
قريش اسم جامع لعدد من العشائر التي كانت تسكن مكة وقت البعثة النبوية ويبلغ عددها ستة عشر تنقسم إلى ثلاثة أقسام هي :
أولا / أبناء قصي بن كلاب : وهي العشائر الستة المنحدرة مباشرة من صلب زعيم قريش الأهم الذي قادهم لدخول مكة ووطد أركانهم فيها وهو زيد بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي المعروف باسم قصي ، وهذه العشائر هي عبد الدار بن قصي وأسد بن عبد العزى بن قصي وهاشم بن عبد مناف بن قصي (وأكبر بيوتها عبد المطلب بن هاشم) وعبد شمس بن عبد مناف بن قصي (وأكبر بيوتها أمية بن عبد شمس) ونوفل بن عبد مناف بن قصي والمطلب بن عبد مناف بن قصي ، ويطلق على الأربع الأخيرة مجتمعين بنو عبد مناف واسمه المغيرة بن قصي.
ثانيا / أبناء كعب بن لؤي : وهي العشائر الستة المنحدرة من كعب بن لؤي بن غالب بن فهر بن مالك بن النضر بن كنانة من غير أبناء قصي (وهم أقرباء قصي في النسب الذين ساندوه ضد خزاعة) وهي عشائر زهرة بن كلاب بن مرة بن كعب (أخو قصي) وتيم بن مرة بن كعب (عم قصي) ومخزوم بن يقظة بن مرة بن كعب (ابن عم قصي المباشر) وعدي بن كعب وسهم بن هصيص بن كعب وجمح بن هصيص بن كعب (وهم عمومة أبي قصي) ، ويرجع نسبهم جميعا مع بني قصي إلى كعب بن لؤي الذي كان معروفا بالحنيفية وكان يعظ الناس في الحرم.
ثالثا / قريش الظواهر : وهي العشائر التي تقيم في ضواحي مكة خارج الحرم ولم يسمح لها قصي بالدخول إلى قلب مكة ولا تنتسب إلى كعب بن لؤي وهي عشائر عامر بن لؤي بن غالب بن فهر وتيم الأدرم بن غالب بن فهر والحارث بن فهر ومحارب بن فهر ، ويطلق عليهم هذا الاسم تمييزا لهم عن عشائر كعب بن لؤي التي كانت تعرف باسم قريش البطاح أو البواطن أي التي سكنت الأبطح في الحرم (ما بين الجبلين) أو بطن مكة ، ويلتقي هؤلاء الأربعة مع بني كعب بن لؤي في الانتساب إلى فهر بن مالك بن النضر بن كنانة المعروف باسم قريش.
وقد كانت منطقة الوادي (بطن مكة) خالية من السكان قبل عصر قصي بن كلاب حيث كانت عبارة عن آكام من الأشجار تحيط بالكعبة بينما كان السكان جميعا يعيشون في ظاهر البلدة فوق الأخشبين (الجبلين) قعيقعان غربا وأبي قبيس شرقا وذلك تقديسا للمنطقة الحرام فلم ينزعوا شجرها ولم يطأوا أرضها بالإضافة إلى أن الحياة فوق الجبال وشعابها تحمي من أخطار التعرض للسيول في الوادي المنخفض ، وكانت البلدة منذ الزمن القديم بيد قبيلة قطورا (من العماليق) وكانت منازلها بأسفل مكة وأجياد (وهو عبارة عن منخفضين متصلين يقعان في سفح جبل أبي قبيس من الشرق) ، ثم جاءت قبيلة جرهم (من العرب البائدة) وسكنت بأعلى مكة وقعيقعان حتى حدث الصدام المسلح بينهما وأسفر عن انتصار جرهم بقيادة مضاض بن عمرو بمعاونة العرب الإسماعيلية على قطورا بقيادة السميدع ومن ثم جلاء العمالقة عن البلدة باتجاه الجنوب.
وعندما ضعفت قبضة جرهم على البلدة تمكنت قبيلة أزدية مهاجرة من الجنوب من غزوهم والحلول محلهم وهم بنو حارثة بن ثعلبة بن عمرو بن عامر (خزاعة) بمعاونة عسكرية من قبائل كنانة التهامية ثم توطدت سلطتهم بها تحت زعامة عمرو بن لحي الخزاعي الذي نصب الأصنام الكبرى في ساحة الحرم ودعا الناس إلى التبرك بها ، ولم يكن في البلدة مطمع لذاتها لأنها صحراء جرداء لا زرع فيها ولا ماء إذ تعتمد في غذائها واحتياجاتها بالكامل على خارجها لكن مكانتها الدينية وموقعها على طريق القوافل تجعل لسكانها مكانة متميزة بين العرب خاصة في قيادة مناسك الحج ، وقد فطنت خزاعة لحقيقة هامة وهي صعوبة الدفاع عن البلدة ضد أي غزو لذلك أشركت معها قبائل كنانة كثيرة العدد في بعض المزايا مثل الإجازة بالناس يوم عرفة وذلك درءا لهم عن محاولة غزوهم حيث كانت منازلهم تحيط بالبلدة من كل الجهات فعاونتهم مرتين ضد محاولات هوازن وقيس عيلان غزو البلدة.
وقد نشأ قصي بن كلاب مغتربا عن بلاده لأن أمه فاطمة بنت سعد الأزدية تزوجت من قبيلة قضاعة بعد وفاة أبيه فلما شب عاد إلى مكة وأعجب به حليل بن حبشية الخزاعي سادن الكعبة فزوجه من ابنته حبى وعندما كثر ماله وولده أوكل إليه مهمة مساعدته في خدمة البيت ، وعندما مات حليل ورثت ابنته مفتاح الكعبة فدفعته إلى زوجها وهو الأمر الذي لاقى معارضة كبيرة من قبيلة خزاعة التي أيدت تعيين أبي غبشان سليم بن عمرو الخزاعي في موقع السدانة مما أشعل الصراع في البلدة حيث استعان قصي بقبيلته قريش وقبائل كنانة وعلى رأسهم أخوه الأكبر زهرة بن كلاب وأبناء عمومته كما أرسل إلى أخيه غير الشقيق رزاح بن ربيعة بن حرام العذري فوافاه في جمع كبير من قبائل عذرة وقضاعة وانتهت معركة (يوم الأبطح) بانتصارهم على خزاعة حيث احتكموا في النهاية إلى سيد كنانة يعمر بن عوف بن كعب الذي قضى بإسقاط الدماء وتثبيت مكانة قصي في سدانة البيت.
وقد أقدم قصي على النزول إلى الوادي فأزال الآكام والأشجار والخيام المتنقلة واختط بيوتا ثابتة أسكن فيها أنصاره من قبيلة قريش وجدد بناء الكعبة وكساها وبنى إلى جوارها دار الندوة فعمرت البلدة وصار أمر قصي كأنه دين متبع فلا يعقد الزواج إلا في داره ولا تخرج قافلة إلا منها ولا يعقد لواء للحرب إلا فيها ولا تتم المشاورة في أي شأن إلا فيها ، وقد أوصى قصي بجميع مهامه إلى بكر أبنائه عبد الدار (وهي جميعا مهام ذات طابع ديني) بينما كان ابنه عبد مناف قد حاز الشرف والمال في حياة أبيه وكثر ولده فدانت له الزعامة السياسية بحكم الأمر الواقع حيث كانت هناك مهمة أخرى وهي الدفاع عن البلدة ضد أي اعتداء وكذلك إدارة النشاط التجاري ولم يكن النجاح في ذلك ممكنا إلا عن طريق عقد الأحلاف المختلفة مع القبائل المحيطة بهم ومع سادات القبائل المسيطرين على طرق التجارة فضلا عن الاتصال بالدول الكبرى.
وقد تولى تنفيذ ذلك أولاد عبد مناف الأربعة حيث نجح هاشم في الاتصال بالغساسنة والدولة الرومانية والحصول على تفويض بإدارة التجارة معهم ونجح عبد الشمس في التواصل مع نجاشي الحبشة بينما اتجه المطلب إلى ملوك حمير في اليمن وتواصل نوفل مع المناذرة والدولة الفارسية ، وقد ازهرت بفضلهم تجارة قريش حيث قضوا حياتهم كلها في الترحال (مات هاشم في غزة من أرض الشام ومات المطلب في ردمان بأرض اليمن ومات نوفل في سلمان على طريق العراق بينما مات عبد شمس بعد طول ترحال في مكة وهو مسن) ، وقد لجأت قريش إلى عدد من الإجراءات التي تضمن لهم حماية تجارتهم منها عقد حلف تجاري مع زعماء القبائل بحيث تشركهم معها في الأرباح نظير عدم التعرض للقوافل وحمايتها (عقد أمان) وهو المعروف باسم (إيلاف قريش) والذي يعني تأليف قلوب الأعراب بالمال خاصة القبائل التي لا تقدس الكعبة (مثل خثعم وطيء) وبالتالي لم تعد قوافلهم صغيرة تسلب عند ذهابها الأسواق القريبة وإنما رحلات كبرى في حماية الجميع (رحلة الشتاء إلى اليمن ورحلة الصيف إلى الشام).
وفي سبيل الدفاع عن مكة من أي اعتداء عقدت قريش حلفا آخر مع القبائل المتاخمة لها في السكن خاصة وأن عشائر من خزاعة ظلت مستوطنة في جبال مكة مع بعض عشائر كنانة بالإضافة إلى قبائل قريش الظاهر وهؤلاء جميعا يتعيشون على الرعي جنبا إلى جنب مع غزو غيرهم من القبائل بينما انتقلت قريش البطاح من البداوة إلى الحضر وصار أهلها من أصحاب الأموال والأملاك والإبل يتعيشون على التجارة ويستمدون شرفهم من خدمة حجاج البيت ، وقد نشأت علاقة تبادل منفعة بين الطرفين حيث يتولى سكان الجبال مهمة الدفاع عن البلدة مقابل إشراكهم في نصيب من أموال التجارة بدلا من أن يكونوا مصدر تهديد للوادي غير المحصن فعقد عبد مناف بن قصي حلفا مع سيد كنانة عمرو بن هلال الكناني وضم قبائل بني الحارث بن عبد مناة من كنانة وبني المصطلق من خزاعة وقبائل بني الهون (عضل والقارة) من خزيمة ، وقد أطلق عليهم وصف الأحابيش حيث كانوا يفخرون بأنهم حماة الحرم وكان أول اختبار لهم هو معاونة قريش ضد قبيلة ليث من بكر بن كنانة والتي حاولت الاعتداء على مكة فتصدت لها قريش والأحابيش معا بقيادة المطلب بن عبد مناف وألحقوا بها هزيمة منكرة في معركة (ذات نكيف).
وعندما حققت عشائر بني عبد مناف بن قصي هذا القدر من الإنجازات السياسية والتجارية تطلعوا إلى الحصول على السيادة الدينية على مكة والتي كانت بيد بني عبد الدار بن قصي فحدث نزاع كبير بينهما وانقسمت على إثره قريش إلى فريقين هما المطيبين بقيادة عبد شمس بن عبد مناف ويضم (بني عبد مناف وبني أسد بن عبد العزى وبني زهرة وتيم والحارث بن فهر) والأحلاف بقيادة عامر بن هاشم العبدري ويضم (بني عبد الدار ومخزوم وسهم وجمح وعدي) بينما وقفت قبائل عامر بن لؤي ومحارب بن فهر على الحياد ، وكادت تنشب حرب بين الفريقين لولا تدخل العقلاء الذين حكموا بأن تكون السقاية والرفادة والرياسة في بني عبد مناف وأن يحتفظ بنو عبد الدار باللواء والحجابة ودار الندوة فتراضى الجميع على ذلك وتولى هاشم بن عبد مناف السقاية والرفادة بالاقتراع حيث يتكفل صاحبها بجمع المال اللازم لإطعام الحجيج من كل عشائر قريش وكذلك الإشراف على نقل الماء للازم لسقياهم من خارج البلدة (قبل إعادة حفر زمزم) ، وقد ظلت هذه المهمة في يد هاشم حيث آلت من بعده إلى أخيه المطلب بن عبد مناف ثم عبد المطلب بن هاشم ثم الزبير بن عبد المطلب ثم أبي طالب ثم العباس.
وقد كان من أهم أسباب ازدهار البلدة الاقتصادي أنهم جعلوا كل سكانها شركاء في التجارة إما بالسفر بنفسه أو المساهمة بالمال أو باستئجار غيره للسفر أو إقراض المال لمن لا يملك بالربا فصارت قريش كلها كأنها شركة مساهمة مما أحدث طفرة مالية لدى كل القبائل وبدأت في منافسة بني عبد مناف في الثراء مثل قبائل مخزوم وتيم كما زادت بعض القبائل في العدد فصارت ندا لعشائر عبد مناف مثل قبيلة سهم ، وشجع ذلك عددا من عشائر قريش الظاهر للنزول إلى الوادي مثل حسل وعتيك (من عامر بن لؤي) وهلال بن أهيب وهلال بن مالك (من الحارث بن فهر) بينما بقيت على الجبال سائر بني عامر (معيص بن عامر) وتيم الأدرم وسائر بني الحارث بن فهر وجميع عشائر محارب بن فهر واستعاض الجميع بالمال عن القوة رغم ما كان يسببه ذلك من معايرة الآخرين لهم أنهم ضعفاء وأنهم في حماية غيرهم ، لكن في مقابل ذلك أثروا ثراءا عظيما ففضلوا المسالمة مع الجميع ضمانا لسلامة تجارتهم والتعامل بالحلم والأناة مع الأعراب مما جعل لهم مكانة مرموقة بين العرب كافة جمعت بين الدين والمال والشهرة والفصاحة حيث تعلموا من الحيرة أصول كتابتهم وهذبوا لسانهم.
وقد كانت جميع شئون قريش تدار من خلال دار الندوة الذي يشبه (البرلمان) حيث شيوخ القبائل ووجهاء قريش ممن بلغ الأربعين يتداولون الرأي ويقضون في الخصومات وفق عرف خاص بهم اصطلحوا عليه واتفقوا على أن تنال كل قبيلة مهمة معينة من المهام السياسية مثل أن تكون قيادة الحروب في عبد شمس والفرسان في مخزوم والسفارة في عدي وهكذا ، وقد كانت جميع العشائر متقاربة في التأثير السياسي وذلك بسبب انقسام أكبر قبيلة في قريش (بني عبد مناف) إلى فريقين متنافسين أحدهما يضم قبائل بني هاشم وبني المطلب والآخر يضم بني عبد شمس وبني نوفل وذلك بسبب النزاع على الرئاسة الذي حدث بين هاشم وابن أخيه أمية بن عبد شمس الذي أجبر على ترك مكة عشر سنين ثم عاد بعدها وقد كثر ماله وولده ، وعندما مات هاشم كان له ابن صغير يدعى شيبة من زوجته التي تزوجها في يثرب وهي سلمى بنت عمرو بن زيد من بني النجار من الخزرج فقرر المطلب أن يصطحبه إلى مكة ثم حدث نزاع بينه وبين عمه نوفل على ميراث مالي عندما شب واضطر للاستعانة بأخواله من بني النجار الذين قدموا إلى مكة وأجبروا عمه على أداء حقه بالقوة ثم نزاع آخر مع حرب بن أمية الذي أجار قتلة أحد حلفائه.
وقد آلت الزعامة الدينية والسياسية في مكة إلى شيبة (عبد المطلب) بسبب جملة من الأشياء التي تفرد بها مثل إعادة حفر بئر زمزم وقيامه بأمر الرفادة والسقاية زمنا طويلا مع تمتعه بخصال الكرم والجود والحلم والعقل حتى أطلق عليه ألقاب (مطعم الطير .. الفياض .. شيبة الحمد) وكانت كلمته مسموعة بين أهل الوادي حيث كان من دعاة الحنيفية وله مجلس عند الكعبة يتحدث فيه والكل يستمع ، وهو الزعيم الذي واجه أبرهة الحبشي وقال له قولته المشهورة : (انا رب الإبل .. وللبيت رب يحميه) وذلك في أخطر حدث هدد المدينة المقدسة في تاريخها (حادثة الفيل) كما كان مقربا عند الملك سيف بن ذي يزن ووفد عليه في قصر غمدان للتهنئة بالنصر على الأحباش ، وقد كانت علاقته بجميع عشائر قريش قوية لأنه وهو وبنوه العشرة وبناته الست صاهروا إليهم جميعا فصارت العشائر الكبرى كلها تمت إليه بصلات القربى وهو ما جعلهم في صدارة القوم ومن أوسطهم نسبا ، أما أعظم إنجازاته السياسية فهي عقده حلفا عظيما مع قبيلة خزاعة التي كان بينها وبين قريش عداوة في السابق فأزال هذه العداوة التي كانت مستعرة من ساعة طردهم وثبت به زعامته على القبيلتين وضمن مزيدا من الحماية للبلدة الحرام.