

تعز .. مدينة الملك المنصور الرسولي
من الناحية الجغرافية تنقسم اليمن إلى إقليمين مختلفين في المناخ والنشاط الاقتصادي وتوزيع القبائل .. المنطقة الجبلية في الشمال وتتوسطه مدينة صنعاء والسهل الساحلي في الجنوب وتتوسطه مدينة عدن ، وفي النصف الأول من القرن السادس الهجري قرر أبو الحسن علي بن محمد الصليحي مؤسس الدولة الصليحية تكليف أخيه عبد الله بإنشاء قلعة حربية على سفح جبل صبر لتكون متوسطة بين الإقليمين وسماها قلعة القاهرة تيمنا بالدعوة الفاطمية ..
وتم بناء القلعة بالقرب من مسجد الجند الذي بناه الصحابي الجليل معاذ بن جبل في القرن الأول الهجري وصارت مركزا عسكريا هاما ، وفي عام 570 هـ سيطر الأيوبيون على اليمن بقيادة تورانشاه بن أيوب نائبا عن أخيه السلطان صلاح الدين وقرر الانتقال للقلعة وجعلها مقر سكنه ومن بعده قام أخوه سيف الإسلام طغتكين بتوسعة القلعة لتصلح للسكن وأحاطها بسور وأنشأ منطقة سكنية بالقرب منها سماها المنصورة وجعلها عاصمة لبلاد المعافر ..
وبعد انتهاء حكم الأيوبيين تمكن الملك المنصور عمر بن رسول مؤسس الدولة الرسولية من توحيد كافة مناطق اليمن تحت حكمه وحول القلعة وما حولها إلى مدينة عامرة بالبساتين والمنازل والمدارس والمساجد ودور الضيافة والقصور والأسواق ومظاهر العمران المختلفة مؤسسا بذلك مدينة تعز والتي صارت عاصمة لدولته في عهد خليفته الملك المظفر يوسف الأول والذي امتد حكمه من ظفار في الساحل العماني وحتى مكة المكرمة في الحجاز ..
واهتم حكام دولة بني رسول بإنشاء المدارس ومنها جامع ومدرسة المظفر والمدرسة المعتبية والمدرسة الأشرفية وكان معظم حكام الأسرة من المتعلمين والمهتمين بالكتابة والتأليف خاصة في مجالات الطب والفلك والزراعة كما كانت مدينة تعز واحدة من أهم مراكز المذهب الشافعي في العالم الإسلامي ، واستمرت نهضة الدولة الرسولية قرابة مائتي عام ازدهرت فيها المدينة حتى صارت ثالث أهم مدينة في اليمن بتوسطها بين صنعاء وعدن ..


جبلة .. مدينة الملكة أروى الصليحية
في عام 455 هـ / 1063 م. دخل علي بن محمد الصليحي الهمداني مؤسس الدولة الصليحية في اليمن إلى مدينة صنعاء وأعلن تبعيتها للخليفة المستنصر بالله الفاطمي في القاهرة ثم كلف أخاه عبد الله بإنشاء عدد من القلاع في الجنوب ليحكم قبضته على البلاد كلها ، ومن ضمن هذه القلاع حصن تم تشييده على مرتفع جبلي بالقرب من مدينة إب وأطلق عليه ذي جبلة والذي صار في عام 458 هـ مقرا لولي العهد الملك المكرم أحمد بن علي الصليحي وزوجته السيدة أروى بنت أحمد الصليحي ..
وبعد تولي الملك المكرم للحكم أوكل إدارة الشئون الداخلية لزوجته نتيجة الانشغال في الحروب فقامت السيدة أروى بالأمر خير قيام حيث حولت ذلك الحصن الصغير إلى مدينة كبيرة عامرة بالعمران والبنيان واتخذتها عاصمة للدولة بعد أن تولت الحكم في أعقاب وفاة زوجها ، وتدريجيا انفردت بالأمر والتدبير وحصلت على تفويض الخليفة الفاطمي وأطلق عليها لقب السيدة الحرة والملكة الصليحية بالإضافة إلى إشرافها على الدعوة الإسماعيلية في كافة بلاد اليمن وعمان والهند ..
حققت خلال حكمها الذي استمر خمسين عاماً نجاحاً باهراً وفريداً نظراً لما عرفت به من حكمة وعدل وثبات وقامت ببناء جامع السيدة أروى بمدينة جبله وهو الجامع الكبير في المدينة وأوقفت الكثير من الأراضي الزراعية على بناء المرافق الخدمية كما أوصلت مياه الشرب النقية إلى كل منازل مدينة جبله عبر ساقية طويلة تمتد إلى أعلى قمم الجبل المطل على المدينة وعملت على توفير مساكن العلماء والمتعلمين وشكلت حلقات العلم في جامع جبلة وجذبت طلبة العلم من مختلف المناطق ..
وقد عملت أروى إِبّان حكمها على تشجيع البناء والعمارة وأولت إِنشاء المدارس والمستشفيات والمساجد اهتمامها الزائد وقامت بتوسعة مسجد صنعاء الكبير وأضافت له الجزء الشرقي ، وبنت دار العز وهو قصر منيف على قمة الجبل به مئات الغرف وأنشأت مكتبة ضخمة جمعت فيها آلاف المخطوطات وشجعت النساء على تعلم الكتابة ونسخ الكتب وكانت محبة للعلم والثقافة وعمرت طويلاً حتى بلغت التسعين من العمر ودفنت في مسجدها بذي جبلة وقبرها إلى اليوم مزار يحكي قصة بلقيس المتجددة ..


زبيد .. مدينة محمد بن زياد الأموي
زبيد هي أول عاصمة لليمن في العصور الإسلامية واستمرت أربعة قرون في عهد الزياديين والنجاحيين ثم جاءت بعدها جبلة التي تأسست في عهد الصليحيين ثم مدينة تعز التي تأسست في عهد الأيوبيين وبني رسول ثم عادت إلى صنعاء في عهد الأئمة الزيديين ، ويرجع تأسيس زبيد إلى عام 204 هـ / 819 م. وذلك على يد محمد بن زياد بن عبد الله بن زياد بن أبيه الأموي وكان في أول أمره من الثائرين على الحكم العباسي ثم وقع أسيرا بيد الخليفة المأمون الذي عفا عنه وقربه ورأى فيه نجابة وعزما ..
وبناء على نصيحة الوزير الفضل بن سهل قرر المأمون توليته أميرا على الجيش العباسي باليمن بصحبة القاضي محمد بن عبد الله التغلبي وذلك لمواجهة ثورة قبائل عك والأشعريين فنزل منطقة الحصيب من تهامة وأسس مدينة زبيد بجوار مسجد الأشاعرة الذي بناه الصحابي الجليل أبو موسى الأشعري في زمن الدعوة النبوية واستمر حكمه فيها أربعين سنة ودام حكم أسرته مائتي عام ، واشتقت المدينة اسمها من وادي زبيد الذي تقع في منتصفه وينسب إلى قبيلة زبيد وهي فرع من سعد العشيرة من مذحج ..
يقول الحضرمي (وكانت زبيد غيظه أي هيجة كثيرة الأشجار يرعون بها الرعاة مواشيهم ويسقون دوابهم من بئر قديم عمر بجواره مسجد مرصوف بالحجارة سمى بالأشاعرة) ، ولذا عمد ابن زياد إلى ترغيب الرعاة في الاستيطان بإعفائهم من الزكاة لمدة سنة ثم قام بتوحيد اليمن وإخضاع القبائل في كيان واحد مستقل لكنه تابع اسميا للدولة العباسية واهتم بنشر المذهب السني ، وبعد أسرة الزياديين تولت أسرة بني نجاح التي حافظت على نفس النهج حتى عمرت المدينة وازدهرت اقتصاديا وثقافيا ..
وأُحصيت المدارس والمؤسسات الثقافية في مدينة زبيد في أواخر القرن الثامن الهجري فبلغت مائتين وبضعاً وثلاثين موضعاً على ما صرح به الخزرجي في القرن التاسع ومن بعده ابن الديبع الشيباني في القرن العاشر ، وصفها ابن بطوطة بقوله (زبيد مدينة عظيمة باليمن وليس باليمن بعد صنعاء أكبر منها ولا أغنى من أهلها واسعة البساتين كثيرة الفواكه من الموز وغيره كثيرة العمارة بها النخل والبساتين والمياه أملح بلاد اليمن وأجملها ولأهلها لطافة الشمائل وحسن الأخلاق وجمال الصور) ..


المكلا .. مدينة الملك المظفر الرسولي
في عام 1271 م. قرر الملك المظفر يوسف بن عمر بن علي بن رسول الغساني بناء ميناء بحري كبير على ساحل بحر العرب بعد أن ازدهرت تجارة الدولة الرسولية في اليمن مع فارس والهند واختار لها موضعا يتوسط المسافة بين عدن وظفار بالقرب من مرسى قديم كان يستعمل لتحميل البضائع منذ عام 1035 م. ، وجعلها مدينة حصينة حيث بنى القلاع حولها والأسوار الضخمة لحمايتها وأطلق عليها في البدء اسم الخيصة أي مكان الاصطياد ثم توسعت بعد ذلك في عهد آل كساد الحضرمية ..
وكان الملك المنصور الرسولي في أول الأمر نائبا عن الأيوبيين في حكم اليمن فلما تولى المماليك في مصر أعلن الاستقلال عنهم وأعلن تبعيته للخليفة العباسي مباشرة ثم تولى ابنه الملك المظفر الرسولي الذي حكم نصف قرن وحد فيها أقاليم اليمن كلها ونشطت فيها التجارة وامتدت دولته من عمان إلى مكة المكرمة وقام بكسوة الكعبة في زمن غزو المغول وكان مثقفا عالي الهمة وله عدة مؤلفات منها في الصناعة كتاب المخترع في فنون من الصنع وفي الطب كتاب المعتمد في الأدوية المفردة ..
وذكر تاريخها بالتفصيل عبد الرحمن السقاف مؤلف كتاب إدام القوت في ذكر بلدان حضرموت فيقول : المكلا اسم دال على مسماه فهو يكلأ السفن من الريح وكان المكلا خيصة صغيرة لبني حسن والعكابر وملجًا تعوذ به سفائن أهل الشحر والواردين إليه من الآفاق عندما يهيج البحر في أيام الخريف لتأمن به من عواصف الرياح لأنه مصون بالجبال بخلاف ساحل الشحر فإنه مكشوف وقد اتخذ الصيادون به أكواخًا ففرضت عليهم العكابر ضريبة خفيفة إزاء استيطانهم بها لأنها حدود أرضهم ..
ثم ازدادت الأكواخ واستوطنها كثير من العكابرة أنفسهم وناس من أهل روكب ويقال إنه في أواخر القرن الحادي عشر أو أوائل الثاني عشر ورد المكلا أحد آل ذي ناخب اليافعيين وهو جد آل كساد وبمجرد ما استقرت به قدمه في المكلا اتجهت همته للتجارة والمضاربة مع أهل السفن ثم اتفق هو وإياهم على شيء يدفعونه إليه برسم الحراسة يعطي العكابرة وبني حسن بعضه ويستأثر بالباقي إلى أن استقوى أمره وضعف أمر أولئك وانشق رأيهم فما زال يتدرج حتى صار أميرًا للمكلا ..