
(عالم الصعيد) هو اللقب الذي عرف به الشيخ الجليل علامة العصر الفقيه المحدث الحجة الكامل حسن بن أحمد الرفاعي بن أحمد سالم الشهير بالهواري العدوي (1841 ـ 1924م) .. ولد ليلة الاثنين 27 من شهر رجب 1257هجرية / 1841 ميلادية بقرية بني عدي القبلية مركز منفلوط ونشأ بها وحفظ القرآن الكريم وقرأه بالروايات العشر على العلامة الشيخ حسن خلف الحسيني وأتقن علم القراءات ، ثم سافر إلى القاهرة طلبًا للعلم بالأزهر الشريف ودرس على يد فطاحل ذلك العصر من مشايخ الإسلام كالعلامة الشيخ محمد عليش شيخ المالكية والعلامة الشيخ محمد قطة العدوي والعلامة الشيخ أحمد الأجهوري وغيرهم واجتهد في حضور الدروس وواظب وبرع في دراسته بالأزهر الشريف وأجازه أشياخه وشهدوا له بالبراعة والتبحر في العلوم وصار علمًا يهتدي به ، ثم رجع إلى بلده أسيوط وهناك درس خاتمة المحدثين على يد الإمام الشهير المجتهد البارع المدقق سيدي الشيخ علي بن عبد الحق القوصي تلميذ الإمام السنوسي الشهير فحضر عليه صحيح الإمام البخاري وغيره وأجازه بمروياته وأسانيده وما تلقاه عن أشياخه وانتفع به حيث وجّهه إلى علم الحديث الشريف وحوّله من جمود المقلدين فطالع كتب الحديث التي هي أصل السنة ومادة الدين وعرف الأدلة فصار يتتبع الراجح من الأقوال وما صح من الأحاديث وتهذيب نفسه بنور السنة.
ويقول المؤلف رجائي الطحلاوي في كتابه (أعلام أسيوط) عن الشيخ : ” أخذ الطريقة الصوفية الخلوتية وسلك مسالك أهل الحقيقة وعكف على تعليم الطلاب في بلده بني عدي فنجب على يده كثير من العلماء الذين صاروا من كبــار المدرسين النابغين فمن تلاميذه الذين تخرجـوا ونهلـوا من علومه الشيخ علي يوسف صاحب جريدة المؤيد والشيخ محمد حسنين العدوي وكيل الأزهر والشيخ عبد الهادي مخلوف العدوي والشيخ علي إدريس العدوي وغيرهم من أفاضل العلماء ، ولضخامة المجهود الذي بذله في التدريس لم يصنف سوى كتاب سماه ” فتح الجليل بذكر طرف مما يتعلق بالتنزيل ” وكل علماء زمانه اعترفوا له بالسبق ، كان الشيخ شديد التواضع والزهد والتقوى والمروءة والسخاء كريم الضيافة حيث إن معظم تلاميذه المغتربين كانوا يقيمون بمنزله وكان كريم الأخلاق ودودا لكافة الناس منعكفا على إلقاء الدروس صارفا كل وقته في التعليم فلا يعتريه كسل أو ملل وكان محبًا للعزلة فربما تمر عليه الشهور الطويلة لا يخرج من بلدته وكان مقبول الشفاعة عند الحكام ومحبوبا من الأقباط ، وقد تُوفي في عام 1924 ميلادية ودفن في أعلى الربوة بجبانة آل الهواري المعروفة بجبل بني عدي القبلية وشيد له حضرة الوجيه سيد بك محمد خشبة من أغنياء أسيوط مسجدًا نيرًا شاهقًا وحوله مدرسة للطلبة ومكتبا لتعليم القرآن الكريم ومرافق للمسجد “.
وهو من بيت اشتهر بالعلم في بني عدي من عهد بعيد ويرجع نسبهم إلى أحد فروع قبيلة هوارة المغاربية العريقة المهاجرة من الأندلس (ينتسبون إلى بني عدي حلفا من ناحية المنشأ) وقد ذكر الشيخ في رسالته التي ضمنها الباحث حسن علي حمزة سيرته الذاتية فقال : ” البلد مشهورة بالعلم من قديم فإن جدي الأعلى حين قدم إلى مصر من المغرب نزل بموضع من الصعيد من جهة الجنوب بالنسبة لبلدة بني عدي بينهما مسافة يوم بسير الإبل فلم يجد بالكورة التي حل بها بلدة تشرف بكثرة العلم والعلماء وكان يحب مجاورتهم فارتحل عنه وسار يتتبع الأحوال في البلاد إلى أن وصل إلى بلدة بني عدي فرضي المقام بها إذ وجد غرضه بها متوفرا وذلك في النصف الأول من القرن الحادي عشر الهجري ” ، ومن علماء هذا البيت جده الأعلى الشيخ حسن الهواري العدوي الذي وصفه القطب أبو البركات الدردير بوصف (العلامة) وكان موجودا في بني عدي إلى نهاية القرن الحادي عشر الهجري وولده العلامة الشيخ سالم بن حسن الهواري العدوي (1693 ـ 1766 م وهو معاصر للشيخ علي الصعيدي العدوي) وابنه الشيخ حسن بن سالم بن حسن الهواري العدوي (تلميذ الشيخ علي الصعيدي العدوي وشيخ رواق الصعايدة من بعده والمتوفي عام 1795 م) والعلامة الشيخ محمد حسن الهواري العدوي تلميذ الإمام الدردير والشيخ علي بن أحمد بن علي الهواري العدوي والشيخ أحمد بن رفاعي الهواري (والد الشيخ حسن) وكان من الأخيار الصالحين كثير الأوراد والأذكار درس في مسجد السوق في بني عدي (مبنى المعهد الديني حاليا) وعاش قرابة قرن فهو من المعمرين والشيخ أحمد الدردير الهواري العدوي (ابن الشيخ حسن 1885 ـ 1945 م).
وقد استقر الشيخ في بني عدي وأخذ يلقي الدروس في التفسير والحديث والقراءات والنحو بمسجد سيدي علي بن صالح الحسيني العدوي المواجه لمنزل عائلته واستطاع أن يجعل منه معهدا علميا دينيا يفد إليه طلاب المعرفة والعلم من جميع أرجاء الصعيد .. ويحكي عنه المؤلف محمد البشير ظافر في كتابه (اليواقيت الثمينة) فيقول : ” وكان المترجم موضع تقدير واحترام علماء الصعيد في عصره .. وله تقريرات متعمقة على كثير من الكتب العلمية التي درسها للطلاب .. وقد كان يوم وفاته يوما مشهودا اجتمع فيه خلق كثير من بني عدي وغيرها من البلاد المجاورة .. وقد لازمته في درس التفسير للبيضاوي طيلة الأيام التي مكثتها عنده وطريقته في التفسير أن يفتتحه بإعراب الآيات ويذكر وجوه الإعراب والخلافات وأسباب النزول والعلل والأوجه والمآخذ والتوجيهات وتأويل الآيات ويذكر القراءات العشر ويستشهد كثيرا بأبيات من الشاطبية ويبين ما في الآيات من من مجاز واستعارة وكناية ويستوعب أقوال كبار المفسرين من حفظه كالطبري والرازي والزمخشري وأبي السعود والآلوسي ويناقش النحاة والمفسرين ويبين سهوهم ويرده بغاية الأدب وبالجملة فإنه يستوفي المقام ولا يترك مقالا لقائل .. وعادته بعد صلاة العشاء أن يسمع لكافة تلاميذه أجزاء من القرآن الكريم يرتلونه ترتيلا حسنا على الروايات العشر .. وهو طويل القامة ضئيل الجسم أسمر اللون خفيف اللحية يلبس من أخشن الثياب ولا يتكلف ويواظب على النوافل وله أوراد وأذكار يديمها رقيق القلب شديد الغيرة على الدين كثير الدعاء لأشياخه والترحم عليهم وبعد ختام الدروس يقرأ لكل واحد منهم الفاتحة “.
ومن مآثره ما جاء في كتاب أعلام بني عدي نقلا عن الأستاذ عبد الهادي عارف قائلا : ” أراد الشيخ حسن الهواري أن يسافر إلى القاهرة ليجاور في الأزهر بعد ما أتقن حفظ وتجويد القرآن الكريم وبعض العلوم فاستأذن والدته وكانت أخت الشيخ محمد الحداد العدوي فلم تأذن له ليسافر عند خاله فعنفها وسافر بدون رضاها وبعد رحلة سفر شاقة للشيخ حسن دخل على خاله الشيخ الحداد وكان يلقي درسا في أحد المساجد فلما نظر إليه الشيخ محمد وهو يعرفه جيدا وضع يده اليمنى على عينه قائلا : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم وكررها ثلاثا وبعد أن اندهش الحاضرون وتعجب الشيخ حسن من فعلة خاله هذه واستقباله غير المتوقع قال له الشيخ محمد : يا بني إنني قد رأيت مكتوبا على جبهتك : هذا قد أغضب والدته فاستعذت بالله من هذا وأمره أن يرجع إلى بني عدي مرة أخرى ويتقن العلوم حتى ترضى عنه والدته وبعدها بعام أو أكثر استأذن الشيخ حسن والدته ليجاور في الأزهر فرضيت وعندما وصل إلى خاله الشيخ محمد الحداد استقبله أحسن استقبال ثم صاحب ابنه الشيخ (أبو بكر الحداد) الذي صار فيما بعد شيخا للشيخ حسن الهواري في الطريقة الخلوتية حيث يعد الشيخ حسن الهواري العدوي من أعلام الطريقة الخلوتية وفق ما جاء في كتاب (أضواء على الطريقة الرحمانية الخلوتية) من تأليف عبد الباقي مفتاح حيث ذكر أنه تلقى الطريقة عن شيخه محمد الحداد العدوي.
وفي نفس الكتاب جاء ذكر لبعض مناقب الشيخ على لسان حفيده الأستاذ مجدي الهواري العدوي حيث يقول : ” وكان الشيخ حسن الهواري يلقي العلم في مساجد مراكز وقرى محافظات أسيوط والفيوم وسوهاج والمنيا لذا لقب بلقب (عالم الصعيد) .. وتقديرا لمكانته أمرت السلطات الخديوية بعمل بطاقة (كارنيه) مجانا على جميع خطوط السكك الحديد وكان بدون صورة لأنه كان يحرم التصوير وهذا استثناء آخر له فرفض الشيخ حتى رضي بنصف الأجر .. وكان يلقي العلم بجامع أسيوط الكبير ويسمى بالمسجد الأموي وكان كل من يختم عليه حركات العلم يعتمد له إجازة بذلك حيث كان المسجد الأموي المقر الأول لمعهد فؤاد الديني ، وكان يلقي العلم أيضا بمنزله في بني عدي حيث كان يحضر عليه الكثير من طلاب العلم من جميع البلاد بالصعيد ويقيمون أيضا بمنزله .. وكانت مساحة منزله حوالي ألف متر مربع وبه من الخيرات الخيول والجمال والعجول وجميع المواشي وطاحونة خاصة لإطعام المغتربين وكان كريم الضيافة .. وكان تكليفه في الأطيان الزراعية الشرقية حوالي 31 فدان وكانت له حديقة مشهورة باسم (جنينة الشيخ) فكان بذهب من منزله إلى الحديقة وحوله التلاميذ والمجاورون .. وقد بنى له أحد تلامميذه مقاما في بلدة البهنسا وهو معروف إلى الآن بمقام الشيخ الهواري.
ومن المعلوم أن الشيخ علي يوسف صاحب جريدى المؤيد كان من أهم تلاميذ الشيخ حسن الهواري (أصله من بلصفورة سوهاج لكنه تلقى العلم صغيرا في بني عدي) ، وكان على صلة وثيقة بالخديوي عباس حلمي الثاني ثم بعد ذلك بالسلطان حسين كامل .. وقد حدث أن الشيخ علي يوسف قد دعا الشيخ حسن الهواري لزيارة جريدة المؤيد فلما ذهب الشيخ حسن في الموعد المحدد وجد الشيخ علي يوسف قد ترك أمرا لدى موظفيه بالجريدة بأن يصطحب أحدهم الشيخ الهواري ليقوم بتوصيله إلى قصر عابدين حيث يحضر في اجتماع الخديوي مع كبار رجالات الفكر والأدب والثقافة من مصر والشام والبلاد العربية ، وعندما سمح الخديوي للشيخ بالدخول قام الشيخ علي يوسف على الفور وقبل يدي أستاذه الشيخ الهواري وهو يقول للحاضرين إنه شيخي وأستاذي وقد جاء ليسأل عني فقال الخديوي : ” أنت عالم الصعيد ” ثم أصدر له أمرا خديويا بذلك في عام 1906 تقريبا ، وهذه الرواية متداولة في سيرة الشيخ في تراجمه المختلفة وتحمل طابعا مسرحيا طريفا لكن الأرجح أن اتصال الشيخ بالخديوي كان بترتيب مسبق من الشيخ علي يوسف حيث كان الخديوي يهدف إلى تجميع عدد من الرجال المؤثرين حوله من العلماء والشيوخ والأدباء وأهل الفكر والسياسة ليكونوا ظهيرا مستترا للحزب الوطني بزعامة مصطفى كامل والذي كان يرعاه ليكون عونا له ضد الاحتلال البريطاني.
وفي مذكراته التي صدرت تحت عنوان (عهدي) يقول الخديوي عباس حلمي الثاني : كنت أرغب أن تكون هناك جريدة قادرة على تنوير الأمة وقيادتها والسير بها شيئا فشيئا إلى فكرة أكثر وضوحا عن الوطن والمواطن ولذلك فإنني إستدعيت كاتبا عربيا وكان البعض قد أشاروا علي بحسن إستعداده ومميزاته وهو الشيخ علي يوسف وكان قد تخرج من الأزهر ويشتهر بقوته على المناقشة وكان الشيخ علي يوسف من الصعيد ويعرف عقلية وأماني أبناء شعبه وكانت سياسته تستند في بعض الأحيان على هيبة الخليفة ولكن لا يمكننا القول أبدا إنها كانت تركية أو إسلامية بشكل خاص .. وأخذ الشيخ علي يوسف في بعض الأحيان مظهر المدافع عن الإسلام أكثر من كونه مشططا لإتجاه وطني قومي وسرعان ما أصبحت (المؤيد) إحدى الصحف الرئيسية باللغة العربية وكان لها قراؤها من طنجة حتى الهند ومن تركيا حتى زنجبار ولم يكن تعليمه الديني ليؤثرإلا قليلا للغاية على اتجاهاته التي كانت ليبرالية بنوع خص ولم يخضع لإغراء الإتجاه الغربي وبريقه والواقع أن الشيخ علي يوسف لم يكن أبدا رجل تركيا فمع أنه في بعض الأحيان قد أيد الخلافة إلا أنه لم يكن يعني بها سلطان إسطنبول وإنما يعني بها خليفة المسلمين وإن هذا الشيخ كان مصريا قبل كل شيء والحق أن الاتجاه الوطني لعلي يوسف قد سحر الشباب بالفعل.
