الشام

الرملة .. مدينة سليمان بن عبد الملك

في عام 715 هـ. قرر والي فلسطين سليمان بن عبد الملك إنشاء مدينة جديدة لتكون قاعدة للإدارة في فلسطين فاختار منطقة بين الساحل والارض الرملية محاذية لقرية اللد القديمة حيث اشتق اسمها من الرمال التي تحيط بها من جوانبها ، وقد وصفها ابن بطوطة في رحلته حيث قال بعد خروجه من عسقلان بفلسطين : (ثم سافرت منها إلى مدينة الرملة وهي في فلسطين مدينة كبيرة كثيرة الخيرات حسنة الأسواق وبها جامع الأبيض) ، وقال الإصطخري (فلسطين أزكى بلدان الشام ومدينتها العظيمة الرملة وبيت المقدس يليها في الكبر) ..

يقول البلاذري : (لما آل أمر ولاية جند فلسطين إلى سليمان بن عبد الملك زمن خلافة أخيه الوليد بن عبد الملك نزل سليمان مدينة اللد التي كانت قصبة الجند آنذاك ثم اختط مدينة الرملة لتكون بدلاً من اللد عاصمة لذلك الجند ، وكان اول ما بنى سليمان فيها قصره والدار التي تعرف بدار الصباغين وجعل في الدار صهريجاً متوسطاً لها ثم اختط للمسجد خطة وبناه فولي الخلافة قبل استتمامه ثم بنى فيه بعد خلافته ثم أتمه عمر بن عبد العزيز ، ولما بنى سليمان لنفسه أذن للناس في البناء فبنوا واحتفر لاهل الرملة قناتهم واحتفروا آباراً) ..

واختط سليمان المدينة على ارض مربعة الشكل قسمها شارعين رئيسيين متقاطعين في الوسط إلى أربعة أقسام ولما استقرت القبائل في المدينة بنيت لهم الدور والحوانيت ومن أشهر القبائل التي نزلت بها لخم وكنانة ونقل بعض سكان اللد إليها ، واستمرت إقامة سليمان في المدينة الجديدة طوال السنوات 715- 717 م. ، وبرزت أهمية الرملة منذ اللحظة الأولى لقيامها حيث كان سليمان يود ان يتخذها مقراً للخلافة وازدهرت من بعده حتى صارت أكبر مدن فلسطين وعاصمتها الرسمية لمدة أربعة قرون حتى احتلالها بواسطة الفرنجة ..

وقد كانت الرملة شاهدة على كثير من الأحداث التاريخية الهامة لا سيما الحروب الصليبية وحظيت باهتمام الحكام الماليك فأعادوا إعمارها وترميم مساجدها وأبنيتها حتى صارت مركزا اقتصاديا وتجاريا هاما في فلسطين ومن أشهر رجالها الإمام خير الدين الرملي شيخ المذهب الحنفي في العصر العثماني ، وفي عام 1948 سقطت المدينة العربية العريقة مؤقتا تحت الاحتلال الصهيوني حيث أهملت لكن هذا الواقع مؤقت وسوف تتحرر كما تحررت من قبل من الاحتلال الصليبي الذي دام قرنين .. هكذا هي حركة التاريخ ..

العقبة .. مدينة الخليفة عثمان بن عفان

في العام التاسع للهجرة دخلت قرية أيلة التاريخية صلحا في حوزة الدولة الإسلامية بعد غزوة تبوك ، وفي أعقاب فتح مصر والشام ظهرت الأهمية الكبرى للمنطقة لأنها على مفترق الطرق البرية بين الحجاز ومصر والشام وتقع على طريق الحج البري فقرر الخليفة عثمان بن عفان رضي الله عنه في عام 650 م. إنشاء مدينة صغيرة محصنة في الجنوب الغربي من أيلة لتكون محطة للمسافرين وبنيت على شكل مستطيل له أربعة أبواب .. باب مصر في الشمال وباب البحر في الغرب وباب دمشق في الشرق وباب الحجاز في الجنوب ..

وأطلق على هذه المدينة عقبة أيلة ثم العقبة المصرية بسبب وقوعها على مرتفع صخري على طريق الحج المصري ونسبت إلى أيلة القريبة منها وظلت هذه المدينة مزدهرة طوال العصور الإسلامية حيث لعبت دورا هاما في تجارة البحر الأحمر والمحيط الهندي ، وفي أواخر عهد الفاطميين تعرضت المنطقة لغزو الصليبيين الذين دمروا العقبة وأيلة معا وطردوا منها أهلها وأقاموا بدلا منها قلعة حربية لتهديد الحجاز والسيطرة على البحر الأحمر حتى حررها السلطان صلاح الدين الأيوبي في عام 1170 م. وأعاد تعميرها مرة أخرى ..

ونتيجة للهجمات الصليبية المتكررة قرر الملك الظاهر بيبرس إنشاء قلعة كبيرة تضم المدينة القديمة كلها وبنى فيها برجا دائريا ووضع عليها شعاره (الأسدين المتقابلين) وذلك لتأمين الطريق إلى الحجاز ، ثم قام السلطان قنصوه الغوري بإعادة بنائها وترميمها وأطلق عليها (خان العقبة) حيث أصلح طرقها وحفر الآبار حولها وأنشأ لها ميناء بحريا على الساحل ووضع فيها حامية عسكرية كبيرة ، وفي القرن الثامن عشر ضاقت القلعة على السكان فانتشروا خارجها حيث نشأت أحياء وأسواق جديدة وتوسعت المدينة ..

وقد وصفها نعوم شقير عندما زارها عام 1906 وقال عنها (والبلدة قائمة على تلّة وسط حديقة متّسعة من النخيل تمتد شمالاً وجنوباً على شاطئ الخليج مسافة ميل أو أكثر وفي البلدة والحديقة آبار عذبة الماء يُزرع عليها أنواع الخضر والذرة والزيتون لأن التربة خصبة والماء كثير .. أمّا قلعة العقبة فقائمةٌ في جنوب بلدة العقبة لاصقة بها من جهة الشرق وهي على نحو 50 متراً من شاطئ الخليج في سفح جبل عظيم يفصل خليج العقبة عن الحجاز وفي منحدر هذا الجبل كان الحج المصري ينصب خيامه عند نزوله بالعقبة) ..

الرقة .. مدينة هارون الرشيد

في عام 180 هـ / 796 م. قرر الخليفة هارون الرشيد نقل عاصمة دولته من بغداد إلى موقع آخر في قلب الجزيرة الفراتية بين العراق والشام حيث قضى الشطر الثاني من ولايته والذي بلغ ثلاثة عشر عاما وخرج من هناك للحج ثلاث مرات وللجهاد مرتين ولم يذهب فيها إلى بغداد سوى مرتين ، كانت عاصمته الجديدة هي مدينة الرقة التي تقع على الضفة الشمالية لنهر الفرات والتي كانت في الأصل مدينتين منفصلتين فقام بضمهما في مدينة واحدة وأجرى فيها العمران حتى صارت درة زمانها ..

وكان بالموقع قرية سلوقية تسمى كالينكوس وعلى مقربة منها بنى هشام بن عبد الملك منتجعه الصيفي الذي عرف باسم الرصافة وذلك على مقربة من مقر الجيش ، وفي أواخر عهد أبي جعفر المنصور كلف ابنه المهدي بإنشاء مقر عسكري للعباسيين في تلك المنطقة ليمكنه من الإشراف على الشام فخطط نواة مدينة صغيرة أطلق عليها اسم الرافقة ، وكان يفصل بينهما مسافة صغيرة انتشرت فيها الأسواق التي نظمها والي الجزيرة علي بن سليمان العباسي وصارت منطقة جذب تجاري كبير ..

أطلق عليها في البداية اسم (مدينة الرشيد) لكنها عرفت عند الناس باسمها الذي اشتهرت به وهو الرقة وتعني الأرض المستوية اللينة ، وبنى الرشيد فيها المسجد الجامع والذي عرف باسم (مسجد الرشيد) والذي وصفه المقدسي بقوله أنه جامع عجيب كما بنى قصر السلام وكان ضخما تتوزع في جنباته الساحات والبساتين وقصر الأبيض ودار الملك وقصر الخشب لزوجاته وأحاط المنطقة كلها بسور كبير له أبواب ضخمة على طراز معماري فريد تحت إشراف وزيره الفضل بن الربيع ..

وحفر الرشيد حولها نهرا كبيرا وأجرى منه الماء إليها وأنشأ مضمارا لسباقات الخيل ومقرا لإدارة العمليات الحربية ضد الدولة البيزنطية (الصوائف والشواتي) ومقرا لإدارة الثغور الشامية والجزرية ومرفأ على نهر الفرات ليسهل له الوصول إلى بغداد ، وأصبحت الرقة مقصدا للأدباء والشعراء والفقهاء والعلماء حيث كان من أشهر أعلامها أبو عبد الله محمد بن سنان بن جابر البتاني عالم الرياضيات والفلك الذي كلف بالإشراف على مرصد الرقة الفلكي والمعروف بلقب (بطليموس العرب) ..

الرحبة .. مدينة مالك بن طوق العتابي

حظيت قبيلة تغلب بالحضور القوي خلال العصر العباسي وذلك من خلال زعيمها وشيخها مالك بن طوق العتابي حفيد الشاعر العربي المعروف عمرو بن كلثوم حيث كان من كبار ولاة الدولة ومحل ثقة الخلفاء فتولى ولاية الموصل ثم دمشق ثم الأردن كما تولى قيادة الجيش في عهد الرشيد والمأمون ، وهو ابن عم الشاعر المعروف كلثوم بن عمرو العتابي من رجال ديوان الخليفة كما ينتسب لنفس القبيلة أبو العباس بن حمدون مؤسس الدولة الحمدانية وجد سيف الدولة الحمداني والشاعر أبي فراس الحمداني ..

وكانت منازل تغلب في الجزيرة الفراتية ورأى مالك بن طوق ألا يكتفي بالإقطاع الممنوح له حيث كان طموحا فاستأذن من هارون الرشيد أن يبني مدينة في تلك المنطقة فأذن له الخليفة وأمده بما يلزمه لإتمام ذلك حيث كان إنشاء المدن وقتها قاصرا على الخلفاء ، واختار مالك بقعة على ساحل الفرات في أقصى الوادي من ناحية البادية العربية وتقع في منتصف المسافة بين بغداد ودمشق على الطريق المشرف على العراق والشام معا وبنى فيها مدينة أطلق عليها رحبة مالك وعرفت بعد ذلك باسم قلعة الرحبة ..

وعرف عن مالك العتابي الوقار والحكمة مع الكرم الشديد فكان يفتح باب قلعته للمسافرين وعابري السبيل وشيوخ القبائل كما عرف عنه اهتمامه بالأدب والشعر فكان راعيا لاثنين من أشهر شعراء العرب في زمانه وهما أبو تمام حبيب بن أوس الطائي والوليد بن عبيد التنوخي المعروف بالبحتري ، ونتيجة لموقع مدينته المتميز بين الموصل وحلب صارت من بعده موضعا للنزاع بين البويهيين والحمدانيين ثم بين السلاجقة والفاطميين حتى استقرت الأمور فيها أخيرا بعد ضمها إلى دولة عماد الدين زنكي ..

وإثر زلزال ضرب مدن الشام قرر الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي إعادة إعمارها فولى عليها الأمير أسد الدين شيركوه (قبل ذهابه إلى مصر) فقام بتوسعتها حتى صارت أهم محطة للقوافل في المنطقة وظلت تحت حكم أبنائه وأحفاده قرنا من الزمان ، وفي العهد المملوكي تحولت المدينة إلى خط الدفاع الأول ضد هجمات المغول فشهدت أعنف المعارك في ميادين القتال وتحول اسمها تدريجيا عند عامة الناس إلى (الميادين) نسبة لهذه الحروب وهو الاسم الذي عرفت به في العصر الحديث ..

خان يونس .. مدينة الأمير يونس الداوادار

في عام 789 هـ. / 1387 م. قرر السلطان الظاهر سيف الدين برقوق إنشاء قلعة في المنطقة الواقعة على طريق القوافل بين غزة ورفح لخدمة التجار والمسافرين وضمان أمنهم وسلامتهم وكلف بذلك الأمير شرف الدين يونس النوروزي الداوادار فقام بالأمر خير قيام ، بنى قلعة محكمة حصينة متينة البنيان عالية الجدران على هيئة نزل فكانت أشبه بمجمع حكومي كامل تقيم فيه حامية من الفرسان وفيها مسجد تطل مئذنته من فوق سور القلعة وحفر بداخلها بئرا للمياه وأقيمت فيها نزل للمسافرين وإسطبل للخيول وعلى أسوارها الخارجية أربعة أبراج ..

أطلق عليها أولا اسم (قلعة برقوق) لكن بعد بروز أهميتها للمسافرين عمرت ونشأت حولها العديد من الخدمات التموينية والفندقية وتحولت إلى مدينة متكاملة بعد سنوات قليلة فأطلق الناس عليها اسم (خان يونس) حيث كانت كلمة خان تستعمل لوصف الفنادق والإستراحات في ذلك الزمن ونسبت للأمير يونس عرفانا بفضله وتخليدا لذكراه حيث عرف عنه حب العمران فكان من أعماله بالقاهرة قيسارية (أسواق مسقوفة) وربع وقفهما على تربته بقبة النصر وله تربة خارج باب الوزير ومدرسة خارج دمشق وله عدة أحواض سبيل بديار مصر والشام ..

قال عنه ابن حجر (كانت له حرمة وافرة وتغلب عليه محبته لأهل الخير وعمر الخان الكبير الذي بعد غزة في طريق مصر فعظم النفع به وله آثار) ، وقال عنه المقريزي (كان خيرا كثير المعروف صاحب نسك من صوم كثير وصلاة في الليل مع وفور الحرمة وقوة المهابة والإعراض عن سائر الهزل ومحبة أهل العلم والدين وإكرامهم) ، وقال ابن تغري بردي (كان الأمير جليلا مهابا خيرا دينا كثير المعروف صاحب صوم وصلاة عفيفا عن المنكرات والفروج) ، وذكر ابن إياس أنه حضر دروس العلامة ابن خلدون في المدرسة القمحية ..

وكان يونس الدوادار عاقلاً مُدبراً حازماً عليما ببواطن أمور السياسة والحكم فكان من أخص أمراء الظاهر برقوق ومدبر دولته وكاتم أسراره حيث جاء في النقش التأسيسي للمدينة (أنشىء هذا الخان في أيام سيدنا مولانا السلطان الملك سيف الدنيا والدين أبي سعيد برقوق خلد الله سلطانه وشد بالصالحات أركانه .. أوقفه المقر الشريف العالي المولوي الأميري الزعيمي المثاغري الشريف ظهير الملوك والسلاطين والفقراء والمساكين أمير المؤمنين التقي يونس النوروزي الداوادار لمولانا السلطان الملك الظاهر أعز الله تعالى أنصاره وضاعف جزاءه) ..