3 / تحت راية صلاح الدين

يمكننا تقسيم عصر الدولة الفاطمية إلى ثلاثة فترات متباينة .. الفترة الأولى هي عصر الخلفاء الأقوياء وهم الأربعة الأوائل الكبار المعز والعزيز والحاكم والظاهر وبلغت قرابة سبعين عاما والفترة الثانية هي عصر المستنصر والذي حكم وحده ستين عاما بينما الفترة الثالثة هي عصر الوزراء (حكموا نيابة عن الخلفاء الصوريين وهم المستعلي والآمر والحافظ والظافر والفائز والعاضد) وقد بلغت ثمانين عاما تقريبا ، وخلال تلك الفترة كان الصراع قائما بين عدد من المكونات الإثنية التي اعتمد عليها الفاطميون وكانت سببا في ضعف الدولة وانهيارها في النهاية وهم المغاربة والأتراك والسودان والأرمن وذلك بسبب سياسة الخلفاء التي اعتمدت على ضرب كل طائفة بالأخرى وهو ما أدى في النهاية إلى اضطرابات واسعة في منطقة الوجه البحري أسفرت عن تغيرات سكانية كبيرة ، في البداية كان اعتماد الخليفة المعز على المغاربة من البربر الأمازيغ وهم جل جيوشهم التي دخلت معهم مصر وأهمها قبائل كتامة وزويلة وصنهاجة ومغيلة وهوارة ولواتة ومزاتة وزنارة وعمارة ونفوسة وكانت إقامتهم تتوزع بين القاهرة والأقاليم بسبب كثرة عددهم وكانت منازلهم في غرب النيل في نواحي الإسكندرية والبحيرة والجيزة والبهنسا وكانوا مركز قوة حيث كان الوزراء وكبار رجال الدولة منهم وبيدهم القرار السياسي.

لجأ الخليفة العزيز إلى اصطناع عدد من الأتراك والكرد والأعاجم والديلم (وهم من المولودين في مصر والذين نزح أجدادهم إليها في زمن الطولونيين والإخشيديين) حيث قربهم إليه وأنشأ منهم فرقة عسكرية سميت (جيش المشارقة) وذلك ليحدث توازنا مع المغاربة بل جعل إليهم الوصاية على ولي عهده الحاكم وهو ما أدى إلى حدوث صراع دموي بين الفريقين بعد سنوات قليلة من توليه ، وانتهى الأمر بانتصار الأتراك وأشياعهم على المغاربة حيث فتكوا بهم وقتلوا قادتهم ونهبوا بيوتهم وأخرجوهم من القاهرة فضعفت شوكتهم وتفرقوا في ربوع الدلتا والصعيد الأدنى مما أشعل جذوة الثورة عندهم فقاموا بمناصرة الثائر الأموي أبي ركوة وعاثوا فسادا في الدلتا خاصة وأن إبعادهم كان موافقا لهوى الخليفة الحاكم والمعروف بغرابة الأطوار وشذوذ الفكر حيث تسببت تلك الأحقاد في مقتله ، وفي عهد الظاهر ظلت اليد العليا للأتراك مهيمنة على مقاليد الأمور لكنه شغف حبا بجارية سوداء تدعى رصد أنجب منها ولى عهده المستنصر والذي تولى خلفا لأبيه وعمره ست سنوات وحظيت والدته بكلمة مسموعة لدى رجال الدولة فاستكثرت من شراء العبيد السودان من أشياعها حتى بلغ عددهم خمسين ألفا وجعلت منهم خاصتها وحرس الخليفة وبدأت المناوشات بينهم وبين الأتراك تنذر بعواقب وخيمة حيث سعت كل طائفة للاستئثار بمراكز القوة والنفوذ.

وقد شهدت أيام المستنصر الأولى عزا وتمكينا للدولة بفضل الوزير اليازوري (وأصله من عرب فلسطين ثم عمل في خدمة السيدة رصد يدير لها أموالها فرشحته للوزارة) وكانت سياسته تعتمد على تفعيل دور العرب ليحدث نوعا من التوازن مع العناصر الأخرى فقام بنقل قبائل طيء من فلسطين والنقب إلى غرب الدلتا ليضرب بهم الثائرين من المغاربة وبني قرة وشجع بني هلال وبني سليم على الانتقال من الصعيد إلى بلاد المغرب للقضاء على ثورة بني زيري ، وعن طريق السياسة تمكن اليازوري من استمالة المظفر البساسيري عامل البويهيين على بغداد فقطع الخطبة العباسية وخطب للمستنصر في عاصمة الرشيد نفسها فترة قصيرة من الزمن كما أدار البلاد على أكمل وجه وانتعش الاقتصاد في عهده لكن كل هذه الأعمال لم تحمه من الوشايات وانتهى مصيره إلى العزل والقتل مما تسبب في حدوث انهيار مفاجىء وسريع للدولة ، ويحكي المقريزي عن تلك الحوادث في كتابه (اتعاظ الحنفا بأخبار الأئمة الفاطميين الخلفا) في فصل تحت عنوان (ذكر ابتداء الفتنة التي آلت إلى إخراب ديار مصر) حيث قام العبيد بقتل واحد من الأتراك فقامت بينهما حرب عند كوم شريك في البحيرة وقامت أم المستنصر بإرسال الأموال والسلاح إلى العبيد مما أشعل غضب الأتراك وتكررت المعارك بينهما عند البحيرة والجيزة حيث هزم العبيد وفروا إلى الصعيد وقويت شوكة الأتراك.

وتحالف الأتراك مع القائد العربي ناصر الدولة ابن حمدان (وهو من أحفاد الحمدانيين من بني تغلب الذين لجأوا إلى مصر بعد سقوط دولتهم في حلب) حيث دارت عدة وقائع مع العبيد حيث أوقع بهم في القاهرة والإسكندرية والبحيرة لكنه هزم أمامهم في الصعيد وتقهقر إلى الجيزة فقاموا بحصار الخليفة ونهب الأموال والكنوز الموجودة في قصوره ، ونتيجة التنازع على الأموال حدث شقاق بين ابن حمدان والأتراك فانسحب ابن حمدان إلى البحيرة ونزل في جوار قبيلة طيء وجمع تحت رايته أربعين ألف مقاتل من العرب والبربر (من قبيلة لواتة) وأحكم سيطرته على الدلتا بالكامل وأسكن القبائل العربية في وسط الدلتا ومنع الإمدادات عن القاهرة وقطع الخطبة للفاطميين في الوقت الذي ضعف فيه مد النيل وكانت سببا في الشدة العظمى التي تحكي عنها كتب التاريخ الأهوال والفظائع حيث اشتد الغلاء وقلت الأقوات ، وخرجت القوات التركية إلى الدلتا لكنها منيت بهزيمة ساحقة من ابن حمدان الذي دخل الفسطاط وصار يعين الوزراء والولاة لكنه تعرض لمؤامرة من الأتراك أسفرت عن مصرعه هو وأخيه فخر العرب واستبد الأتراك بالأمر فلم يجد المستنصر بدا من استدعاء والي عكا بدر الجمالي الأرمني والذي اشترط أن تكون له السلطة الكاملة ففتك بالأتراك وبسط سيطرته على الدلتا والإسكندرية وهزم قبيلة لواتة وطيء في الدلتا وقبيلة قريش وجهينة في الصعيد والكنوز في النوبة.

وقد جلب الجمالي معه أنصاره من الأرمن فصاورا مركز قوة مع العبيد السودانيين بعد القضاء على الأتراك حيث بدأ عصر الوزراء وصار الخلفاء معدومي السلطة يعينهم الوزراء وهو ما يعني أن الخلافة الفاطمية قد انتهت فعليا ولم يبق للإجهاز عليها إلا رصاصة الرحمة حيث فقدت معظم امبراطوريتها ولم يبق لهم إلا حكم مصر وحدها بينما كانت الدولة العباسية تستعيد حيويتها بفضل السلاجقة ، وقد شهد عصر الوزراء مستجدا خطيرا في المنطقة ألا وهو الحروب الصليبية التي أسفرت عن استيلاء الفرنجة على الساحل الشامي وتهديدهم المباشر للديار المصرية حيث صدهم الوزير الأفضل بن بدر الدين الجمالي لكنه فشل في الدفاع عن القدس والتي سقطت بأيديهم معلنة فشل كل من الفاطميين والعباسيين الذين عجزوا عن حماية المقدسات ، وحفل عصر الوزراء بسلسلة من المؤامرات والصراعات الداخلية التي أضعفت الدولة وجعلتها في مهب الريح حتى آل الأمر إلى والي الصعيد الأرمني  طلائع بن رزيك والذي زحف على القاهرة مستعينا بعرب الصعيد لتلبية استغاثة نساء القصر الفاطمي بعد مصرع الخليفة الظافر فاستقر في الحكم ولقب بلقب الملك الصالح أمير الجيوش ورأى أن يكثر من الاستعانة بالعرب ليحدث توازنا مع بقية العناصر خاصة وقد كان في حاجة لحماية الثغور من تهديدات الفرنجة المتتابعة حيث كانوا يطمعون في مصر بسبب ما آلت إليه من الضعف.

وبينما كان الوزراء الفاطميون يدفعون الرشاوي من خزينة الدولة للفرنجة خوفا منهم كان نور الدين محمود في الشام يرفع راية الجهاد ويهاجم قلاع الفرنجة ويلحق بهم الهزيمة تلو الأخرى فكان الفارق واضحا أمام كل ذي عينين لذلك عندما حدث الصراع الداخلي بين كل من شاور بن مجير السعدي والضرغام بن عامر اللخمي واستعان كل منهما بالفرنجة كان هناك ترحيب ظاهر بقدوم العساكر النورية بقيادة أسد الدين شيركوه ، وقد ظهر ذلك جليا في حملات شيركوه الثلاث حيث مكث في بلبيس فترة من الزمن في الحملة الأولى هو وابن أخيه صلاح الدين واختلط جيشه مع عرب الحوف الشرقي الذين تعرضوا لمذبحة من جيش الفرنجة حيث كان واضحا تقصير الدولة الفاطمية عن حمايتهم واستعداد الوزراء المتناحرين لتسليم الجزء الشرقي من الدلتا للصليبيين مقابل حماية بقائهم في موقع الوزارة ، وفي الحملة الثانية دارت الحرب صريحة بين العساكر النورية وبين جند شاور المتحالف مع الفرنجة حيث انتصر شيركوه عليهم في معركة الجيزة ثم أرسل صلاح الدين فاستولى على الإسكندرية وتوجه هو إلى الصعيد حيث كمن في بلاد قريش بالأشمونين وراسل زعماء قريش في المنطقة عن طريق أحد مرافقيه من الأشراف فأمدوه بالمؤن والعتاد ، وعندما حاصر الفرنجة صلاح الدين في الإسكندرية استنفر شيركوه عرب الصعيد فسارت معه القبائل بزعامة قريش وتوجهوا للوجه البحري وضربوا الحصار على القاهرة حتى تم الاتفاق على جلاء الجيوش الشامية والصليبية في وقت واحد وذلك بعد أبلى صلاح الدين بلاء حسنا في الدفاع عن الثغر مما أثار إعجاب السكان العرب وجهروا به بعد ذلك بشجاعة في وجه شاور.

وكانت نتيجة الحملة الثالثة معروفة سلفا حيث فتحت أبواب القاهرة للجيوش النورية واستقر شيركوه بالوزارة ثم خلفه صلاح الدين والذي لجأ إلى سياسة تقريب العرب ليكونوا عونا له خاصة وقد كانت قواته قليلة العدد لا تتجاوز ستة آلاف مقاتل فمنح عددا من القبائل إقطاعات نظير المحافظة معه على الأمن والمرابطة ساعة الجهاد مع الفرنجة ومنح قادتهم السيف والبوق (وهو تعبير يعني مرتبة الإمارة) خاصة في الحوف الشرقي حيث منازل جذام ، وفي حصار الفرنجة لمدينة دمياط عام 565 هـ أبلت القبائل العربية بلاء حسنا خاصة قبائل كنانة وبني عدي حيث رأى صلاح الدين صواب فكرة ابن رزيك بوجود القبائل في الثغور فاستنفر مزيدا من عرب الوجه البحري بلغ عددهم أربعين ألف مقاتل رابطوا بين القاهرة ودمياط وذلك لأن صلاح الدين لم يستطع الخروج بنفسه إلى الثغر خشية التعرض لمؤامرات القصر الفاطمي ، وكان تأييد العرب لصلاح الدين عنصرا فعالا ساعده على الإطاحة بالحرس السوداني ومن ثم قطع الخطبة للفاطميين في عام 567 هـ وهو الأمر الذي لم يثر أية حساسية لدى القبائل العربية حيث كان واضحا أن الدعوة للعباسيين هي دعوة صورية وأن السلطة الفعلية بيد السلطان الشاب الذي أثبت منذ اليوم الأول كفاية ومهارة في الإدارة والسياسة جنبا إلى جنب مع الروح الجهادية التي تغمر شخصيته وجنده.

وفي عام 669 هـ قام ملك صقلية روجر النورماندي بمهاجمة الإسكندرية فتصدى لهم صلاح الدين وأغرق سفنهم حيث تلقى معونة كبيرة من القبائل العربية التي قامت بواجب الدفاع عن المدينة باستبسال إذ تولت كل قبيلة حماية جزء من الساحل فنزلت لخم عند كوم الدكة وجذام في بركة جذام وكندة بالبراكل والأزد بحارة الأزدي وحضرموت بشارع الحضارمة وخزاعة والمزاغنة في الشرق بالقرب من أبي قير لحماية الميناء ، وبعد هذه المعركة قرر صلاح الدين الاستعانة الدائمة بالمتطوعين العرب في جيشه وهو ما أضاف إليه ميزة عددية عن منافسيه من ورثة السلاجقة والأتابكية والذين كان اعتمادهم الوحيد على الأكراد والتركمان وهو ما مكن صلاح الدين بعد ذلك من الاستيلاء على البلاد الشامية استعدادا للمعركة الفاصلة مع العدو الصليبي ، وكان صلاح الدين قد استهل جهاده ضد الصليبيين بالاستيلاء على قلعة إيلات عام 566 هـ وهي الميناء الصليبي الوحيد على البحر الأحمر وذلك ردا على حصارهم دمياط فلم يعد هناك فاصل بين مصر والشام وذلك بعد انتصاره على جيوشهم في غزة ودير البلح وبدا من الواضح أنه يخطط للوحدة الإسلامية والجهاد ضد الإفرنج معا ، وفي عام 570 هـ دخل السلطان دمشق يرافقه قوم من أمراء العرب وصفهم هو نفسه بقوله : (سيماهم في وجوههم) وذلك بعد وفاة نور الدين محمود حيث فرح به الدمشقيون فرحا عظيما واستبشروا بمقدمه حيث لاحت بشائر استعادة الأمجاد ، وفي نفس العام انتصر انتصارا ساحقا على خصومه عند قرون حماة فخضعت له بلاد الشام وسرعان ما أصبحت سيادة صلاح الدين على البلاد سيادة مشروعة عندما أسند الخليفة العباسي في بغداد إليه السلطة على مصر والمغرب الأدنى والنوبة والحجاز وتهامة وفلسطين وسوريا الوسطى وخلع عليه لقب (سلطان مصر والشام).

 كان الناصر صلاح الدين ذا موهبة فريدة في عالم السياسة والحرب معا وتجلت عبقريته في المواقف المختلفة التي مرت عليه خلال ربع قرن قضاها في جهاد متواصل ليكتب التاريخ بذلك أروع الصفحات في المجد والشرف والعزة والنصر حيث بدأ أول الأمر مرحلة من الإعمار في البلاد حيث أنشأ المدارس العديدة والبيمارستانات وقام بتحصين الموانيء وقوى الأسطول البحري وأحاط القاهرة بسور حصين ، وتميز صلاح الدين عن كثير من ملوك عصره بحسن اختيار معاونيه ومستشاريه حيث حفل ديوانه بالكثير من العلماء وأصحاب الرأي والحكمة مثل القاضي الفاضل والعماد الأصفهاني وكذلك القواد الأفذاذ أمثال أخيه الملك العادل وحسام الدين لؤلؤ وبهاء الدين قراقوش وكانت براعته في اختيار رجال ديوانه عاملا أساسيا في استقرار الأحوال السياسية وهو الأمر الذي جعله يقدم على التوسع وجهاد الأعداء دون خوف من الانقلاب أو الخيانة مثلما كان يحدث عادة في هذا العصر ، كانت الطفرة الاقتصادية التي حققها عاملا هاما ساعد جيوشه على الاستيلاء على برقة والسودان واليمن والحجاز في وقت قياسي كما وفق في عقد معاهدات مع الخلافة العباسية والدولة البيزنطية وسلاجقة الروم وأتابكية الموصل والصليبيين أنفسهم ريثما يعد العدة للمعركة الكبرى بعد أن بث روح الجهاد في ربوع السلطنة الوليدة وحشد حوله كوكبة من رحال العلم والفقه وشيوخ العرب مما أيقظ الهمم وأشعل الحماسة.

 كانت الإمارات الصليبية شوكة في ظهر الدولة الإسلامية وقد مر على وجودها في المشرق وقتذاك قرابة قرن من الزمان مستغلة الصراعات الداخلية بين الحكام المسلمين وانشغال كل منهم بمملكته الصغيرة فقرر صلاح الدين إنهاء هذه الحالة واستغل نقض الفرنجة للهدنة وأحكم قبضته عليهم بجيشين أحدهما من الشام والآخر من مصر بعد أن استنفر معه العرب في كافة أنحاء السلطنة ثم استدرجهم إلى المكان الذي حدده هو في رابية حطين حيث ألحق بهم هزيمة تاريخية في عام 583 هـ ثم استولى على الساحل بعد ذلك ثم في النهاية حرر المدينة المقدسة ودخلها في يوم مشهود أحدث رنة فرح في العالم الإسلامي كله وأصاب العالم الصليبي في أوروبا بالصدمة ، تجلت عبقريته بعد ذلك في مقدرته على المناورة العسكرية والسياسية في مواجهة ملوك أوروبا المجتمعين في الحملة الصليبية الثالثة والحفاظ على أكبر قدر من مكتسباته الحربية حيث اضطرهم في النهاية إلى عقد صلح الرملة والذي قضى بجلاء جيوشهم عن المشرق وبقاء شريط ساحلي ضيق في أيدي الفرنجة تحت حماية المسلمين ، وعندما وافته المنية كتب العماد الكاتب يرثيه : ” مات بموت السلطان الرجال وفات بوفاته الأبطال وغاضت الأيادي وفاضت الأعادي وانقطعت الأرزاق وادلهمت الآفاق وفجع الزمان بواحده وسلطانه ورزىء الإسلام بمشيد أركانه “.

ومن أهم شخصيات عصر صلاح الدين واحد من أهم من كتب في جغرافية مصر في العصور الوسطى وهو الأسعد بن المهذب بن مينا بن زكريا بن مماتي .. وتعود أصوله إلى أسرة مسيحية من أسيوط انتقلت إلى القاهرة للعمل في دواوين الدولة في العهد الفاطمي حيث ترقى جده (أبو المليح مينا) إلى منصب مستوفي الدواوين ونال حظوة عند الوزير بدر الجمالي .. اما أبوه (المهذب) فقد تولى رئاسة ديوان الجيش وأسلم أثناء ذلك .. وكان يعقد مجالس الفقه والأدب في بيته مما وثق حب الأدب في نفس ابنه الأسعد والذي خلفه بعد وفاته في رئاسة ديوان الجيش بأمر صلاح الدين الأيوبي (وهو المنصب المسئول عن كافة احتياجات الجيش من الإمداد والتموين والأمور المالية) .. وقد أظهر الرجل كفاية ممتازة في الإدارة فأضيفت إليه رئاسة ديوان المال (وهو منصب يعادل وزارة المالية والاقتصاد في عصرنا) مما يدل على الثقة المطلقة التي أولاها له صلاح الدين رغم انشغاله الدائم عن مصر في حروبه المتواصلة .. وقد ظل الأسعد رئيسا لديواني الجيش والمال قرابة ربع قرن (في عهد صلاح الدين وعهدي ابنيه العزيز عثمان والمنصور محمد وفي الفترة الأولى من عهد الملك العادل أبي بكر بن أيوب) ثم حدثت جفوة بينه وبين وزراء العادل فخرج من مصر إلى حلب حيث وفد على الملك الظاهر غازي بن صلاح الدين الذي أكرمه وأجرى عليه معاشا إلى أن توفي ودفن بظاهر حلب.

 وقد أتاحت له وظيفته الإلمام بكل تفاصيل البلاد في عهده فوضع كتابه الأشهر (قوانين الدواوين) والذي شرح فيه جغرافية مصر ونهر النيل وضمها قائمة بأسماء كافة القرى والكفور والنجوع والجسور والترع والخلجان بترتيب أبجدي (وهي أقدم قائمة من نوعها في تاريخ مصر) .. ثم شرح المسائل الخاصة بأنظمة الحكم في عصره ووظائف الدولة الهامة واختصاص كل منه وموارد الدولة المالية وشئون البلاد الزراعية (أنواع الأراضي المختلفة وأنظمة الري وأنواع المزروعات وأصول مساحة الأرض وبعض القضايا الهندسية المتعلقة بها) .. وفي مجال الأدب ألف كتابا شيقا يتندر فيه على الوزير بهاء الدين قراقوش بعنوان (الفاشوش في أحكام وحكايات قراقوش) .. ومن خلال كتاب قوانين الدواوين نستطيع أن نستوعب ما حدث من طفرة اقتصادية في عهد صلاح الدين والتي كانت نتيجة طبيعية لقيام دولة امبراطورية ضمت مصر وبرقة والنوبة واليمن والحجاز والشام وأعالي الفرات حيث حرية الحركة والتجارة وتيسير سبل النقل والمواصلات بين موانىء البحر المتوسط في أوروبا والقسطنطينية مع الساحل الشامي والمصري ثم مع موانىء البحر الأحمر حيث الطريق إلى الهند والشرق الأقصى وهو ما دفع الاقتصاد دفعة قوية دعمت الجهود في مجالي الحرب والعمران معا فكانت المعارك الفاصلة جنبا إلى جنب مع المدارس الشامخة .