
من المسلم به تاريخيا أن الهجرة العربية إلى مصر سبقت الإسلام بكثير فسجلات التاريخ الفرعوني تشير باستمرار وبانتظام إلى جماعات البدو الشرقية تطلب الإذن بالدخول أو تتسلل من الجزيرة العربية والشام عبر سيناء إلى الصحراء الشرقية وأطراف الوادي والدلتا ومن أمثلة ذلك هجرة الإسماعيليين من منطقة الحجاز ثم النبطيين من منطقة مدين باتجاه الغرب حتى تخوم الدلتا وفي القرن الأول الميلادي انتقل فرع من قبيلة قضاعة العربية إلى سيناء حيث امتدت منازلهم إلى الفرما (وهي قبيلة بلي الحالية التي تشكل مكونا أساسيا من سكان سيناء) وفي القرن الثاني والثالث الميلادي تبعتهم قبائل جذام ولخم وربيعة وثعلبة وبنو صخر وذلك حول منطقة العقبة ، أما موجة الفتوحات الإسلامية فكانت تحركات عسكرية قليلة العدد وليس انتقال قبائل بكامل مكوناتها ولم تصنع أي فارق ديموغرافي في البلاد المفتوحة لأنها استقرت في عواصم الصحراء (الأمصار) ولم تختلط بالسكان الأصليين بالإضافة إلى عددها القليل للغاية بالنسبة للسكان فقد كانت أعداد الجيوش التي خرجت لفتح العراق والشام ومصر وفارس لا تتجاوز مجتمعة خمسين ألف مقاتل موزعة في أربع جبهات وسبب ذلك هو قلة عدد سكان الجزيرة العربية نفسها فقد كان أكبر جيش حشده الرسول (ص) في غزوة تبوك من كل القبائل لا يتجاوز ثلاثين ألف مقاتل بل إن أكبر تجمع رصد وقتها كان حجة الوداع وكانت قريبا من مائة ألف حاج وهو ما يجعل من المستحيل أن تحدث هذه الجيوش الصغيرة أي تغيير سكاني أو عرقي في بلاد كان يسكنها الملايين على ضفاف الأنهار الكبرى ، وخلال القرن الأول من الفتح الإسلامي كان العرب بعيدين عن التوطن والزراعة مكتفين بالمهام الحربية لكن مع اتساع رقعة الدولة الإسلامية واعتماد القواد على البربر في فتوح المغرب والأندلس بدأت القبائل العربية الوافدة تستقر وتتحول إلى الزراعة بالتدريج بعد هجرة واسعة النطاق حيث كان كل حاكم عربي يستحضر معه الآلاف من قبيلته من باب العصبية التي توفر له استقرار الأوضاع السياسية وكانت كل قبيلة تقطع إقطاعات من الأراضي البور أو الزراعية لاستغلالها خاصة على أطراف الدلتا (الحوف الشرقي والغربي) ثم بعد ذلك في وسط الدلتا (بطن الريف) بل إن الدولة الأموية اتبعت سياسة عامدة لتشجيع القبائل على الاستقرار وهي سياسة العطاء (المساعدات المالية المباشرة) بينما تصادمت الدولة العباسية معهم بسبب فرضها الضرائب عليهم مثل بقية الفلاحين.
ومن أهم القبائل التي دخلت مصر مع الفتوحات هي تلك التي كان لها وجود سابق في سيناء وهي جذام ولخم وبلي بالإضافة إلى قريش وفي العهد الأموي استقرت قبائل من (قيس عيلان) في منطقة بلبيس وهي بور وخراب فحولوا الحوف الشرقي كله إلى مناطق زراعية مزدهرة ثم انتقل بعضها إلى قفط في الصعيد لمواجهة غارات البجا القادمين من شرق السودان كما تبعتها قبائل من جهينة وحمير لكن أسرع القبائل وقتها في الاستيطان كانت قبائل الأزد (وهي قبائل حضرية في الأصل وليست من البدو الرحل) فاندمجت مبكرا في حياة المدن وبالمثل بني جمعة (بطن من كنانة) وفي العهد العباسي دخلت مصر قبائل (كنز ربيعة) ، ومع قدوم الفاطميين وحدوث ازدهار اقتصادي في البلاد وفدت أعداد كبيرة من قبائل عرب الشام والمغرب وقد كان من سياسة الفاطميين نقل وإعادة توطين القبائل تأديبا لها أو مضاربة بينها مثلما حدث مع بني هلال وسليم فقد استدعوهم أولا ليسكنوا مصر ثم وجههوهم إلى المغرب ثم رجعت منهم بقايا استقرت في الصعيد والصحراء الغربية (تشكل بني سليم نسبة كبيرة من سكان الساحل الشمالي وليبيا بينما انتشرت هلال في الصعيد والسودان) كما نقل الفاطميون عدة بطون من طيء إلى مصر من أهمها قبيلة سنبس التي هجرت من غزة إلى البحيرة في غرب الدلتا ونقلوا كنانة من عسقلان إلى دمياط وقد ترتب على ذلك إحداث صراعات تاريخية بين قيس وطيء ، وفي نهاية العصر الفاطمي تراكم بالبلاد عدد كبير من القبائل يعدده المقريزي في قوله : ” ولما قدم الغز صحبة أسد الدين شيركوه إلى مصر كان بأرض مصر من العرب طلحة وجعفر وبلي وجهينة ولخم وجذام وشيبان وعذرة وطيء وسنبس وحنيفة ومخزوم وفي جرائد الدولة الفاطمية منهم ألوف ” وقد تعامل صلاح الدين مع القبائل العربية بالشدة والحزم لتحييدهم في صراعه مع الصليبيين حيث كانت قبائل من عرب الشام تمد الفرنجة بالغلال والأخبار فقام بنقل عدد من قبائل جنوب فلسطين وسيناء إلى داخل مصر حيث نقل ثعلبة (من منطقة الخروبة بجنوب فلسطين) وجرم (من غزة والداروم / دير البلح) وكلتاهما من طيء إلى الشرقية بجوار قبيلة جذام التي كانت موزعة على قرى هربيط وتل بسطة ونوب وأم رمادة وعندما تعاملت هي أيضا مع الصليبيين صادر أرضها ومحاصيلها ثم نقلها إلى البحيرة.
التحول الأكبر في حياة القبائل العربية في مصر كان في العهد المملوكي عندما نشب الصراع الدموي بين القبائل العربية وسلاطين المماليك حيث رفض العرب حكم المماليك باعتبارهم عبيدا واعتبروا أنفسهم أصحاب مصر والأولى بالحكم بينما كان المماليك يتوجسون من استقلالهم النسبي خاصة في المجال الاقتصادي وينظرون إليهم نظرتهم إلى البدو الغرباء ومن أشهر هذه المعارك معركة سخا التي انتهت بتشتت قبيلة سنبس واختفائها في ثنايا الغربية ومعركة دهروط التي قتل فيها نصف مقاتلي العرب في الصعيد ، نتيجة لذلك غادرت بعض القبائل إلى السودان أو المغرب أو الجزيرة العربية وظل بعضهم في الصحراء بعيدا عن المماليك لكن الجزء الأكبر تحول من (القبلية) إلى (القروية) حيث استقر في الوادي والدلتا للعمل في الزراعة ، وقد قام المماليك أيضا بإعادة توزيع القبائل لتفتيتها وكسر شوكتها فتم طرد قبيلة زنارة (بطن من لواته البربرية) من البحيرة وأتوا مكانها بقبيلة لبيد (بطن من سليم العربية) من برقة وعندما حدثت حروب داخلية بين عرب الغربية وعرب البحيرة نزحت بعض قبائل البحيرة غربا كما قام المماليك بنقل قبيلة هوارة البربرية من البحيرة إلى الصعيد في جرجا وأخميم وكانت المنطقة خرابا وبورا بعد مذابح المماليك ضد العربان فكان للهوارة فضل إعادة تعميرها وإدخال زراعة وعصر القصب بها وأصبحت لهم السيادة على الصعيد بمرور الوقت.

طوال العهد المملوكي والعثماني وحتى مشارف العصر الحديث استقر العرب تدريجيا وتوزعوا في البلاد كلها على نحو متجانس ففي أقصى تخوم شرق الدلتا في الجفار والفرما سكنت بلي وبياضة وبني صدر والأهاريسة وفي سواحل تانيس والمنزلة حتى دمياط استقرت عذرة وكنانة وخزيمة وبني عدي ومدلج وفي الشرقية جذام (ومن بطونها سعود جذام وبني سعد) وكذلك قبائل بني وائل (من ربيعة) وبطون من جهينة وقبائل جرم وثعلبة (من طيء) بالإضافة إلى فروع من كنانة وعذرة وفي القليوبية بني سليم وفروع من بني وائل وفي الدقهلية بني بقر والحمارنة وفي وسط الدلتا توزعت اللواتة والمزاتة البربرية وسكنت فزارة في المنوفية وسنبس وبني عمر في الغربية وفي البحيرة توطنت قبائل بني عباد وبني خفاجة وبني سليم وفايد ولبيد وسنبس ومن البربر لواتة وزنارة ومزاتة وهوارة ، وفي الجيزة استقر حي من عرب الغزالة ثم جماعات من اللواتة في كل من الجيزة والبهنسا وفي كلتيهما أيضا قبيلة محارب وبني عدي في إطفيح وفي الفيوم استقر بعض بني سليم وبني كلاب وتمتد قبائل بني سليم إلى المنيا مع الهوارة والعكارمة وفي العثمانية تركزت قريش ومن أسيوط عبر منفلوط حتى إخميم تمتد جهينة تشاركها في الأولى ربيعة وفي الثانية بني كلب وفي الثالثة بلي وبني قرة وبني عامر وقد أقامت كل من جهينة وهوارة من أسيوط حتى قوص لكن بالتدريج تركزت جهينة في وسط الصحراء الشرقية وهوارة في قنا وفي الجنوب عند إسنا أقامت قبيلة بني عقبة وبني جميلة ثم من قوص حتى السودان استقرت قبائل العليقات والجعافرة والكنوز (بني كنز) بالإضافة إلى بني هلال وسليم في أسوان بينما على جانبي الوادي انتشرت الجوازي والغوايا وأولاد علي باتجاه الغرب من أسيوط حتى السلوم وترامت قبائل الحويطات والسناري والنبعات باتجاه الشرق من أسيوط حتى العريش وفي العموم فإن قبائل شرق الدلتا والنيل قحطانية وغرب النيل والدلتا عدنانية وبربرية ووسط الدلتا خليط من الجميع.
التوطين الذي حدث للعرب في مصر (طوعا أو كرها) هو العامل الأساسي في تعريب البلاد رغم قلة عددهم النسبي عبر كل العصور الإسلامية لكنهم توغلوا في الأرياف واختلطوا بالمصريين على عكس الإغريق والرومان الذين سكنوا المدن فقط وانعزلوا عن الزراعة لذلك كان تأثيرهم اللغوي محدودا وفي البداية تزوج العرب من نساء المصريين وبعد فترة زمنية من الاستقرار والاختلاط سمحوا للمصريين المسلمين بالزواج من بناتهم وكانت هذه المصاهرة من أهم العوامل الاجتماعية التي مزجت العنصر العربي في الأرومة المصرية بالإضافة إلى دور القاهرة التي نشأت في البداية خالصة العروبة وكان دورها مركزيا في السياسة والإدارة ، لكن كل ذلك لم يكن كافيا لإتمام عملية التعريب والتي تسارعت وتيرتها في عهد المماليك رغم فقدان العنصر العربي لوجوده في دائرة الحكم وذلك لسبب بعيد تماما عن دور الهيمنة السياسية ألا وهو (النشاط الاقتصادي) حيث إن المكون السكاني الجديد من (العرب المتوطنين والمصريين المسلمين) جمع بين احتراف الزراعة والخبرة في الرعي والبراعة في التجارة حيث خبرات الصحراء تتحد لأول مرة مع خبرات النهر مما خلق نمطا جديدا من (سيولة الحركة الاقتصادية والاجتماعية) بالإضافة إلى القدرة على التواصل مع العاصمة العربية والبلاد العربية المجاورة التي يعتمد التبادل التجاري عليها بنسبة كبيرة ، وهذا الأمر يفسر لنا تحول المصريين المسيحيين إلى التحدث بالعربية وإهمال اللغة القبطية التي اندثرت حتى بين قساوسة الكنائس ورهبان الأديرة وذلك على العكس من كنائس كثيرة في المشرق حافظت على لغاتها بين الأقليات أو على الأقل داخل الكهنوت (رهبان دير سانت كاترين يتحدثون باليونانية حتى الآن) وهو ما يعني أن تأثير اللغة على الأقباط كان بالطبع أكبر من تأثير الدين على عكس كثير من الشعوب التي دخلت في الإسلام لكنها حافظت على لغتها (الفرس والترك والملايو والهنود والأفارقة) وذلك مثل الأقليات الإثنية التي دخلت الإسلام لكنها حافظت على لغتها الأصلية مثل أهل النوبة لكن في الحقيقة كانت اللغة العربية تفرض نفسها في مصر على الحياة الاقتصادية والاجتماعية واكتملت عملية التعريب في وقت كانت فيه السلطة الحاكمة والنخبة والجيش لا تعرف غير التركية أي إنها انتصرت حتى على الواقع السياسي طيلة مئات الأعوام من حكم المماليك والعثمانيين بل إن ما تبقى من العرقية التركية في العصور المتأخرة قد تعرب هو الآخر رغم أنه كان يشكل نسبة كبيرة من سكان العاصمة كما أن القبائل البربرية القادمة من المغرب قد تعربت بمرور الوقت وحتى النوبة دخلها تعريب نسبي حيث نصف قبائلها مختلط مع العرب بقوة وفي النهاية فرضت العربية نفسها لغة وحيدة في ربوع البلاد.
لم يكن تأثير اللغة العربية فقط بسبب الظروف الاجتماعية والاقتصادية وحدها وإنما لسبب جوهري آخر متمثل في طبيعة اللغة نفسها والتي كانت قريبة من القبطية ووثيقة الصلة بكل لغات (المجموعة السامية الحامية) وذلك لأنها في الأصل خليط من لغات المنطقة القديمة تكونت عبر عمليات متدرجة من المزج بين العربية الجنوبية القديمة والآرامية في الشمال مع مؤثرات مصرية وبابلية واضحة جعلت المؤرخين الكلاسيكيين يطلقون على القبائل التي نطق بها لسانهم اسم (العرب المستعربة) في إشارة إلى أنها لغة أقوام دخلاء على الجزيرة العربية وليسوا من أرومتها الأصلية ولو كانت اللغة العربية القديمة هي لغة الفتوحات لكان تأثيرها محدودا بلا تأثير أو فاعلية ، وقد سيطر البابليون والآشوريون والفراعنة والفرس والإغريق والرومان على المنطقة عدة قرون في إمبراطوريات قوية وذات حضارة عريقة لكن لم تفلح أي منها في فرض لغتها كما فعلت اللغة العربية التي هضمت في داخلها كل لغات المنطقة القديمة بسهولة لأنها في الأصل مكونة من امتزاجهم في الماضي وهذه اللغات القديمة تركت في اللغة العربية أثرا كبيرا حيث تسببت في تعدد اللهجات العربية من قطر إلى قطر ويمكننا أن نؤكد على أن اللهجة المصرية العامية التي نتحدث بها في حياتنا اليومية إنما هي محصلة امتزاج اللغة القبطية القديمة باللغة العربية الوافدة (لهجات القبائل المتوطنة) حيث ظهرت هذه اللهجة إلى الوجود في مصر في زمن حديث نسبيا وفي أعقاب اختفاء القبطية تماما عن الحياة العامة وهو ما يعني أنها تسللت إلى العربية التي قامت بعملية هضم وامتصاص لها لتخلق لنا اللهجة العربية التي تناسب سكان وادي النيل وطبيعة حياتهم اليومية ونشاطهم الاقتصادي وهذا أكبر دليل على مرونة اللغة العربية وقدرتها على تلبية احتياجات المصريين.