المحلة في عصر المماليك

المنشأة الأميرية

العمران الأكبر في تاريخ المحلة والذي نقلها إلى العصر الذهبي كان في عهد السلطان بيبرس والذي أثبت أنه رجل دولة من الطراز الأول حيث قام في أول عهده بمعاينة المدينة ميدانيا عندما مر بها وهو في طريقه إلى دمياط وقرر بناء دار الحكم وتأسيس المنشأة الأميرية على الضفة الشرقية للنيل ، وعهد بهذه المهمة إلى نائبه على المحلة الأمير والشاعر شهاب الدين أحمد بن جمال الدين أبي الفتح موسى بن يغمور بن جلدك بن بليمان بن سليمان بن عبد الله الياروقي المعروف بلقب اليغموري والذي تولى إمارة الغربية طوال عهد بيبرس.

وكان شجاعا مقداما فاتكا مثل بيبرس فأعاد الأمن إلى نواحي الإقليم وقضى على الفساد كما كان شاعرا وأديبا وراعيا للشعراء وتوفي عام 673 هـ في المحلة الكبرى ، والده هو جمال الدين الياروقي من أكابر أمراء الدولة الأيوبية حيث كانت أسرته تتولى ناحية قوص في صعيد مصر وكان له إقطاع أسسه بجوار سمهود يعرف باسم قرية ابن يغمور ، واستمر جمال الدين في العمل حتى أوائل الدولة الملوكية وترقى حتى وصل إلى منصب نائب السلطنة بالديار المصرية وأشرف على بناء المدرسة الظاهرية بالقاهرة وإعادة تنظيم الري في الدلتا.

قال عنه ابن تغري بردي في كتابه المنهل الصافي : ” أحمد بن موسى بن يغمور الأمير شهاب الدين بن الأمير جمال الدين كان أميراً جليلاً فاضلاً وله معرفة بالأدب وولي الأعمال الغربية فهذبها وأفرط في ذَلِكَ ” ، وقال عنه الكمال الإدفوي في كتابه الطالع السعيد الجامع أسماء نجباء الصعيد : ” أحمد بن موسى بن يغمور بن جلدك السّمهودىّ المحتد ينعت بالشّهاب أمير أديب وله شعر جيّد ، تولّى الغربيّة وكان عنده كرم وشهامة وحدّث بشئ من شعره ، توفّى بالمحلّة يوم الأربعاء رابع عشرين جمادى الأولى سنة ثلاث وسبعين وستّمائة “.      

وذكره صلاح الدين خليل الصفدي في كتابه الوافي بالوفيات فقال : ” أحمد بن موسى بن يغمور الأمير شهاب الدين ابن الأمير جمال الدين أديب فاضل له شعر ، ولي الأعمال الغربية بالديار المصرية فهذبها وقطع وشنق ووسط وأفرط في ذلك وراح البريء بجريرة المفسد إلا أنه هذب تلك الناحية ، مات بالمحلة في سنة ثلاث وسبعين وستمائة أخبرني من لفظه العلامة الحافظ أثير الدين أبو حيان قال : ابن يغمور بن جلدك تولى المحلة نائبا عن السلطان الملك الظاهر وكان يوصف بكرم وكان الأدباء يقصدونه ويمدحونه فيثيبهم وكان له أدب “.

ودار الحكم من الآثار المسجلة حتى اليوم وتقع بالقرب من مسجد المتولي الذي استمد اسمه من كونه يقع بالقرب من مقر متولي الأعمال الغربية ، وكانت وقت بنائها خارج المدينة العربية بالقرب من فرع النيل الأساسي في الأرض الفضاء الممتدة بينها وبين الامتداد الفاطمي في الجنوب كما كانت تطل عبر النهر على مشارف سندفا.

لكن التوترات الدائمة بين العرب والمماليك دفعت سلاطين المماليك فيما بعد للتفكير في البناء بالتوسعة الجديدة للمدينة شرق النيل بعيدا عن شيوخ العرب حيث أوعزوا إلى الكشاف والولاة المتعاقبين بالبناء في المنطقة التي عرفت باسم المنشأة الأميرية لتكون مقرا سكنيا للأعيان والأمراء ، وكانت تقع في الامتداد البري لقرية سندفا من ناحيتها الشمالية بمحاذاة المحلة وتعرف اليوم باسم المنشية القديمة.

وابتداء من عام 840 هـ / 1425 م كانت الضاحية الجديدة قد اكتملت ، وقد عمرت المنشأة الأميرية وازدهرت في زمن قياسي وبنيت فيها القصور والدور والمساجد والأسبلة والحمامات والمشافي وتعتبر المنطقة الشمالية منها دليل على روعة تخطيط المدن الإسلامية القديمة وتنظيم الشوارع والأزقة والحارات ، ثم زادت أهميتها عندما بني فيها مسجد ومدرسة الإمام شمس الدين الكتيلي المعروف بلقب الحنفي.        

وخلال العصر المملوكي المتأخر تحولت إلى مقر فعلي للإدارة ومقرا سكنيا للأمراء المماليك لكن طبيعة النظام الإقطاعي المملوكي وقتها كان يفرض على المماليك إقامة مؤقتة في المحلة حيث التنقل بين الإقطاعيات فلم يستقر من الأمراء أحد في المدينة ، لكن مع بداية العصر العثماني تغيرت الأوضاع وتم منح الأمراء الأتراك والجراكسة وعائلاتهم رسميا حكم المدن بشكل كامل ودائم ومنح الأرياف لشيوخ العرب.

وهكذا شهدت المنشأة الأميرية عددا من الأسر التي استقرت بشكل نهائي في المحلة بعد إقرار نظام الالتزام فعاشوا فيها وعمروها وماتوا فيها واستمرت ذريتهم من بعدهم حتى اليوم حيث صارت المدينة مقرا دائما لهم ، وقد أدى ذلك إلى طفرة عمرانية هائلة وتنافس الأمراء والأعيان على البناء والتوسعة ووقف الأوقاف الخيرية ، ومن أهم آثارهم مساجد جاويش ومراد وبالي وعاصي وسبح الله والكاشف والأمير ، أما البلدة العربية القديمة فقد أطلق عليها الأمراء في كتاباتهم اسم درب العرب.

ورغم الازدهار الاقتصادي الذي تميزت به المحلة في العصر المملوكي إلا أن موقعها الهام جعلها مطمعا لكل ثائر كما أن انفتاحها التجاري على الموانيء الإيطالية جلب لها الأوبئة والأمراض أكثر من مرة ، ومن أشهر هذه الحوادث ثورة القبائل الكبرى في عهد السلطان عز الدين أيبك عندما ثار العرب في الدلتا والصعيد بقيادة الشريف حصن الدين الجعفري اعتراضا على تولي المماليك العبيد سدة الحكم.

حشد الثوار جيشا في الصعيد عند ديروط بهدف السيطرة على البهنسا وجيشا في الدلتا عند سخا بهدف السيطرة على المحلة لكن المماليك نجحوا في هزيمة العرب وشتتوهم في أرياف الدلتا وأجبروهم على التوطن قسرا في القرى خاصة طيء ولواتة ومدلج وعذرة وحلفائهم ، ولم يكن العرب فقط من قاموا بالثورات بل تعرضت المحلة أيضا لهجمات الأمراء المماليك المتنازعين وتكرر ذلك أكثر من مرة.

ويحكي ابن تغري بردي عن أمير مملوكي ثائر في عهد السلطان فرج بن برقوق فيقول : ” وأما يلبغا المجنون فإنه عدى من البحيرة إلى الغربية خوفا من عرب البحيرة ودخل المحلة ونهب دار الكاشف ودار إبراهيم بن بدوي كبيرها وقبض عليه وأخذ منه ثلاثمائة قفة فلوس ثم عدى بعد أيام من سمنود إلى بر أشموم طناح وسار إلى الشرقية ونزل على مشتول الطواحين ومنها إلى العباسة فارتجت القاهرة “.       

وفي عهد السلطان حسن ابتليت المحلة بوباء فتاك حيث يقول ابن تغري بردي : ” وَعظم الوباء بالمحلة حَتَّى أَن الْوَالِي كَانَ لَا يجد من يشكو إِلَيْهِ وَكَانَ القَاضِي إِذا أَتَاهُ من يُرِيد الْإِشْهَاد على وَصيته لَا يجد من الْعُدُول أحدا إِلَّا بعد عناء لقلتهم وَصَارَت الفنادق لَا تَجِد من يحفظها وَعم الوباء جَمِيع تِلْكَ الْأَرَاضِي وَمَات الفلاحون بأسرهم فَلم يُوجد من يضم الزَّرْع وزهد أَرْبَاب الْأَمْوَال فِي أَمْوَالهم وبذلوها للْفُقَرَاء “.

وفي عهد السلطان برسباي انتقل الطاعون الأسود من السفن إلى موانيء الدلتا وهو ذلك الوباء الذي قضى وقتها على ثلث سكان أوروبا ، يقول المقريزي : ” وقد فشا الطاعون في الوجه البحري سيما في النحريرية ودمنهور فمات خلق كثير جدا بحيث أحصى من مات من المحلة زيادة على خمسة آلاف إنسان ومن ناحية صا زيادة على ستمائة إنسان .. وانقطع الوباء من البحيرة والنحريرية وكثر بمدينة المحلة “.  

وفي عهد السلطان جقمق وقعت في المحلة اضطرابات كبرى بسبب الأوضاع الاقتصادية حيث قام الثوار بالهجوم على دار الحكم وأخرجوا الوالي من منزله إلى المسجد ثم قتلوه ، وتمت مواجهة هذه الأعمال من قبل المماليك بالشدة حيث أرسلت بعدها حملات عسكرية إلى المحلة وأجوارها ونتج عنها تغيرات في الولاة والكشاف وشيوخ العرب لكنها تركت قدرا كبيرا من الاحتقان الذي ظهر أثره بعد ذلك في نهاية عهد المماليك وبداية عصر العثمانيين.

وطوال سبعة قرون كاملة ظلت المحلة معزولة عما حولها بسبب رفض شيوخ العرب فيها إقامة جسور موصلة لها حيث كانوا يفضلون التنقل بالمراكب وذلك لرفضهم الاختلاط ببقية القرى وحتى يسهل لهم الدفاع عنها لأنها جزيرة تحدها فروع النيل من كافة نواحيها ، ومع اتساع حركة التجارة تقرر بناء أول جسر فيها عام 1342 م عند قنطرة المدبح ليوصلها بقرية سندفا المجاورة كما طلبوا من السلطة المملوكية ضم المدينتين سويا.

وخلال عصر الولاة كان زعماء القبائل العربية هم المتحكمون في مسار الأحداث مثل يزيد بن الخطاب الكلبي وفهد بن مهدي الحضرمي وعبد العزيز بن وزير الجروي وغيرهم ، فلما جاءت الدولة الفاطمية منحت لهم مزيدا من الصلاحيات وقامت بتوسعة المدينة باتجاه الجنوب وغيرت اسم البلد إلى محلة الكبراء ، وفي عصر الأيوبيين ظلت العلاقة مع شيوخ العرب جيدة حيث تم منحهم مناصب قيادية عرفت باسم إمرة البوق والعلم.

لكن في العصر المملوكي تعقد الأمر مع السلطة المركزية رغم أن المحلة والغربية كانت أكثر انقيادا للماليك من عرب الشرقية والبحيرة ، ورصد المؤرخون تباينا كبيرا حيث حظي بعض شيوخ العرب بمنزلة جيدة وحظي آخرون بالعداء مثال ذلك ما كتبه زين الدين عبد الباسط الحنفي : ” مشيخة الغربية : وفيه في يوم الأربعاء ثاني عشرينه استقرّ في مشيخة عرب الغربية عُمير بن حُميد بن يوسف وانصلح به حال هذا الإقليم ” ، وكانت أول مرة تعين فيها مشيخة العرب بصورة رسمية وذلك في عهد السلطان أحمد بن إينال.               

وذكر عن شيخ آخر هو غيث بن ندى وولده حمزة الذي قاد تمردا شرسا على المماليك فقال : ” غيث بن ندى بن مطر بن نصير الدين الذي تقدّم ذِكر ولده حمزة كان شيخ العربان بجهة من الغربية على ما عرفته وكان شريكًا لولده ثم لما جرى على ولده ما جرى خُلع عليه بأن يتولّى المشيخة على مالٍ وعذّبه ووكّل به لإحضاره فاتفق أن مات في أثناء ذلك وكان شِرّيرًا كثير الفِتَن والفساد أراح اللَّه تعالى منه ومن ولده العباد والبلاد “.           

واضطر المماليك لإرسال حملتهم المعروفة بقيادة أوزبك من ططخ ويشبك الداوادار لإخضاع الغربية ، كما أوقفوا الصراع بين عبد الرحمن بن التاجر شيخ سفط أبي تراب وعبد الله شيخ إبشواي الملق ، وقد كانت مشيخة العرب في عدي وكنانة زمن الأيوبيين ثم الخزاعلة من بني يوسف من سنبس الطائية في زمن المماليك ثم انتقلت إلى بني محارب وزعيمهم حسن بن مرعي زمن العثمانيين وظلت في عائلته حتى مطلع العصر الحديث.

عاصمة الوجه البحري

جاء وصف المحلة الكبرى في العديد من كتب الجغرافيا في العصور الوسطى خاصة في العصر المملوكي حيث كانت عاصمة لوسط الدلتا وتوسع فيها العمران مقترنا بالازدهار التجاري وصارت من المدن الكبرى حيث كانت تقع على فرع كبير من فروع النيل عرف وقتها باسم بحر المحلة ولها ميناء عامر يسهل حركة النقل بين القاهرة ودمياط كما كان لها دور بارز في مقاومة الحملات الصليبية.

وكان السلطان محمد بن قلاوون قد قرر في عام 1316 م فك زمام القطر المصري وإعادة هيكلة الأحواض الزراعية والمدن والقرى فيما عرف باسم الروك الناصري حيث تم إلغاء نظام الكور الكبرى واستبدالها بنظام الأعمال وجعل المحلة عاصمة للأعمال الغربية في عام 1320 م بعد دمج عدد من الكور (المراكز) لتكون معا العمل وهو الأمر الذي ظلت تدور في فلكه التقسيمات الإدارية حتى يومنا هذا.

وقد فصل ذلك المؤرخ والجغرافي ابن دقماق في كتابه الانتصار لواسطة عقد الأمصار فيقول : ” الأعمال الغربية وصقعها زنار المحلة جزيرة قويسنا السخاوية الطمريسية الطندتاوية السمنودية الدنجاوية السنهورية وقصبتها مدينة المحلة ، قال الملك المؤيد عماد الدين إسماعيل صاحب حماه في كتابه تقويم البلدان قال هي من الإقليم الثالث وهي بين النيلين وهي بفتح الميم والحاء المهملة وتشديد اللام ثم هاء ساكنة.

وقال في المشترك لياقوت إنها تعرف بمحلة دقلا بفتح الدال المهملة والقاف والآن تعرف بمدينة المحلة وهي مدينة كبيرة ذات أسواق وهي قصبة إقليم الغربية من الديار المصرية وولايتها قديما تعرف بالوزارة الصغيرة ، قال وفي بلاد مصر نحو المائة قرية يعرف كل منها بالمحلة لكن تتميز بلقب تعرف به أو بنسبة تعرف بها وبهذه المدينة جوامع ومدارس وقياسر وبزازين وفنادق ومنازه وبساتين.

ويشقها نهر من النيل أيام جريته أوله من عند قرية تعرف بطنت فيمر من جهة الغرب نازلا حتى يحاذي شرمساح التي على خليج دمياط ومن فوهته إلى منية غزال في الشرق عشرون ميلا وهي فوهة جامعة لمحاسن شتى وهذا البحر هو الذي جعل الكامل فيه الشواني المنصورة وخرج خلف الفرنج في نوبة المنصورة فكانت الكسرة على الفرنج حتى ضرب المثل بذلك فقيل كل شيء حسبناه إلا بحر المحلة “.

وبعد انتهاء عمل الروك الناصري في عام 1320 م قرر السلطان محمد بن قلاوون جعل المحلة عاصمة لوسط الدلتا وذلك بعد أن أجرى إعادة هيكلة للأقاليم المصرية حيث نتج عن ذلك إلغاء كورة الغربية وإنشاء الأعمال الغربية بعد إضافة كل من السمنودية والدنجاوية وجزء من جزيرة قويسنا إلى الكورة القديمة والتي كانت تضم عددا من الكور الصغيرة في التقسيم الفاطمي وتضم حاليا محافظة الغربية ومحافظة كفر الشيخ والجزء الغربي من محافظة الدقهلية.

وكان السلطان قد أجرى مسحا عاما للديار المصرية تقرر على إثره إبطال أربعة عشر نوعا مختلفة من الضرائب والمكوس فعم الابتهاج بين الناس وصحب ذلك إعادة تقسيم الأراضي الخاصة بالسلطان وإقطاعيات المماليك بصورة عادلة ، يقول المقريزي : ” وفي سنة خمس عشرة وسبعمائة اختار السلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون أن يروك الديار المصرية وأن يبطل منها مكوساً كثيرة ويفضل لخاص مملكته شيئاً كثيراً من أراضي مصر.

وكتب مرسوماً للأمير بحر الدين جيكل بن البابا أن يخرج لناحية الغربية ومعه أعزل الحاجب ومن الكتاب المكين بن فرويته وأن يخرج الأمير عز الدين إيدمر الخطيريّ إلى ناحية الشرقية ومعه الأمير ايتمش المجدي ومن الكتاب أمين الدولة ابن قرموط وأن يخرج الأمير بلبان الصرخدي والقليجي وابن طرنطاي وبيبرس الجمدار إلى ناحية المنوفية والبحيرة وأن يخرج البليلي والمرتيني إلى الوجه القبلي.

وندب معهم كتاباً ومستوفين وقياسين فساروا إلى حيث ذكر فكان كل منهم إذا نزل بأوّل عمله طلب مشايخ كل بلد ودُلَلائِها وعدولها وقضاتها وسجلاتها التي بأيدي مقطعيها وفحص عن متحصلها من عين وغلة وأصناف ومقدار ما تحتوي عليه من الفدن ومزروعها وبورها وما فيها من ترايب وبواق وغرس ومستبحر وعبرة الناحية وما عليها لمقطعيها من غلة ودجاج وخراف وبرسيم وكشك وكعك وغير ذلك من الضيافة.

فإذا حرّر ذلك كله ابتدأ بقياس تلك الناحية وضبط بالعدول والقياسين وقاضي العمل ما يظهر بالقياس الصحيح وطلب مكلفات تلك القرية وغنداقها وفضل ما فيها من الخاص السلطاني وبلاد الأمراء وإقطاعات الأجناد والرزق حتى ينتهي إلى آخر عمله ، ثم حضروا بعد خمسة وسبعين يوماً وقد تحرّر في الأوراق المحضرة حال جميع ضياع أرض مصر ومساحتها وعبرة أراضيها وما يتحصل عن كل قرية من عين وغلة وصنف “.        

وقد عرفت المحلة الكبرى في العصور الإسلامية باسم الوزارة الصغرى وذلك بسبب أهميتها الإدارية حيث كانت في أول الأمر مقرا عسكريا لإدارة الوجه البحري ثم عاصمة الولاية الأهم فيها بعد أن تم ضم الكور المختلفة في نظام الأعمال ، وكانت الأعمال الغربية تضم اليوم أجزاء كبيرة من محافظات الغربية والمنوفية وكفر الشيخ والدقهلية في المنطقة المحصورة بين فرعي دمياط ورشيد فكانت من أغنى الولايات وأكثرها عرضة للمطامع المختلفة أثناء فترات الاضطرابات والشدائد العظمى.

ومن أهم الكتب التي تناولت تاريخ المحلة الكبرى وموقعها الإداري والعسكري كتاب صبح الأعشى في صناعة الإنشا الذي كتبه واحد من أهم كبار الموظفين في الدولة المملوكية وهو أبو العباس شهاب الدين أحمد بن علي بن أحمد القلقشندي ثم القاهري الفزاري نسبة إلى قبيلة فزارة الغطفانية العربية ، والقلقشندي نسبة لمسقط رأسه قرية قلقشندة من أعمال القليوبية ، وهو كتاب مختص بالتنظيمات الإدارية والمالية وكذلك المكاتبات الرسمية بالإضافة إلى فصول متعددة في التاريخ والجغرافيا من واقع السجلات.

تحدث القلقشندي عن ولاية الغربية وعاصمتها مدينة المحلة الكبرى فيقول : ” العمل الثاني الغربيّة : وهو مصاقب للمنوفية من جهة الشمال ويمتدّ إلى البحر الملح بين مصبي النيل إلا ما هو من عمل المزاحمتين على فرقة النيل الغربية من الشرق ، وهو عمل جليل القدر عظيم الخطر به البلاد الحسنة والقرى الزاهية والبساتين المتراكبة وغير ذلك وفي آخره مما يلي بحر الروم موقع ثغر البرلّس ، ويندرج فيه ثلاث أعمال أخر كانت قديمة وهي القويسنيّة والسّمنّودية والدّنجاوية ، ومقرّ ولايته مدينة المحلّة.                   

قال في « المشترك » : بفتح الميم والحاء المهملة وتشديد اللام ثم هاء في الآخر وتعرف بالمحلّة الكبرى وقد غلب عليها اسم المحلة حتّى صار لا يفهم عند الإطلاق إلا هي ويقال لها محلة الدّقلا (بفتح الدّال المهملة والقاف) ، وهي مدينة عظيمة الشأن جليلة المقدار رائقة المنظر حسنة البناء كثيرة المساكن ذات جوامع ومدارس وأسواق وحمّامات ، وهي تعادل قوص من الوجه القبليّ في جلالة قدرها ورياسة أهلها ويفرق بينهما بما يفرق به بين الوجه القبلي والوجه البحري من الرطوبة واليبوسة “.

وفي العصر الأيوبي والمملوكي تحولت المحلة الكبرى إلى مقر إداري للولاة وأيضا مركز القيادة العسكرية حيث يجب أن يتولاها أمير كبير يعرف بلقب أمير طبلخانة وهي رتبة عسكرية تسمح لصاحبها بامتلاك إقطاع كتيبة من الجنود وتدق الطبول بين يديه وتعلق على بابه ، يقول القلقشندي : ” أمراء الطبلخاناه وهي سبع ولايات بالوجهين القبليّ والبحريّ فأما الوجه القبليّ ففيه أربع ولاة من هذه الرتبة الأوّل والي البهنسى وهي أقرب ولاة الطبلخاناه بهذا الوجه الآن إلى القاهرة ، الثاني والي الأشمونين. 

الثالث والي قوص وإخميم وهو أعظم ولاة الوجه القبليّ حتّى إنه يركب في المواكب بالشّبّابة السلطانية أسوة النوّاب بالممالك الرابع والي أسوان ، وأما الوجه البحريّ ففيه أربعة ولاة من هذه الرتبة : الأوّل والي الشرقية وهو والي بلبيس الثاني والي منوف ، الثالث والي الغربية وهو والي المحلة الكبرى ورتبته في الوجه البحريّ في رفعة القدر تضاهي رتبة والي قوص في الوجه القبليّ ، الرابع والي البحيرة وهو والي دمنهور وقد تقدّم أن الإسكندرية قبل أن تستقرّ نيابة كان بها وال من أمراء الطبلخاناه ” ، ثم صاروا ثمانية بعد إضافة والي أسوان في وقت لاحق.                 

أما في العصر الفاطمي فيقول القلقشندي عن الغربية : ” القسم الثاني من أرباب الوظائف بالدولة الفاطمية ما هو خارج عن حضرة الخلافة وهو صنفان : الصنف الأوّل النّوّاب والولاة ، واعلم أن مملكتهم كانت قد انحصرت في ثلاث ممالك فيها نوّابهم وولاتهم : المملكة الأولى « الديار المصرية » وهي التي كانت قد استقرّت قاعدة ملكهم ومحطّ رحالهم وكان بها أربع ولايات : الأولى ولاية قوص وكانت هي أعظم ولايات الديار المصرية وواليها يحكم على جميع بلاد الصعيد وربما ولّي بالأشمونين ونحوها من يكون دونه.

الثانية ولاية الشّرقية وكانت دون ولاية قوص في الرتبة وكان متوليها يحكم على عمل بلبيس وعمل قليوب وعمل أشموم ، الثالثة ولاية الغربية وكانت دون ولاية الشرقية في المرتبة وكان متوليها يحكم على عمل المحلّة وعمل منوف وعمل أبيار ، الرابعة ولاية الإسكندريّة وهي دون الغربية في الرتبة وكان متوليها يحكم على أعمال البحيرة بأجمعها ، قال ابن الطوير : وهؤلاء الأربعة كان يخلع عليهم من خزانة الكسوة بالبدنة وهو النوع الذي يلبسه الخليفة في يوم فتح الخليج ” ، وتحت هؤلاء الأربعة بقية الولاة وسائر الموظفين.

الثورة الكبرى في المحلة

اندلعت الثورة في المحلة يوم الأحد 25 رمضان عام 854 هـ الموافق 10 نوفمبر عام 1450 م وذلك في عهد السلطان المملوكي جقمق ، وكان الدافع لها سوء الأحوال الاقتصادية وكثرة مصادرات المماليك للأموال وفرض أنواع مختلفة من المكوس والضرائب ، لكن السبب المباشر الذي فجر الأوضاع كان تعيين شهاب الدين أحمد الزيني واليا على المحلة وكان فاسدا مرتشيا يرتكب المظالم ويجاهر بالقبائح ولا يراعي حالة الناس المعيشية.

وكان يستند في نفوذه على أخيه زين الدين يحيى بن عبد الرازق الزيني القبطي الظاهري الأستادار المعروف بالأشقر والذي كان من كبار رجال الدولة في عهد السلطان جقمق حيث كان يتولى عدة منصب في وقت واحد وهي ناظر الديوان المفرد وهو الإقطاع الخاص بالسلطان ومنصب الأستادار والذي يتولى الإشراف على بيوت السلطان ونفقاته ثم أضيف إليه منصب محتسب القاهرة ، وكان معروفا عنه تدرجه في المناصب عن طريق الرشوة والبرطلة وانتهت حياته في السجن في عهد السلطان قايتباي الذي صادر كل أمواله.

وقد بدأت الثورة في المحلة من على منابر المساجد ثم انتهت إلى مهاجمة بيت الوالي وإخراجه عاريا إلى المسجد وضربه بالعصيان ثم قتله ، وكانت ثورات المدن في عهد المماليك الجراكسة أمر متكرر مثلما حدث في دمياط والإسكندرية وحدث في بعضها قتل للولاة أو نوابهم ، لكن ثورة المحلة كانت مختلفة لأنها حظيت بتعاطف ودعم كبير من كافة فئات الناس في القاهرة حيث اصطف العوام لتحية زعماء الثورة المقبوض عليهم وعلت الهتافات ضد الأستادار وأعوانه.

ورفض القضاة طلب السلطان بمحاكمة المتهمين والذين كان من ضمنهم الإمام الشيخ ولي الدين المحلي ، وارتجت القاهرة وأصيب الأستادار بالذعر واحتمى بالسلطان الذي اضطر لمداراة الأمر حتى لا تستفحل الأمور وتنتقل الثورة إلى القاهرة فاكتفى بحبس زعماء الثورة وأصدر تعليماته بمنع حمل السلاح والتحذير من محاولة رجم الأستادار ، وجمع القضاة ثانية وطلب منهم عدم التكلم في الأمر حتى هدأت الأمور ثم قام السلطان بإطلاق المحبوسين وإعادتهم إلى المحلة معززين مكرمين بشفاعة الشيخ محمد بن عمر الطريني.

ويعلق الدكتور أحمد صبحي منصور على تلك الواقعة في دراسة له حول علاقة الصوفية بالمماليك فيقول : ” وقد تأثر أغلب فقهاء العصر بالتصوف ومع ذلك تلمح في بعضهم جانبا من الثورية في مقابل الظلم ، وواضح إباء فقهاء الريف وقوة صلتهم بالناس هناك وعدم تعاونهم مع السلطة ووقوفهم ضد ظلمها مما أوقع المماليك في وجل فتصرفوا بالشدة ، ولم يكن الحال بين القاهريين أقل منه في الريف بدليل مقتهم للأستادار وعمله بثوار المحلة ، ونذكر قضاة جقمق بالخير لأنهم لم يوافقوا السلطان على هواه وقد عرف بقتل خصومه باتهامهم بالكفر “.    

وجاء تفصيل أحداث الثورة في كتاب التبر المسبوك في ذيل السلوك وذلك في الفصل الخاص بأحداث عام 854 هـ حيث يقول السخاوي : ” شهر رمضان أوله الخميس ، في يوم الجمعة سادس عشره ويوافقه سادس عشري بابه لبس السلطان القماش الصوف الملون وألبس الأمراء المقدمين على العادة ، وفي يوم الأحد خامس عشريه كان قتل شهاب الدين أحمد أخي الزين الأستادار من أمه ، وشرح قضيته باختصارأن المشار إليه لما كثر ظلمه وتعرضه للأقوات وغيرها في هذه الأيام اليابسة وتجاهره بكل قبيح فلم تحتمل العامة فيه ذلك.

وقدر أن الشيخ الواعظ ولي الدين أحمد بن محمد بن أحمد بن عبد الرحمن المحلي والد شمس الدين محمد صهر الغمري توجه إلى الله تعالى عقب قراءة البخاري في الجامع وأكثر من الاستغاثة والانتصار بالله على الظلمة ومن جملتهم المذكور ، فضج من حضر بذلك وارتفعت أصواتهم بالدعاء عليه بل وصعدوا المنابر فكبروا وأعلنوا.

ثم نزلوا فتوجهوا إليه بصندفا محل سكناه وقد تبعهم من الغوغاء والخلق من لا يحصيهم إلا الله فأخرجوه من بيته بعد نهبهم منه ما يفوق الوصف وضربوه ضربا زائدا وأدموا رأسه واستصحبوه معهم إلى جامع المحلة وهو عريان ماش في وسطه إزار ، فلما وصلوا الجامع ضرب بالعصي والمطارق على دماغه بحيث تخلى وسقط وصاروا يسحبونه برجليه ورأسه من إفريز الجامع فما كان أسرع من موته غير مأسوف عليه.

وجاء الخبر بذلك فأرسل الزيني أعوانه فاحتاطوا بجماعة من أهل المحلة وضربوا آخرين وفاز الكثير منهم بنفسه وفروا ، وكان القدوم بالممسوكين في يوم السبت ثامن الشهر الذي يليه فبرز الأستادار إلى شبرا للقائهم وأمر بجماعة منهم فضربوا بين يديه بالمقارع وأركب نحو عشرة منهم بعضهم على الجمال وبعضهم على الحمير أو الخيل ومن جملتهم الخطيب المذكور والبدر بن مجاهد وأحد المذكورين عبد الغني بن قطورا.

وهرع الناس لرؤيتهم بقنطرة الحاجب ثم تحت الربع ظاهر بابي زويلة وتألموا بسببهم وأعلنوا بسب الأستادار ولعنه بحيث إنه خاف على نفسه ولم يصعد يوم الأحد تاسعه القلعة وهو مخيف بجمع كثير من الحرسية والزعر والمماليك ، ومع هذا فما سلم من السب واللعن والدعاء عليه في غالب الأماكن التي يمر بها بل أرادوا رجمه وتزايد جمعهم فبادر وطلع القلعة من باب الدرفيل فحمل إلى السلطان وحكى له ما قاسى فتغيظ ورام الركوب على العوام بنفسه.

ثم استدعى بالقضاة واستفتاهم في ذلك فما وافقه أحد عليه ثم طلب الغرماء فادعى عليهم عند الشافعي ثم أرسل ببعضهم إلى الوالي ليعزرهم وأودعهم السجن ورسم بالنداء بالمنع من حمل السلاح والرجم وعدم الخوض فيما لا يعنيهم ففعل ذلك بين يدي القضاة وغيرهم ، وسكن الأمر بعض سكون إلى أن كان في يوم الأحد ثامن ذي القعدة وصل الشيخ محمد بن الشيخ عمر الطريني من المحلة وطلع إلى السلطان فشفع في الجماعة المسجونين فقبل شفاعته وأطلقهم “.

وزعيم هذه الثورة رجل صدع بالحق ولم يخش في الله لومة لائم وهو صاحب المسجد المعروف باسم مسجد ولي الدين الموجود حاليا في شارع العباسي القديم ، الإمام ولي الدين أحمد بن محمد المحلي الشافعي ، وله قصة طويلة سابقة مع السلطان جقمق حيث جهر على منبره بالنقد لكثير من منكرات عصره فتمت الوشاية به واعتقله وسجنه في بيمارستان (مستشفى) القاهرة حتى تبين الأمر وعرف السلطان الحقيقة وأصدر تعليماته بتصحيح الأوضاع ونقش ذلك على جدارية لا زالت موجودة في مسجد المتولي حتى اليوم.

قال عنه السخاوي في كتابه الضوء اللامع لأهل القرن التاسع : ” أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن ولي الدّين الْمحلى الشَّافِعِي الْخَطِيب الْوَاعِظ وَالِد مُحَمَّد صهر الغمري ، أَخذ عَن الْوَلِيّ بن قطب والبرهان الكركي وَغَيرهمَا وَقدم الْقَاهِرَة فَقَرَأَ على شَيخنَا البُخَارِيّ وعَلى الْعلم البُلْقِينِيّ وَمن قبلهمَا على جمَاعَة ، وَحج مرَارًا وَرغب فِي الانتماء للشَّيْخ الغمري فزوج وَلَده لإحدى بَنَاته وابتنى بالمحلة جَامعا وخطب بِهِ بل وَبِغَيْرِهِ وَوعظ وَكَانَ رَاغِبًا فِي التَّحْصِيل زَائِد الْإِمْسَاك مَعَ ميله إِلَى الْأَمر بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْي عَن الْمُنكر.

وَقد سجنه الظَّاهِر جقمق بالبيمارستان وقتا لكَونه أنكر الشخوص الَّتِي بقناطر السبَاع واستتباع النَّاس رقيقهم مَعَ تكليفهم بِمَا لَعَلَّهُم لَا يطيقُونَهُ من الجري خلف دوابهم وَكَثْرَة الربوع الَّتِي يسكنهَا بَنَات الخطا حَيْثُ لم يفهم حَقِيقَة مُرَاده بل ترْجم لَهُ عَنهُ بِأَنَّهُ يروم هدم قناطر السبَاع والربوع وَمنع اسْتِخْدَام الرَّقِيق فَقَالَ هَذَا جُنُون ، وَكَذَا شهره مَعَ غَيره الزين الاستادار من الْمحلة إِلَى الْقَاهِرَة على هَيْئَة غير مرضية لكَونه نسب إِلَيْهِ الإغراء على قتل أَخِيه ، وَبِالْجُمْلَةِ كَانَ سليم الْفطْرَة مَاتَ فِي شعْبَان سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ وَورثه أحفاده وَغَيرهم لكَون وَلَده مَاتَ فِي حَيَاته رَحمَه الله وإيانا “. 

وقال عن ابنه : ” مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عبد الرَّحْمَن الشَّمْس بن ولي الدّين الْمحلي الشَّافِعِي صهر الغمري وَيعرف بصهر الغمري وبابن ولي الدّين ، ولد بالمحلة وَنَشَأ فحفظ الْقُرْآن والمنهاج وَعرضه وَقدم الْقَاهِرَة فَقَرَأَ على شَيخنَا البُخَارِيّ وَكَذَا قَرَأَ على الْعلم البُلْقِينِيّ وَسمع على جمَاعَة من المسندين وَتردد للنَّاس وخطب بِجَامِع أَبِيه وَغَير ، وَكَانَ بارعا فِي الْمِيقَات تَلقاهُ عَن ابْن النقاش مَعَ مُشَاركَة فِي الوثائق وَنَحْوهَا وَعمل مجموعا فِيمَا يحرم وَيُبَاح من السماع أَطَالَ فِيهِ ثمَّ اخْتَصَرَهُ وَلم يكن بالماهر ، وَقد أَخذ الْمِيقَات عَنهُ جمَاعَة وَمَات فِي حَيَاة أَبِيه لَيْلَة رَابِع عشرى شعْبَان سنة ثَمَان وَسِتِّينَ عَن إِحْدَى وَأَرْبَعين سنة رَحمَه الله وإيانا “.   

            

      

مساجد آل الطريني

من أشهر العائلات التي تركت آثارا في المحلة الكبرى أسرة آل الطريني والتي خرج منها عدد كبير من العلماء والشيوخ والمتصوفة طوال العصر المملوكي ، وقد ذكر علي باشا مبارك أن الجد الأكبر للعائلة وهو شهاب الدين يوسف بن محمد الطريني قد حضر إلى المحلة من قرية طرينة المجاورة في العصر الأيوبي وكان من كبار أعيان المدينة وتجارها ومن أصحاب الأوقاف على المساجد والشيوخ.

وقد جاء في شذرات الذهب والضوء اللامع ذكر لعدد كبير من أحفاده من أهل العلم والصلاح منهم شهاب الدين أبو العباس أحمد بن علي بن يوسف الطريني المحلي المتوفي عام 813 هـ ، وهو فقيه ومحدث تولى نظارة بعض الأوقاف وأشرف على عدد من المدارس وكان مقربا من الأمراء ، وهو صاحب مسجد الطريني الكبير المعروف حاليا باسم جامع المتولي وهو أكبر مساجد المحلة الأثرية.

ذكره ابن حجر في كتاب إنباء الغمر فقال : ” أحمد بن علي بن يوسف المحلي المعروف بالطريني الملقب بمشمش ، سمع الكثير بقراءة شيخنا العراقي من العرضي ومظفر الدين العسقلاني وغيرهما ، وحدث باليسير وأجاز لي ، وكان شاهدا في شؤون المفرد ومباشرا في بعض المدارس ، وكان ساكنا خيرا ؛ مات في جمادى الأولى “.

وقال عنه السخاوي في الضوء اللامع : ”  أَحْمد بن عَليّ بن يُوسُف الشهَاب أَبُو الْعَبَّاس الْمحلي وَيعرف بالطريني ويلقب مشمش ، كَانَ يخْدم أَوْلَاد القونوي ورافقهم فِي السماع صُحْبَة الزين الْعِرَاقِيّ على العرضي لمشيخة الْفَخر وَغَيرهَا وعَلى المظفر بن الْعَطَّار والمحب الخلاطي وَأبي الْحرم القلانسي وَآخَرين مِنْهُم أَبُو طَلْحَة الحراوي سمع عَلَيْهِ فضل الْعلم للمرهبي وَعبد الْقَادِر بن أبي الدّرّ الْبَغْدَادِيّ سمع عَلَيْهِ من سنَن أبي دَاوُد وَحدث باليسير سمع مِنْهُ الْفُضَلَاء وَمِمَّنْ سمع مِنْهُ الْعِزّ الْحَنْبَلِيّ وَابْن خَاله الشهَاب أَحْمد بن عبد الله والشمني.

قَالَ شَيخنَا أجَاز لي وَهُوَ مِمَّن كَانَ يحضر عِنْدِي درس الْقبَّة البيبرسية لما وليته سنة ثَمَان وَثَمَانمِائَة ، وَكَانَ شَاهدا فِي شؤون الْمُفْرد ومباشرا فِي بعض الْمدَارِس وَعند بعض الْأُمَرَاء سَاكِنا خيرا سَمِعت أَصْحَابنَا يثنون عَلَيْهِ ، وَمَات فِي أول جُمَادَى الأولى وَقيل ثَانِي ربيع الأول سنة ثَلَاث عشرَة ، ذكره فِي الْقسم الثَّانِي من مُعْجَمه وَنسبه كَمَا هُنَا وَكَذَا فِي أنبائه ، وَأما فِي الأول فَقَالَ : أَحْمد بن يُوسُف بن عَليّ بن مُحَمَّد ، وَكَذَا رَأَيْته فِي غير مَا مَوضِع وَهُوَ الصَّوَاب وَكَذَا هُوَ فِي عُقُود المقريزي “.

ومنهم فقيه المالكية بالمحلة سراج الدين عمر بن محمد الطريني المحلي والمتوفي عام 802 هـ وهو فقيه فاضل زاهد عرف بالعلم والصلاح وله كتاب كبير في تعبير الرؤيا ، وهو والد كل من أبي بكر ومحمد وهما من كبار الشيوخ في المحلة ، ومن أبناء محمد كل من عمر ومحمد وعبد الله بن محمد ومن الأسرة محب الدين بن عثمان بن محمد وأخوه تقي الدين وجميعهم من أهل العلم والصلاح والتقوى.

وأشهرهم هو العلامة زين الدين أبو بكر بن عمر بن محمد الطريني المحلي المالكي المتوفي عام 827 هـ بالمحلة وهو صاحب المسجد المعروف باسمه في صندفا والذي يعرف باسم الطريني الصغير ، قال عنه صاحب شذرات الذهب : ” الشيخ الفاضل المعتقد كان صالحا ورعا حسن المعرفة بالفقه قائما في نصر الحق وله أتباع وصيت كبير وتوفي في حادي عشر ذي الحجة وقد جاوز الستين “.                                  

وجاء في الضوء اللامع : ” وصار المشار إليه بتلك النواحي علماً وديناً وورعاً وزهداً وصلاحاً ترك أكل اللحم قبل موته بأعوام حين حدث النهب والإغارة على البهائم ونحوها تورعاً بل كان لا يقبل من أحد شيئاً البتة وقنع بما يقيم به أوده من زريعة مع مزيد الاقتصاد في قوته وملبسه ، وأحواله مشهورة مأثورة ولو قبل من الناس عطاياهم لكنز ما لا يوصف “.

وقال عنه المقريزي أن شفاعاته لا ترد وأنه كتب بخطه المليح عدة كتب وأنه كان يتمثل كثيرا بقوله  : وما حملوني الضيم إلا حملته .. لأني محب والمحب حمول.

وذكر الأبشيهي في المستطرف وصفا بليغا لوفاة شيخه أبي بكر الطريني حيث يقول  : ” وممن صحبته وانتفعت بصحبته وفاضت الخيرات علي ببركته سيدي الشيخ الإمام العالم العامل أبو المعالي وأبو الصدق أبو بكر بن عمر الطريني المالكي قدس الله سره وروحه ونور ضريحه كان أوحد زمانه في الزهد والورع قامعاً لأهل الضلال والبدع وله أسرار ظاهرة وبركات متواترة .

قد أطاع أمره الخلائق عجماً وعرباً وانتشر ذكره في البلاد شرقاً وغرباً وأتت الملوك إلى بابه واختاروا أن يكونوا من جملة أصحابه ما أتاه مكروب إلا فرج الله كربته ولا طالب حاجة إلا قضى الله حاجته كان محافظاً على النوافل ملازماً للفرض وكان أكثر أكله من المباح من نبات الأرض لم يمتع نفسه في الدنيا بالمآكل والمشارب اللذيذة بل قيل : إنه غضب على نفسه مرة فمنعها شرب الماء شهوراً عديدة.

وكان رضي الله عنه كثير الشفقة والحنو على أصحابه نصوحاً لجميع خلق الله من أعدائه وأحبابه يدخل عليه أعدى عدوه فيقبل ببشره وبره عليه فيخرج عنده وهو أحب الناس إليه كما قال بعضهم : [ من الطويل ] وإني لألقى المرء أعلم أنه .. عدوي وفي أحشائه الضغن كامن .. فأمنحه بشرى فيرجع قلبه .. سليماً وقد ماتت لديه الضغائن ، وكانت حملة أهل زمانه عليه وأحوالهم في كل أمر راجعة إليه وكنت كثيراً ما أسمعه يتمثل بهذا البيت : [ من الطويل ] وما حملوني الضيم إلا حملته .. لأني محب والمحب حمول.

وكان رضي الله عنه كثير المصافاة عظيم الموافاة شأنه الحلم والستر لم يهتك حرمة مسلم ولا فضحه وما استشاره أحد في أمر الا أرشده إلى الخير ونصحه ، صحبته رضي الله عنه نحو خمس عشرة سنة فكأنها من طيبها كانت سنة ما قطع بره يوما واحدا عني حتى كنت أظن أن ليس عنده أخص مني وكان ذلك فعله مع جميع أصحابه قاطبة بيض الله وجهه في القيامة وبلغه من فضل ربه مآربه ، وكان رضي الله عنه فقيها في مذهب الإمام مالك إمام كبير لم ير له في زمانه من شبيه ولا نظير وله في علم الحقيقة أقوال وكم رأينا له من مكاشفات وأحوال ولو تتبعت مناقبه لا تسع الكلام ولكني أقول كان أوحد عصره والسلام.

عاش رضي الله عنه نيفا وستين سنة وكان الناس في زمانه في عيشه راضيه وأحوال حسنة ،  وكان رضي الله عنه كثير الأمراض والأسقام حصل له في آخر عمره ضعف شديد أقام به نحو سنة ثم تزايد مرضه في العشر الأول من ذي الحجة الحرام فلما كانت ليلة الحادي عشر اشتد به الأمر واحتضر ولم يزل في النزع الى ثلث الليل الأول من الليلة المذكورة ثم توفي رحمه الله تعالى سعيدا حميدا في ليلة الجمعة حادي عشر ذي الحجة الحرام سنة سبعة وعشرين وثمانمائة.

ولما أخبر الناس بوفاته عظم مصابه على المسلمين ووقع النوح والبكاء والأسف في أقطار البلدان حتى طوائف المخالفين للملة من النصارى وغيرهم وصاروا يبكون ويتوجعون ويتأسفون على فراقه وكيف لا وهو إمام العصر علامة الدهر حق فيه قول القائل : [ من الكامل ]  حلف الزمان ليأتين بمثله .. حنثت يمينك يا زمان فكفر.

رضي الله عنه ورضي عنا به ونفعنا ببركته في الدين والدنيا والآخرة فشرعوا في تجهيزه وغسله فكنت ممن حضر غسله ولكن لم يكن ذهني معى في تلك الساعة لما جرى علينا من المصيبة بفقده كيف لا وقد كان والدا شفوقا وبارا محسنا عشوقا ، فلما انتهى غسله رضي الله عنه جاء القضاة والنواب والكشاف والولاة وحملوه على أعناقهم ومضوا به إلى جامع الخطبة بالمحلة فضاق بهم الجامع على سعته وضاقت بهم الشوارع والسكك والطرقات من كثرة الناس فلم ير أكثر جمعا ولا أغزرها دمعا من ذلك اليوم وهذا دليل على أنه كان قطب أهل زمانه.

قال الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه بيننا وبينهم الجنائز يريد بذلك اجتماع الناس والله أعلم ، فارتفع نعشه على أعناقهم وتقدم للصلاة شيخه العارف بالله تعالى سيدي سليمان الدواخلي نفعنا الله ببركته ودفن يوم الجمعة بزاويته التى أنشأها بسندفا مع والده الشيخ الإمام العالم العلامة مفتي المسلمين سراج الدين أبي حفص عمر الطريني المالكي في قبر واحد نفعنا الله ببركته وجعل الجنة منقلبه ومثواه وحشرنا وإياه في زمرة سيد الأولين والآخرين محمد خاتم النبيين وأفضل المسلمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ونسأله لنا التوفيق والإعانة وأن يمتع المسلمين بطول بقاء أخيه سيدنا ومولانا الشيخ شمس الدين محمد الطريني أدام الله أيامه للمسلمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين  ” ، انتهى.

وتبلغ مساحة جامع المتولي في المحلة الكبرى قرابة فدانين من الأرض أي ما يتجاوز ثمانية آلاف متر مربع وهو بذلك أكبر مسجد في محافظة الغربية ، وقد بني على الطراز المملوكي حيث يتوسطه الصحن وحوله الأروقة والبوائك وإيوان القبلة والمأذنة ذات الأدوار المتعددة وتنتهي في الأعلى بتصميم على هيئة خوذة ولا زال يحتفظ بتصميمه الأصلي حتى اليوم.

والمسجد يعبر عن تطور العمران في المحلة في ذلك العصر حيث بناء المسجد الكبير في العادة يتم في وسط البلدة ، وكان لكل قسم من المحلة مسجده الذي يعبر عن التوسع العمراني ، في المدينة العربية  وهي سوق اللبن حاليا يتوسطها جامع العمرية المبني في زمن الفتح الإسلامي وفي الجزء الفاطمي وهو حي الوراقة حاليا يتوسطه جامع الغمري القبلي المبني في عصر الفاطميين.

وفي القرية القديمة وهي حي صندفا حاليا بني مسجد أبي الفضل الوزيري بجوار ضريح ابن الأسعد فضائل ، وفي المدينة المملوكية  وهي المنشية القديمة حاليا بني مسجد الحنفي على يد الشيخ ابن كتيلة بعد ذلك ، وعندما تكامل العمران واتصلت الأقسام الاربعة بني جامع المتولي ليكون في وسطهم جميعا وفي منتصف المدينة الجديدة وظل مسجدها الجامع حتى العصر الحديث.

وقد بني المسجد على يد الشيخ أبي العباس أحمد بن علي بن يوسف الشهاب المحلي المعروف بلقب الطريني الكبير وألحق به مدرسة للعلوم الإسلامية وارتاده كبار العلماء والشيوخ ثم زاد الاهتمام به في العصور اللاحقة فبني بجواره صهريج وحمام وعدد من الملحقات الخدمية كما كان قريبا من دار الحكم المملوكية التي بناها بيبرس واشتق اسمه من وظيفة متولي نيابة الحكم.

ومن ضمن الأثار الهامة في المسجد المنبر الخشبي الذي يحتوي على حشوات مطعمة بالعاج والصدف و نقش علي بابه العبارة التالية : ” أنشأ هذا المنبر الشريف الفقير إلى الله تعالى إبراهيم مراوح في شهر جمادى الآخرة سنة 1127 هـ .. رعى الله من أنشأ من الناس منبرا .. به الخير الجليل إماما .. إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه “.

وهناك لوحة رخامية مستطيلة الشكل في مسجد المتولي نقش عليها بالحفر البارز أبيات شعرية تؤرخ أعمال ترميم المسجد التي تمت عام 1275 هـ على يد شرمي بك ومحمد الجمل وهذا نصها : ” جاد الهنا بكرامة المتولي والعز أقبل والغنا متولي .. وقواعد الحرم العتيق تشدت بوجود من هو بالعلا متحلي .. هو بيكنا قد سمي بمحمد شرمي له نور المنى متجلي .. رتب السعادة والسيادة قد سعت لجنابه العالي بأعظم ذل .. ولأنه جاء السرور مؤرخا جاد العنا بكرامة المتولي ” ، وفي خلفيتها نص أوامر سلطانية من القرن التاسع بإبطال بعض السلوكيات ما يدل على إعادة استخدام اللوحة وهذا نص ما كتب على الوجه الأقدم  :

” الحمد لله الذي بنعمه تتم الصالحات لما تفضل الله على المسلمين بأيام الملك الظاهر جقمق أبي سعيد أجرى الله سعده على أجمل العوايد وقطع بعزمه أيدي المفاسد رسم بإبطال ما في المحلة الكبرى من الفواحش التي توالت تترا وهي ضمان القطن الذي أخذ به ضامن محلة البرج عليه وعلى البلاد المجاورة وخذيت الحسنة المأخوذة من الصعاليق والمتسببين وما يستأديه الكشاف والولاة من المحرمات والمزر واللبن والحشيش وبناة الخطي والمسجونين فتضاعفت بذلك الأدعية بدوام أيامه العادلة الطاهرة الله معينه وناصره ومن سعى في إعادة ذلك كان عليه لعنة الله والملائكة وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم وذلك في شهر شعبان سنة اثني وأربعين وثمان ماية من الهجرة النبوية والحمد لله وحده “. 

    

مساجد الغمري والحنفي

الإمام شمس الدين الغمري : هو الإمام الفقيه العارف بالله سيدي أبو عبد الله شمس الدين محمد بن عمر بن أحمد الواسطي الأصل الغمري ثم المحلي الشافعي ، ولد بمنية غمر سنة 786 هـ تقريبا ونشأ بها ثم قدم القاهرة فأقام بالجامع الأزهر وأخذ الفقه والميقات وتصوف ووعظ وقطن المحلة الكبرى ووسع المدرسة الشمسية وأحكم بناءها ثم عمر بالقاهرة بخط سوق أمير الجيوش جامعا وجدد عدة مواضع بكثير من الأماكن وتوفي في آخر يوم من شعبان سنة 849 هـ في المحلة الكبرى ودفن في جامعه.

من تصانيفه : القواعد الصوفية ـ الحكم المشروط في بيان الشروط جمع فيه شروط أبواب الفقه ـ منح المنة في التلبس بالسنة في أربع مجلدات ـ الوصية الجامعة ومحاسن الخصال في بيان وجوه الحلال ـ والنصرة في أحكام الفطرة ـ الانتصار لطريق الأخبار ـ الرياض المزهرة في أسباب المغفرة ، وقد نزل الإمام بالمسجد الفاطمي بالمحلة وأسس فيه مدرسته فعرف باسم مسجد الغمري القبلي للتفرقة بينه وبين مسجد الغمري البحري (التوبة) الذي بناه ابنه الشيخ أبو العباس الغمري.

جاء في كتاب البدر الطالع بمحاسن من بعد القرن السابع لمحمد بن علي الشوكاني اليمني : ” ثم لازم التجرد والعبادة وصحب غير واحد من مشايخ الصوفية كالشيخ عمر الوفائي الحائك والشيخ أحمد الزاهد وكان غالب انتفاعه بالثاني وأذن له بالإرشاد ، وانتفع الناس به واشتهر صيته وكثر أتباعه وذكر له أحوال وكرامات وجدد عدة مساجد وأنشأ عدة زوايا مع صحة العقيدة والمشي على قانون السلف والتحذير من البدع والإعراض عن بني الدنيا وعدم قبول ما يهدى إليه “.

وقال عنه الحافظ السخاوي في الضوء اللامع : ” كان جل انتفاعه بأحمد الزاهد فإنه فتح له على يديه وأقبل الشيخ بكليته عليه حتى أذن له في الإرشاد وتصدى لذلك بكثير من النواحي والبلاد وقطن في حياته وبإشارته المحلة ووعده بالزيارة له فيها اهتماما بشأنه فما قدر وأخذ بها مدرسة يقال لها الشمسية فوسعها وعمل فيها خطبة وانتفع به أهل تلك النواحي وكذا ابتنى بالقاهرة بطرف سوق أمير الجيوش بالقرب من خوخة المغازلي جامعا كانت الخطة مفتقرة إليه “.                        

الإمام أبو العباس الغمري : ” وكان السلطان قايتباي يتمنى لقاءه فلم يأذن له ” ، هكذا حكى الإمام عبد الوهاب الشعراني عن أستاذه في كتابه الطبقات ، إنه ذلك الشيخ الجليل المهيب شهاب الدين أبو العباس أحمد بن محمد بن عمر الغمري المحلي ، واحد من أعلام القرن التاسع الهجري ومن أئمة العلم والتصوف ومن رواد حركة العمران في مصر حيث ينسب له بناء وتجديد أكثر من خمسين مسجد في مصر أشهرها في القاهرة وميت غمر والمحلة الكبرى.

والده هو الشيخ أبو عبد الله محمد بن عمر الواسطي الشافعي المعروف بلقب الشمس من علماء المحلة وينسب إليه المسجد المعروف فيها باسم جامع الغمري القبلي (الجامع الفاطمي) حيث جعل فيه مدرسته (المدرسة الشمسية) ودفن في ضريح ملحق به ، وقد قام ابو العباس بعمل زيادة في مسجد والده في المحلة والقاهرة كما بنى مسجدا جديدا في المحلة وهو مسجد الغمري البحري المعروف بجامع التوبة والذي يشتهر بمأذنته الفريدة المميزة.

وكانت المحلة قد توسعت في العصر الفاطمي ونشأ لها امتداد عمراني باتجاه الجنوب بداية من عهد العزيز بالله الفاطمي وهو حي الوراقة حاليا حيث بنى القاضي المسلم بن علي بن الحسن الرصعني مسجدا بتكليف من الوزير الأفضل بن بدر الجمالي في عهد الخليفة الآمر بأحكام الله الفاطمي وذلك على عادة الفاطميين في إنشاء مساجد لنشر مذهبهم ، وفي العصر المملوكي نزل الشيخ الغمري والد أبي العباس إلى المحلة واستقر في هذا المسجد.

أما مسجد التوبة وهوالغمري البحري فقد كان في الأصل منطقة خالية خربة تحوي أنقاضا عتيقة يرتادها أهل المنكرات والفساد على نحو يزعج الأهالي فقرر الشيخ أن يزيل ذلك كله ويبني بدلا منه مسجدا نسب إليه لكن بسبب التغير الحادث في المنطقة أطلق عليه الناس اسم مسجد التوبة كناية عن إزالة المنكر ، وقد مات الشيخ أبو العباس ودفن في مسجده بالقاهرة وخلفه عدد كبير من العلماء والمتصوفة من أبنائه وأحفاده حتى العصر الحديث.

وقد أفرد السخاوي في كتاب الضوء اللامع لأهل القرن التاسع ترجمة وافية له ذكر فيها كل ذلك وقال : ” وانتدب لجامعي أَبِيه بالمحلة والقاهرة فَزَاد فيهمَا زيادات كَثِيرَة بل وَأَنْشَأَ بِطرف الْمحلة جَامعا كَانَ موطنا للْفَسَاد وَلذَا عرف بِجَامِع التَّوْبَة ، إِلَى غَيره من الْأَمَاكِن الَّتِي جددها أَو أَنْشَأَهَا وَله فِي كل ذَلِك همة عالية مَعَ فهم جيد وتدبر وَسُكُون وعقل وَاحْتِمَال ومزيد تواضع بِحَيْثُ اشْتهر اسْمه وارتقى صيته ، وَحج غير مرّة وجاور “.                

الإمام ابن كتيلة الحنفي : من أشهر مساجد المحلة الكبرى جامع الحنفي والذي ينسب إلى الولي الأشهر شمس الدين محمد الحنفي البكري صاحب القصص المشهورة مع سلاطين المماليك فرج بن برقوق والمؤيد شيخ وسيف الدين ططر والأشرف برسباي حيث كانوا من جملة أتباعه ومريديه ، وكان الشيخ دائم التنقل بين المحلة والقاهرة حيث كان يجلس للوعظ في جامع الطريني الكبير المعروف بالمتولي.                       

وقد بني المسجد على يد زوج ابنته وتلميذه الشيخ شمس الدين محمد بن عمر بن كتيلة الدميري الحنفي والذي تزوج السيدة أمة الله بنت محمد الحنفي وأنجب منها العلامة الشيخ أبو الغيث محمد والذي خلف والده وجده في العلم والتصوف معا ، وقد أنشىء المسجد في الامتداد العمراني الذي صنعه الأمراء المماليك في شرق المحلة وهي المنطقة المعروفة باسم المنشية القديمة.

وقد جاءت ترجمته في كتاب الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي حيث قال : ” مُحَمَّد بن عمر بن عبد الله الشَّمْس أَبُو عبد الله الدَّمِيرِيّ ثمَّ الْمحلي الْمَالِكِي ثمَّ الشَّافِعِي وَيعرف بِابْن كتيلة بِضَم الْكَاف ثمَّ مثناة مَفْتُوحَة وَآخره لَام ، نَشأ وتفقه بالولي الْعِرَاقِيّ وَالشَّمْس بن النصار نزيل القطبية وَغَيرهمَا وَأخذ الْفَرَائِض والحساب وَغَيرهمَا عَن نَاصِر الدّين البارنباري.

وَصَحب مُحَمَّد الْحَنَفِيّ وصاهره على ابْنَته فأنجب مِنْهَا وَلَده أَبَا الْغَيْث مُحَمَّدًا وانتفع بِصَاحِبِهِ أبي الْعَبَّاس السرسي وابتنى لنَفسِهِ بالمنشية الْمُجَاورَة للمحلة جَامعا وَأقَام بِهِ يدرس ويفتي ويربي المريدين بل ويعظ يَوْمًا فِي الْأُسْبُوع مَعَ الْمُحَافظَة على الْخَيْر وَالْعِبَادَة والأوراد وَالذكر واشتماله على مزِيد التَّوَاضُع وَحسن السمت وبهاء المنظر وإكرام الوافدين وتقلله من الدُّنْيَا.

وَقد لَقيته بجامعه الْمَذْكُور وَسمعت من فَوَائده وَعمر طَويلا وضعفت حركته إِلَى أَن مَاتَ قبيل الْفجْر من لَيْلَة الْخَمِيس خَامِس ربيع الثَّانِي سنة سبع وَثَمَانِينَ ، وفاحت إِذْ ذَاك فِيمَا قيل ريح طيبَة مَلَأت الْبَيْت لَا تشبه رَوَائِح الطّيب وَلَا الْمسك بل أعظم بِكَثِير رَحمَه الله وإيانا ” ، وهو صاحب الضريح الملحق بالمسجد والذي بنيت فوقه القبة علم 1130 هـ على يد الأمير جلبي.

عائلة الشيشيني

من أشهر العائلات التي تولت الحكم والقضاء في المحلة الكبرى فترة طويلة هي عائلة الشيشيني ، والجد الأكبر للعائلة هو القاضي جمال الدين مُحَمَّد بن وجيه بن مخلوف بن صَالح بن جِبْرِيل بن عبد الله الشيشيني ، وترجع أصوله إلى قرية شيشين أو شيشين الكوم وهي الآن قرية الشين مركز قطور بمحافظة الغربية ورحل إلى المحلة الكبرى في القرن الثامن الهجري وهي عائلة من أرباب الصناعة والتجارة ومن أهل العلم والرياسة.

ومن أبنائه سراج الدين عمر قاضي المحلة المتوفي عام 786 هـ وفخر الدين عثمان إمام الجامع الأقمر بالقاهرة والمتوفي عام 799 هـ ، وحفيده قطب الدين محمد بن عمر والمتوفي عام 855 هـ وابنه القاضي شهاب الدين أحمد بن محمد المتوفي عام 841 هـ وحفيده الفقيه الحنبلي نور الدين علي بن أحمد المتوفي عام 870 هـ وابنه العلامة شهاب الدين أحمد بن علي الشيشيني إمام الحنابلة في الحجاز وقاضي الحرمين المتوفي عام 919 هـ.

وقد اشتهر أبو البركات قطب الدين الشيشيني الذي كان جامعا للمحاسن فهو التاجر والفقيه والرحالة والمتصوف والشاعر وكتب عنه السخاوي قائلا : ” وَهُوَ من بَيت كَبِير بالمحلة كَانَ وَالِده خَليفَة الْحَاكِم بهَا كتب لَهُ التقي السُّبْكِيّ فِي عرضه للتّنْبِيه عَلَيْهِ سنة سبع وَعشْرين سراج الدّين بن القَاضِي الصَّدْر الرئيس الْعدْل الْأمين ابْن الْحَاج المرحوم وجيه الدّين وَكَذَا وصف أَبُو حَيَّان جده بالشيخ الْفَقِيه الْعَالم الْعدْل الرضي رَحِمهم الله وإيانا “.                

ومن نفس العائلة المحدث والفقيه عبد الله بن مُحَمَّد بن خلف بن وَحشِي الشيشيني المحلي المولود في المحلة عام 749 هـ والمتوفي في دمشق ، وقاضي المحلة ولي الدين أبو اليمن محمد بن قاسم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد القادر الشيشيني المقرب من السلطان برسباي والمتوفي عام 851 هـ ، وقاضي دمياط أبو البركات كَمَال الدّين محمد بن قطب الدّين عبد اللطيف الشيشيني الْمحلي المتوفي عام 884 هـ .

ومن أبناء عمومتهم فقيه الشافعية عز الدين أَبُو الْيمن بن الْبَهَاء أبي الْبَقَاء بن السراج أبي جَعْفَر الشيشيني والمتوفي بالمحلة عام 839 هـ ، والقاضي فتح الدين محمد بن عمر الشيشيني المحلي المتوفي عام 837 هـ وحفيده قاضي قضاة الغربية عزيز الدين محمد بن الجلال بن فتح الدين المتوفي عام 894 هـ وابنه قاضي المحلة جلال الدين محمد الشيشيني الذي تولى القضاء عام 889 هـ ، رحمهم الله وإيانا وأجزل لهم المثوبة.

أبو البركات قطب الدين الشيشيني المحلي محتسب القدس : قال الحافظ السخاوي في كتابه الضوء اللامع : ” مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن وجيه بن مخلوف بن صَالح بن جِبْرِيل بن عبد الله القطب أَبُو البركات السراج بن الْجمال بن الْوَجِيه الشيشيني القاهري الشَّافِعِي ابْن أُخْت النُّور عَليّ بن عبد الرَّحْمَن الهوريني ووالد أَحْمد ، ولد فِي الْعشْر الْأَخير من الْمحرم سنة ثَلَاث وَسِتِّينَ وَسَبْعمائة بشيشين الكوم بمعجمتين مكسورتين بعد كل مِنْهُمَا تَحْتَانِيَّة من أَعمال الْمحلة بَينهمَا قدر نصف يَوْم وَنَشَأ بهَا فحفظ بعض الْقُرْآن ثمَّ انْتقل صُحْبَة أَبِيه إِلَى الْمحلة فأكمله.

وتحول بعد مَوته إِلَى الْقَاهِرَة وَذَلِكَ فِي سنة إِحْدَى وَتِسْعين فَأَقَامَ عِنْد عَمه الْفَخر عُثْمَان وتدرب بِهِ فِي الشُّرُوط وَأخذ عَنهُ الْفَرَائِض والحساب وَحفظ عِنْده التَّنْبِيه وَعرضه على البُلْقِينِيّ وَابْن الملقن وأجازا لَهُ واشتغل فِي الْفِقْه على النُّور بن قَبيلَة وَغَيره وَسمع من الزين الْعِرَاقِيّ من أَمَالِيهِ وَمن الهيثمي وخاله الهوريني وَمِمَّا سَمعه عَلَيْهِ جلّ الشفا والشرف بن الكويك بل كَانَ لَهُ بِهِ مزِيد اخْتِصَاص بِحَيْثُ أَنه كتب مَعَه حِين سَافر لدمشق إِلَى التَّاج بن الشريطي بِالْوَصِيَّةِ عَلَيْهِ فَبَالغ فِي إكرامه فِي آخَرين.

وتكسب بِالشَّهَادَةِ وتنزل فِي صوفية الخانقاه القوصونية بالقرافة حِين كَانَ خَاله شيخها وأسكن عِيَاله هُنَاكَ فَلَمَّا مَاتَ خَاله حَولهمْ وَحج مرَارًا مِنْهَا مرّة رافق فِيهَا شَيخنَا وَاجْتمعَ مَعَه فِي الْيمن بالمجد الفيروزابادي وجاور بضع سِنِين وَمِنْهَا مرّة من بِلَاد الصَّعِيد ركب الْبَحْر من بَريَّة الْقصير بعد قوص وَلَقي بِمَكَّة التَّاج عبد الْوَهَّاب بن الْعَفِيف اليافعي وَحمل عَنهُ أَشْيَاء من تصانيف أَبِيه كروض الرياحين وَغَيرهَا مِمَّا كَانَ هُوَ الأَصْل فِي انتشارها بِالْقَاهِرَةِ وَعقد مجْلِس الْوَعْظ بِالْيمن وَمَكَّة وَغَيرهمَا.

وزار أَيْضا بَيت الْمُقَدّس والخليل وَكَانَ يَحْكِي أَنه ولي فِي بَيت الْمُقَدّس الْحِسْبَة بعناية الشهَاب بن الهائم ، وَكَذَا سَافر لدمشق كَمَا أُشير إِلَيْهِ وللثغرين وَغَيرهمَا فِي التِّجَارَة .. اجْتمعت بِهِ كثيرا وَسمعت كثيرا من فَوَائده .. وَكَانَ محبا فِي الْعلم لَدَيْهِ فَضِيلَة ذَا نظم متوسط بارعا فِي الْفَرَائِض والحساب جيد المحاضرة عَظِيم الاهتمام بالموافاة لأَصْحَابه والتودد إِلَيْهِم محبا فِي لِقَاء الصَّالِحين رَاغِبًا فِي التَّبَرُّك بآثارهم ، مَاتَ فِي أَوَاخِر رَمَضَان سنة خمس وَخمسين وَدفن بتربة البيبرسية عِنْد وَلَده وَعَمه عُثْمَان “.                 

محمد بن بهاء الدين الشيشيني  : مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد وجيه بن مخلوف بن صلح بن جِبْرِيل بن عبد الله الْعِزّ أَبُو الْيمن بن الْبَهَاء أبي الْبَقَاء بن السراج أبي جَعْفَر الشيشيني ثمَّ الْمحلي الشَّافِعِي ، ولد فِي لَيْلَة حادي عشر الْمحرم سنة إِحْدَى وَسبعين وَسَبْعمائة بالمحلة وَنَشَأ فحفظ الْقُرْآن فِيهَا وَفِي شيشين والعمدة والمنهاج الفرعي وألفية النَّحْو وغالب الشاطبية وَعرض على جمَاعَة أجَازه مِنْهُم البُلْقِينِيّ وَابْن الملقن والأبناسي والدميري فِي آخَرين وَبحث فِي الْمِنْهَاج على أَبِيه وَالثَّلَاثَة الْأَخيرينِ والعماد الباريني القَاضِي والبهاء أبي الْفَتْح البُلْقِينِيّ وَسمع من نَاصِر الدّين مُحَمَّد بن أَحْمد بن فوز القَاضِي بالمحلة ، وَحدث أَخذ عَنهُ بن فَهد وَغَيره وَمَات بالمحلة فِي لَيْلَة رَابِع عشرى شعْبَان سنة تسع وَثَلَاثِينَ.

عزيز الدين بن الجلال الشيشيني  : مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن عمر بن وجيه عَزِيز الدّين بن الْجلَال بن فتح الدّين بن السراج الشيشيني الْمحلي الشَّافِعِي ، ولد سنة سِتّ عشرَة وَثَمَانمِائَة وَمَات أَبوهُ وَهُوَ صَغِير فَكَفَلَهُ جده وَحفظه الْقُرْآن والتنبيه وَعرض على جمَاعَة واشتغل على جده والشهاب العجيمي وَالْعلم البُلْقِينِيّ وَغَيرهم ، وَحج وناب فِي الْمحلة ثمَّ اسْتَقل بهَا أشهرا فِي أَيَّام الْمَنَاوِيّ وَاقْتصر على النِّيَابَة بأماكن هُنَاكَ إِلَى أَن تَركهَا لوَلَده حِين كف ، وَذكر بِمَعْرِفَة الصِّنَاعَة مَعَ فَضِيلَة بِالْجُمْلَةِ واستمرار للتلاوة ولجزء من كِتَابه ، وَقدم وَهُوَ كَذَلِك الْقَاهِرَة فَنزل عِنْد ابْن عَمه الشهَاب الشيشيني فدام أشهرا ثمَّ مَاتَ فِي سنة أَربع وَتِسْعين وَدفن بحوش البيبرسية عِنْد أَقَاربه رَحمَه الله.

جمال الدين بن محمد الشيشيني  : عبد الله بن مُحَمَّد بن خلف بن وَحشِي الْجمال الشيشيني الْمحلي ثمَّ الْمصْرِيّ نزيل المزة ، ولد سنة تسع وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة بالمحلة وَنَشَأ بهَا ثمَّ ارتحل إِلَى دمشق فقطنها وأدب أَوْلَاد الشهَاب بن الجوبان عبد الْكَافِي وَغَيره وَسمع بهَا من الْمُحب الصَّامِت وَأبي بكر بن يُوسُف الخليلي وَأبي هُرَيْرَة بن الذَّهَبِيّ وَمِمَّا سَمعه عَلَيْهِ مشيخة بن بنت الجميزي وَأحمد بن مُحَمَّد بن المهندس وَأبي حَفْص البالسي وَجَمَاعَة وَأَجَازَ لَهُ آخَرُونَ ، وَحدث وَكَانَ من أَصْحَاب الشَّيْخ مُحَمَّد السطوحي وَينزل بتربة الْقطَّان من المزة.

ولي الدين بن قاسم الشيشيني  : أبو اليمن محمد بن قاسم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد القادر الشيشيني الأصل المحلي الشافعي المعروف بابن قاسم ‏ ، ‏وكان فيه خفة روح ودعابة ونادم الملك الأشرف برسباي ونالته السعادة وكان أولًا يلي الحكم بالمحلة وغيرها فلما تسلطن الملك الأشرف قربه ونادمه لصحبة كانت بينهما قديمة ثم استقر شيخ الخدام بالحرم النبوي إلى أن طلبه الملك الظاهر جقمق وصادره ثم نادمه بعد ذلك إلى أن مات‏ ، ‏وكان دينًا خيرًا إلا أنه كان مسيكًا جماعًا للأموال وكان سمينًا جدًا لا يحمله إلا الجياد من الخيل‏ ،‏ توفي في يوم الجمعة سابع عشر صفرعام 851 هـ.

عائلة الأبشيهي المحلي

عائلة جليلة عاشت خلال القرن الثامن والتاسع الهجري حفلت بالأدباء والعلماء ترجع أصولها إلى قرية إبشواي من أعمال المحلة وهي حاليا إبشواي الملق مركز قطور غربية ، واستوطنت المحلة الكبرى حيث تولى أبناؤها أعمال القضاء فيها ، ومن أشهر أبنائها الأديب والكاتب بهاء الدين أبو الفتح محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي المحلي (790 ـ 852 هـ) صاحب المؤلفات الأدبية وعلى رأسها الكتاب الشهير المستطرف في كل فن مستظرف.

وابنه هو قاضي المحلة أبو النجا شمس الدين مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَنْصُور بن أَحْمد بن عِيسَى بْن الْخَطِيب الْبَهَاء بن الشهَاب الأبشيهي الْمحلي الشَّافِعِي ، ولد سنة ثَمَان عشرَة وَثَمَانمِائَة تَقْرِيبًا بالمحلة وَحفظ بهَا الْقُرْآن وَصلى بِهِ والْعُمْدَة وأربعي النَّوَوِيّ والتبريزي والملحة وَعرض على الْجَمَاعَة واشتغل قَلِيلا وناب فِي الْقَضَاء عَن أوحد الدّين العجميمي وَكَانَ عفيفا بارعا فِي الصِّنَاعَة مَاتَ قبيل الثَّمَانِينَ بِيَسِير ولشدة بياضه وَحسن شاكلته كَانَ يلقب خروفا رَحمَه الله.

ومن قرابتهم قاضي المحلة مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد بن مُوسَى فتح الدّين أَبُو الْفَتْح الأبشيهي الْمحلي وَالِد الشهَاب أَحْمد والبدر مُحَمَّد ، نَشأ فحفظ الْقُرْآن وَغَيره وتفقه بالولي بن قطب وَأخذ الْفَرَائِض عَن نَاصِر الدّين البارنباري وتميز فِيهَا وناب فِي قَضَاء الْمحلة وصاهر قاضيها الشهَاب بن العجيمي على ابْنَته وَحج وجاور فِي سنة خمس وَخمسين وَسمع هُنَاكَ على التقي بن فَهد وَأبي الْفَتْح المراغي ، مَاتَ بالمحلة فِي شَوَّال سنة ثَمَان وَسِتِّينَ عَن ثَمَان وَسِتِّينَ سنة.

ومن أولاده مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن مُوسَى الْبَدْر أَبُو الْبَقَاء بن فتح الدّين أبي الْفَتْح الإبشيهي الْمحلي الشَّافِعِي ، مَاتَ فِي أَوَاخِر سنة اثْنَتَيْنِ وَثَمَانِينَ أَو أَوَائِل الَّتِي قبلهَا وَكَانَ فَاضلا خيرا أعرض عَن النِّيَابَة فِي قَضَاء بَلَده وَكَانَ مَعَ أَبِيه حِين مجاورته بِمَكَّة فِي سنة خمس وَخمسين فَسمع مَعَه على أبي الْفَتْح المراغي والتقي بن فَهد ، وابنه جلال الدين أبو الفضل محمد الذي ولد بالمحلة وانتقل إلى القاهرة ليعمل بالتدريس في المدرسة الأشرفية.

وابنه الثاني وهو الأشهر شهاب الدين أَحْمد بن مُحَمَّد بن عَليّ بن أَحْمد بن مُوسَى بن فتح الدّين أبي الْفَتْح الأبشيهي الْمحلي الشَّافِعِي نزيل الْقَاهِرَة وسبط الشهَاب بن العجيمي الْوَاعِظ ، ولد بالمحلة وَنَشَأ بهَا فحفظ الْقُرْآن وكتبا وَأخذ بِبَلَدِهِ عَن يَعْقُوب الرُّومِي فِي النَّحْو وَالصرْف وَعَن خَاله أوحد الدّين فِي الْفِقْه ، انتقل للقاهرة وعمل بالقضاء ودرس بالمدرسة الأشرفية وَمَات بعد تعلله فِي تَاسِع عشر ذِي الْقعدَة سنة اثْنَتَيْنِ وَتِسْعين وَدفن بحوش صوفية سعيد السُّعَدَاء.

بهاء الدين الأبشيهي : من أعلام المحلة الكبرى في القرن التاسع الهجري واحد من أهم أدباء العصور الوسطى وهو بهاء الدين أبو الفتح محمد بن أحمد بن منصور الأبشيهي المحلي مؤلف الكتاب المشهور المستطرف في كل فن مستظرف ، ولد في قرية إبشواي من أعمال الغربية في عام 1388 م ثم انتقل إلى المحلة بصحبة أسرته وهو في العاشرة من عمره وقضى فيها بقية حياته حتى توفي في عام 1448 م ، رحل إلى القاهرة مرات عديدة وتتلمذ على يد الإمام جلال الدين البلقيني ورحل إلى مكة للحج وكان خطيبا معروفا في المحلة الكبرى.

وقد جمع في كتابه الكثير من القصص الطريفة والأمثال الشعبية والأساطير المتداولة بالإضافة إلى الأقوال المأثورة والحكايات الهزلية مع بعض المعلومات التاريخية والجغرافية فنقل لنا صورة حية عن الثقافة السائدة في عصره ، وهو متأثر بكتاب « العقد الفريد » لابن عبد ربه وأخذ كثيراً مما كتبه الزمخشري في كتابه « ربيع الأبرار » والدميري في كتابه « حياة الحيوان » وابن سبع في كتابه « شفاء الصدور » إضافة إلى مصادر أخرى ذكر أنه أخذ عنها ، كتب عنه السخاوي في كتابه « الضوء اللامع لأهل القرن التاسع » فقال  :

” مُحَمَّد بن أَحْمد بن مَنْصُور بن أَحْمد بن عِيسَى الْبَهَاء أَبُو الْفَتْح بن الشهَاب أبي الْعَبَّاس الأبشيهي الْمحلي الشَّافِعِي وَالِد أبي النجا مُحَمَّد ، ولد سنة تسعين وَسَبْعمائة بأبشويه وَحفظ بهَا الْقُرْآن وَصلى بِهِ وَهُوَ ابْن عشر ثمَّ التبريزي فِي الْفِقْه والمحلة فِي النَّحْو وعرضهما على الشهَاب الطلياوي نزيل النحرارية وَغَيره ، وَحج سنة أَربع عشرَة وَدخل الْقَاهِرَة غير مرّة وَسمع بهَا دروس الْجلَال البُلْقِينِيّ وَولي خطابة بَلَده بعد وَالِده وتعانى النّظم والتصنيف فِي الْأَدَب وَغَيره وَلكنه لعدم إلمامه بِشَيْء من النَّحْو يَقع فِيهِ وَفِي كَلَامه اللّحن كثيرا.

وَمن تصانيفه المستطرف من كل فن مستظرف فِي جزءين كبار وأطواف الأزهار على صُدُور الْأَنْهَار فِي الْوَعْظ فِي مجلدين ، وَشرع فِي كتاب فِي صَنْعَة الترسل وَالْكِتَابَة وتطارح مَعَ الأدباء ، ولقيه ابْن فَهد والبقاعي فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ بالمحلة وكتبا عَنهُ قَوْله ، وَقد عمل الْعلم البُلْقِينِيّ ميعادا بالنحرارية إِذْ كَانَ قَاضِي سنهور عَن أَخِيه : وعظ الأنام إمامنا الحبر الَّذِي .. سكب الْعُلُوم كبحر فضل طافح .. فشفى الْقُلُوب بِعِلْمِهِ وبوعظه .. والوعظ لَا يشفي سوى من صَالح ، مَاتَ بعد الْخمسين قَرِيبا من قتل أخي الأستادار “.   

           

عائلة ابن تاج الرئاسة

ابن تاج الرئاسة هو اللقب الذي عرف به واحد من أئمة القراءات في المحلة الكبرى في القرن الثامن الهجري وهو الإمام محمد بن عبد الناصر الزبيري والذي اشتهرت عائلته بالغنى والثراء وعرفت بالتبحر في علوم القرآن ومنهم أبوه وجده ، ونبغ من أولاده قاضي قضاة مصر عبد الرحمن بن محمد الزبيري المعروف ويرجع نسبهم إلى الصحابي الجليل الزبير بن العوام.

وقد ذكر نسبه تقي الدين المقريزي في كتابه درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة وهو يتحدث عن ولده القاضي عبد الرحمن فقال : ” ورأيت بخطه ترجمة أبيه وأنه محمد بن عبد الناصر بن هبة الله ابن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الناصر بن محمد بن عبد الناصر بن محمد بن عبد المنعم بن طاهر بن أحمد بن مسعود بن داود بن يوسف بن عبد الله بن الزبير بن العوام.

وأنه كان كثير العبادة يؤثر بماله ويقرأ المصحف بالجامع وأنه قرأ القراءات على أبيه أبي الفتح عبد الناصر بقراءته على أبيه أبي الفرج هبة الله بقراءته على أبي القاسم عبد الرحمن بن عبد المجيد بن إسماعيل بن حفص الصفراوي وأنه قدم القاهرة وأخذ عن جماعة ومات بالمحلة يوم السبت خامس عشر ربيع الأول سنة تسع وأربعين وسبع مائة بالطاعون ، وقد أطال في ترجمته “.                           

وذكر المقريزي موطنهم الأول في منطقة وسط الدلتا وهي قرية عرفت في أول الأمر باسم محلة الزبير ثم تغير في العصور اللاحقة إلى الزبيرية ، وكان موطن الأسرة الأول في الفسطاط منذ الفتح الإسلامي ثم في عام 65 هـ استولى مروان بن الحكم على مصر فقرر طرد عائلة الزبير وأنصاره وعدد من المعارضين له من القبائل الأخرى إلى وسط الدلتا بعيدا عن العاصمة.

وقد ذكرها محمد رمزي في كتاب القاموس الجغرافي للبلاد المصرية وأنها تأسست على يد الزبيريين المنفيين في القرن الأول الهجري وظلت قائمة حتى فيضان القرن الحادي عشر الهجري فقام أهلها ببناء ثلاث قرى جديدة في موضعها وهي كفر الهواشم وكفر حشاد وكفر شماخ مركز كفر الزيات حاليا وسميت على أسماء العشائر واحتفظت باسمها القديم في الدفاتر الحكومية.

ومن أعلام المحلة الكبرى في العصر المملوكي قاضي القضاة تقي الدين المحلي ، قال عنه ابن حجر العسقلاني : ” عبد الرحمن بن محمد ابن عبد الناصر ابن تاج الرئاسة المحلي ثم الزبيري القاضي تقي الدين ، والزبيرية نسبة إلى قرية من قرى المحلة على ما أخبرني به شيخنا سراج ابن المُلقن ولد سنة أربع وثلاثين تقريباً واشتغل قديماً ووقع على القُضاة وفاق فى معرفة السجلات وتولى قضاء الشافعية استقلالاً أكثر من سنتين أولها فى جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وحمدت مباشرته “.

وفصل ذلك في كتاب إنباء الغمر فقال : ” وصاهر القاضي موفق الدين الحنبلي على ابنته وكان قد سمع من أبي الفتح الميدومي وحدث عنه ثم ناب في الحكم مدة طويلة من زمن القاضي عز الدين ابن جماعة وكانت معه عدة جهات من الضواحي ينوب فيها ، وكان عارفا بالشروط والوثائق وباشر القضاء مباشرة حسنة لم يذمه فيها أحد وكان مطرحا للتكلف بعد عزله يمشي في الطريق وحده وفوض له القاضي جلال الدين تدريس الناصرية والصالحية فباشرهما وكتب قطعة على التنبيه “.

وقال عنه المقريزي في كتاب الدرر : ” قدم من المحلة الكبرى بالغربية إلى نواحي القاهرة وله ثراء فزوجه قاضي القضاة موفق الدين عبد الله الحنبلي بابنته ، باشر توقيع الحكم مدة طويلة ثم استخلف على الحكم بالقاهرة ومصر وعلا سنه وشهرت دربته وعرفت بين الناس درايته بالشروط والأحكام ، فلما سخط الملك الظاهر برقوق على الصدر محمد المناوي استدعاه في يوم الخميس ثالث عشري جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وسبع مائة على حين غفلة وفوض إليه قضاء القضاة .

فباشر ذلك أحسن مباشرة واستعمل اللين مع الشدة والثبت وسهولة الحجاب وكثرة التواضع وبلوغ الغاية إلى الدربة بالقضاء والعفة عن كل قبيح إلى أن صرفه الظاهر بالصدر المناوي في النصف من رجب سنة إحدى وثماني مائة فلزم داره وترك ركوب البغلة وصار يمشي في الطرقات مطرح الاحتشام إلى أن مات أول شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وثماني مائة عن ثمانين سنة وقد هرم فدفن بتربة جوار الصوفية خارج باب النصر رحمه الله فلقد كان من أجل معارفي وخيرهم ورعا “.                       

عائلة الأنصاري المحلي

يقول علي باشا مبارك عن المحلة : ” وإن لم ينسب إليها إلا الجلال المحلي لكفاها فخرا الذي ولد سنة 791 هـ واشتغل وبرع في الفنون فقها وكلاما وأصولا ونحوا ومنطقا وغيرها ” .. وهو سليل عائلة عرفت بالعلم والتقوى على مدار أجيال متعددة حيث نبغ منها كل من شمس الدين المحلي وشهاب الدين المحلي والإمام جلال الدين المحلي وكمال الدين المحلي ..

أما الجد الأكبر فهو شمس الدين أبو العباس محمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم الأنصاري المحلي ، ولد في المحلة الكبرى عام 730 هـ لأسرة تنتمي إلى قبيلة الخزرج الأنصارية ورحل شابا إلى القاهرة عام 749 هـ بسبب انتشار وباء الطاعون آنذالك فنزل على خلوة في الخانقاه البيبرسية وسكنها هو وأولاده من بعده قرابة مائة وعشرين عاما وغلب عليه الورع والعزلة ..

وقد جاء في الضوء اللامع ترجمة كمال الدين المحلي الأنصاري جد عائلة الإمام جلال الدين المحلي حيث  يقول السخاوي : ” مُحَمَّد بن إِبْرَاهِيم بن أَحْمد بن هَاشم الْكَمَال أَو الشَّمْس بن الْبُرْهَان بن الشهَاب أبي الْعَبَّاس الْأنْصَارِيّ الْمحلي ثمَّ القاهري الشَّافِعِي ولد سنة ثَلَاثِينَ وَسَبْعمائة بالمحلة وَقدم مِنْهَا وَهُوَ شَاب فِي الطَّاعُون سنة تسع وَأَرْبَعين فَنزل بخلوة فِي الخانقاه البيبرسية مجاورة للمزملة عِنْد الْبَاب على يَمِين الدَّاخِل لصحن الْمدرسَة ودامت مَعَه ثمَّ مَعَ بنيه مائَة وَعشْرين سنة.

وَعرض بعض محفوظاته من التَّنْبِيه وألفية النَّحْو على الْعِزّ عبد الْعَزِيز بن جمَاعَة فَأكْرمه وَكَذَا عرضهما فِي سنة تسع وَخمسين على الْجمال الأسنوي وأخيه الْعِمَاد مُحَمَّد والبلقيني وَابْن الملقن وأجازوه والبدر حسن بن الْعَلَاء القونوي والبهاء أَحْمد بن التقي السُّبْكِيّ وَالْجمال عبد الله بن يُوسُف بن هِشَام وَكَتَبُوا لَهُ وَلم يصرحوا بِالْإِجَازَةِ.

وَقبل ذَلِك بِيَسِير سنة سبع وَخمسين بالمحلة عرض جَمِيع الشاطبية على أحد شُيُوخ الْقُرَّاء مُحَمَّد بن عمر بن مُحَمَّد بن مُوسَى بن مُوسَى الحكري الشهير بِابْن الْبَزَّار تلميذ البرهانين الحكري والرشدي وَأذن لَهُ فِي رِوَايَتهَا وَفِي الْقِرَاءَة والإقراء بهَا ووصفوا وَالِده بالإجلال ولقبوه هُوَ شمس الدّين.

واشتغل وَأخذ عَن الْكَمَال النشائي شَرحه على جَامع المختصرات وَكتبه بِخَطِّهِ وَعَن الشهَاب السمين وَابْن عقيل وَابْن النَّقِيب والأسنوي وَأبي الْبَقَاء السُّبْكِيّ والكلائي الفرضي والقرمي وَغَيرهم.

وبرع وتفنن وَكتب بِخَطِّهِ أَشْيَاء وخطه جيد لَكِن غلب عليه الْوَرع والانعزال فَلم يشْتَهر وَمِمَّنْ أَخذ عَنهُ حفيده ، وَعمر دهرا حَتَّى مَاتَ بِمَسْجِد مَنْسُوب للأشراف كَانَ مُنْقَطِعًا فِيهِ لِلْعِبَادَةِ بِرَأْس الجوانية وَدفن بحوش تجاه تربة جوشن خَارج بَاب النَّصْر رَحمَه الله “.        

وابنه هو شهاب الدين أحمد بن محمد الأنصاري المحلي ولد عام 770 هـ ونشأ بالقاهرة وتتلمذ على يد البلقيني فأخذ عنه وكتب من تصانيف ابن الملقن وحفظ التنبيه وتكسب بالتجارة في البر وكان معروفا بأعمال الخير ، مات في عام 852 هـ وولده غائب في الحج فصلي عليه ودفن بتربتهم تجاه تربة جوشن خارج باب النصر وهو والد المحمدين الجلال العالم والكمال.

أما أكبر أولاده فهو جلال الدين أبو عبد الله محمد بن أحمد المحلي الأنصاري المتوفي عام 864 هـ صاحب التصانيف العديدة وأشهرها تفسير القرآن الذي أكمله من بعده تلميذه جلال الدين السيوطي وعرف باسم تفسير الجلالين ، ولي تدريس الفقه بالمدرسة البرقوقية بعد الشهاب الكوراني ثم درس بالمدرسة المؤيدية بعد وفاة شيخ الإسلام ابن حجر العسقلاني واشتهر ذكره وعلا صيته.

وكان غرة عصره في سلوك طريق السلف على قدم من الصلاح والورع والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يواجه بذلك أكابر الظلمة والحكام ويأتون إليه فلا يلتفت إليهم ولا يأذن لهم بالدخول عليه ، وكان شديدًا في الحق يوصي بأحكامه في عقود المجالس على الكبراء وقضاة القضاة وغيرهم وهم يخضعون له ويهابونه ويرجعون إليه وعرض عليه القضاء الأكبر فاعتذر للملك الظاهر.

أما أخوه الأصغر فهو كمال الدين محمد بن أحمد الأنصاري المحلي ، ولد عام 843 هـ وحفظ القرآن وجوده ثم أتقن كتابة الخط العربي وإليه يرجع الفضل في كتابة الكثير من تصانيف أخيه وغيرها ثم درس النحو وأصول الدين والمنطق ، تكسب من الكتابة وأعمال النسخ في حانوت خاص به وكتب لكثير من المؤلفين وعرف بين الناس بالاستقامة والقناعة والسكينة وعمل الخير.

الإمام جلال الدين المحلي : هو الإمام العلامة جلال الدين محمد بن أحمد بن إبراهيم بن أحمد بن هاشم بن الكمال الأنصاري المحلي الأصل نسبة للمحلة الكبرى من الغربية ، الشافعي المصري ويعرف بالجلال المحلي ، ولد في مستهل شوال سنة 791 هـ بالقاهرة ونشأ بها فقرأ القرآن وحفظ المتون واشتغل في فنون عدة فأخذ الفقه وأصوله والعربية وأفتى ودرَّس عدة سنين وله عدة مصنفات ورُشِّح لقضاء الديار المصرية غير مرة وتوفي عام 864 هـ.

قال شمس الدين السخاوي : ” مهَر المحلي وتقدم على غالب أقرانه وتفنَّن في العلوم العقلية والنقلية وكان أولًا يتولى بيع البزِّ (القماش) في بعض الحوانيت ثم أقام شخصًا عوضه فيه وتصدى هو للتصنيف والتدريس والإقراء فشرح كلًّا من جمع الجوامع والورقات والمنهاج الفرعي والبردة وأتقنها ما شاء مع الاختصار وعمل منسكًا وتفسيرًا لم يكمل وغيرهما ورَغِب الأئمة في تحصيل تصانيفه وقراءتها وإقرائِها.

وكان شيخنا ابن خضر يكثر من وصفه بالمتانة والتحقيق وقرأ على جلال الدين من لا يحصى كثرة وارتحل الفضلاء للأخذ عنه وتخرج به جماعة درَّسوا في حياته ولكنه صار بأخرة أيامه يستروح في إقرائه لغلبة الملل والسآمة عليه وكثرة المخبطين ولا يصغي إلا لمن علم تحرزه خصوصًا ، وهو حاد المزاج لا سيما في الحر وإذا ظهر له الصواب على لسان من كان رجع إليه مع شدة التحرز وحدَّث باليسير وسمع منه الفضلاء.

وقد ولِيَ تدريس الفقه بالبرقوقية وبالمؤيَّدية وعرض عليه القضاء فأبى وشافه الظاهرَ العجزَ عنه بل كان يقول لأصحابه : إنه لا طاقة لي على النار ، وكان إمامًا علامة محققًا نظَّارًا مفرط الذكاء صحيح الذهن بحيث كان يقول بعض المعتبرين : إن ذهنه يثقب الماس ، وكان هو يقول عن نفسه : إن فهمي لا يقبل الخطأ حاد القريحة قوي المباحثة ، وأشهر مصنفاته هو التفسير الذي لم يكمله وأكمله بعده جلال الدين السيوطي والمعروف اليوم بتفسير الجلالين نسبة إليهما.

وله كنز الراغبين في فقه الشافعية وله البدر الطالع في شرح جمع الجوامع في أصول الفقه وغيرها من المصنفات وقد حج مرارًا ، توفي بالقاهرة وسنه نحو ثلاث وسبعين بعد أن تعلل بالإسهال من نصف رمضان وفي صبيحة يوم السبت مستهل محرم سنة أربع وستين وصلِّيَ عليه بمصلى باب النصر في مشهد حافل جدًّا ثم دفن مع آبائه بتربته التي أنشأها تجاه جوشن وتأسف الناس عليه كثيرًا وأثنوا عليه جميلًا ولم يخلف بعده في مجموعة مثله ورثاه بعض الطلبة بل مدحه في حياته جماعة من الأعيان “.

عائلات من الفقهاء والأعيان

عائلة القابسي المحلي : عائلة تونسية جليلة ينسب لها عدد من الفقهاء والقضاة في المحلة في العصر المملوكي ، وترجع في أصولها إلى مدينة قابس التونسية حيث نزحت إلى وسط الدلتا بصحبة القبائل المغربية في العصر الفاطمي واستوطنت أولا قرية نشين القناطر وهي نشيل الحالية مركز قطور بمحافظة الغربية ، ولذا عرف جدهم الأكبر بوصف القابسي النشيني وهو عبد الوهاب بن أحمد بن عبد الوهاب بن أبي القاسم بن إبراهيم بن عطية.

واشتهر من أولاده موفق الدين عمر بن عبد الوهاب القابسي المحلي الذي تولى القضاء في قرية نشيل فلما استعفى سكن في المحلة وعمل في تعليم القرآن للصغار ، ويقول عنه السخاوي : ” ثمَّ انْقَطع لِلْعِبَادَةِ والاشتغال بِالْعلمِ حَتَّى صَار عين النَّاس بِحَيْثُ كَانَ السراج البُلْقِينِيّ يكاتبه بل يمدحه وَمن ذَلِك قصيدة أَولهَا : سَلام على الْخلّ الْوَلِيّ الْمُوفق .. ولي بِفضل الله مَا زَالَ يرتقي ” ، وكان ضريحه مقصد الزوار في العصر المملوكي.

وأما أخوه زين الدين أبو بكر بن عبد الوهاب القابسي فقد عرف بالصلاح والتقوى وتولى منصب المأذونية في المحلة (توثيق عقود الزواج والطلاق) واشتهر بين الناس باسم الشيخ أبو بكر ، ونبغ من أولاده شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر بن عبد الوهاب القابسي والذي عمل في وظيفة نيابة الحكم في الأمور التجارية وهي تشبه في عصرنا مصلحة الخبراء وكان يشرف على مجال الأقطان والنسيج.

ولد عام 777 هـ في المحلة وتوفي بها في عام 855 هـ وعرف بلقب ابن الشيخ واشتغل معاونا لقاضي المحلة شهاب الدين المنصوري ، قال عنه السخاوي : ” ولقيه ابْن فَهد والبقاعي بالمحلة فِي سنة ثَمَان وَثَلَاثِينَ فأخذا عَنهُ بعض الْأَجْزَاء وَكَانَ من عدُول حَانُوت القطانين بهَا بارعا فِي التوثيق مستحضرا للمنهاج بل ولى الحكم بهَا من سنة اثْنَتَيْنِ وَثَلَاثِينَ إِلَى أَن مَاتَ فِي آخر سنة أَربع أَو أول سنة خمس وَخمسين “.

وابنه هو أبو الطيب عبد الناصر بن محمد بن أبي بكر المولود في المحلة عام 824 هـ والذي كان عضوا في مجلس الشهادة وهي هيئة معاونة للقاضي مهمتها توثيق العقود والبيوع ، وعرف بالصلاح والتدين ، وابن أخيه هو القاضي أبو السعادات بدر الدين محمد بن عبد القادر بن محمد بن أبي بكر القابسي والذي تولى نيابة القضاء في المحلة وتتلمذ على يد الحافظ السخاوي ، رحمهم الله جميعا وأثابهم بالحسنات.

عائلة الأموي المحلي : عائلة حجازية جليلة ترجع في نسبها إلى قبيلة بني أمية القرشية المعروفة وسكنت المحلة الكبرى في العصر الأيوبي ، وجدهم الأكبر هو نجم الدين إسحاق بن أحمد بن إبراهيم الولوي المحلي ، والولوي نسبة لجده ولي الدين الأموي والمحلي نسبة للمحلة الكبرى ، وقد اشتهر اثنان من أحفاده أولهما هو الفقيه المالكي وعالم اللغة والأديب والكاتب عز الدين أبو عبد الله محمد بن عبد السلام بن إسحق الأموي المحلي.

ولد في المحلة الكبرى عام 750 هـ وتلقى العلم على يد شيوخها وفق المذهب المالكي ، قال عنه السخاوي : ” مُحَمَّد بن عبد السَّلَام بن إِسْحَاق بن أَحْمد الْعِزّ الْأمَوِي بِضَم الْهمزَة الْمحلى ثمَّ القاهري الْمَالِكِي ، قَرَأَ ابْن الْحَاجِب الفرعي بحثا فِي تسعين يَوْمًا على الْجمال الأقفهسي ولازم الْعِزّ بن جمَاعَة فِي فنون وَكَذَا أَخذ عَن البلقيني والغماري وَجمع غَرِيب أَلْفَاظ ابْن الْحَاجِب وانْتهى مِنْهُ فِي سنة سبع وَتِسْعين وَسَبْعمائة  “.

وجاء في الأعلام للزركلي : ” عز الدين الأموي المالكي : فقيه لغويّ مصري من أهل المحلة استقر في القاهرة له مختصر ابن الحاجب ” ، صنف عددا من المؤلفات هي «غنية الراغب في تصحيح ابن الحاجب» ، «التعريف بالرجال المذكورين في جامع الأمهات» ، «تنبيه الطالب لضبط ألفاظ ابن الحاجب» ، وهي مؤلفات تجمع بين الفقه والنحو والحديث كتبها لتسهل عمل قضاة المذهب المالكي في أحكامهم.

وقد تتلمذ على يده ابن عمه الفقيه المالكي القاضي أبو البقاء محمد بن ضياء الدين محمد بن صدر الدين عبد اللطيف بن نجم الدين إسحاق الأموي ، ولد في المحلة عام 787 هـ وجده لوالدته المتصوف موفق الدين القابسي ، تلقى العلم عن كل من إمام المحلة سراج الدين عمر الطريني وشمس الدين البوصيري وابن حجر العسقلاني ، وفي عام 809 هـ أذن له جمال الدين الأقفهسي بالإفتاء والتدريس بالمذهب المالكي.

تولى منصب قاضي سنباط ثم الإسكندرية ثم القاهرة وتعرض لكثير من المحن والمتاعب بسبب إصراره على استقلال القضاء ، اعتقل وعذب في عهد المؤيد شيخ بسبب تستره على صهره القاضي صدر الدين ابن العجمي المعارض للسلطان ثم أعيد للقضاء ، اتصف بالتواضع والنزاهة والعفة والأمانة وعرف عنه الدقة في الحكم والتشدد لصالح المتهم ورفضه الدائم تدخل السلطة في عمله القضائي بأي صورة.

قال عنه الحافظ السخاوي : ” وَقد حدث ودرس وَأفْتى سمع مِنْهُ الْفُضَلَاء أخذت عَنهُ أَشْيَاء وَكَانَ فَقِيها فَاضلا مستمرا لحفظ الْمُوَطَّأ إِلَى آخر وَقت متواضعا خيرا لين الْجَانِب متوددا بالْكلَام وَنَحْوه متثبتا فِي الدِّمَاء لا يزَال متوعكا كثير الرمد مَعَ مزِيد التقلل وَوُجُود من يكلفه ، مَاتَ فِي يَوْم الْخَمِيس تَاسِع رَجَب سنة إِحْدَى وَسِتِّينَ وَصلى عَلَيْهِ من الْغَد تجاه مصلى بَاب النَّصْر وَدفن بتربة بني العجمي أصهاره “.                

عائلة السيرجي المحلي : عائلة جليلة من المحلة الكبرى عرفت بتجارة وصناعة المنسوجات والسجاجيد المذهبة من الصوف والحرائر في العصر المملوكي والتي كان يطلق عليها مهنة السيرجة ومنها اشتق اسمهم السيرجي ، وقد ظهر من أحد فروعها عدد من الفقهاء والقضاة المعروفين في المحلة والقاهرة على رأسهم الشيخ شهاب الدين أبو العباس أَحْمد بن يُوسُف بن مُحَمَّد بن مُحَمَّد بن تَاج الدّين بن مُحَمَّد بن الزين مُحَمَّد بن رسْلَان بن فَخر الْعَرَب الحلوجي المحلي بالمعروف بلقب ابن السيرجي.

ولد في المحلة الكبرى أواخر عام 778 هـ وتلقى العلم عن شيوخ عصره ونال الإجازة في النحو واللغة العربية على يد قاضي المالكية ولي الدين عبد الرحمن بن خلدون المؤرخ المعروف ، وفي عام 804 هـ تولى القضاء نائبا عن جلال الدين البلقيني وعمل في الإفتاء والتدريس وصنف الطّراز الْمَذْهَب فِي أَحْكَام الْمَذْهَب ، وكان بارعا في الحساب والفرائض والوصايا والجبر والمقابلة والخطأين والتناسب والولاء وألف في ذلك كتابا سماه المربعة نال استسحسان العلماء.

عمل بالتدريس في الأزهر والمدرسة الصالحية وتوفي عام 862 هـ ، وقال عنه السخاوي : ” وَكَانَ رجلا طوَالًا مفوها بارعا فِي الشُّرُوط حسن الْخط مستحضرا لكثير من الْفِقْه مُتَقَدما فِي الْفَرَائِض ، وَهُوَ من أَعْيَان نواب الشَّافِعِيَّة بِالْقَاهِرَةِ أَو عينهم علما وَقدم هِجْرَة واشتغال غير أَن قلمه فِي التصنيف أحسن من لِسَانه ، مَاتَ فِي لَيْلَة الْجُمُعَة ثَالِث عشر الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسِتِّينَ وَصلى عَلَيْهِ فِي جَامع الْأَزْهَر بعد عصر الْجُمُعَة وَدفن بتربة أَنْشَأَهَا بالصحراء رَحمَه الله وإيانا “.                            

وابنه هو القاضي أوحد الدين محمد بن أحمد المحلي السيرجي (815 ـ 877 هـ) والذي تولى التدريس في كل من الأزهر والمدرسة الطوغانية والمنجكية والبرقوقية والصالحية وكان جهوري الصوت مقداما حسن الْخط تميز فِي الْفَرَائِض والحساب ، وابنه هو الفقيه جلال الدين عبد الرحمن الذي درس في المدرسة البرقوقية والصالحية وتميز فِي الْفَرَائِض والمباشرة وعمل كاتبا معاونا للزيني عبد الباسط بن الجيعان فِي البيمارستان وتزايدت براعته وَكتب بِخَطِّهِ الْجيد أَشْيَاء.                 

عائلة الوجيزي المحلي : عائلة عربية من المحلة تعرف باسم عرندة نسبة إلى عشيرة من فروع قبيلة يافع اليمنية وتعني في اللغة الصلب أو القاسي ، وعرفت باسم الوجيزي نسبة إلى أحد شيوخها الذي حفظ كتاب الوجيز للغزالي واشتهر به وهو شهاب الدين أحمد بن محمد بن عرندة المحلي الشافعي الذي ولد في المحلة الكبرى عام 742 هـ وتلقى العلم فيها ثم انتقل إلى القاهرة وتتلمذ على يد الإمام تاج الدين السبكي وكتب عنه وتوفي في عام 818 هـ ، قال عنه ابن حجر العسقلاني في كتاب إنباء الغمر بأبناء العمر  :

” ولد سنة اثْنَتَيْنِ وَأَرْبَعين وَسَبْعمائة بالمحلة وَقدم الْقَاهِرَة فحفظ الْوَجِيز فَعرف بِهِ وَأخذ عَن عُلَمَاء عصره ولازم التَّاج السُّبْكِيّ لما قدم الْقَاهِرَة وَكتب الْكثير جدا لنَفسِهِ وَلغيره ، وَكَانَ صَحِيح الْخط ويذاكر بأَشْيَاء حَسَنَة مَعَ معرفَة بِالْحِسَابِ .. مَاتَ فِي جُمَادَى الأولى سنة ثَمَانِي عشرَة ” ، وقال السخاوي : ” وَمِمَّا كتبه من تصانيف شَيخنَا تَعْلِيق التَّعْلِيق وسَمعه أَو جله على مُصَنفه بِقِرَاءَة الشَّمْس الزَّرْكَشِيّ وَكَانَ خطه نيرا ، وَقد ذكره المقريزي فِي عقوده وَأَنه صَحبه مُدَّة وناب عَنهُ فِي بعض تعلقاته “.                    

وقد اشتهر ابنه عبد الرحمن الذي عرف بلقب ابن الوجيزي والذي قال فيه ابن الجزري : ” إِذا رمت التفنن فِي الْمعَانِي وتملك مهجة الْملك الْعَزِيز .. فبادر نَحْو شيخ الْوَقْت حَقًا ودائرة الْعلَا القطب الوجيزي ” ، قال السخاوي : ” عبد الرَّحْمَن بن أَحْمد بن مُحَمَّد بن أَحْمد بن عرندة جلال الدّين بن الشهَاب الْمحلي الأَصْل القاهري الشَّافِعِي وَيعرف بِابْن الوجيزي لحفظ وَالِده الْوَجِيز للغزالي ، ولد فِي ذِي الْحجَّة سنة ثَمَان وَثَمَانِينَ وَسَبْعمائة بِالْقَاهِرَةِ وَنَشَأ بهَا فحفظ الْقُرْآن والعمدة والمنهاج الفرعي وَغَيرهَا.

وبرع فِي الْفَضَائِل وتنزل فِي الْجِهَات كدرسي الحَدِيث بالبيبرسية والجمالية وَنسخ بِخَطِّهِ الْكثير وَمن ذَلِك شرح البُخَارِيّ لشَيْخِنَا (الحافظ ابن حجر العسقلاني) ، وَكَانَ أَولا مِمَّن يلازم الْحُضُور هُوَ ووالده عِنْده وَوَصفه بالشيخ الْفَاضِل وَكتب عَنهُ فِي الأمالي وَحج مرَّتَيْنِ الأولى فِي سنة خمس وَعشْرين وجاور أشهرا وَدخل دمشق والثغرين وزار بَيت الْمُقَدّس والخليل .. مَاتَ فِي ثَانِي ذِي الْقعدَة أَو آخر شَوَّال سنة اثْنَتَيْنِ وَخمسين وَدفن بحوش البيبرسية عِنْد أَبِيه رحمهمَا الله وَعَفا عَنْهُمَا “.           

عائلة الأقصري المحلي : عائلة صعيدية جليلة من الأقصر انتقلت فروع منها إلى المحلة الكبرى في القرن الثامن الهجري للعمل بتجارة الأقمشة والمنسوجات وعرف الجد الأكبر لهم بلقب المحلي ، وينتسب إليها الفقيه الحنفي والمؤلف والكاتب شمس الدين محمد بن تقي الدين عبد اللطيف بن أحمد المحلي الأقصري المتوفي عام 872 هـ ، تزوج من سبطة أستاذه شمس الدين البوصيري وهي ابنة الفقيه شهاب الدين الحسيني وأنجب منها ولده بدر الدين محمد وعمل في التدريس للمماليك في أبراج القلعة حيث تخصص في المذهب الحنفي.

له عدد من المؤلفات منها كتاب طيب الأنفاس بمختصر سيرة ابن سيد الناس وشرح فيه السيرة النبوية من خلال كتابات الإمام فتح الدين محمد اليعمري الأشبيلي الأندلسي المعروف بلقب ابن سيد الناس والمتوفي في القاهرة عام 734 هـ ، تولى مشيخة الجامع الأقمر بالقاهرة والإشراف على المدرسة الشرابشية المجاورة له وتلقى الذكر عن الشيخ مدين وحج أكثر من مرة وقرأ على الأمين الأقصرائي كتاب الترغيب والترهيب للمنذري واشتغل في الفرائض والحساب والميقات وأخذ علوم اللغة العربية عن شمس الدين ابن الجندي.

قال عنه السخاوي : ” وبرع فِي الْمِيقَات والفرائض والحساب والعربية وشارك فِي غَيرهَا وَاخْتصرَ سيرة ابْن سيد النَّاس وحياة الْحَيَوَان وَكتب على الْكَنْز حَاشِيَة فِي جُزْء مَاتَ عَنهُ مسودة وأوراقا فِي الصَّبْر .. وَسكن الشرابشية بِالْقربِ من جَامع الْأَقْمَر وَكَانَ باسمه مشيختها وأقرأ الطّلبَة يَسِيرا .. وَكَانَ خيرا سَاكِنا متواضعا منجمعا عَن النَّاس مقتصدا على طَرِيق السّلف ، مَاتَ عَن بضع وَسِتِّينَ فِي الْمحرم سنة اثْنَتَيْنِ وَسبعين وَدفن عِنْد ضريح الجعبري بِبَاب النَّصْر وَكَانَ لَهُ مشْهد حافل رَحمَه الله وإيانا “.                       

وخلفه ابنه أبو الفضل بدر الدين محمد (833 ـ 896 هـ) الذي برع في الفقه الحنفي وتولى ديوان الأمير أزبك الظاهري وخزانة الكتب بالجامع الأزبكي والتدريس بالمدرسة الصرغتمشية وحج وتنقل بين مكة والمدينة والقدس والخليل وعرف عنه التقشف والاستقامة ، قال عنه السخاوي : ” وتلقن من الشَّيْخ مَدين وَأذن لَهُ فِي إقراء كتب الْأُصُول وَالْفُرُوع الأقصرائي وَشهد لَهُ بِعِلْمِهِ بِكَمَال استعداده وتوقد فطنته وسلامة سليقته وجودة فضيلته وَكَانَ قد اخْتصَّ بِهِ ولازم خدمته ومرافقته لَهُ بِحَيْثُ عرف بِهِ “.