القومية المصرية

” القومية المصرية .. هوية وطنية جامعة “

هو الكتاب السادس والأخير في سلسلة إصدارات الطليعة المصرية الصادرة عن دار الأدهم للنشر والتوزيع وهو أصغر كتب السلسلة لأنه مكمل للموضوعات الواردة في كتاب ” هوية مصر الحضارية ” حيث يتناول الإجابة على سؤال محدد طالما شغل الباحثين في التاريخ والتراث وهو ” هل نحن فراعنة ام عرب ؟؟ “

والإجابة على هذا السؤال ليست سهلة أو بسيطة بسبب مناخ التعصب الذي يعتمد عليه البعض لإثبات وجهة نظره .. فهناك من يريد قطع الصلة تماما مع تاريخ المصريين القدماء ويصمه بالوثنية والفرعونية .. وهناك من يريد نفي الانتماء للعروبة والإسلام في مغالطة واضحة للواقع والتاريخ ..

من أجل ذلك جاء الفصل الأول من الكتاب لرصد آحدث الدراسات الجينية التي أجريت على العرب والمصريين الحاليين لبيان مدى التشابه والاختلاف في الماضي والحاضر .. وسوف تتغير هذه النتائج بالتبعية مع إتمام الخريطة الجينية الكاملة للمنطقة والانتهاء من فحص كافة المومياوات المتاحة لتحليل دي ان ايه.

أما الفصل الثاني فيتناول الأسباب التي أدت إلى تعريب مصر في العصر الإسلامي على خلاف ما حدث في الأناضول وفارس والسند والملايو وأفريقيا المدارية حيث انتشار الإسلام مع الاحتفاظ باللغات الأصلية وهو ما يعني أن اللغة العربية لم ترافق انتشار الإسلام وإنما توقفت عند حدود معينة غير مرتبطة بالدين.

وفي الفصل الثالث نرصد انتشار الهوية الدينية في مرحلة معينة من تاريخ البشرية في الشرق والغرب وتأثير ذلك على العلاقة بين أفراد المجتمع والحكومات .. ولم تكن مصر استثناءا من القاعدة لأن الهوية الدينية لا زالت موجودة في خلفية الوجدان الجمعي للشعوب كافة تحت غطاء القومية الحديثة.

أما الفصل الرابع والأخير فيتناول مشكلة الأقليات المتنوعة في مصر وضرورة وجود ثقافة قومية جامعة قادرة على استيعاب كافة المكونات الدينية واللغوية والإيمان بالتعددية في الأفكار لأن مصر في تاريخها لم تكن يوما ذات لون واحد أو دين واحد أو مذهب واحد .. وهذا أحد أسرار التفرد الحضاري لأرض الكنانة.

مصر .. كنانة الله في أرضه

الناظر للتاريخ القريب والبعيد يدرك حقيقة لا شك فيها مفادها أن الأمة المصرية كانت دائما في حالة من العزة والمنعة والقوة ما عدا فترات بسيطة تعرضت فيها لانكسارات مؤقتة تعود بعدها إلى سابق مجدها ، وهي الآن في طريق عودتها لمكانتها الطبيعية التي اختصها بها الله تبارك وتعالى حيث ذكرها في كتابه العزيز مقرونة بالمجد والأمن والكرم والرخاء وأوصى النبي(ص) بأهلها خيرا وجاء في الأثر أنها كنانة الله في أرضه من أرادها بسوء قصمه الله وأن أهلها خير أجناد الأرض.


مصر صاحبة الحضارات وحامية الرسالات ونصيرة الحق والعدل ودرع الإسلام عند الشدائد والملمات ويكفيها فخرا أنها في فجر التاريخ اخترعت الأبجدية لنتمكن من القراءة وصنعت الورق لنستطيع الكتابة وآمنت بالتوحيد في الألف الخامسة قبل الميلاد قبل نزول الكتب السماوية الأربعة وعمرت الأرض وأقامت العدل عندما كان غيرها يحبو أولى خطواته نحو التمدن وهي رائدة كل حضارات الشرق القديم ( البابلية والفارسية والفينيقية ) والأب الروحي للحضارات الأوروبية الأولى ( الإغريقية والرومانية ) وقلب حضارة العصر الوسيط ( الحضارة العربية ) ومصدر إلهام متجدد للحضارة الغربية الحديثة فلا تخلو عاصمة كبرى من مسلة مصرية ضخمة تنتصب شامخة تذكرنا بالمجد التليد فهي حقا أم الدنيا ،

وهذا راجع بالدرجة الأولى إلى التنوع الثقافي الهائل وانصهار مكونات حضارية متعددة في بوتقة وادي النيل عبر تاريخه الطويل عبر سبعة آلاف عام شمل أربع محطات دينية وثقافية عمر كل واحدة منها يناهز ألف عام ( منف ، طيبة ، الإسكندرية ، القاهرة ) ساهمت كل واحدة منها بنصيب وافر في التكوين السكاني والحضاري واللغوي إلى جانب التأثير الطاغي للدين والفلسفة على كل مكونات الحياة وتفاصيلها بصورة لم تتكرر في حضارات أو شعوب أخرى .

أصل المصريين

يقول الدكتور سليم حسن في الجزء الأول من موسوعته (مصر القديمة) تحت عنوان (تقسيم البلاد إلى أربعة أقاليم) : ” يمكننا الحكم بأن البلاد كانت في بادئ الأمر مؤلفة من قبائل ثم مقاطعات وانمحت الأولى وبقيت الثانية في العصور التاريخية ، وقبل أن نتكلم عن رموز المقاطعات وآلهتها رأينا أن نستعرض رأي الأستاذ (لوريه) في أصل تقسيم البلاد المصرية إلى أربعة أقاليم معينة يعتقد أنها الأساس الذي تألفت منه البلاد منذ أقدم العهود ، والواقع أن نظريته خلابة ويظهر في عرضها أنها قد تكون صحيحة في جملتها إذ يرى أنه أتت قبائل وشعوب من بلاد لوبيا ومن آسيا الصغرى ومن جنوب مصر واختلط بعضهم ببعض وتحاربوا وأخذت الواحدة منهم تحل مكان الأخرى ثم تحالفوا فيما بينهم وانتهى الأمر بأن تألفت منهم أربع طوائف عظيمة .. النحلة والبوصة والثعبان والنسر ثم تألفت من النحلة والبوصة مملكة ومن الثعبان والنسر مملكة أخرى ، وفيما بعد وفد على البلاد قوم من آسيا عن طريق بلاد العرب والصومال ونزلوا نحو الشمال وتوغلوا في البلاد حتى الوجه القبلي وهذا الجنس الجديد ذو المواهب العظيمة تأصل في البلاد وكون مملكة ثالثة .. مملكة الصقر ، وبعد قرون عدة انقضت في حروب ومحالفات متتالية بين تلك الممالك الثلاث تغلبت في النهاية مملكة الصقر ، ومن ذلك العهد أصبحت تلك الممالك الثلاث موحدة تحت سلطان صولجان ملك واحد وهو (بر ايب سن) آخر ملوك الأسرة الثانية ، وهذه الحقائق مستقاة من دراسات دقيقة للآثار العتيقة ومن العناصر المختلفة التي تتألف منها ألقاب الفراعنة التي منها ألقاب حور ونبتي ونسوت بيتي ويعتقد الأستاذ (لوريه) أنها إشارات رمزية يقصد منها أولا طوائف القبائل الأولية وفيما بعد رؤساء هذه الطوائف) ا.هـ.

وتحت عنوان (مصر وأصل المصريين) يستطرد الدكتور سليم حسن قائلا : ” وقد كانت مصر مسكونة منذ عصور ما قبل التاريخ بقوم من الجنس الحامي يقال إنه نشأ من البلاد نفسها أي إفريقي الأصل وينسب إلى لوبيي إفريقيا الشمالية المسمين الآن بالبربر وإلى السكان الحاميين من إفريقيا الشمالية الشرقية (الصوماليين) ولا مراء في أن الحاميين المصريين يمثلون أقدم مدنية معروفة في وادي النيل ، وعلى ذلك تكون مصر جزءا من مجموعة المدنيات الحامية الإفريقية الأخرى ، غير أنه عند نهاية عصر ما قبل الأسرات نجد بعض التغيير أخذ يدخل على هذا الشعب الحامي الجنس الناشيء من طبيعة البلاد نفسها ، والظاهر أن هذا التغيير جاء عن طريق الهجرة وأهم العناصر الجديدة التي دخلت البلاد يظهر أنها من أصل آسيوي وكانت لها مميزات خاصة تختلف اختلافا بينا عن الشعب الأصلي وهؤلاء الآسيويون قد اختلطوا شيئا فشيئا بالسكان الأصليين واندمجوا فيهم ” ، وفي نفس الفصل يستطرد بالقول : ” أما الغزاة أو النازحون فيقال إنهم أدخلوا إلى البلاد معرفة المعادن وبخاصة النحاس وأدخلوا كذلك عبادتهم للأموات وديانتهم وكتابتهم وفنونهم ونظمهم السياسية والاجتماعية ولا شك أن دخول هذا الجنس قد أتى تدريجيا من غير عنف ، ومهما تكن الحقيقة في أمر هذا الجنس الجديد فإن هناك أمرا ثابتا ذلك أن النزلاء قد توصلوا إلى الاستيلاء بنجاح على البلاد شيئا فشيئا ، وأهم الوثائق التاريخية التي وصلت إلينا من هذا العهد هي الألواح الإردوازية المنقوشة وقد وصلت إلينا هذه النقوش على أشكال مختلفة ومن الصعب الاهتداء إلى حلها ، على أنها هي الذكرى الوحيدة لدينا لهذا الفتح الطويل الذي كانت نهايته على ما يظهر اتحاد كل البلاد من أسوان إلى البحر الأبيض المتوسط تحت صولجان ملك واحد ” ا.هـ.

العرب قبل الإسلام في مصر

في كتابه (العرب قبل الإسلام) يذكر جورجي زيدان تمدد القبائل العربية في مصر فيقول : ” كانوا يشغلون الجزء الشمالي من الحجاز العربي وبرية سيناء إلى حدود مصر ولم تكن لهم دولة أو ملوك ولكنهم غلبوا على بادية مصر وصعيدها أجيالا ، فقد ذكر ابن خلدون (أنهم اجتاز منهم أمم إلى إلى العدوة الغربية من البحر الأحمر وانتشروا ما بين ما بين صعيد مصر وبلاد الحبشة وكثروا هناك سائر الأمم وغلبوا على بلاد النوبة وفرقوا كلمتهم وحاربوا الحبشة فأرهقوهم إلى هذا العهد) .

ويوافق ذلك ما ذكره اليونان عن أخبار مصر لأوائل النصرانية فقد ذكر استرابون وبيلينيوس (أن العرب تكاثروا في أيامهما على العدوة الغربية من البحر الأحمر حتى شغلوا ما بينه وبين النيل في أعلى الصعيد وأصبح نصف سكان قفط منهم وكانت لهم جمال ينقلون عليها التجارة والناس بين البحر والنيل) ، وكانت العرب في أيام أغسطس قيصر بأوائل النصرانية قد دوخوا الحبشة وتملكوها وأوغلوا في بلاد النوبة ولهم فيها وفي مصر طرق مختصرة يعرفونها .. وتغيرت لغة الأثيوبيين وعبادتهم بنزول أولئك العرب فيها فبعد أن كانت مصرية أصبحت عربية فيستدل من ذلك أن العنصر العربي كان في أوائل النصرانية غالبا على صحراء مصر الشرقية والحبشة والنوبة “.

ومن المسلم به تاريخيا أن الهجرة العربية إلى مصر سبقت الإسلام بكثير فسجلات التاريخ الفرعوني تشير باستمرار وبانتظام إلى جماعات البدو الشرقية تطلب الإذن بالدخول أو تتسلل من الجزيرة العربية والشام عبر سيناء إلى الصحراء الشرقية وأطراف الوادي والدلتا ومن أمثلة ذلك هجرة الإسماعيليين من منطقة الحجاز ثم النبطيين من منطقة مدين باتجاه الغرب حتى تخوم الدلتا وفي القرن الأول الميلادي انتقل فرع من قبيلة قضاعة العربية إلى سيناء حيث امتدت منازلهم إلى الفرما (وهي قبيلة بلي الحالية التي تشكل مكونا أساسيا من سكان سيناء) وفي القرن الثاني والثالث الميلادي تبعتهم قبائل جذام ولخم وربيعة وثعلب وبنو صخر وذلك حول منطقة العقبة.

وفي أعقاب الغزو الفارسي لمملكة بابل انفرط عقد الآراميين في المنطقة كلها بسقوط أكبر دولة لهم مما أتاح الفرصة للأنباط القادمين من شمال الحجاز لبسط سيطرتهم على المنطقة وإنشاء دولتهم التي استمرت قرابة خمسة قرون امتدت حتى دلتا مصر وصمدت خلالها ضد محاولات السلوقيين الإغريق غزوها وإخضاعها وكانت تسيطر على التجارة في الشرق الأوسط من عاصمتها البتراء (بطرا / الرقيم) لكنها في النهاية سقطت بيد الرومان.

وقد ورثتها دولة تدمر في الشمال حيث سيطرت على البادية العربية كلها من الفرات إلى مصر لكنها لم تصمد أمام الزحف الروماني وأدى انهيارها إلى تقدم قبائل تنوخ وبهراء وتغلب وإياد بقيادة جذيمة الأبرش متوغلا حتى سيطر على الأنبار والحيرة وفتح باب استيطان القبائل العربية هناك مما اضطر ملوك الفرس إلى مهادنته هو وخلفاؤه من اللخميين بينما سيطر الضجاعمة على بلاد الشام (وهم فرع من قبيلة سليح) حتى هزمهم الغساسنة وحلوا محلهم وانتشرت منازلهم من البلقاء وحتى دلتا مصر.

ومن أهم القبائل التي دخلت مصر مع الفتوحات هي تلك التي كان لها وجود سابق في سيناء وهي جذام ولخم وبلي بالإضافة إلى قريش وفي العهد الأموي استقرت قبائل من (قيس عيلان) في منطقة بلبيس وهي بور وخراب فحولوا الحوف الشرقي كله إلى مناطق زراعية مزدهرة ثم انتقل بعضها إلى قفط في الصعيد لمواجهة غارات البجا القادمين من شرق السودان كما تبعتها قبائل من جهينة وحمير لكن أسرع القبائل وقتها في الاستيطان كانت قبائل الأزد (وهي قبائل حضرية في الأصل وليست من البدو الرحل) مثلها مثل القبائل اليمنية الأربعة التي دخلت مع مع عمرو بن العاص وهي هي (تجيب ومعافر وخولان وغافق) وهي قبائل قادمة من اليمن فعلا وليست من قبائل البادية القحطانية التي توصف باليمنية مجازا لذلك جاءت الفسطاط مختلفة كل الاختلاف عن بقية الحواضر الإسلامية.

أولاد الناس

التنوع الكبير في الأصول الجينية للشعب المصري حاليا سوف يكون مفيدا جدا في علم الجينات حيث توجد فئات كثيرة من السكان تتمتع بصفات جينية متباينة ومن أهمها العائلات التي تنحدر من أصول تركية لأن العنصر الطوراني تواجد في مصر لمدة طويلة بسبب شراء المماليك طيلة ستة قرون متعاقبة حيث تشكلت منهم الطبقة الحاكمة والجنود المقاتلة وهؤلاء جميعا تكاثروا وشكلوا في تلك العصور أغلب سكان القاهرة المملوكية والعثمانية لأن المملوك بعد تقلده المنصب كان يعتق فيولد أبناؤه وبناته أحرارا يمارسون حياتهم العادية ولا ينخرطون في سلك الجندية ويشكلون طبقة الأغنياء في العاصمة وكان يطلق عليهم اسم (أولاد الناس) حيث اندمجوا في حياة المصريين لكن مع احتفاظهم بلغتهم وهويتهم المتميزة.

وقد تعددت أصولهم ما بين القفجاق والمغول والتركمان لكن أكبر فئة منهم كانت الجراكسة الذين أحضرهم السلطان قلاوون من القوقاز ثم بدأت تزاحمهم عناصر أوروبية مثل السلاف والإغريق الذين جلبهم السلطان برقوق من البلقان تبعتها عائلات كثيرة نزحت من الأناضول في العهد العثماني للعمل في الوظائف العليا ثم جاء الألبان ضمن الجيوش العثمانية الهادفة لطرد الحملة الفرنسية (ومن بينهم حامية العريش التي استقرت في المدينة واندمجت مع سكانها وأطلق عليه اسم العرايشية) ثم في عهد أسرة محمد علي (المنحدرة من قولة في مقدونيا) كانت العائلات التركية تشكل قوام الطبقة الأرستوقراطية (لأن مذبحة القلعة قضت على القادة المحاربين فقط بينما كانت أعداد مهولة من أبناء الشراكسة مندمجة بالفعل مع المصريين بل كان منهم كبار الضباط في العهد الخديوي).

ويمكننا تمييز ذوي الأصول الطورانية من خلال ملامح الوجه المختلفة عن المصريين العاديين كما ذهبت بعض الدراسات الجينية إلى أن العرق الشركسي وحده قد يصل إلى نسبة 9% من سكان مصر الحاليين لكن معرفة العدد الفعلي مستحيلة لأنه بعد ثورة يوليو اختفى إعلان تلك الهوية وحدث اندماج تام وتعريب كامل حيث لم يعد ممكنا معرفة ذوي الأصول التركية إلا بين بعض العائلات التي تحتفظ بسجلات أنساب ومن أشهر هذه العائلات (تيمور والجندي والشوربجي والكاشف والدمرداش وذو الفقار وبكتاش والملواني والكاشف والدالي والجوهري والجريتلي وخورشيد وشاش والأناضولي والأزميرلي والخربوطلي والسلحدار والألفي والمنسترلي ويكن والخازندار وجاويش والدماطي وخاتون وحافظ وصدقي والقوني وغيرهم) ويتركز معظمهم بالطبع في القاهرة التي كانت مملوكية من عام 1250 وحتى 1811.

الشوام المتمصرون

خلال عصر الأسرة العلوية تلقت مصر سيلا من المهاجرين من بلاد الشام وأجوارها بسبب الأحداث السياسية والنشاط التجاري حيث اندمج المسلمون المهاجرون في حياة المصريين بسهولة ولا يمكن اليوم تمييزهم إلا من خلال العائلات التي حافظت على سجلاتها واتصالاتها مع بلاد الشام بينما حظي المهاجرون المسيحيون بهويتهم الخاصة بسبب انتمائهم للطوائف المسيحية التي حافظت على تمايزهم حتى يومنا هذا ، وقد لعب (المصريون الشوام) دورا بارزا في النهضة الثقافية في مطلع العصر الحديث في مصر فكان منهم رموز الأدب والصحافة والفن والمسرح.

ويقدر عدد المصريين من أصول مهاجرة بما يقارب مليون نسمة تضم داخلها العرب والسريان والكلدان والموارنة والأرمن مع بضعة آلاف من أصول يونانية ولاتينية يتوزعون على الطوائف المختلفة وأكبر هذه الطوائف هي طائفة الروم الأرثوذكس (التي تمثل مذهب الدولة البيزنطية وهو نفس مذهب كنائس روسيا واليونان وصربيا والقسطنطينية) وتضم أقلية من ذوي الأصول اليونانية (كان عددهم أكبر من ذلك قبل ثورة يوليو) وأكثرية من ذوي الأصول الشامية ويطلق على هذه الكنيسة اسم (كنيسة الإسكندرية اليونانية).

تأتي بعد ذلك في العدد طوائف الروم الملكيين الكاثوليك (شوام يتبعون الفاتيكان) والأرمن الأرثوذكس (غالبية الأرمن) والروم الكاثوليك (ذوي الأصول الإيطالية والمالطية ويتبعون الفاتيكان) والموارنة (من أصول لبنانية) والسريان الكاثوليك (من أصول سريانية يتبعون الفاتيكان) والأرمن الكاثوليك (أرمن يتبعون الفاتيكان) والكلدان (ذوي الأصول العراقية) والسريان الأرثوذكس (من أصول سريانية ويتبعون كنيسة أنطاكية ومذهبها متوافق مع مذهب الأقباط الأرثوذكس في الطبيعة الواحدة وغالبيتهم من الرهبان).

ومن الجماعات المهاجرة من المشرق أيضا الغجر (ويطلق على بعض فروعهم في الدلتا اسم النور وفي الصعيد اسم الحلبية) وهي تجمعات بشرية دائمة الترحال لها لغة خاصة بها تجمع بين الهندية والفارسية والعربية يعيشون في عزلة عن المجتمع ويمتهنون أعمالا متواضعة في الموالد الشعبية ويملكون تراثا اجتماعيا وثقافيا خاصا بهم ويصعب حصر عددهم الذي ربما يبلغ بضعة آلاف وترجع أصولهم إلى الهند التي خرجوا منها إلى فارس ثم العراق والشام ومصر وذلك في عهد العثمانيين وهناك بعض القرى التي تضم فروعا متوطنة من الغجر في البحيرة والفيوم والدقهلية والصعيد لكنهم في الأصل ينتمون جميعا لعرقية (الدومر) وهي إحدي فرعين كبيرين لكل الغجر في كل أنحاء العالم .

الأقليات الحدودية

التنوع الجيني في مصر يمكن رصده بوضوح في الأقليات الحدودية حيث سيسهم بشكل فعال في معرفة مدى التشابه والاختلاف مع البلاد العربية حيث جاء ترسيم الحدود بواسطة الاستعمار ليصنع هذا الوضع ويفصل هذه الأقليات عن مثيلاتها في دول الجوار .. وهذه الأقليات هي :

1 ـ النوبة : تم رسم الحدود بخط العرض 22 على طول المسافة بين مصر والسودان وهو ما يعني تقسيم بلاد النوبة التاريخية إلى قسمين هما النوبة السفلى (من أول شلال أسوان وحتى شلال وادي حلفا) والتي صارت تابعة لمصر والنوبة العليا (من أول مدينة وادي حلفا وحتى مدينة دنقلة) والتي صارت تابعة للسودان ، وهكذا اكتسب نصف النوبيين الجنسية المصرية وصاروا جزءا من الشعب المصري بينما اكتسب النصف الآخر الجنسية السودانية بعد الاستقلال وصاروا بالطبع جزءا من الشعب السوداني رغم أن النوبيين جميعا في كلا الشطرين ينتمون لعرقية واحدة ويتكلمون نفس اللغة وهم بالقطع ليسوا عربا وإنما لهم هويتهم الذاتية الخاصة بهم من الناحية الثقافية والاجتماعية.

2 ـ الأمازيغ : في إطار الاتفاقات بين بريطانيا وإيطاليا تمت عملية من التوافيق والتباديل حيث انسحبت القوات الإيطالية من سيوة (وهي في العمق المصري) مقابل الاحتفاظ بواحة الجغبوب لضمان خطوطها البرية (رغم أنها الأقرب لواحة سيوة) ، كما طلبت بريطانيا الاحتفاظ بمدينة السلوم لاحتياجها إلى ميناء بحري بينما تم التنازل من قبل الحكومة المصرية عن واحة الكفرة وهكذا صار خط الحدود يمتد من السلوم شمالا وحتى جبل العوينات جنوبا في خط مستقيم مع تعرجات بسيطة في الشمال ، وكان من نتيجة ذلك أن وجدت القبائل الأمازيغية نفسها مقسمة بين دولتين وعزلت في واحة سيوة عن أقرانها في الواحات الليبية لكنهم يصرون على المحافظة على لغتهم وتراثهم الاجتماعي والثقافي.

3 ـ قبائل السواحل : أكبر قبائل الساحل الشمالي في مصر وشرق ليبيا هي قبيلة بني سليم التي خرجت من نجد ثم الحجاز إلى مصر ثم ليبيا والمغرب وينحدر منها قبائل (أولاد علي) التي عادت في نهاية القرن السابع عشر إثر صراعها مع قبيلة الحرابي في الساحل الليبي فاستوطنت الساحل الشمالي كله من بنغازي وحتى الإسكندرية وشكلت غالبية سكان المنطقة حتى يومنا هذا ، وعلى ساحل البحر الأحمر حدث نفس الشيء حيث قسمت الحدود قبائل البجا (العبابدة والبشاريين) إلى جزء يتبع مصر في منطقة حلايب وشلاتين وجزء يتبع السودان وجزء في أريتريا وجزء في أثيوبيا وجزء في جيبوتي حيث اكتسبت كل مجموعة هوية جديدة وجنسية جديدة رغم أنهم جميعا ينتمون إلى شعب واحد ويتكلمون لغة واحدة خاصة بهم ويسعون للمحافظة على تراثهم وتواصلهم مع بقية قبائل البجا.

4 ـ عرب سيناء : القبائل العربية هناك ضاربة بجذورها في التاريخ البعيد منذ نشأة مملكة قيدار الآدومية ثم الأنباط ثم الغساسنة ووجودهم سابق للفتح الإسلامي حيث تنحدر أكبر القبائل وهي الترابين من قبيلة (الأزد) العريقة مثل الغساسنة وتنحدر قبيلة السواركة من (بني أسد) وتنحدر قبيلة العزازمة من (قضاعة) وتنحدر قبيلة الحويطات من (جذام) وجميعهم من السكان الأصليين للمنطقة التي تشمل سيناء والنقب ومعان والساحلين الشرقي والغربي للبحر الأحمر وقد أدى تقسيم الحدود إلى وضع غريب بين أبناء العمومة فصار بعضهم مصريا والآخر يحمل الجنسية الإسرائيلية قسرا (عرب 48) والبعض الآخر يحمل الجنسية الأردنية بل وقاتلوا مع الهاشميين خلال الثورة العربية الكبرى لكن البقية الباقية صاروا سعوديين.

الأقليات المهاجرة والحمض النووي

من الجماعات الوافدة حديثا إلى مصر طائفة (البهرة) والتي سمح لها في السبعينات بزيارة مصر حيث استقر منهم ما يقرب من 2000 شخص في القاهرة وجميعهم من الهند وهم من أتباع المذهب الشيعي الإسماعيلي (مذهب الدولة الفاطمية ـ فرع المستعلية أي التابعين للإمام المستعلي بن المستنصر) وهم الذين قاموا بتجديد جامع الحاكم بأمر الله حيث يسمح لهم بالصلاة فيه في أوقات محددة وينافسهم في ذلك طائفة الأغاخانية (من أصول فارسية ويتبعون نفس المذهب الإسماعيلي ـ فرع النزارية أي التابعين للإمام نزار بن المستنصر وهم سلالة الحشاشين أتباع الحسن الصباح) وهو ما يفسر إصرار زعيمها أغاخان أن يدفن في قبره الفخم في أسوان ، وعلى العكس من ذلك فإن هناك أقليات مصرية دفعت بها الظروف للاستقرار خارج البلاد ومنهم مجموعة الأقباط الذين نزحوا إلى السودان في عهد محمد علي والذين ذهبوا إلى هناك ضمن الموظفين الحكوميين لكن حالة الوحدة بين مصر والسودان طوال قرن ونصف لم تشكل وقتها أي مشكلة في مسألة الهوية لكنها بدأت في الظهور بعد انفصال البلدين حيث تجنسوا بالجنسية السودانية وتم تسجيلهم رسميا كأحد قبائل السودان لكنهم محتفظون بخصوصيتهم الدينية والاجتماعية كما كان لهم دور كبير في النهضة الثقافية والتعليمية.

ومن الأقليات المصرية بالخارج مجموعة تصر على انتمائها التاريخي لمصر وهم من سكان البلقان (مقدونيا وكوسوفا وألبانيا وصربيا والجبل الأسود) وينحدر من نسلهم حاليا ما يقارب 100 ألف يطلق عليهم اسم (المصرلية) ويتحدثون باللغة الألبانية وغالبيتهم (أكثر من 80%) يعيشون في كوسوفا التي اعترفت بقوميتهم المصرية كأحد القوميات المكونة للدولة الوليدة بينما لا تعترف بهم الحكومة المصرية وإن كانت هناك صلات ودية معهم وهم يزعمون أنهم مهاجرون منذ القدم بينما يرجح البعض أنهم من سلالة قبيلة غجرية أو بدوية خرجت من مصر في العصور الوسطى ويرجح آخرون أنهم مجموعة من المصريين الذين تم ترحيلهم إلى الدولة العثمانية لأسباب متنوعة وقدر لهم الاستقرار في المنطقة ، لكن هذه المجموعة تظل استثناءا في تاريخ مصر التي كانت دوما مستقبلة للمهاجرين ومستوعبة لأعداد ضخمة من اللاجئين وغير طاردة للسكان بالمرة إلا في العصر الحديث حيث أسفرت التحولات الاجتماعية عن تغيير كبير فصار لدينا المغتربون في دول الخليج وأقباط المهجر وجاليات كبيرة العدد في دول أوروبا الجنوبية ثم حديثا جالية مصرية كبيرة في تركيا حيث تعددت أسباب الهجرة ما بين اقتصادية وسياسية وطائفية إلا أنها بالطبع سوف تترك أثرا كبيرا في هوية المصريين.

سليم حسن .. لماذا ؟؟

أثناء المناقشات والتعليقات حول مقالاتي الأخيرة أرسل لي الصديق أحمد يسري رابطا لأحد الكتب الهامة في تاريخ مصر القديم والذي لم أقرأه من قبل وهو كتاب (طيبة أو نشأة امبراطورية) من تأليف كلير لالويت وترجمة ماهر جويجاتي .. وهو كتاب قيم يبلغ أكثر من 600 صفحة حيث عكفت عليه لمدة ثلاثة أيام لما فيه من إضافات رائعة لرصيد المعلومات عن حقبة الدولة الحديثة والأسرة 18 تحديدا وهو ما حفزني لتحميل باقي المجموعة (الفراعنة في مملكة مصر .. زمن الملوك الآلهة) وكذلك (الفراعنة .. امبراطورية الرعامسة) حيث الاعتماد بصورة أساسية على ترجمة النقوش الهيروغليفية واستقراء التاريخ من خلالها .. وهي المنهجية التي تجمع بين التاريخ والآثار معا والتي اتبعها من قبل سليم حسن عند كتابته لمؤلفه الضخم (مصر القديمة).

كان علم المصريات دوما موزعا بين المؤرخين والآثاريين وقلما وجد شخص يجمع بين الأمرين حتى جاء سليم حسن فكان مؤرخا وآثاريا ومترجما وكاتبا في نفس الوقت فضلا عن كونه مصريا ومسئولا (كان وكيل عام مصلحة الآثار المصرية) وقد ألف عدة كتب بالإنجليزية والفرنسية لكن موسوعته (مصر القديمة) هي أهم عمل في علم المصريات حتى يومنا هذا لأنه كان يكتب التاريخ من واقع الآثار المصرية مباشرة وهو ما يفسر تعجب البعض من أن الدولة القديمة عنده تشغل مجلدين فقط والدولة الوسطى مجلد واحد والأسرة 21 مجلد ورمسيس الثاني وحده مجلد كامل لأنه لا يسرد الأحداث ويعلق عليها مثلما يفعل علماء التاريخ والحضارة وإنما هو يرصد لنا آثار كل أسرة بالتفصيل .. من أول مكان الأثر وكيفية اكتشافه وترجمة الكتابة عليه ودلالة ذلك.

وقد جاءت موسوعة مصر القديمة في 18 مجلد يناهز كل واحد منها زهاء 500 صفحة أو أكثر بالإضافة إلى بقية مؤلفاته في جوانب الحضارة المصرية من آداب وفنون وتشريعات (أكثر من 12 كتاب) .. وهو بذلك صاحب أكبر إنتاج علمي في تاريخ مصر القديم من بين كل العلماء المصريين والأجانب حتى أطلق عليه بعضهم لقب (مانيتون الثاني) .. ورغم توالي الاكتشافات بعد وفاته إلا أنها حتى الآن لم تغير أي شيء من الخطوط العريضة التي وضعها بل على العكس أكدت الكثير مما ذهب إليه وسدت كثيرا مما كان يطلق هو عليه مصطلح (الفجوات في تاريخ مصر القديمة) .. واليوم يبدو أن العلم الحديث سوف يكون في صالح هذا العبقري حيث جاءت النتائج الأولية لتحاليل الحمض النووي لتؤكد نظرياته .. وهو ما يعني أن سليم حسن يمثل في علم المصريات ما كان يمثله (أينشتين) في علم الفيزياء.

تحية للأصدقاء

سعدت كثيرا بالتعليقات الثرية على مقالاتي الأخيرة التي تناولت موضوع الحمض النووي وعلاقته بالتاريخ المصري القديم والهوية الحضارية لبلادنا .. ويسعدني أن أعلق عليها بالآتي :

1 ـ جميع التعليقات تدل على ثقافة عالية ومعرفة عميقة بالتاريخ المصري القديم وهذا ما يجعلني أعتز بصداقة هذه الطليعة المتميزة من شباب مصر الذين هم على وعي بمسألة الهوية المتفردة لبلادنا وغيرتهم على تاريخنا وتراثنا.

2 ـ جميع آرائي الواردة في مقالاتي ليست أحكاما نهائية وإنما هي فرضيات قد يؤكدها العلم الحديث أو ينفيها بل إنني مستعد بعد البحث والنقاش الجاد أن أغير كل قناعاتي وأفكاري بل وأعيد طباعة الكتاب مرة أخرى بعد التعديل.

3 ـ في كل كتبي التي صدرت لا أستعمل لفظ (الفراعنة) على الإطلاق وإنما أستعمل وصف (المصريين القدماء) أو (أبناء كيميت) لكن على صفحتي استعملت هذا اللفظ لأنه لا يزال دارجا في دوائر البحث الغربية وفي مجال السياحة.

4 ـ جميع الآراء الواردة في كتبي ليست نابعة عن هوى معين ولا سعيا لإثبات فكرة بعينها وإنما حاولت جاهدا في كتابي أن أضع خلاصة قراءاتي في مجال التاريخ المصري القديم وعلوم المصريات والتي امتدت إلى ثلاثين عاما قرأت فيها كل ما كتب عن مصر القديمة من كتب عربية وأجنبية مترجمة أو باللغة الانجليزية بما في ذلك الأعمال الأدبية التي تتناول ذلك من قريب او بعيد بل انني بدأت تعلم قراءة النقوش الهيروغليفية وأنا في الصف الثالث الاعدادي (عام 1989).

5 ـ شاءت الظروف أن أتسلم عملي في محافظة المنيا أثناء التكليف ثم قطاع دهشور العسكري أثناء فترة التجنيد وهو ما أتاح لي القرب من المواقع الأثرية بل والتواصل مع عدد من المؤسسات العاملة في مجال المصريات ولا يزال هذا التواصل قائما رغم انتهاء عملهم في مصر رغبة في تبادل الأفكار.

6 ـ سوف أواصل نشر المقالات تباعا لما لمسته من اهتمام ووعي وكلي أمل في تبادل المعلومات لعلها تكون خطوة تساعدني في آخر أعمالي الحالية وهو كتاب (تاريخ الأمة المصرية) والذي أتمنى أن يرى النور في العام القادم 2020

خالص الشكر والتقدير لجميع الأصدقاء ونسعد بكم دوما