2 / الصراع مع بني أمية

بعد وفاة معاوية بن أبي سفيان تتابعت الأحداث السياسية السيئة والتي عجلت بهجرة عدد كبير من عشائر قريش من المدينة ومكة إلى الأمصار المختلفة وكانت بداية ذلك ما فعله عدد كبير من سادات قريش مثل الحسين بن علي بن أبي طالب وعبد الله بن الزبير بن العوام برفضهم البيعة ليزيد بن معاوية والذي لم يكن يملك حصافة أبيه وأصر على استعمال القوة الغاشمة فخرج كلاهما من المدينة ، وقد كان موقف عبد الله بن عمر واضحا حيث نصح الجميع باجتماع الكلمة ونهاهم عن الخروج حيث روى أمية بن محمد بن عبد الله بن مطيع أن عبد الله بن مطيع أراد أن يفر من المدينة ليالي فتنة يزيد بن معاوية فسمع بذلك عبد الله بن عمر فخرج إليه حتى جاءه قال : أين تريد يا ابن عم ؟ .. فقال : لا أعطيهم طاعة أبدًا .. فقال : يا ابن عم لا تفعل فإني أشهد أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ” من مات ولا بيعة عليه مات ميتة جاهليّة “.

وعندما علم ابن عمر بعزم الحسين على الخروج إلى العراق خرج مسرعا ليلحق به وينصحه فأدركه على مسيرة ليلتين فقال : أين تريد ؟ .. قال الحسين : العراق .. فقال ابن عمر :  لا تأتهم .. فأخرج الحسين له رسائلهم وقال له : هذه كتبهم وبيعتهم .. فقال ابن عمر : ” إن الله خير نبيه بين الدنيا والآخرة فاختار الآخرة وإنكم بضعة منه لا يليها أحد منكم أبدا وما صرفها عنكم إلا للذي هو خير لكم فارجعوا .. إن أهل العراق قوم مناكير قتلوا أباك وضربوا أخاك وفعلوا وفعلوا ” ، فلما أبى الحسين اعتنقه ابن عمر وقال له : ” أستودعك الله من قتيل ” حيث أدرك ابن عمر حتمية ما ستؤول إليه الأمور بعين المستبصر الواعي ولم تكن هذه أول مرة فقد كانت تلك سياسته التي أثبتت نجاحا في كل مرة وذلك منذ الفتنة الأولى عندما نصح أخته السيدة حفصة بأن تجلس في بيتها ولا تخرج مع السيدة عائشة إلى معركة الجمل فأطاعته ونجت من مسئولية دماء المسلمين التي سالت.  

وقد كان رأي ابن مطيع موافقا لما ذهب إليه عبد الله بن عمر حيث روى عبد الله بن جعفر عن أبي عون قال : لما خرج حسين بن علي من المدينة يريد مكة مر بابن مطيع وهو يحفر بئره فقال له : أين فداك أبي وأمي ؟ قال : أردت الكوفة وذكر له أنه كتب إليه شيعته بها فقال له ابن مطيع : إني فداك أبي وأمي مَتّعْنا بنفسك ولا تسر إليهم فأبى حسين فقال له ابن مطيع : إن بئري هذه قد رشحتها وهذا اليوم أوان ما خرج إلينا في الدلو شيء من ماء فلو دعوتَ الله لنا فيها بالبركة .. قال : هات من مائها فأُتي من مائها في الدلو فشرب منه ثم مضمض ثم ردّه في البئر فأعذب وأَمْهَى .. وروى محمد بن عمر عن عبد الله عن أبيه قال : مر حسين بن علي على ابن مطيع وهو ببئره قد أنبطها فنزل حسين عن راحلته فاحتمله ابن مطيع احتمالًا حتى وضعه على سريره ثمّ قال : بأبي وأمي أمسك علينا نفسك فوالله لئن قتلوك ليتّخذنا هؤلاء القوم عبيدًا.

ويقول ابن حبيب في (المنمق) : ” ولما خرج عبد الله بن الزبير وغلب على مكة وسار الحسين بن علي إلى العراق بلغ يزيد بن معاوية أن عبد الله بن مطيع قد أراد أن يثور بالمدينة وأشفق من ذلك فكتب إلى الوليد بن عتبة بن أبي سفيان عامله على المدينة يأمره أن يأخذ ابن مطيع فيحبسه في السجن قبله ويكتب إليه بذلك ليكتب إليه برأيه فيه فأخذه الوليد فحبسه في السجن فلبث فيه أياما ، ثم إن عبد الله بن عمر بن الخطاب أقبل حتى جلس في موضع الجنائز بباب المسجد فاجتمعت إليه رجال بني عدي بن كعب في أمر ابن مطيع ثم بعث إلى الوليد بن عتبة أن ائتنا نذكر لك بعض شأننا فأتاه الوليد فجلس فتكلم عبد الله بن عمر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم أقبل على الوليد فقال : ” استعينوا بالله والحق على إقامة دينكم وما تحاولون به من صلاح دنياكم ولا تطلبوا إقامة ذلك وإصلاحه بظلم البراء وإذلال الصلحاء وإخافتهم فإنكم إن استقمتم أعانكم الله وإن جرتم وكلتم إلى أنفسكم .. “.

ويواصل ابن حبيب روايته لكلام ابن عمر : ” كفوا عن صاحبنا وخلوا سبيله فإنا لا نعلم عليه حقا فتحبسوه عليه فإن زعمتم بأنكم حبستموه على الظن والتهم فإنا لا نرضى أن ندع صاحبنا مظلوما مضيما ” .. فقال الوليد : ” إنما أخذناه فحبسناه بأمر أمير المؤمنين فننظر وتنظرون ونكتب وتكتبون فإنه لا يكون إلا ما تحبون ” .. فقال أبو الجهم : ” ننظر وتنظرون ونكتب وتكتبون وابن العجماء محبوس في السجن أما والله حتى لا يبقى منا ومنكم إلا الأراذل لا يكون ذلك ” ، فقام الوليد وانصرف وخرج فتيان بني عدي بن كعب فاقتحموا السجن فلما سمع ابن مطيع أصواتهم ظن أن الوليد قد بعث إليه من يقتله فوثب يلتمس شيئا يمتنع به ويقاتل فلم يجد إلا صخرة ملء الكف فأخذها ودخل أصحابه عليه فلما عرفهم طرحها وكبر واحتملوه فأخرجوه .. ” .. وفي ذلك يقول الشاعر : (عزت عدي بن كعب في الكياد ومن .. كانت عدي له أهلا وأنصارا .. نجت عدي أخاها بعد ما خصفت .. له المنية أنيابا وأظفارا). 

وقد صدق توقع ابن عمر للأحداث وتعرض الحسين لخيانة كبيرة من أهل العراق ومن ثم مذبحة بشعة أودت بحياته وحياة من معه من آل بيت النبي (ص) وهو الأمر الذي أثار الناس ضد يزيد بالإضافة إلى ما لحقه من اتهامات بالسكر وتضييع الصلاة لكن ابن عمر ظل على سياسته التي اتخذها وهي الحياد وبيعة من بايعه المسلمون وعدم تفرقة الكلمة مهما كانت الظروف وقد التزم به أبناؤه جميعا فنجو من الشر والفتنة ، أما موقف عبد الله بن مطيع فقد تغير بالكلية بعد ما حدث للحسين في كربلاء وما تعرض له نساء آل البيت من مهانة ونفيهم الإجباري إلى مصر عند مسلمة بن مخلد حيث بدأت بوادر الثورة في مكة أولا بزعامة عبد الله بن الزبير ثم المدينة بزعامة عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر الراهب (أبوه هو غسيل الملائكة وشهيد أحد) والتي أسفرت عن خلع بيعة يزيد وإخراج الوالي الأموي عثمان بن محمد بن أبي سفيان وحصار بني أمية في دار مروان بن الحكم.

وروى عبد الله بن أبي ربيعة عن أبيه قال لما أجمع يزيد بن معاوية أن يبعث الجيوش إلى المدينة أيام الحرّة وكلمه عبد الله بن جعفر بن أبي طالب فيهم ورقّقه عليهم وقال : إنما تقتل بهم نفسك .. قال له : فأنا أبعث أول جيش وآمرهم أن يمروا بالمدينة إلى ابن الزبير فإنه قد نصب لنا الحرب ويجعلونها طريقًا ولا يقاتلهم فإن أقرّ أهل المدينة بالسمع والطاعة تركهم وجاز إلى ابن الزبير وإن أبوا أن يُقرّوا قاتلهم .. قال عبد الله بن جعفر : فرأيتُ هذا فرجًا عظيمًا فكتب إلى ثلاثة نفر من قريش هم عبد الله بن مطيع وإبراهيم ابن نُعيم النحّام وعبد الرحمن بن عبد الله بن أبي ربيعة (وكان أهل المدينة قد صيّروا أمرهم إلى هؤلاء) يخبرهم بذلك ويقول : استقبلوا ما سلف واغنموا السلامة والأمن ولا تعرضوا لجنده ودَعُوهم يمضون عنكم فأبوا أن يفعلوا ذلك وقالوا : لا يدخلها علينا أبدًا .. ثم أخذوا في الاستعداد لقتال جيش مسلم بن عقبة المري وتولى ابن مطيع القيادة العسكرية.

وروى إسحاق بن يحيَى قال : حدثني من نظر إلى عبد الله بن مطيع على المنبر وقد رُئيتْ طلائع القوم بمَخيض والعسكر بذي خُشُب  فتكلّم على المنبر فقال : ” أيها الناس عليكم بتقوى الله والجدّ في أمره وإياكم والفشل والتنازع والاختلاف اذْعنوا للموت فوالله ما من مَفَرّ ولا مَهْرَب والله لأن يُقْتل الرجل مقبلًا محتسبًا خير من أن يُقْتل مدبرًا فيؤخذ برقبته ولا تظنوا أن عند القوم بُقْيا فابْذلوا لهم أنفسكم فإنهم يكرهون الموت كما تكرهونه ” ، وقَالَ الزُّبَيْرُ بْنُ بَكَّارٍ: حدثني عمي قال : كان ابن مطيع مِنْ رجال قريش شجاعةً ونجدة وجلدًا فلما انهزم أَهل الحرة قُتل عبد الله بن طلحة وفر عبد الله بن مطيع فنجا حتى توارَى في بيت امرأة من حيث لا يشعر به أحد فلما هجم أهل الشام على المدينة في بيوتهم ونَهَبُوهم دخل رجل من أهل الشام دار المرأة التي توَارَى فيها ابن مطيع فرأى المرأة فأعجبته فواثبها فامتنعت منه فصرعها فاطلع ابن مطيع على ذلك فدخل فخلصها منه وقتل الشامي فقالت له المرأة : ” بأبي أنت وأمي ! من أنت ؟ “.

وروى عيسى بن طلحة قال : قلتُ لعبد الله بن مُطيع كيف نجوتَ يوم الحرّة وقد رأيت ما رأيتَ من غلبة أهل الشأم ؟ .. فقال عبد الله : كنّا نقول لو أقاموا شهرًا ما قتلوا منّا شيئًا فلمّا صُنع بنا ما صُنع وأدخلهم علينا وولّى الناس ذكرتُ قول الحارث بن هشام : (وعلمتُ أني إنْ أقاتلْ واحــدًا أُقْتَلْ ولا يَضْرُرْ عدوّي مشهدي) فانكشفتُ فتواريتُ ثمّ لحقتُ بابن الزبير بعدُ فكنتُ أعجب كل العجب أن ابن الزبير لم يَصِلوا إليه ثلاثة أشهر وقد أخذوا عليه بالمضايق ونصبوا المنجنيق وفعلوا به الأفاعيل ولم يكن مع ابن الزبير أحد يقاتل له حِفاظًا إلا نُفير يسير وقوم آخرون من الخوارج وكان معنا يوم الحرة ألفا رجل كلهم ذو حفاظ فما استطعنا أن نحبسهم يومًا إلى الليل ، وقد نجا ابن مطيع من القتل حيث فتك مسلم بن عقبة بزعماء المدينة وقتل محمد بن أبي الجهم لأنه شهد على يزيد من قبل أنه يشرب الخمر مما أجج نار العداوة في قلوب بني عدي وباتوا ينتظرون ثأرهم.

وروى عامر بن عبد الله بن الزبير قال : كان عبد الله بن مطيع مع عبد الله بن الزبير في أمره كلّه فلمّا صدر الناس من سنة أربعٍ وستين ودخلت سنة خمسٍ وستين بايع أهل مكة لعبد الله ابن الزبير فكان أسرع الناس إلى بيعته عبد الله بن مطيع وعبد الله بن صَفْوان والحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة وعُبيد بن عُمير وبايعه كل من كان حاضرًا من أهل الآفاق فولّى المدينة المنذر بن الزبير وولّى الكوفة عبد الله بن مطيع وولّى البصرة الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة ، وروى هشام بن عُرْوة عن أبيه قال : ألحّ المختار بن أبي عُبيد على عبد الله بن الزبير في الخروج إلى العراق فأذن له وكتب ابن الزبير إلى ابن مطيع وهو عامله على الكوفة يذكر له حال المختار عنده فلمّا قدم المختار الكوفة اختلف إلى ابن مطيع وأظهر مناصحة ابن الزبير وعابه في السر ودعا إلى ابن الحنفيّة وحرّض الناس على ابن مطيع واتخذ شيعةً يركب في خيل عظيمة.

وروى محمد بن يعقوب بن عُتْبة عن أبيه قال : أُخْبر ابن مطيع أن المختار قد أنغل عليه الكوفة فبعث إليه إياس بن المضارب العِجْلي وكان على شرطة ابن مطيع فأخذه فأقبل به إلى القصر فلحقته الشيعة والموالي فاستنقذوه من أيديهم وقُتل إياس بن المضارب وانهزم أصحابه فولّى ابن مطيع شرطته راشد بن إياس بن المضارب فبعث إليه المختار رجلًا من أصحابه في عصابة من الخَشَبيّة فقتله وأُتي برأس راشد إلى المختار فلمّا رأى ذلك عبد الله بن مطيع طلب الأمان على نفسه وماله على أن يلحق بابن الزبير فأعطاه المختار ذلك فلحق بابن الزبير ، وروى يحيى بن عبد الله بن أبي فروة عن أبيه قال : لما خرج ابن مطيع من الكوفة أتْبعه المختار بكتاب إلى عبد الله ابن الزبير يقع فيه بابن مطيع ويجبّنه ويقول : قدمتُ الكوفة وأنا على طاعتك فرأيتُ عبد الله بن مطيع مداهنًا لبني أميّة فلم يَسَعْني أن أُقِرّه على ذلك لما حملتُ في عنقي من بيعتك فخرج من الكوفة وأنا ومن قِبَلي على طاعتك وقدم ابن مطيع على ابن الزبير فأخبره بخلاف ذلك وأنه يدعو إلى ابن الحنَفَيّة.

وفي المدينة كانت الأمور تأخذ منعطفا آخر بعد وفاة يزيد بن معاوية وتنازل ابنه معاوية عن الأمر إذ أقدم مروان بن الحكم على مناورة سياسية يحاول بها إيقاف أمر عبد الله بن الزبير الذي تنامى فذهب إلى عبد الله بن عمر بن الخطاب وقال : ” هلم مد يدك نبايع لك فإنك سيد العرب وابن سيدها ” .. فقال ابن عمر : ” كيف نصنع بأهل المشرق ؟ ” .. فقال مروان : ” نضربهم حتى يبايعوا ” .. فقال ابن عمر : ” والله ما أحب أن تكون لي سبعين عاما ويقتل بسببي رجل واحد ” ، وبعد هذا الأمر لم يعد البقاء في المدينة مواتيا له إذ أرسل ابن الزبير أخاه إلى المدينة فاستولى عليها وأمره أن يخرج بني أمية منها فخرجوا قبل أن يفتك بهم بنو عدي الذين عزموا على الثأر منهم لقتلاهم يوم الحرة فاتفقوا مع الوالي الجديد على ذلك فلما عجزوا عن نيل أحد منهم هاجموا دورهم في المدينة بقيادة حميد بن أبي الجهم فاستولوا عليها واستطاع الأمويون التخفي منهم حتى لحقوا بالشام.

وفي الشام استطاع مروان بن الحكم أن ينظم أمورها بعد أن حشد أنصاره وانتصر على أشياع ابن الزبير في معركة مرج راهط ومن ثم وضع نصب عينه أن يستولي على مصر لأنها دائما ما ترجح كفة صاحبها في أي نزاع وكان ابن الزبير قد أرسل إليها عبد الرحمن بن جحدم الفهري وذلك بعد وفاة مسلمة بن مخلد فاستولى عليها لكنه لم يستطع مواجهة قوات الأمويين بقيادة عبد العزيز بن مروان بسبب نصرة أشياعهم في البلاد ، وبعد وفاة مروان تولى ابنه عبد الملك فلم يتعجل وانتظر حتى دارت رحى الحرب في العراق بين المختار الثقفي وابن الزبير الذي أرسل له جيشا بقيادة أخيه مصعب فقاتله وانتصر عليه وقتله وأسرف في قتل أتباعه حيث يروى أنه لقي عبد الله بن عمر بن الخطاب فقال له : ” أنت قاتل سبعة آلاف من أهل القبلة في غداة واحدة ؟ عش ما استطعت ” .. فقال له مصعب : ” إنهم كانوا كفرة سحرة ” .. فقال ابن عمر : ” والله لو قتلت عدلهم غنما من تراث أبيك لكان ذلك سرفا “.

وبعد أن استتب له الأمر زحف إلى الشام حيث دارت معركة دير الجاثليق وأسفرت عن هزيمته ومقتله ومن ثم استيلاء عبد الملك بن مروان على العراق فلم يعد لابن الزبير إلا الحجاز فأرسل الحجاج بن يوسف الثقفي إليه فأخضعه ثم حاصر مكة وفيها ابن الزبير وابن مطيع وابن صفوان قد عزموا على المقاومة وجعل عبد الله بن مطيع يقاتل ويقول : (أَنَا الَّذِي فَرَرْتُ يَوْمَ الحَرَّهْ وَالحُرُّ لَا يَفِرُّ إِلَّا مَرَّهْ .. يَا حَبَّذَا الكَرَّةُ بعد الفَرَّهْ لأَجْزِينَ كَرَّةً بِفَرَّهْ) ، وانتهت الحرب باستشهاد القواد الثلاثة وحملت رؤوسهم إلى المدينة ومر ابن عمر (وكان بمكة وقتها) على ابن الزبير وهو مصلوب فقال : ” السلام عليك أبا خبيب .. أما والله لقد كنت أنهاك عن هذا أما والله إن كنت ما علمت صواما قواما وصولا للرحم .. ” .. وعندما سمع الحجاج يسب ابن الزبير على المنبر ويقول إنه بدل كلام الله قال له على الملأ : ” كذبت ليس كلام الله بيدك ولا بيد ابن الزبير كتاب الله أعز من أن يبدل “.

وعندما انفرد عبد الملك بن مروان بالأمر بايعه ابن عمر وكان قد امتنع عن البيعة له أو لابن الزبير ما دام المسلمون في خلاف كما أنه لم يبايع لعلي أو معاوية ساعة الخلاف من قبل لكنه بايع معاوية لما اجتمعت عليه الأمة بعد تنازل الحسن وبايع ليزيد لما اجتمع الناس عليه ولم يلبث بعدها إلا شهورا معدودة ثم توفاه الله ، وكان عبد الملك يملك من السياسة ما جعلته يعفو عن بني عدي فلم يثأر منهم أو يقتلهم بل إنه استعظم قتل ابن مطيع وكان يتمنى أن يسلم فيعفو عنه وذلك حتى لا يثير المحايدين من القبيلة (أمثال أبناء عمر) ، وكان العدد الأكبر من بني عدي يتمثل في آل مطيع وآل أبي الجهم (أبناء عبد الله بن مطيع ومحمد بن أبي الجهم) حيث غادروا المدينة باتجاه مصر عند واليها عبد العزيز بن مروان وكان يتمتع أيضا بالحنكة السياسية ففرقهم في ربوع البلاد ليكسر شوكتهم فنزلوا في وسط الدلتا في قرية عرفت باسم (العدوية) بجوار قرية (الزبيرية) التي نزلها أبناء الزبير (ومكانهما حاليا في مركز كفر الزيات بالغربية).

وقد ذكرت تفاصيل تلك الحوادث المتعاقبة بالتفصيل الدكتورة سعاد ماهر أستاذ الآثار الإسلامية في كتاب مساجد مصر وأولياؤها الصالحون في الجزء الأول ص 77 وهي تتكلم عن مقابر الشهداء في محافظة المنوفية (ومنهم سيدي محمد شبل بن الفضل بن العباس الذي شارك في المعارك واستشهد هناك) حيث تقول : ” وقد جاء في معجم البلدان لياقوت الحموي أن مقابر الشهداء موضع بأرض مصر وقعت فيه حروب بين مروان بن الحكم وجنوده وبين الزبيرية من أهل مصر سنة 65هـ وقتل من الفريقين عدد عظيم فدفن المصريون قتلاهم في هذا الموضع وسموه مقابر الشهداء ، وإذا تتبعنا الأحداث التاريخية وجدنا أن مصر كانت في القرن الأول الهجري تشارك مشاركة فعالة في مجرى الأحداث السياسية في الدول الإسلامية فقد اشترك بعض أفراد منها في مقتل الخليفة عثمان بن عفان كما ساهمت في الفتنة الكبرى التي وقعت بعد مقتل عثمان وفى الخلافة بين سيدنا على ومعاوية ..

وحدث في عهد الدولة الأموية عندما توفى الخليفة يزيد بن معاوية بن أبى سفيان أن دعا عبد الله بن الزبير لنفسه بالخلافة فثار أنصاره بمصر واظهروا دعوته وسار إليه في المدينة المنورة جماعة منهم .. فأرسل عبد الله بن الزبير عبد الرحمن بن عتبة بن حجدم واليا على مصر من قبله فوصلها سنة 64هـ في جمع كبير من أنصار ابن الزبير ومن أهل المدينة الناقمين على الأمويين لقتلهم وتمثيلهم بشهيد كربلاء سيدنا الحسين رضي الله عنه ولما بويع مروان بن الحكم الأموي بالخلافة جهز جيشا أمر عليه ابنه عبد العزيز بن مروان وأرسله إلى مصر وحارب ابن حجدم في عدة مواضع كان من بينها موضع بالمنوفية قتل فيه من الفريقين عدد عظيم وانتهت المعركة بانتصار مروان بن الحكم ودخوله الفسطاط سنة 65هـ ، وبعد انتهاء المعركة دفن أنصار ابن الزبير قتلاهم في ذلك الموضع بجوار قرية سرنا فاشتهرت بين الناس باسم مقابر الشهداء وكان يوجد بجوار تلك المقابر كفر صغير عرف منذ ذلك الوقت باسم الشهداء .. “.

ويذكر الأستاذ محمد رمزي في كتاب (القاموس الجغرافي للبلاد المصرية) أن مروان بن الحكم عندما دخل الفسطاط عام 65 هـ أخرج منها كل أشياع ابن الزبير ونفاهم إلى جزيرة بني نصر في وسط الدلتا حيث لم يكن هناك حل آخر فهو لا يستطيع أن يبدأهم بقتال وهم محايدون وفي نفس الوقت لا يأمن ثورتهم .. ولا ريب أنه كان يخشى الثارات المتبادلة بين الأمويين وبين بني عدي بن كعب خاصة وقد كان عبد الله بن مطيع سيد بني عدي هو الرجل الثاني في دعوة ابن الزبير ومن هنا نفهم لماذا أقدم مروان على إخراج بني عدي وجمع كبير من القرشيين من الفسطاط إلى خارجها .. وقد استقر المقام بالمنفيين في مناطقهم الجديدة والتي عرفت بعد ذلك باسم الزبيرية والعدوية وظلت تحمل هذه الأسماء حتى جاء الفيضان في القرن الحادي عشر الهجري فأزالها وبنيت على أنقاضها قرى جديدة.