدع ..
خلاصة كتاب جورج فريدمان هي أن موازين القوى في العالم في تغير دائم بل وتغير غير متوقع ويضرب مثالا لذلك بحالات عديدة تحتاج نظرة متعمقة فيقول (لو قال أحدهم عام 1950 إن من بين أهم بيوتات القوة الاقتصادية الكبرى في العالم بعد نصف قرن سوف تكون اليابان وألمانيا وسيكون ترتيبهما الثاني والثالث بعد الولايات المتحدة فسيتعرض ذلك الشخص لموجة من السخرية والاستهزاء ..
ولو قيل عام 1970 إنه بحلول عام 2007 سوف تصبح الصين رابع أكبر اقتصاد في العالم لكانت الضحكات الهازئة أكثر صخبا وعلوا ، ولكن كل هذا لن يكون مدعاة للضحك أكثر مما كانت ستنتاب السامعين تلك الموجة الهستيرية من الضحك والاستخفاف لو قال أحدهم عام 1800 إنه بحلول عام 1900 سوف تصبح الولايات المتحدة قوة عالمية .. الأشياء تتغير وما هو غير متوقع يصبح متوقعا) ..
والتغيرات مرتبطة بالصراع الدائم بين الأمم ويمكن التنبؤ بذلك من خلال معرفة بؤر التوتر ، ورغم أن العالم الإسلامي يملك نقاط تماس ملتهبة مع محيطه لكن الصراع الأشرس سوف يكون في خارجه ، يقول عن ذلك (أين سيضرب الزلزال التالي وكيف ستبدو عليه ملامح ذلك الزلزال ؟ .. كي نجيب على هذا السؤال فإننا نحتاج أن نتفحص خطوط الصدع الجيوسياسية في القرن الحادي والعشرين ..
وكما هي الحال في عالم الجيولوجيا هناك العديد من خطوط الصدع تلك ، وبدون أن نذهب بهذه المقارنة بعيدا علينا تحديد خطوط الصدع النشطة وذلك لكي نحدد المكان الذي سوف يحدث فيه ذلك الاحتكاك الذي سيتفاقم إلى حد يتحول فيه إلى صراع ، وفي الوقت الذي يهمد التركيز على العالم الإسلامي ما هي النقطة التي ستكون أكثر مناطق العالم سخونة وعدم استقرار في الحقبة التالية ؟) ..
ولمزيد من التوضيح يجب تقسيم العالم جيوسياسيا إلى عشر مناطق متباينة في الجغرافيا والديموغرافيا والثقافة والسياسة .. أربعة منها دول اتحادية كبرى هي أمريكا وروسيا والصين والهند وستة متفرقة بين دولها روابط متفاوتة وهي الاتحاد الأوروبي وأمريكا اللاتينية وأفريقيا جنوب الصحراء والوطن العربي وآسيا الإسلامية (من باكستان إلى تركيا) والشرق الأقصى (اليابان وكوريا ودول آسيان) ..

5 / البقاء للأقوى
في مجال علم الأحياء التطوري ظهرت عبارة دارون (البقاء للأصلح) والتي تعني أن الانتخاب الطبيعي يسير في اتجاه الحفاظ على الأنواع والسلالات الأكثر قدرة على التكيف والتي تملك القوة اللازمة لمقاومة التغيير ، لكن نيتشة كان له رأي آخر في كتابه (هكذا تكلم زرادشت) عندما طرح شعاره (البقاء للأقوى) قاصدا بذلك الصراع بين القوميات على الأرض والموارد وهو محور أحداث التاريخ في الماضي والحاضر والمستقبل ..
وهذا الصراع هو الذي يرسم الخريطة الثقافية والديموغرافية والسياسية للعالم المعاصر حيث قدر لعدد محدود من الشعوب أن تهيمن على الآخرين وتفرض عليهم لغاتها وثقافتها ونظمها السياسية والاجتماعية ، في العصور القديمة تمدد شعب الهان من حوض النهر الأصفر وتوسع على حساب باقي الشعوب ودفعها للساحل لتتكون الصين التاريخية بينما انتقلت الشعوب الأسترونيزية من الساحل لتهيمن على الهند الصينية وأرخبيل الملايو ..
وفي الهند قام الآريون بالتحرك من إيران وغزو البلاد على مراحل متتالية دفعوا فيها السكان الدرافيد باتجاه الجنوب وفرضوا عليهم اللغة السنسكريتية (الهندية القديمة) ونشروا الديانة الهندوسية ونظام الطبقات لتنشأ الهند التاريخية بثقافتها المعروفة ، وفي أفريقيا جنوب الصحراء حدثت الهجرة الكبرى لقبائل البانتو من غرب أفريقيا إلى شرقها وجنوبها لتكون المهيمن فيها على حساب بقية الشعوب الأفريقية التي صارت أقليات ..
وفي العصور الوسطى قامت القبائل الجرمانية بغزو القارة الأوروبية وتحطيم الإمبراطورية الرومانية الغربية وتأسيس الممالك البربرية بدلا منها والتي رسمت معالم أوروبا الثقافية والاجتماعية ، وفي نفس التوقيت خرجت القبائل العربية من جزيرة العرب لتنتشر في الهلال الخصيب ثم في وادي النيل وشمال أفريقيا على حساب الدولة البيزنطية (وريثة الهيلينيين) وأنهت تواجدهم بعد احتلال ألف عام ونشرت اللغة العربية في المنطقة ..
وانتشرت العشائر التركية والمغولية في آسيا من تركستان شمالا وحتى إيران جنوبا ومن السند شرقا إلى الأناضول غربا وفرضوا فيها سلطتهم السياسية ، وفي أوراسيا انتشرت العشائر السلافية بين بحر البلطيق والبحر الأسود ثم باتجاه الأورال وسيبيريا والبلقان لتهيمن على بقية الشعوب ، وفي العالم الجديد استوطن البريطانيون أمريكا الشمالية وأوقيانوسيا وقام الأسبان والبرتغاليون بغزو أمريكا اللاتينية وإنهاء الحضارات القديمة فيها ..

6 / الجغرافيا السياسية والقوميات الكبرى
الجغرافيا هي التي قسمت العالم إلى عشر مناطق متباينة ورسمت المعالم الديموغرافية واللغوية والسياسية في كل منطقة ، في أقصى الشرق نجد الصين التي نشأت تاريخيا في السهول الفسيحة للأنهار الثلاثة لكنها تحتل اليوم كلا من منشوريا ومنغوليا الداخلية والتبت وتركستان الشرقية ، وإلى جوارها سلسلة من الجزر وأشباه الجزر من أول كوريا واليابان وتايوان حتى الملايو والهند الصينية حيث تأسست رابطة آسيان الناجحة اقتصاديا ..
وفي القارة الهندية تكاد الهند تحكم القرار السياسي لجيرانها بنجلاديش وبوتان ونيبال وسيرلانكا والمالديف وجمعتهم معها في اتحاد دول جنوب آسيا ، وفي آسيا الإسلامية حيث الهضاب وسلاسل الجبال من الهندوكوش حتى القوقاز وزاجروس والأناضول تعيش الشعوب التركية والإيرانية وتمثلهم منظمة التعاون الاقتصادي (سي إي أو) ، وفي شمال أوراسيا الاتحاد الروسي العملاق الذي جاء نصيبه في بلاد الجليد والثروات المعدنية معا ..
وفي القارة الأوروبية حيث المساحات الخضراء الشاسعة والأنهار الجارية نجد الاتحاد الأوروبي ومنطقة اليورو ، وفي الغرب نجد مجموعة دول الأنجلوسفير (الدول الخمس الناطقة بالإنجليزية كلغة أم أصلية) ممثلا في تحالف العيون الخمس الذي يضم الولايات المتحدة وكندا وبريطانيا وأستراليا ونيوزيلاندا ، وفي الجنوب تجمع دول أمريكا اللاتينية والكاريبي المعروف اختصارا باسم سيلاك حيث تسود اللغات اللاتينية (الأسبانية والبرتغالية) ..
وفي المنطقة الصفراء من العالم حيث الصحراء الكبرى توجد البلاد العربية وتمثلها جامعة الدول العربية حيث التشابه الجغرافي فيما بينها لأنهم جميعا واحات متناثرة وسط الصحراء القاحلة ، وفي أفريقيا جنوب الصحراء تشكلت أربع تجمعات اقتصادية قوية هي الإيكواس في الغرب والإياك في الشرق وسيماك في الوسط وسادك في الجنوب حيث السعي الجاد لعمل عملة موحدة واتحاد جمركي وشاركت فيها جميع دول أفريقيا السمراء بحماس بالغ ..
ولا شك أن كل منطقة من المناطق العشر قد صارت لها مع الزمن خصوصية لغوية وثقافية وديموغرافية أثرت فيها الجغرافيا والتاريخ ثم صهر ذلك كله على هيئة روابط سياسية وثقافية واقتصادية تجمع كل منطقة وترسم معالم حاضرها ومستقبلها ، ويعيب البعض على المنظمات الإقليمية ضعفها في الجانب السياسي لكن هذه هي طبيعة الهيئات التعاونية مثل الأمم المتحدة التي لا تطبق الكثير من قراراتها حيث وظيفة الأمين العام فيها أن يشعر بالقلق ..

7 / نهاية التاريخ أم صدام الحضارات
(نهاية التاريخ وخاتم البشر) هو عنوان الكتاب الذي كتبه الأكاديمي الأمريكي (فرانسيس فوكوياما) في نهايات القرن العشرين وذلك في الفترة التي شهدت انهيار المعسكر الشيوعي حيث قامت أطروحته على فكرة الانتصار النهائي للنظم السياسية والاقتصادية الغربية (الليبرالية الديموقراطية واقتصاد السوق) على غيرها من الأفكار ومن ثم انتشارها في العالم كله متجاوزة الاختلافات الاجتماعية والثقافية التي ستذوب في مواجهة العولمة حيث تتحول الشعوب كلها في النهاية إلى تقليد نمط الفكر الغربي والحياة الغربية وعند ذلك تنعدم الاختلافات والتحولات ونصبح على أعتاب عصر الإنسان الأخير الذي يمثل آخر ما يمكن للبشر أن يصلوا إليه ، وفي طيات الكتاب نلمح تبشيرا بالمنجزات الحضارية للغرب في صورة أشبه بالعالم المثالي (يوتوبيا) الخالي من السلبيات وهو الأمر الذي جعله في مرمى الهجوم من أستاذه السابق الأكاديمي في جامعة هارفارد والعالم السياسي (صمويل هنتجتون) ذي الاتجاه المحافظ والذي رد عليه وفند أفكاره في كتابه (صدام الحضارات وإعادة تشكيل النظام العالمي) حيث أكد أن كل الحضارات السابقة بلا استثناء ظنت أنها تمثل آخر ما وصل إليه البشر من رخاء وازدهار ثم اضمحلت وظهرت حضارات جديدة ورغم انتشار النمط الغربي في المجالات السياسية والاقتصادية في العالم بسبب قوة العلم وهيمنة التقنية إلا أن ذلك لا يعني تجاوزها للموروث الثقافي والاجتماعي وأكد أن الصراع القادم في العالم لن يكون بين الأيديولوجيات (مثل الشيوعية والليبرالية) ولا حتى بين الدول القومية وإنما سيصبح بين الحضارات حيث تبرز أهمية الهوية الثقافية والاجتماعية لأنها محددات لا يمكن تغييرها مثل الأيديولوجيات حيث يمكن للمرء أن يكون بالأمس شيوعيا واليوم ليبراليا وغدا أي شيء آخر لكنه لا يمكن أن يتحول من فارسي إلى صيني أو من هندي إلى روسي فهو حر في تغيير أيديولوجيته لكنه مقيد في انتمائه الحضاري بحكم التاريخ والجغرافيا وأهم هذه المحددات يتمثل في الدين لأن الفرد بوسعه أن يحوز جنسيتين (فرنسي وجزائري مثلا) لكنه لا يمكن أن يصبح (مسلما وكاثوليكيا) في نفس الوقت ..

8 / قيام وانهيار الحضارات
يقول صمويل هنتنجتون في كتابه صدام الحضارات : ” ينتهي التاريخ مرة على الأقل في تاريخ كل حضارة وأحيانا أكثر من مرة وعندما تنشأ دولة الحضارة العالمية يغشى بصر شعبها ما يطلق عليه توينبي (سراب الخلود) ويصبح مقتنعا بأن ما لديه هو الشكل النهائي للمجتمع الإنساني ، هكذا كان الأمر بالنسبة للإمبراطورية الرومانية والخلافة العباسية والإمبراطورية المغولية والدولة العثمانية ، مواطنو مثل هذه الدول العالمية (في تحد للحقائق المجردة الواضحة يميلون إلى اعتبارها أرض الميعاد وهدفا للسعي الإنساني وليس مجرد مأوى ليلي في البرية ) .. هكذا كان الأمر بالنسبة للطبقة المتوسطة الإنجليزية في سنة 1897 حيث كانوا يرون أن التاريخ بالنسبة لهم قد انتهى وكان لديهم من الأسباب ما يكفي ليجعلهم يهنئون بعضهم البعض على الحالة الدائمة من السعادة العظيمة التي خلفتها عليهم نهاية التاريخ .. المجتمعات التي تفترض أن تاريخها قد انتهى هي دائما مجتمعات يكون تاريخها على حافة الانهيار فهل الغرب استثناء من هذا النمط .. السؤالان الرئيسيان صاغهما ميلكو على نحو جيد .. أولا : هل الحضارة الغربية صنف جديد في مرتبة وحدها .. مختلفة .. لدرجة ألا يمكن مقارنتها بكل الحضارات الأخرى التي كانت قائمة ؟ .. ثانيا : هل اتساعها العالمي يهدد أو يعد بإنهاء إمكانية تقدم كل الحضارات الأخرى ؟ .. يميل معظم الغربيين وهذا طبيعي للإجابة عن السؤالين بالإيجاب وربما كانوا على حق .. في الماضي على أية حال كانت شعوب الحضارات الأخرى تفكر على نفس النحو وكانوا مخطئين ..من الواضح أن الغرب يختلف عن جميع الحضارات التي كانت قائمة في أن تأثيره طاغ على كافة الحضارات الأخرى التي وجدت منذ 1500 سنة كما أنه دشن عملية التحديث التي أصبحت عالمية وكنتيجة لذلك كانت المجتمعات في الحضارات الأخرى كلها تحاول اللحاق به في الثروة والحداثة .. فهل تعني سمات الغرب هذه أن تطوره وقواه المحركة كحضارة مختلفة تماما عن النمط الذي كان سائدا في الحضارات الأخرى ؟ .. الدليل التاريخي وأحكام الباحثين في التاريخ المقارن تقول بالعكس ، تقدم الغرب حتى الآن لم ينحرف بشكل كبير عن أنماط التطور التي كانت معروفة في الحضارات عبر التاريخ … “

9 / حضارات العالم من وجهة نظر هنتنجتون
قسم هنتنجتون في كتابه (صدام الحضارات) العالم إلى تسع حضارات ، أربع مشرقية هي اليابانية والصينية والهندوسية والبوذية (في منغوليا والهند الصينية) وأربع مسيحية هي الحضارة الغربية البروتستانتية (أوروبا وأمريكا) والحضارة اللاتينية الكاثوليكية في أمريكا الوسطى والجنوبية والحضارة الأرثوذكسية السلافية في روسيا وأوروبا الشرقية وحضارة القارة الأفريقية جنوب الصحراء ، وفي المنتصف حضارة وحيدة تتوسط العالم بين الجميع هي الحضارة الإسلامية ، ويخبرنا أيضا أن الحضارة الغربية المهيمنة حاليا على العالم ليست مختلفة عن الحضارات السابقة والمعاصرة في نمط التطور الحضاري وأنها لا تمثل الصورة المثالية النهائية التي حلم بها البشر مفندا كلام تلميذه فوكوياما في كتابه (نهاية التاريخ) الذي يروج بقوة لفكرة الانتصار النهائي للحضارة الغربية حيث عارضه في ذلك إذ يرى أن ذلك الإحساس بالتفوق والتميز كان موجودا لدى كل الحضارات وأن كل حضارة تبدأ قوية مغرورة ثم يظهر لها المنافسون الذين يناطحوها بقوة تعيدها إلى حجمها الطبيعي ، ويتنبأ بصعود الصين ثم الهند وكلاهما قبل التحديث ورفض التغريب حيث وضع قدمه على أول طريق العلم والتقدم والنهضة مع الاحتفاظ بتراثه وثقافته وهويته ، وهو يرى أن هذا الأمر ليس بعيدا عن بقية الحضارات بما في ذلك الحضارة الإسلامية بل هي مرشحة بقوة للدخول في هذه المنافسة بشرطين .. أولهما وجود التجديد الفكري الملائم والذي يستطيع أن يبعث المارد من القمقم مرة أخرى ويضبط ذلك التفاعل بين الدين والحياة من منظور حداثي جديد مثلما حدث في الصين والهند حيث التقدم التقني والاقتصادي مع الحفاظ على الخصوصية الثقافية والاجتماعية ، وثانيها وجود دولة مركزية في العالم الإسلامي على غرار الحضارات المعاصرة تتبنى هذا الفكر وتسعى لنشره وتكون نموذجا عمليا ناجحا ، ولأسباب جغرافية وجيوبوليتيكية وسكانية فإن الدول المرشحة لتكون مركزا للعالم الإسلامي هي كل من السعودية وإيران وتركيا ومصر لكن حتى الآن لم تستوف أي منهم الشروط اللازمة لذلك رغم أن العرب تحديدا يمتلكون مقومات قيادة العالم الإسلامي لو اجتمعوا !!

10 / صدام الحضارات بين التحديث والتغريب
تأتي أفكار هنتنجتون لتؤكد أن الغرب ليس هو القوة الوحيدة في صياغة التاريخ لأن العالم متعدد الثقافات (أصول حضارية متباينة) ولكل ثقافة رؤية للكون تدور حول العلاقة بين الإنسان والإله وحول العلاقة بين الإنسان والإنسان (الفرد والمجتمع ـ الجزء والكل) وتؤسس على هذه الرؤية للكون منظومات معرفية وأخلاقية تحدد تراتب المسئوليات والحقوق (المساواة والسلطة ـ الفرد والأسرة ـ المواطن والدولة) وهذه الرؤية للكون أمر متجذر في البشر عبر قرون طويلة ولا يمكن محو أثره في سنوات قليلة وما يراه أهل حضارة معينة أمرا أساسيا قد يراه آخرون هامشيا ويؤكد أن أساس اختلاف (الثقافات) تتمثل في (الدين واللغة والتاريخ والتقاليد) وهو يقسم هذه الثقافات إلى تسع موزعة على قارات العالم وهي (اليابانية ـ الكونفوشية ـ البوذية ـ الهندوسية ـ الإسلامية ـ الأفريقية ـ السلافية ـ اللاتينية ـ الغربية) وتتفاوت مواقف كل هذه الثقافات من الحضارة الغربية حيث يسعى بعضها للحاق بالغرب في إطار عمليتي (التحديث) و(التغريب) بينما اكتفى البعض بالتحديث في المجالات التقنية والعلمية والسياسية والاقتصادية مع الاحتفاظ بالخصوصية الاجتماعية والهوية القومية بل إن (الكونفوشية والإسلام) من وجهة نظره يحملان بذرة التحدي لهيمنة الحضارة الغربية بقدرتهما على امتلاك القوة والثروة والتعاون فيما بينهما لتدعيم ذلك (وهما يشكلان وحدهما نصف سكان العالم) كما أن كلا من (الهند واليابان) حافظت على تراثها العريق وثقافتها المحلية في إطار الحضارة الحديثة حيث أنتجت نموذجا متطورا مغايرا لنمط الدول الغربية بل يكاد يتفوق عليهم في مجالات عديدة ، ويؤكد هنتنجتون أن الحضارة الغربية تملك خصوصية ثقافية محددة لها تتمثل في الجذور المسيحية البروتستانتية والتراث الإغريقي الروماني بالإضافة إلى القيم الحديثة (الديموقراطية والاقتصاد الحر وفصل الدين عن الدولة والليبرالية والدستورية وحقوق الإنسان) وليس معنى لحاق أي دولة خارج هذه الثقافة بالعالم الغربي أنها صارت جزءا منه إلا إذا انخلعت بالكامل من تراثها وخصوصيتها وهو الأمر العسير الحدوث على أرض الواقع لذلك فإن (صدام الحضارات) أمر واقع لا محالة بسبب مقاومة العولمة من ناحية الثقافات الأخرى وسعي العالم الغربي لفرض هيمنته السياسية والاقتصادية على العالم حيث الصراع الحقيقي في النهاية لن يكون بين الحضارات وبعضها البعض وإنما بين معسكرين كبيرين هما الغرب والآخرون ..